|
الديمقراطية التوافقية في المجتمعات التعددية من وجهة نظر لبنانية
حيدر ال حيدر
الحوار المتمدن-العدد: 4446 - 2014 / 5 / 7 - 23:03
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
في اطار السعي لجمع مصادر بحثي الاكاديمي حول الديمقراطية التوافقية، شرعت بمراسلة عدد من فقهاء القانون والمعنيين بالامر.عراقيين وعرب واجانب.وكانت استجابة البعض طيبة ومشجعة للغاية،وفي مقدمة ذلك كانت استجابة البروفيسور اللبناني انطوان نصري مسرة عضوالمجلس الدستوري اللبناني. واذا كانت انطلاقتي في بحر الديمقراطية التوافقية قد انطلقت من شاطىء الهولندي ارنت ليبهارت ،فيبدو انها قد رست عند حامل لواء التوافقية من الجانب العربي لحوض البحر الابيض المتوسط ،الدكتور انطوان مسرة،لاسيما ان اول ترجمة كانت لكتاب ليبهارت كانت من قبل زوجته السيدة افلين ابومتري. رغم انه يفضل اطلاق مصطلح (انظمة المشاركة) بدلا من "التوافقية" وذلك (تجنبًا للمنحى الشعاراتي في معالجة شؤون دستورية جدية، وبسبب حساسيتنا ربما المفرطة تجاه الايديولوجيا كمنظومة متكاملة في التفسير). ونحن نتخطى عتبة الانتخابات النيابية في العراق ،وفي خضم الحديث عن حكومة الاغلبية السياسية ،وبالتزامن مع انتهائي من قراءة اولى سريعة لكتاب الدكتور انطوان مسرة،وجدت ان من المناسب وضع ملخص شديد الايجاز للكتاب ولو انه اعد على عجالة. لادفع بالمعنيين للعودة الى المصدرين المهمين في هذا الاطار،كتاب ليبهارت وكتاب الدكتور مسرة (النظرية العامة في النظام الدستوري اللبناني-أبحاث مقارنة في أنظمة المشاركة)،لاني اتفق مع الدكتور مسرة غاية الاتفاق في ضرورة البحث والدرس في انماط وانظمة مقاربة لمجتمعاتنا التعددية بدل النظم التقليدية ،البريطانية والامريكية والفرنسية. فقد نجد في دراسة النظام الدستوري اللبناني ،اضافة للانظمة في سويسرا وبلجيكا وهولندا والنمسا وماليزيا الحلول الكفيلة بمعالجة مانعيشه من فوضى سياسية ودستورية وقانونية انعكست على كل مفاصل حياة المواطن العراقي الذي كان قد ذهب باحلامه بعيدا بعد سقوط النظام الديكتاتوري. انتهز هذه المناسبة لاتقدم لجناب الدكتور بجزيل الشكر والتقدير،وارجو ان يقبل اعتذاري ان لم يرق هذا التلخيص لمستوى كتابه القيم ولم يقدم كامل الفكرة المطروحة فيه.مع الاشارة
ملخص بتصرف لكتاب الدكتور انطوان نصري مسرة (النظرية العامة في النظام الدستوري اللبناني-أبحاث مقارنة في أنظمة المشاركة).
قامت الدولة في العصر الحديث اما استنادا الى ميثاق قومي يعبر عن عقد اجتماعي بين افرادها،او بواسطة الحديد والنار من خلال بسط هيمنة المركز على الاطراف،والاخيرة هي الدولة القومية التي عرفتها اوربا قبل غيرها وكانت السبب في نزعة التوسع والعدوان والاضطهاد واثارة الحروب العالمية الكبرى،ومنها ظهرت النازية والفاشية والامبريالية. ويلاحظ ان الدولة القومية التي قامت على هذا الاساس،تستمر في تبني هذا النهج ،الا ان بعضها يصل،بعد نتائج كارثية، لمرحلة مايطلق عليه بـ(التوبة القومية)،تلك المرحلة التي وصلتها دول مثل سويسرا والمانيا،والى مايقرب منها كايطاليا ولبنان قبيل اتفاق الطائف. والبعض الاخر انتهى به الامر بالقضاء على الدولة ذاتها،كالدولة العثمانية والاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا،في حين لازالت دول اخرى معتمدة على جبروتها العسكري،تتبنى ذات النهج القومي القديم،و ستصل يوما الى واحدة من النهايات انفة الذكر. اما في الدول الميثاقية فان المواثيق تتحول إلى ثوابت في مبادئها الاساسية فتتناقل الشعوب في ذاكرتها الجماعية عبثية الحروب الداخلية وترسي طقوسًا للذكرى من دون انتصارية ولا تفاخر، بل تعبيرًا عن توبة قومية رادعة.
وهذا النمط في التسوية التاريخية للبناء القومي لا يشكل قاسمًا مشتركًا ولا حلاً وسطًا ولا نصف حل، بل هو الحد الادنى المقبول الذي لا ينسجم في العمق مع رغبات كل فريق، أو الحل الوحيد الذي يوفق بين مصالح كل مجموعة والمصالح المشتركة. في لبنان خسر كل الفرقاء شيئًا كانوا حاصلين عليه، ولم يحققوا كل الغاية التي كانوا يسعون اليها. لكن الميثاق كان الاتفاق الوحيد الممكن، لانه لم يكرس انتصار فريق على فريق آخر. اما الشعارات المتداولة(الخوف من التقسيم ومحاربة الطائفية الخ) والتي تبدو بريئة ظاهريًا فان تحقيقها في مجتمع تعددي يؤدي إلى قهر وهيمنة، او حتى ابادة. ان في الحياة مصيبتين اثنتين،كما يقول اوسكار وايلد: ان لا تحصل على ما تريد او ان تحصل على كل ما تريد! اذا حصل كل فريق على ما يريد، تشرذم الوطن إلى دويلات أو زال او انتفت الديمقراطية عنه نتيجة وجود غالب ومغلوب، واذا لم يحصل كل فريق على ما يريد، زاد الشعور بالغبن المولد للنزاعات. الخيار الديمقراطي في مجتمع تعددي، ليس بين الحلول الجذرية وانصاف الحلول، بل بين عدم الحل والاتفاق على الحد الأدنى المقبول.
يمكن ان تكون المواثيق ثابتة في مبادئها عندما تشكل تجارب الماضي في ذاكرة الشعوب رادعًا يحول دون تعبئة المواطنين في نزاعات داخلية متجددة. فكما ان بعض الشعوب تتميز بافتخارها بانتمائها القومي، فان المجتمعات الميثاقية المستقرة تتميز بتوبتها القومية، أي بادراكها الصريح والحاد فتتذكر اخطاء الماضي الانقسامية، اخطار الانخراط في نزاعات الآخرين أو من أجلهم. يترجم هذا الادراك في مختلف طقوس ورموز الماضي باحتفالات ومهرجانات ومناسبات وانصاب تذكارية تعبر عن فوائد التضامن ومآسي الانشقاق. ويترجم ايضًا في محتوى كتب التاريخ المدرسية اذا ما وصفت حروب الماضي، ليس فقط في اسبابها ومسببيها، بل خصوصًا في كلفة الانشقاقات بالنسبة إلى مصالح الجميع.ان المجتمعات التي عرفت حروبًا داخلية في تاريخها، هي بحاجة إلى ركود في مشاعرها بعد الاضطرابات الدامية. عرفت كولومبيا حربين اهليتين في حقبة نصف قرن حصدت آلاف القتلى، وللخروج من هذا المأزق، عقد التجمعان التقليديان في كولومبيا ميثاقا يحقق تناوبهما على رئاسة السلطة وتقاسم السلطات الوزارية بالتساوي.انه الهاجس نفسه في اندونيسيا التي تحتل المرتبة الخامسة بعدد سكانها الموزعين على اربعة عشر الفا من الجزر تتعايش فيها خمسة أديان رسمية، ويتحدث السكان أكثر من مئتي لهجة، اضافة إلى اللغة الرسمية.
تفترض المادة 9 من الدستور تعليم تاريخ اللبنانيين كما هم في تنوعهم الديني والمذهبي، أي مع عرض معلومات موضوعية حول الأديان والمذاهب وعلاقاتها المتبادلة "باحترام" و "كرامة". ولأسباب لا علاقة لها بالتاريخ، نبذت كتب التاريخ المدرسية ما له علاقة بالمذاهب وتكوينها وتطورها وتعايشها، على أساس ان هذا مناف للوحدة الوطنية، ذلك ان البعض يعتبر أن الإقرار بواقع تاريخي يؤدي الى تكريسه وتجميده، بينما النظرية النفسانية تثبت ان عدم الإقرار هذا، المناقض لما يعيشه المواطن، ينمي الكبت والرفض والتناقض في اللاوعي الذي ما يلبث أن يظهر بقوة أكبر في الإدراك الواعي. إن تجاهل واقع حياتي لا يؤدي الى ازالة هذا الواقع أو تخطيه، بل الى غرسه في الذاكرة الجماعية بشكل انفعالي، لأنه يفتقر الى المواجهة العقلانية. بسبب تجاهل الطوائف في كتب تاريخ لبنان المدرسية، تنمو في اللاوعي اللبناني تواريخ طائفية وهمية غايتها التعبئة النفسية، بينما الوصف الموضوعي للتاريخ يجرّد العقائد الطائفية من تأثيرها، ويساعد على الإقرار بشرعية الأديان والمذاهب. بعض البلدان ليست لديها "وزارة تربية" وبالرغم من ذلك تسير تربيتها على ما يرام، لأنها أدركت ما هي وظيفة الدولة في السياسة التربوية وما هي، في المقابل، وظيفة المجتمع المدني داخل الاطار العام المتفق عليه دستوريًا وعرفًا وممارسة.على كل لبناني ان تكون لديه معرفة وصفية للأديان، ضمن كتب التعليم الديني أو التاريخ او التربية المدنية أو الحضارات، وذلك بدون دعوات تبشيرية أو تحريض. بهدف نقل ثقافة دينية أي معرفة متبادلة وصحيحة للأديان كما يراها المؤمنون بها.
إن فلسفة الدستور اللبناني والميثاق الوطني اللبناني، كشرعة اندونيسيا، توجب معرفة متبادلة للأديان في برامج التعليم، خصوصًا في برامج التاريخ والأدب والتربية المدنية والحضارات.إن الفكرة الرئيسة في تربية مسماة علمانية هي أن العقائد الدينية مسألة خاصة بالمعنى الحصري. الحياد، وموجبات التحفظ، والتعليم اللاطائفي هي العبارات الرئيسة في الممارسة التربوية. تقوم هذه النظرة على أفكار جول فرّي . الذي يعتبر ان المدرسة لا تعلم الدين، ولا تعلم الالحاد والكفر. المدرسة تلقن العلم، وتثقف العقول التي تختار بكل حرية معتقداتها . عندما نتأفف وننزعج بفكرة دينية تختلف عن فكرتنا، علينا أن نتساءل إذا كانت ممارسة التجاهل الديني تزرع التسامح أو التعصب. تدل مجموعة أحكام صدرت عن مجلس شورى الدولة الفرنسي الى أي درجة فرض على المعلمين الالتزام بالتحفظ التام ورفض كل بعد اجتماعي للدين . عندما لا تؤمّن المدرسة الحدّ الأدنى من المعرفة الدينية،لا بد ان تأخذ تيارات عقائدية أخرى مكانها وتنوب عنها. وإذا كان التجاهل الديني ينبه المعلم بوضوح وبحكمة بما لا يجب قوله، فهو بالعكس لا يرشده الى ما يجب قوله، أي انه يزوده بمواقف محض سلبية لا تفيد في بناء تربية ايجابية.
تعطى دروس الدين في ألمانيا كمادة دراسية غير إلزامية. ويفرض على التلامذة الذين لا يتابعون التعليم الديني درسًا بديلاً في علم الاخلاق . وفي بلجيكا ينص "الميثاق المدرسي" على الاختيار بين مادة الدين ومادة الأخلاق في كل مراحل التعليم، مع شروط دقيقة وخاصة يجب أن يلتزم بها أساتذة مادة الأخلاق . في إيطاليا فرضت القوانين (Concordat) أستاذًا لمادة الدين يختاره المطران في كل مدرسة رسمية. يتعرف التلامذة الايطاليون على أساتذة من مختلف الميول والاتجاهات يجاهرون بآرائهم. وفي سويسرا يحق للكانتونات ان تدخل في برامجها التعليمية دروسًا دينية. الحياد الديني للدولة في الشأن التربوي أوصل سويسرا الى التسامح الذي شق طريقه بوسائل رائدة جعلت الدولة والدين يسيران جنبًا الى جنب، في اطار احترام المعتقدات الفردية، والاعتراف بأن الدين غير قابل للانغلاق في المجال الخاص. في الحياة اليومية، وفي الأعمال كما في الجيش، لا يوجد في سويسرا دين مشترك "واحد"، فالتلامذة الكاثوليك والبروتستانت واليهود والمفكرون الأحرار يجلسون على مقاعد الدراسة جنبًا الى جنب ليستمعوا الى أساتذتهم أيًا كانوا، كاثوليك أو بروتستانت أو يهود... لان الطريقة الصحيحة لملاقاة الآخرين هي ملاقاتهم كما هم في تبايناتهم. من الأفضل بكثير ان يكون هناك معرفة متبادلة رغم الاختلاف من ان يكون هناك تجاهل متبادل.إن التجربة الطويلة والمكلفة التي عاشتها سويسرا في النزاعات والوحدة الداخلية حملت مؤلفي الكتب المدرسية فيها على معالجة القضايا الاجتماعية وجهًا لوجه ودون مواربة. ولم تتجنب فتح المناقشات والمجادلات علنًا لأن السويسريين يعلمون بأن اخفاءها والمواربة في مناقشتها ينشئ خلافات في غير أمكنة. لا تحاول كتب التاريخ المدرسية في سويسرا تهميش النزاعات الدينية او اخفاءها، بل تحاول عرضها كما هي وبواقعيتها، مع عنفها وكلفتها، خاصة إذا كانت باهظة.وفي المانيا تشرح التجربة المميزة في العلاقة بين الدولة والكنيسة بواقعية في التعليم، كما يحتوي البرنامج الرسمي لتعليم مادة الأخلاق فيها على فصول عن معنى الحياة،وفي كتب التعليم الديني هناك ذكر واضح وموسع للانشقاقات الدينية. وينص البرنامج على أن الغاية من هذه المواضيع هي "فهم الآخر". يخصص فصل للاسلام في كتب التعليم الديني مع خريطة تبين انتشار الاسلام في العالم.
ان قراءة تاريخ سويسرا المدرسي تترك صدمة نفسية تجاه احتمالية تكرار تجارب الماضي الانقسامية، وبالمقابل تترك ادراكًا حسيًا واختباريًا بمنافع التضامن . يفسر هذا الادراك رفض السويسريين بنسبة ثلاثة ناخبين من أصل أربعة، وفي كل الكانتونات وبالرغم من الحملة الاعلامية الرسمية، انضمام سويسرا إلى الامم المتحدة في استفتاء 16 آذار 1986 . لا شك ان سويسرا ليست جزيرة، وانه يجب ان تتكيف مع التغيرات في العالم حسبما جاء في التبرير الحكومي. كانت نتيجة الاستفتاء السلبية مستغربة، لكن تفسيرها نفسي، اذ ان السويسريين يخشون، بتأثير من تجاربهم التاريخية، الانزلاق في خلافات الآخرين، فشاركوا بنسبة عالية في الاستفتاء تزيد عن 50%، خلافًا للاستشارات الانتخابية الاخرى. في كانتون فريبورغ، أجمع المواطنون تقريبًا على الرفض بالرغم من موافقة البرلمان والاحزاب الثلاثة الكبرى على مشروع الانضمام. ولم تؤثر حملات ما يسمى بالتوعية والتعقل والتعليقات الصحفية على سلوك المقترعين الذين ترعبهم انقسامات الماضي ومداخلات الخارج، فكان جوابهم: "من أين يأتي اللاجئون السياسيون القادمون إلى سويسرا؟ اليس من بلدان اعضاء في الامم المتحدة؟" ان دولا محايدة أخرى تنافس سويسرا في الوساطات منذ 1955، منها النمسا والسويد وايرلندا وفنلندا، وتوفر هذه البلدان قبعات زرقاء ومفاوضين. لكن التوبة القومية في سويسرا، لا مثيل لها في أي بلد آخر. ان من يقرأ تاريخ سويسرا، وبخاصة كما يتعلمه التلامذة في المدارس السويسرية، يصاب بصدمة نفسية حيال خطورة المداخلات الخارجية، ويدرك بعمق أهمية التضامن الداخلي.
وفي لبنان سمع اللبنانيون خلال سنوات الحروب 1975-1990 العبارات التالية: "انتهى عهد التسويات"، "الميثاق الوطني مات وقبرناه"، "والآن بدأت معركة الحسم"، "لتكن معركة وينتصر من ينتصر"، "انتهينا من صيغة لا غالب ولا مغلوب" وغيرها من العبارات المشابهة. في غمرة هذا السجال في 1975 - 1976 ونقد الميثاق الوطني بشكل مطلق، طالب الرئيس رشيد كرامي سنة 1976 في ما يتعلق بالميثاق الوطني بالعمل على "ما يغنيه ولا يلغيه".
يبرز تحليل أربعين كتابًا مدرسيًا في لبنان التناقض بين الملقن والمعاش، وبالتالي ان ما يتعلمه التلامذة يتجاهل واقع الأديان والطوائف،لا يتم تعريف التلامذة على ظاهرة الدين وتأهيلهم في نطاقها ولا يمكن تحقيقه بدون مقتضيات فكرية، نذكر ثلاثة من اهمها: - احترام خصوصية الحدث الديني: تخوفًا من المس بالمعتقدات، يختزل الواقع الديني بعض الاحيان باشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويفرّغ من مضامينه الدينية. في المجتمعات المتعددة الطوائف يجب التمييز بين المستوى الايماني ومستوى الانتماء الطائفي/ الاجتماعي. - اللجوء الى مقاربة علمية بغية ابعاد الأذهان عن التطييف: أي موقف تجاه الأديان يقوم على ايديولوجية أقل وعلم أكثر، يساهم في تنقية الأذهان. تجاهل الطوائف تربويًا، كما هي الحال في لبنان، يؤدي الى استمرار المنمطات الذهنية السلبية، والى التعبئة الفئوية. - عرض الواقع الديني بتنوعه دون التخوف من تصادم الايديولوجيات الدينية أو الفلسفية: القبول بالاختلاف دون تعالٍ، أفضل قاعدة للمساكنة والعيش معًا في عالم كلما ضاق كلما زادت احتمالات التنافر بين ساكنيه، على عكس الفرضية التقليدية في العصرنة،(إن الإنتماءات التحتية يتخطاها الزمن في سياق العصرنة). إن العصرنة لم تحول الكندي الفرنسي إلى كندي إنكليزي ولا السويسري الالماني إلى سويسري ايطالي، بل أصبحت هذه الإنتماءات عنصرًا تكامليًا لا نزاعيًا.يهدد تاليًا الرفض المطلق للإنتماءات التحتية استقرار ووحدة الأنظمة السياسية، لأن الرفض هذا يثير العصبيات المكبوتة ويفتح مجالاً لتسييس هذه العصبيات.
لكن ما هو الحد الفاصل بين حرية المعتقد، وابداء الرأي، وواجب "احترام الأديان وكرامتها"، حسب المادتين 9 و 10؟ في هذا المجال لا بد من رصد اجتهادات المحاكم من أجل التطبيق الصحيح والكامل للنصوص الدستورية، مع التعمق في المعاني، الخلقية والدستورية في آن، لكلمتي "احترام" و"كرامة" . كما ينبغي ربط المادتين 9 و10 بمقدمة الدستور. فهناك خبث في تمويه ضعف الاحترام تجاه بعض الطوائف تحت ستار الاختلاف في الآراء.
لا تحتكر المدرسة وسائل التنشئة بل تنافسها العائلة وجماعة الرفاق والبيئة. يوفر لبنان البرهان على عجز المدرسة في تحويل المواقف السياسية التي تحددها عوامل تنشئة أخرى.وفي كل الحالات يتخذ التلامذة مواقف تنسجم مع المواقف العامة لأبناء طائفتهم ومستقلة عن المدرسة التي درسوا فيها. وهل ان التخطيط التربوي المدرسي هو الوسيلة الناجعة لتحقيق الاندماج؟ انتج الاتحاد السوفياتي منذ لينين وطيلة سبعين سنة ترسانة من المواد الثقافية والتربوية في سبيل "أدلجة"العقول منذ الطفولة. بوشر أولاً في تغيير كل مناهج وحتى كتب الحساب التي تتضمن عمليات حسابية رأسمالية واستعيض عنها بتمارين حسابية اشتراكية. اما التربية العسكرية في الاتحاد السوفياتي السابق فكانت تبدأ في صف الحضانة ومنذ السنة الخامسة بهدف احترام البزة العسكرية والخضوع للأوامر والطاعة تجاه الرؤساء التسلسليين. وانتجت مواد للقراءة والتعليم ولكافة المراحل الدراسية.فما كانت النتيجة؟
لم تكن التربية في سويسرا مشكلة نزاعية بالرغم من وجود أربع لغات، وذلك بسبب الاقرار باللغات هذه وبالحق في تعليمها في المدارس. أما في بلجيكا فكانت المشكلة اللغوية القضية النزاعية البارزة، بسبب عدم الاقرار بشرعية لها. لم يتوفر السلم الأهلي إلا عند اقرار الميثاق المدرسي في 6 تشرين الثاني / نوفمبر 1958. ان التحول منذ 1912 لغاية إقرار هذا الميثاق هو دليل على نمط توحيدي يختلف عن سياق الدولة – الأمة. كتب جول ديستري سنة 1912 رسالته الشهيرة إلى الملك حول انفصال فالونيا عن فلاندرا قائلاً: "اذا اردتم ان اقول لكم الحقيقة، الحقيقة المريعة، فهي أنه لا يوجد بلجيكيون (…) انك حاكم على شعبين. لا يوجد في بلجيكا الا فالونيون وفلامان، ولا يوجد بلجيكيون (…) ان الوحدة تولد القوة اكثر مما يفعله التوحيد. ان وحدة كاذبة مرتكزة على الاكراه العددي الوحشي، ان الوحدة التي لا تتمظهر الا في التصاريح الرسمية ولا في قلوب المواطنين لا تساوي أبدًا وحدة يقبلها الناس طوعًا ووفاقًا شريفًا واراديًا".
في عصر انتشار الحروب الاهلية أو الداخلية، يقتضي تنمية البحوث حول مختلف اشكال الفدرالية والادارة الذاتية التي تحترم حقوق الاقليات، بصورة رئيسة في افريقيا والشرقين الأدنى والأوسط. بينما اقتصرت الأبحاث في الدستور اللبناني في الغالب على دراسة السلطات والصلاحيات وتوازنها وبعض القضايا المؤدلجة ، كالطائفية والهوية، وأهملت ما يتعلق بالأبعاد الثقافية والتربوية والقيم والأعراف، أي أنها أهملت الركيزة الثقافية للعلم الدستوري. ينتج عن هذا النقص جدل مستمر، وعقيم غالبًا، حول قضايا ثقافية وتربوية حدد الدستور اللبناني مبادئها بشكل ثابت، لكن البحث الدستوري أهملها. يعود سبب هذا الإهمال الى اغتراب ثقافي نتيجة اقتباس قواعد دستورية تقتصر على نماذج فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، والى محدودية الثقافة القانونية كما تنقلها كليات حقوق وعلوم سياسية. ومن سعى الى مقاربة شمولية للأبعاد الثقافية والتربوية في الدستور اللبناني وُجهت اليه اتهامات تقليدية تُخرج الموضوع عن إطاره الدستوري.لا تبدو بعض مناهج تدريس القانون الدستوري بريئة لأنها تنشر الاغتراب الثقافي وتؤجج الخلاف تحت ستار خطاب وحدوي، أو إندماجي أو حتى تحديثي.
قد يفسر البعض ،بسبب الكسل الفكري،المذاق السيء للطعام الى سوء الخلط او قدم الاعداد. ان الدراسات المنهجية النظرية حول السببية في العلوم السياسية والاجتماعية عامة باتت بالغة الاهمية في الجامعات في سبيل دراسات اكثر دقة وصوابية في التحليل واستشرافًا لمعالجات وسياسات فاعلة. ان التوافقية ليست مرادفة للطائفية، يقتضي في هذا السياق تطوير البحوث التطبيقية حول اشكاليات ضمان تمثيل الاقليات في انظمة انتخابية تنافسية لتجنب مخاطر العزل الدائم وهي دراسات تفتقر اليها العلوم الدستورية والانتخابية المقارنة.ولبنان هو مجرد حالة من الحالات. فمن يبحث في النظرية، دون التعمق في الامثلة المقارنة الاخرى وتمايزاتها، لا يساهم في اغناء التحليل واستنتاجيته. يكمن جزء كبير من الازمة الدستورية اللبنانية في " الاغتراب الدستوري "،اقتباس مفاهيم تتناقض مع طبيعة النظام الدستوري اللبناني. الخبير" فان زيلاند" الذي جاء الى لبنان في الاربعينات من اجل تنظيم الاقتصاد اللبناني اعلن بعض العجز بعد فترة من اعمال الدراسة وقال لرياض الصلح معللا هذا العجز: "كيف لي، دولة الرئيس، ان اعرف ان التفاح في بلادكم ماروني، والبرتقال مسلم سني، والزيتون ارثوذكسي، والتبغ شيعي، والعنب كاثوليكي؟.ان ادخال الوحدة الايطالية والوحدة الالمانية في صلب برامج البكالوريا من دون غيرهما، كنمط وحيد في البناء القومي، مظهر من الثقافة اللبنانية المغتربة التي تتنافى مع التاريخ اللبناني ومع نظرة البناء القومي في البحث التاريخي المقارن. ان الغياب التام لمفاهيم التسوية والتفاوض والائتلاف في كتب التاريخ المدرسي، بالرغم من غنى التاريخ اللبناني بها، هو سبب تقييم بعض اللبنانيين للعنف في بناء الاوطان وتوجههم الانتصاري. ان كتب التاريخ المدرسي ملأى بالعبارات التي تقيم العنف. فلماذا لا تخصص المؤلفات المدرسية اكثر من بضعة اسطر (في بعضها يوجد سطران فقط) للميثاق الوطني.ان المادة 95 من الدستور، التي لا تعود جذورها إلى الميثاق الوطني ولا إلى دستور عام 1926 بل إلى اكثر من خمسة قرون من تاريخ لبنان السياسي، هي قاعدة الكوتا المحدّدة للمشاركة في السلطة . لم يدرس الحقوقيون ، في مدارس وجامعات نقلت اليهم ثقافة سياسية مستوردة، هذه القاعدة التي يمكن، بطبيعة الحال، نقدها، لكن بعد الاطلاع على ما كتب عنها . لهذه القاعدة تراث عثماني وعربي قديم. قد يخجل بعض الناس من ديمقراطية توزع السلطة حصصًا، لان الوطن، كما يقال، ليس مجموعة حصص. يقول هذا مثقفون من مختلف الطوائف، لان الاستعمار الثقافي علّم ان الديمقراطية هي ديمقراطية حيث الرابح يأخذ كل شيء يمكن الاجابة عن ذلك بنقطتين: - اولا، كل سياسة هي صراع على السلطة واقتسامها؛ والانتخابات هي توزيع حصص على الرابحين بحسب الاصوات التي حصلوا عليها. الحزب الذي حصل على عدد اكبر من الاصوات له حصة أكبر؛ ليس لكلمة حصة في ذاتها أي مدلول سيئ. - ثانيًا، ان اعتماد قاعدة تنافسية مبسّطة (نصف يضاف اليه واحد يساوي ديمقراطية!) يعني اعطاء كل الحصص للرابح. ليس هذا السياق ديمقراطيًا اذا أدى إلى عزل دائم.
ماذا يمكن ان يحدث اذا اعتمد النموذج التنافسي المطلق؟
النتيجة المحتملة الاولى: نزاع مفتوح من اجل تحقيق المشاركة والتوازن وتجنّب العزل والتسلط. سنة 1952، حصلت انتخابات بلدية بيروت من دون التحديد المسبق لعدد المقاعد لكل طائفة، والاكثرية في دائرة المصيطبة – المزرعة من السنّة. قدمت الهيئة الوطنية لائحة خالية من مرشح ارثوذكسي. فذكر الارثوذكس انهم 5000 ناخب وقاطعوا الانتخابات البلدية. بعض القياديين السنة استنكروا عمل الهيئة الوطنية. لكن النتيجة ظلت على حالها: مقاطعة الارثوذكس للانتخابات. اضطرت الحكومة إلى اعادة التوازن بواسطة التعيين. ما حصل في بيروت للاقلية الارثوذكسية قد يحصل لغيرها من الاقليات في دوائر أخرى، كأن يحرم الشيعة مثلاً في جبيل من ممثل لهم، لأن الاكثرية المارونية قد تستأثر بجميع المقاعد في الدائرة.
النتيجة المحتملة الثانية: صراع طائفي مفتوح من اجل الحصول على اكبر عدد من المقاعد لطائفة كل ناخب. إنّ الغاء قاعدة الكوتا المضمونة لا يساعد على تأمين الامان للمجموعات، خصوصًا في مراحل تتميز بالقلق وعدم الاستقرار. اذا قام موارنة بحملة انتخابية متعصبة فإنهم لا يستطيعون ان يتعدوا الحصة المخصصة لهم في المجلس النيابي، وكذلك بالنسبة إلى الطوائف الاخرى وحصة كل منها. إلغاء الكوتا قد يجعل من كل انتخاب صراعًا مفتوحًا، هذا الصراع الذي هو اليوم صراع داخل الطوائف لا بين الطوائف ان المرشح الماروني لا ينافس سنيًا أو شيعيًّا، بل ينافس مارونيًا آخر. إن الغاء القاعدة قد يجعل من المنافسة الانتخابية صراعًا بين اشد الناس اعتدالاً.
إن قاعدة التخصيص proporz هي نظام مضمون في المشاركة في السلطة، وهي مطبقة بموجب نص دستوري أو عرف في أكثر من ثلاثين بلدًا، منها سويسرا وبلجيكا والنمسا والبلاد المنخفضة وكندا وماليزيا وكولومبيا وقبرص سابقًا (بموجب دستور 1960) وتشيكوسلوفاكيا والهند والفيتنام ونيوزيلاندا وجزر فيجي وسري لانكا وزمبابوي (لغاية ايلول / سبتمبر 1987) وجزيرة موريس وجزئيًا في أفريقيا الجنوبية، وحتى في الولايات المتحدة الأميركية في المجلس الأعلى. تؤمن قاعدة التخصيص المساواة parity وبعض الأحيان التمثيل الزائد over-representation من أجل توفير الأمان للمجموعات. في بعض الأحيان ليس التمثيل نسبة إلى الحجم الديموغرافي بل هو محدد استنادًا إلى توازن سياسي.
ليس من المفارقات ان دراسة التعدد هي التي توصل إلى استكشاف سبل الوحدة. فإن كان التعدد ظاهرة مرضية، فدراسة الظواهر المرضية هي التي في كل العلوم دون استثناء تؤدي إلى استكشاف القوانين العلمية وقواعد الوقاية والعلاج. في بضع الحالات النزاعية العربية ان التوحيديين لا يوحدون، بينما التعدديون بسبب نهجهم الواقعي يتوصلون إلى التوحيد او إلى المزيد منه. في واقع حيث "جميع الأدلة تشير إلى ان العرب يتجهون باتجاه معاكس للوحدة" ، من يدرس التعدد قد يكون أكثر قربًا من الوحدة من الوحدويين التقليديين.ان المعرفة العلمية لسياق نشوء الامم تساعد على تصحيح المسلمات التي اتخذت معايير مطلقة وطبقت من دون تبصر في دراسة ومعالجة مشاكل المجتمعات المتنوعة في بنيتها الاجتماعية. و الابحاث المقارنة في هذا المجال تكتسب أهمية قصوى بالنسبة لهذه المجتمعات التي ما تزال تقرأ تاريخها بنظارات لا تنسجم مع نمطها الذاتي في التطوير، فيصبح التاريخ في هذه المجتمعات عامل اغتراب ويتم التعامل مع مشكلات المجتمع بشكل يثير النزاعات بدلاً من احتوائها.لم يعد من الجائز، في ابحاث علمية، استعمال عبارة طائفية باطلاقية ودون تمييز في مضامينها، او اعتبار الموضوع خارج الاختصاص الدستوري الصرف، لان دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة ونظامي بريطانيا والولايات المتحدة لا تحتوي على عبارة من هذا النوع. لم يذكر احد من فلاسفة السياسة وعلماء القانون ان الديمقراطية تنحصر بالمعادلة الحسابية التالية: نصف + واحد = ديمقراطية. فلاتنطبق تلك الانظمة بالتالي على المجتمع اللبناني.
ليست قاعدة الاكثرية، التي يجب اعادة النظر في فلسفتها بالعودة إلى كتابات المنظرين والفلاسفة السياسيين، مفهومًا حسابيًا يوجز بالمعادلة التالية: نصف + واحد = ديمقراطية ! تندرج الديمقراطية في سياق من المشاركة بدءًا من حرية التعبير والحق في التصويت وتأليف الجمعيات والمشاركة في الموارد العامة وانتهاء بالحضور الفعلي في السلطة وفي الاجهزة التقريرية. إن كان النظام التنافسي المطلق يحقق المشاركة فذاك بفضل الحظ في التناوب الذي تتمتع به الاقلية السياسية غير المشاركة في السلطة بأن تتحول إلى اكثرية بفضل تبدل في الرأي العام في إطار السياق الانتخابي.ان الانظمة لا تنجح ولا تفشل بل ينجح ويفشل منظورها وفلاسفتها والعاملون على ضبطها ومراقبها. انها الحقيقة التي لم يستوعبها مفكرون لبنانيون وعرب عمومًا لانهم غالبًا لم يتابعوا بعض الابحاث الحديثة او لانهم انساقوا في مقاربات ايديولوجية. لذا فان المثقفين يفتقرون إلى فكر تغييري قابل للتطبيق فيحددون "مهلاً" لتخطي الطائفية تبسيطًا للامور وكمخرج لفظي لمعالجة مسألة متشعبة. ان تحديد مهل لإلغاء "الطائفية السياسية" دون لحظ ديناميكية اجتماعية وسياسية في التغيير،بمثابة انذارات لتغذية نزاعات في الفترات المسماة انتقالية وهواجس الاستقواء. ان "الطائفية لا تلغى من السلطة وبقانون، بل بتجاوزها من خلال النضال على مستوى المجتمع، والقانون لا يعني دائماً عدالة، وحتى العدالة قد ينقصها الرحمة.ان التغيير القسري الذي سعت تيارات ايديولوجية إلى تحقيقه بالعنف قد تسعى إلى تحقيقه اليوم بعنف آخر أداته نصوص قانونية. ان تحديد مهل شكلية دون لحظ دينامية اجتماعية في التغيير هو مشروع نزاعات جديدة لان المهل – الانذارات تغذي في الفترات المسماة انتقالية هواجس الاستقواء العبثية بين الطوائف. يضاف إلى ذلك انه في الفترات المسماة انتقالية يفلت المنظرون العنان لكل اشكال المحاصصة والدوزنة بين الطوائف فيزيدون في تطييف النظام باسم اللاطائفية.بإمكاننا اليوم كما يفعل بعض الذين يتجاهلون التاريخ والواقع طرح القضية على اساس "الغاء الطائفية" فنعالج موضوعًا بالغائه.لا تثبت الدراسات الانثروبولوجية ان الولاءات الأساسية تزول مع الزمن، بل يزول طابعها النزاعي أو تصبح هامشية، كما في النمسا وهولندا وبلجيكا.
ماعلاقة الطائف والطائفية رغم عدم تنفيذ كامل بنود الطائف كوضع نظام داخلي لمجلس الوزراء ، ووضع ضمانات استقلال القضاء؟ يعني إلصاق كل الأمراض بـ"الطائفية"، التوقيع على صك براءة لكل الفساد السياسي. لذا يقتضي "العدول عن الحديث عن واقع الطوائف وكأننا امام عيب وراثي. تطييف الدين لاذكاء النزاعات واحد من معاني مفردة(طائفية)وهوالمعنى السيء الوحيد. ان استغلال الدين في التنافس السياسي، من قبل رجال دين طامعين في السلطة ومن قبل رجال سياسة يهدفون الى تعبئة المشاعر للوصول الى الحكم، هو من ابرز معضلات النظام اللبناني والأنظمة العربية الاخرى. لذا،فان اسوأ ما يحصل في قضايا دستورية لبنانية امتزاج الجهل بتطبيق سيئ او لا تطبيق. تنعدم عندئذ المسائلة في اساسها ويوفر مثقفون صك براءة لسياسيين وللفساد وسوء التطبيق في قولهم: هذا هو النظام الطائفي!.وهذا مايكرره ساسة ومثقفون ودستوريون عرب،رغم ان الأنظمة العربية انظمة طائفية ولطائفة واحدة سائدة اما النظام اللبناني فهو نظام طائفي ايضًا، ولكنه لكل الطوائف دون استثناء. إن بعض التدابير التي تعتمد لاحتواء النزاعات بين مجموعات تتمتّع بثقافات تحتية لا يجب ان تثير خجل المثقفين، بل تعتبر من أرقى السبل في علم السياسة المعاصر لاحتواء النزاعات. أنتج الفكر العربي ابحاثًا قيمة حول الوحدة بينما الأبحاث في التعددية نادرة وهامشية في المجال الثقافي العربي.الاوضاع الدينية للأقليات يحكمها المبدأ القرآني العام: "لا اكراه في الدين".الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان يحصر تفسير هذه الآية لجهة الاقليات غير الاسلامية.فما حال الاقليات الاسلامية؟بل الاغلبيات احيانا!
وكما ان النظم السياسية الانكليزية والامريكية والفرنسية لاتناسب مجتمعاتنا وتعد غريبة عنها،فان الدراسات حول التعددية تعد غريبة عن تلك المجتمعات. اثناء انعقاد المؤتمر حول "احتواء النزاعات في المجتمع المتنوع"، وذلك في الجامعة اللبنانية سنة 1984، روى ارنت ليبهارت، وهو استاذ في جامعة كاليفورنيا ومن اصل هولندي، أنه عندما اصدر كتابه حول "سياسة التسوية" Politics of Accommodation استنادًا إلى حالة البلاد المنخفضة ظن الكثيرون، حتى بين الاخصائيين، انه كتاب حول تتبيل الطبخ أو الضيافة لأن Accommodation لها أيضًا هذين المعنيين في اللغة الانكليزية. الواقع ان اكثر المؤلفات الاميركية، حول التعددية الاجتماعية هي لكتاب سويسريين وكنديين وهولنديين والمان وافارقة و تتصف كتاباتهم بتمايزها عن ثقافة سياسية اميركية سائدة. ويلاحظ أخيرًا ان بعض الباحثين في الجامعات الاميركية الذين سبق واصدروا دراسات رائدة ومجددة في علم السياسة المقارن انطلاقًا من الحالة اللبنانية توقفوا بعدئذ عن مجرد ذكر لبنان في ابحاثهم المقارنة، بعدما اصبح لبنان مزعجًا للرفاهية الفكرية. ولكن في السنوات الاخيرة ساهم مركز الدراسات اللبنانية في اكسفورد (بريطانيا) في اغناء البحث العلمي باللغة الانكليزية حول لبنان بدراسات لا تتحكم بها عقدة التفوق.
يشعر الباحث مرات عديدة ان نقل الشؤون السياسية والديبلوماسية اللبنانية والعربية عمومًا إلى العقل الاميركي يرتبط اكثر بعلم النفس منه بعلم السياسة والعلاقات الدولية، ذلك ان الاميركي واحيانًا في اعلى المستويات، حين تصدمه الانكسارات يصاب بالرعب وتتملكه الكراهية تجاه ما ازعج رفاهيته المادية والذهنية. ينساق كثير من اللبنانيين والعرب عمومًا في استرضاء هذا الادراك الجماعي اذا كانوا من حاملي البطاقات الخضراء او من المرشحين لحملها او من الطامعين إلى منح او مراكز جامعية. يستعمل تاليًا هؤلاء الخطاب والانماط الفكرية التي لا تخرج عن المألوف بغية اكتساب الود والرضى في محيطهم الجديد ومصدر رزقهم، بينما واجب المثقف هو زعزعة العوائق الفكرية التي تحول دون فهم الواقع بكل خصائصه ومراراته. يبدو تاليًا الفكر، وفي اعلى المستويات، متعة ورفاهية ذهنية ومساومة صالونات. ان حرية النقد معطلة في بعض الأنظمة السياسية بفعل القوانين وأجهزة الاستخبارات والقمع. اما في بعض البلدان فيعطلها في مصدرها – في الامور الجوهرية طبعًا – الادراك الجماعي السائد وهاجس الرفاهية المادية والذهنية.
خلاصة القول،لا يكفي الإندماج ووحدة الولاء الفوقي للحد من النزاعات في المجتمع المتنوع أو الوفاقي.إن التوحيد القسري هو عامل انفصال بينما الإقرار ببعض التنوع هو عامل توحيد واندماج طوعي، تدريجي وثابت.إن توفير الأمان النفسي والحد من تسييس التباينات يحققان درجة عالية من السلم الأهلي مبني على حقوق الانسان. اما العنف فهو ينمي الشعور بالقهر متجاهلاً إدراك المهيمن عليهم الذين قد ينتظرون الفرصة المؤاتية. لذلك ان التوحيد القسري هو عامل انفصال بينما الاقرار بالتنوع هو عامل توحيد واندماج.لا تتحقق الوحدة السياسية في انتهاج تسلط قيادات وأكثريات في دولة تحمل هوية الجماعة السائدة. وعلى العكس، كلما تحولت الدولة إلى مؤسسة تعلو مع الانتماءات التحتية، كلما ازدادت شرعيتها وقدرتها على تحقيق قدر أكبر من التوحيد. تصبح الدولة أداة جمع وتوحيد إذا كانت الجسر الذي تعبر منه كل المجموعات دون استثناء ودون عزل، لا أداة يحتكرها فريق لصالحه. لا تتحقق الوحدة إلا باعتماد السبل الديمقراطية وإلا تظل مجالاً لمزايدات يعرقلها الساعون إلى تضامن حقيقي يؤمن المساواة والمشاركة.ان القول ان نظام المشاركة فشل في لبنان والاستنتاج ان نمط المشاركة فاشل حتمًا يفترضان ان الانظمة المحض تنافسية هي وحدها المعيارية، بينما يحتوي كل نظام دون استثناء على بذور فساده اذا لم تتوافر آلية دائمة في ضبطه ومراقبته. يؤول كل نظام في سياقه الذاتي إلى تخصيص منافعه إلى صفوة من الحكام والفئات اذا افتقر إلى آليات ضبط ومراقبة. ولايجوز تبرير الفساد بالطائفية والتوافقية،وهو موجود بدول لاتعرف الطائفية والتوافق .انها شماعات يعلق عليها اصحاب الاغراض اغراضهم . نذكر حالة في سنة 1973: بعد ان نجح المركز التربوي للبحوث والانماء في شرح أهداف "مشروع اللغة العربية الأساسية" الذي كان ينوي تنفيذه، برزت حملة اعلامية بعد فترة من قبل احد زعماء المناطق لأسباب "دينية" معلنة، ولسبب غير معلن وهو ان التعاقد في المركز التربوي مع ابنة الناقم اعلاميًا على المشروع لم يُجدد عقدها في المركز. هل يمكن فصل الدين والمذهب والغائهما لان الثورة الفرنسية قالت ذلك؟ يستحيل فصل الدين عن الدولة. المسيحية لا تفصل بالمعنى الذي يقوله بعض المنظرين، والاسلام مرغم على درس المشكلة اذا اراد الحفاظ على جوهر الاسلام. ان الذين يذكرون قول المسيح: "اعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله" يغفلون مقدمة هذا النص التي هي اساس الموضوع في كل مجتمع سياسي. تقول مقدمة النص: "ان الفريسيين ارسلوا اليه جواسيس يراؤون انهم صديقون لكي يأخذوه بكلمة فيسلموه الى سلطة الوالي. فسألوه قائلين: يا معلم، ايجوز لنا ان ندفع الجزية لقيصر ام لا؟ واذ ادرك مكرهم، قال لهم: اروني دينارًا. لمن هذه الصورة؟ وهذه الكتابة؟ قالوا: لقيصر. قال لهم: ردوا اذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلم يستطيعوا ان يأخذوا عليه شيئًا في هذا الكلام امام الشعب، بل دهشوا من جوابه ولزموا الصمت (لوقا، 20، 20-26، متى، 22، 15-22، مرقص، 12،13،17). ان جدلية الديني والدنيوي هي جزء من نظرية فصل السلطات في نظرية دستورية متجددة. فكما انه يقتضي الفصل مؤسسيًا بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، يجب الفصل مؤسسيًا بين السلطات السياسية التنفيذية والمراجع الدينية، من دون ان يعني ذلك الفصل بين الدين والسياسة، اللذين لا يقبلان "الفصل" بحسب جوهر كل الاديان ومنطقها وكما في منطق الانجيل نفسه، في مقدمة جواب المسيح على تجار الاديان. كان احد النواب يقول لي، لماذا يتكلم البطريرك مثلاً؟ اجبته لان له الحق في ان يتكلم كما أي انسان آخر له الحق في ذلك بقطع النظر عما اذا كان قوله صحيحًا او خاطئًا. كلنا يجوز ان نقول كلامًا صحيحًا او خاطئًا. اما انا، فلا اعرف ان اللبناني ممنوع عليه ان يتكلم في لبنان. لكنني أسأل اين انت يا حضرة النائب؟ ربما تكلم البطريرك لانك ساكت. عاشت المسيحية الشرقية جوًا من التعددية والتفاعل مع الاسلام، على عكس الحالة في اوروبا في بعض المراحل التاريخية التي عرفت مظاهر عدم تسامح، وبخاصة في فرنسا ايام لويس الرابع عشر حيث اطلق الشعار تجاه البروتستانت: "ايمان واحد، قانون واحد، ملك واحد".الباحثين العرب في قضية العلاقة بين الدين والسياسة هم أسرى امام نموذج يسمونه اوروبيًا، في الفصل بين الدين والدولة، او نموذج ديني معاكس يعتبرونه اسلاميًا. ليس النموذج الاول اوروبيًا بل على الاصح فرنسي ونابع من ايديولوجية الثورة الفرنسية او من تفسير مجتزأ لقول المسيح: "اعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله".ان العلمنة نفسها تفترض احترام معتقدات الآخرين وتوفير السبل لذلك. يجب تاليًا التخلي عن بعض المقاييس الغربية في العلمنة، وعن اعتبار هذه المقاييس معيارية ونموذجية.ان قيادات العائلات الروحية وعبارة العائلات الروحية weltanshauugsgruppen مستعملة في النمسا وبلجيكا دونما عقدة تخلف – هي اقدر على معالجة هذه الامور في شكل تقريري واحتواء النزاعات.ان لمجتمع المشاركة منطقه واطره المؤسسية المبنية على التجارب المقارنة. لم تبين هذه التجارب امكان ازالة الولاءات الاولية من المجتمع. يمكن ان تصبح هذه الولاءات الاولية غير نزاعية وتتحول إلى تكامل وتناظم. لايمكن الغاء حالة يمتد عمرها لقرون خلت بقرار في مؤتمر. جوابا عن احد السفراء الجدد المعتمدين في بروكسل قال احد الموظفين الكبار البلجيكيين: "ان عمر المشكلة اللغوية في مقاطعاتنا سبعة قرون، ومن طبيعة هذه المشكلة ان تستمر لبضع مئات من السنين (…). التقدم بطيء. في الماضي كان البورجوازيون الذي لا يتلفظون جيدًا اللغة الفلامنكية يقتلون على الفور. اما اليوم فتحظر عليهم المراكز العليا السياسية والادارية".
************ يتطرق البروفيسور انطوان نصري لحالات الكثير من الدول ومنها العربية ويضرب الامثلة من سوريا ومصر والاردن والعراق الملكي وغير ذلك. واعتقد ان في دراسة توافقية ليبهارت ومسرة مايغني ولايلغي طرفا او مكونا اومجتمعا بعيدا عن تطبيق انظمة لاتتلائم مع واقع الكثير من دول العالم الثالث لاسيما التعددية منها.
ان تطبيق التوافقية ضمن قواعدها الحقوقية – وان كانت بعض هذه القواعد غير مثالية – هو الذي يؤدي الى تطوير ادائها الديمقراطي وحتى تخطيها. ولذا فان البحث المعمق في القواعد الحقوقية في الانظمة التوافقية، الذي لم يستأثر باهتمام كاف من الباحثين، يسد ثغرات على مستويات التحليل والممارسة والتقويم. ان العمل في سبيل القاعدة الحقوقية في النظام الدستوري اللبناني هو الذي يوفر الامان النفسي والتطوير نحو تخطي الكثير من المعوقات. لانه اذا الغيت بعض التدابير الدستورية التوافقية في قاعدة الاكثرية في مجتمع سياسي لا تتوفر فيه ضوابط حقوقية، فالبديل عن هذه التدابير هو "الفلتان" التام لصالح القهر والهيمنة والاستئثار بالسلطة والنفوذ والموارد.
#حيدر_ال_حيدر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف تؤثر وضعية الجلوس على صحتك النفسية والجسدية؟
-
مشكلات صحية خطيرة يجلبها تسوس الأسنان للجسم
-
لماذا يشعر البعض في سن الثلاثين من العمر كأنهم في الستين؟
-
روسيا.. تطوير روبوت بعجلتين يعمل كساع آلي ويعتمد الذكاء الاص
...
-
علماء الفلك الروس: الغبار النجمي الدقيق يمكن أن يقترب من الش
...
-
لدى زيلينسكي أسباب شخصية للاستمرار في إراقة الدماء
-
مراسلنا: مقتل 5 فلسطينيين بقصف إسرائيلي استهدف منزلا في النص
...
-
روسيا تنشر مادة أرشيفية توثق جرائم نازيي لاتفيا في صفوف جيوش
...
-
13 قتيلا بانهيارات أرضية طمرت 40 منزلا في أوغندا (فيديوهات)
...
-
-يونهاب-: كوريا الجنوبية قد تؤجل صيانة صواريخ Taurus بسبب أو
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|