|
البداوة والمواطنة _ 2
علي الخليفي
الحوار المتمدن-العدد: 4449 - 2014 / 5 / 10 - 10:46
المحور:
المجتمع المدني
تقول إحدى الإساطير السومرية الضاربة في القِدم، أن الآلهة إنتزعت أحد أبناء الإنسان من غابته الأرضيه المتوحشة ، وجاءت به إلى حدائقها الإلهية ليقوم على خدمتها.
علّمت الآلهة ذاك الإنسان كل ما تجيده ، علمته كيف يعتني بالمحاصيل ، وكيف يشيد الدُور ، وكيف يستأنس الحيونات ، وعلمته أيضاً كيف يكسو نفسه، ويُداري عُريه. وعند إنتهاء مُدة خدمته عندها ، أعادته إلى غابته الأرضيه ، فاستغل كل تلك المعارف التي تعلّمها في إعمار غابته الأرضيه ، محاولاً جعلها على صورة حديقة الآلهة.
ربما يكون خيال الإنسان السومري قد أنتج هذه الإسطور ، لإيجاد تفسير يبرر له نمط الحياة المتوحشة ، التي كانت تعيشها تلك القبائل الهمجية التي كانت تغير على حقوله ، وتنهب مزروعاته ومحاصيله.
وبحسب هذه الإسطورة يجوز لنا القول ، أن الإنسان المُتحضر هو نسل ذلك الكائن الإنساني الذي إجتبته الآلهة وقربته وعلمته من علومها وأطلعته على طريقة حياتها.
وأما الإنسان الغير متحضر (البدوي) ، فهو سيكون سلالة ذاك الإنسان الذي لم تتكرم عليه الآلهة بالإصطفاء لخدمتها ، فظل يعيش حياة التوحش مع الحيوانات البريه في حديقته الأرضية .
الكائنات الإلهيه بطبيعتها كائنات مُنتجة ، فهي التي أنتجت هذا الوجود ، وهي التي تقوم على تطويره والإرتقاء به ، ولذا فلقد صيرت ذاك الإنسان الذي إجتبته كائن مُنتج ، يُعطي للحياة بقدر ما يأخد منها.
أما الكائن الإنساني الآخر (البدوي)، والذي لم ينل هذه الحُضوة من الآلهة ، فقد ظل يعيش حياة الإستهلاك، غير قادر على إنتاج أي شيء. ولذا ظل يعتاش على ما ينتجه غيره .
الكائن البدوي كائن مُستهلِك لا يُجيد شيئاً سوى القضم ، ولو عدنا للبحث عن منشأ ثقافة الإستهلاك لوجنا أنها ثقافة بدوية المنشأ بامتياز ، فرغم أن ذاك الكائن البدوي عاش على أطراف حضارات عظيمة ، كانت تمنحه الفرصة تلو الأخرى للإنضواء تحتها ، والخروج من حياة التشرد والصعلكة ، إلا أنه آثر ذلك النمط من الحياة ، وبدل أن يندمج في تلك الحضارات ، ليصبح جزءاً من نسيجها ، بدل ذلك ،نصب خيمته المُهترئة على أطرافها ، وإعتاش على الإغارة عليها وغزوها ، ونهب وسلب ما يقدر عليه ، ليعود ويختفي خلف كثبانه الرملية المُتحركة.
لقد كان البدو وعبر التاريخ سبب رئيسي في سقوط عديد الحضارات ، بسبب غاراتهم المتواصلة عليها، وإستنزاف قدراتها ، حتى أن بعض تلك الحضارات العظيمة، لجأت لإستأناس بعض تلك القبائل البدوية ، ووفرت لها ما تحتاجه من مأكل ومشرب ونفقات، مقابل أن تجعل منها حائط صد تصدُ به غارات وهجمات البدو على أطرافها ،بحيت يقفوا بينها وبين بقية أبناء جنسهم ، مثلما كان الحال مع الغساسنة والمناذرة .
نجاح البدو عبر النهب والسلب في إسقاط بعض الحضارات والقضاء عليها ، لم يكن هو السبب الحقيقي في إعاقة مسيرة الإنسانية بأكمالها . فكلما أسقط البدو حضارة من الحضارات ، أقام الإنسان المُتحضر حضارة جديدة في ذات المكان ، أو في مكان مجاور له. بحيث ظلت مسيرة الإنسانية نحو الرقي لا تتوقف .
نهب البدو للخيرات المادية لحضارة ما وإستنزافها ، كان ولاشك سبباً في سقوط تلك الحضارة بعينها .
لكن ما تسبب قي سقوط الحضارة الإنسانية بأكمالها لم يكن هو سطو البدو على الموارد المادية لتلك الحضارات ، بل كان سطو البدو على الأفكار والفلسفات التي قامت عليها تلك الحضارات.
هنا بدأت الكارثة الحقيقية ، وهنا بدأ سقوط الإنسانية في هوة مُظلمة ، ظلت تهوي فيها لما يزيد على عشرة قرون متواصلة .
نهب البدو في غاراتهم ضمن ما نهبوه ، شذرات من بعض الأفكار الدينيه والفلسفيه التي إبتكرها الإنسان المُتحضر ، ولأن عقولهم الغير مُتحضرة عجزت عن فهم المغزى والغاية من تلك الأفكار والفلسفات ، فقد فسرتها وأعادت إنتاجها بشكل مشوه، ثم إعتنقت تلك الأفكار المشوهة ، وآمنت بها ، ونسبتها للسماء ، وإستغلت الدافع الإيماني الذي منحها إياه إيمانها المُشوه ذاك لإجتياح كل ما حولها ،وفرض تلك التفسيرات المُشوهة للمُنتج الحضاري للإنسان المُتحضر ، بزعم أنه منحة وهِبَة خصتهم بها الآلهة دون العالمين.
هنا بدأت إنتكاسة الإنسان ، فالمَواطِن التي داهمها البدو ، وقضو عليها ، كانت هي مراكز الإشعاع لكل هذه المعمورة ، وبسقوطها سقطت حضارة الإنسان في كل هذا الكوكب ، وإجتاحت العَتمة كل أرجاء الدنيا ، حتى هلَّ عصر الأنوار من مكان قصي في الغرب ، بعيداً عن المشرق الذي إعتادت الأنوار أن تشرق منه على الدنيا.
لقد تشوه العقل المشرقي من جراء الإجتياح البدوي، والذي قام تحت مُسمى نشر كلمة الله ،وتم إغراق الإنسان المشرقي في بحر مظلم من الخرافات والأساطير ، لم يستطع كل ما أشرق به عصر الأنوار من نور غمر كوكب الأرض وفاض حتى أضاء الفضاءات خارجه ، لم يستطع تبديد تلك الظلمة التي رانت على عقل هذا المشرقي ، الذي علّم أسلافه الإنسان كيف ينطق كلماته الأولى ، وكيف يخط حرفه الأول على جبين الدنيا.
...... يتبع
#علي_الخليفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البداوة والمواطنة
-
الفتاوى المُقرفة قد تهديك السبيل
-
دمشق العصّية
-
البحث عن الله بين أنقاض الأديان الفضائية
-
سرطاناتنا الحميدة
-
عذرا معشر الكلاب
-
من يتآمر على من في مصر؟
-
الثورة لا تخرج من جامع
-
دعوة إلى التشيع
-
ما الذي تبقى من إسلامكم؟!!
-
ديمقراطية الولي الفقيه
-
قراءة شيطانيه في ثقافة شيطنة العقل 2/2
-
قراءة شيطانيه في ثقافة شيطنة العقل 1/2
-
الربيع الفرعوني .. هل يفعلها الفراعنة ؟
-
حتى لا تحكمنا موزة
-
الجُموع ليست مُقدسة
-
لماذا لا للإسلامجيه
-
الدولة المدنية الدينيه
-
الله يتضور جوعاً
-
تضحيات الكفار يحصد ثمارها المؤمنون
المزيد.....
-
الإفراج عن الدفعة الثالثة من الأسرى الفلسطينيين ضمن اتفاق وق
...
-
حماس: مستمرون حتى إفراغ السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطي
...
-
الاحتلال يفرج عن الدفعة الثالثة من المعتقلين ضمن اتفاق وقف إ
...
-
مشاهد توثق اللحظات الأولى للقاء الأسرى الفلسطينيين بعائلاتهم
...
-
الاحتلال يفرج عن الدفعة الثالثة من الأسرى الفلسطينيين
-
السنوار.. الغائب الحاضر في لحظة تسليم الأسرى الإسرائيليين
-
فيديوهات.. موكب الأسرى الفلسطينيين المحررين يخرج من سجن عوفر
...
-
وصول الأسرى الفلسطينيين الـ9 المفرج عنهم من السجون الإسرائيل
...
-
كاميرا العالم ترصد أجواء تسليم الأسرى ورهائن بجنوب قطاع غزة
...
-
بدء خروج الأسرى الفلسطينيين من سجن عوفر بموجب صفقة التبادل
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|