جوريف
بروز تيتو رئيس يوغسلافيا الراحل كان في لقاءاته مع أي من زملاءِهِ
قادة مؤتمر باندونغ وعدم الانحياز , وهم كل من الرئيس
المصري جمال عبد الناصر , والرئيس
الإندونيسي أحمد سوكارنو (والد رئيسة إندونيسيا الحالية ميكاواتي سوكارنو بوتري)
ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو , ورئيس وزراء الصين شو آن لاي (جميعهم رحلوا)
كان يردد أمامه واقع أمته اليوغسلافية
بقوله:
واحده..هي دولة يوغسلافيا باسم (الجمهورية الاتحادية
اليوغسلافية).
إثنان..من الأبجديات تستعمل يوغسلافيا..هما الأبجدية اللاتينية
والأبجدية السيرلية.
ثلاثة..لغات يتحدث بها
اليوغسلاف..هي الصربية والكرواتية والسلوفينية.
أربعة..أديان يعتنقها
اليوغسلاف..هي المسيحية الأرثوذكسية والمسيحية
الكاثوليكية
والإسلام واليهودية.
خمسة..قوميات تستوطن يوغسلافيا..هي القومية السلوفينية
والقومية الكرواتية والقومية
الصربية والقومية المقدونية وقومية
مونتينكرو.
ستة..جمهوريات
كونت الأتحاد اليوغسلافي..هي جمهورية صربيا وجمهورية
البوسنة والهرسك
وجمهورية كرواتيا وجمهورية سلوفينيا وجمهورية مقدونيا
وجمهورية
مونتينكرو.
سبعة..جيران دوليين يحدّون يوغسلافيا...هم إيطاليا والنمسا والمجر
ورومانيا وبلغاريا
وألبانيا واليونان.
هذه نموذج
للدولة غير المتجانسة في تركيبها الإجتماعي , بسـبب من تعـددها ألإثني
والعرقي والديني والمذهبي , إن بلداً هذا واقعه (وحسب منطق الثقافة القومية ,
المستوردة إلينا, وما يردنا من مراكزها ومنتدياتها العنصرية , المتناقضة تماماً مع
تراكم تراث العروبة الإسلامي والإنساني المتسامح) سيكون بقعة للصراع و التطاحن وسفك
الدماء, ولينتهي بالتمزق والتحلل , مبررةً وداعمةً لحاكم بلدٍ مثل هذا, ما يبدر منه
من بطش وإراقة دماء (كتبريرها جرائم سلوبودان ميلوسوفيتش ) وباعثةً من رماد
دكتاتورية آدولف هتلر ونازيته , أشكالاً ونسخ متطورة ومتقدمـة عليه , باتجاه متقاطع
مع بلوغ البشرية الألفية الثالثة , وما وصلت إليه مفردات الحياة الإنسانية وآليات
حماية حقوقها من تقدم وتطور و
ارتقاء.
فمنذ مطلع القرن العشـرين وليومنا هذا حمل هذه الثـقافة لنا, مثقفون مغتربون
فكراً وسلوكاً, من أمثال ساطع الحصري وميشـيل عفلق وخير الدين حسـيب ومعن بشور
ومحمد الجابري وأمير إسـكندر, الذين كانوا ومازالوا-السـابقون منهم و الحاليين-في
سـباق متقاطع مع الزمن والتأريخ , لكي يصلوا القرن الحادي والعشـرين
والألفيـة الثالثة , بنتاج ثقافتهم ومبعث فخرهم وزَهْوِهم , بطل القومية الأول صدام
حسين , متفوقاً ببطشه ودمويته وعنصريته البغيضة بحق العراق وشعبه وجيرانه , كل من
سبقوه ممن ذهبوا وتواروا بمعية لعنات شعوبهم وشعوب العالم
والتأريخ.
لقد قلب هؤلاء المغتربون , حقائق الشعوب رأساً على عقب , بما جعل الشــعب
مُداناً ومُلاماً , بسبب من تلاوينه الاجتماعية المختلفة , وليس بسبب من حكمه
بطريقة
أُحادية.
إن دولاً مثل العراق ويوغسـلافيا وسـويسرا, تجمعهم صفات التكوين الاجتماعي ,
بتلاوينها المتعددة اثنياً وعرقياً ودينيـاً, وتباعدهـم أنماط أنظمتهم , إن تماسـك
الدول وتطورها, مرتبط بشكل وثيق مع نمط نظـام حكمها المقرر كنتيجة من ثقافة
إنسـانية متسامحة أو إيديولوجيا أُحادية مفروضة أو أعراف ومفاهيم فوقية لا رابطة
لها مع
المجتمع.
لقد أُتيح ليوغسلافيا أكثر من فرصة
, لإقرار دستور وقوانين وآليات لإدارة البلاد , تتلاءم وتتوافق وتتماثل مع تلاوين
الشـعب اليوغسـلافي ومتطلبات تنوعـه , وبالتالي ليكون الدستور وكل التشريعات
وتشكيلات الحكومة , صـورة لطبيعة تكوين الشـعب...إلا أن أُحادية فكر قيادة نظامه ,
تنكر للأسباب والمسـببات الحقيقية والمتعـددة لصراعات ونزاعات اليوغسلاف , والتي
يقف في مقدمتها التنوع الديني والإثني والقومي, واعتمد نظامه الصراع الطبقي,
مرتكزاً أساسيا للتشريعات...رغم إن هذا الصـراع لم يكن له وجود , وان وجد فهو هامشي
لا تأثير له , ضمن مسببات إشكالية الشعب اليوغسـلافي , وبالتالي جاءت التشريعات
الدستورية والقانونية بمجملها , والتي أقرتها قيادته بأُحـادية إيديولوجيتها
الماركسية , وبعد مرور نصف قرن , لتكون غطاءً لنمو العنصرية , وظهور دكتاتورية
الحكم الأحادي العنصر والمذهب , ومن ثم سبباً لتفكك هذه الجمهورية الشيوعية...لقد
اعترف (تيتو) قبل وفاته بأنه (ربما) يكون آخر يوغسلافي في التاريخ... لقد صدق ظنه
فلم يبقى من يوغسلافيا غير اسم بلا مسـمى... معلقاً بورقة توت (مونتينكرو) والتي
سقطت في آذار 2002 ... وليختفي بعدها اسم يوغسلافيا... كما توقع
(تيتو).
بالمقابل وبالتشـابه , من حيث
الصـراع والتمزق , بسـبب من التلوين العرقي والديني والإثني... ظهر الاتحاد
السـويسري في العام 1291 واسـتقل في العام 1874 حامـلاً صراعات ومشاكل داخلية , كما
هو حال يوغسلافيا وربما أسوَءْ , بسبب من أجناسـه الإثنية المتكونة من فرنسية
وإيطالية وإسبانية والمانية , ومن طوائف مسيحية كاثوليكية , ومسيحية بروتستانتية ,
وطوائف صغيرة أُخرى... ولم يكن هذا الاتحاد يضم أُمة متضـامنة وذات شخصية واضحة
وثقافة واحدة بما جعله غير مترابط وغير منسجم , فما زال الكاثوليك والبروتستانت
يذكرون معارك 1531وما أريقت فيها من دماء , ومازال الجوار للاتحـاد السويسري , يحمل
ذكرى تأثير الدعاية السويسرية البروتستانتية عليه , وما تسببته لفرنسا من حروب
(الهكرنوت), وفي اسكتلندا في ظهور الكنيسـة البروتستانتية , وهولنـدا بما
دفعها للحرب ضد إسبانيا, وإنكلترا في ظهور طائفة
(البيوريتات).
رغم كل هذا التفكك الذي عانت منه سويسرا , لم يكن بد لشعبها من العزم على شد
أزر بعضه البعض , لمجابهة هجمات آل هبسبرك أباطرة النمسا الطامعة بأرضهم... إلى أن
انتهى الأمر بزوال آل هبسبرك وبقاء سويسرا موحدة من أكثر من عشرين كانتوناً على
مساحة أرض لا تتجاوز 41500 ألف كيلو متر مربع , ولتدخل القرن العشرين بدستورها الذي
جاء مراعياً تلاوين شعبها , ونظام سـياسي ديمقراطي مجسداً لوحـدتها ومستجيباً
لمتطلبات واقع تلك التلاوين... وليرتقي أداؤه , ليصل إلى مستويات تعـتبر
الأعـلى في العالم , محققاً ارفع مستوى معيشي واقتصادي , لشـعب أمسى لا
يعرف غير الســعادة والطمأنينة , والعيش الآمن الكـريم... متحديـاً بذلك كل تراكم
تاريخه من الصـراع والتنازع
والتمزق.
العــراق... يشبه ولا يشبه
الاثنين... خرج من الاحتلال العثـماني الجائر... ليجد نفسـه عام 1917 تحت الاحتلال
الإنكليزي , بوعد منهـم بأنهم جـاؤا للتحرير وليس الفتح... وبعد مرور ثلاث سنوات ,
وبسبب من سلوك المحتل الجديد, واليأس من الإيفاء بوعده (التحرري)... أعلن الشعب
العراقي في العام 1920ثورته الوطنية التـحررية ضد المحتل الإنكليزي , حيث
تسببت هذه الثورة المجيدة , بتأسيس الدولة العراقية في العــام 1921 , هــذه
الدولــة الوليــدة , سُـلِمَتْ مقاليدها إلى الغربـاء , من مبعوثي ومرشحي مكتب
الاستخبارات البريطاني في القاهرة , المسمى بالمكتب العـربي , هؤلاء القادمون
المُرَشَحون المُزَكّوْن من قبل هذا المكتب , كان جلــهم غرباء عن الشـعب العراقي ,
ملكاً ومستشارين وحاشية ورجال سلطة , أما عراقيوها فكــان أبرزهم من المغتربي
والمسُتَتْركي الثقافة والفكر والسلوك , وقد أُسـتُبْعِدَ مؤسـسوها الحقيقيون من
قادة ثورة العشرين , لتكون حصتهم من هذه الدولة النفي والإبعاد أو التهميش في
الحياة , وليختم بطل القومية الأول صـدام حسـين , دوره تجاههـم بالانتقام من
أبنائهم أو أحفادهم , ماهراً نعش كل من قتله منهم بعبارة (يمنع فتحـه... خائن
الوطـن والحزب والثورة) حارماً نظرة وداعهم الأخيرة ومانعاً حتى البكاء عليهم بما
لا سابقة له في تاريخنا , ولتعش عوائل هؤلاء المؤسسون , الخوف والرعب والذل داخل
دولتهـم التي أسـسها عمداؤها , أو يعيشوا غُربة منافي اللجوء في أوطان لا رابطة لهم
فيها , لا ديناً ولا لغةً ولا قيماً , بعد أن سدت في وجوههم أوطان العروبة
الكثيرة...
لقد تميز الشعب العراقي بتنوعه الإثني والديني والعرقي , وتنوع
ثقافاته ومصادرها , إلا انه لم يشهد أي صراع مع بعضه البعض بسبب من هذا التنوع...
وحينمـا دخل ثورته ضد الإنكليز , كان الثوار من مختلف التلاوين , وخرج منها وهو
اكثر تماسـكاً ووحدةً , فكانت الثورة سبباً مضافاً لوحدته , فهو يشبه كل من
يوغسلافيا وسـويسرا, في تنوع سكانه , ويختلف عنهما بانسجام كافة فصائل نسيجه
الاجتماعي , مما جعله مؤهلاً أن يأخذ مكانة افضل من تلك التي عليها سويسرا
الآن , يضاف إلى ذلك ما توفر له من عناصر ومسببات الرقي والتقدم الأُخرى...
إلا أن نمط الحكـم الذي تبنته حكوماتـه المتعاقبة , منذ التأسيس باستلام المبعوثين
الغرباء مقاليده وليومنـا هذا - باستثناء فترة قصيرة- لم تراع
واقعه لا بل جاءت مختلفة تماماً مع هذا الواقع , وغـير متجانسـة مع متطلباته , بما
أدى إلى خلق حالة من الصراع الحاد والمستمر, بين الشــعب وحكوماته المتعاقبة , التي
كانت تزداد تزمتاً وتشدداً برفضها الاستجابة لمتطلبات تعددية الشـعب , وإصرارها على
أُحادية العنصر والمذهب , ثم لاحقاً أُحادية الفكر والحزب , ولينتهي الأمر
بدكتاتورية مقيتة من أُحادية العائلة , كحال أباطرة الظلم والجور من آل عثمان
وآل هبسبرك والآخرين في القرن التاسع
عشر...
الإمبراطوريات والدكتاتوريات الشمولية , تنتهج الحكم الأحادي وما يؤديه من ظلـم
وجور وتعسف بحق الشعب , بحجة ضبط مفاصل الدولة , خاصة متعـددة الأجناس أو الأعراق
أو الأديان أو من خليط من كل أو بعض من ذلك... حفاظاً عليـها عليها من التفكك
والتحلل...!!! الديمقراطيات تنتهج مبدأ حقوق الإنسان , بغض النظر عن العرق
واللون والمذهب... لذا جاءت دسـاتيرها مراعية حقوق كل أفراد وفصــائل مجتماعتها...
أما حكوماتها فهي صورة متكاملة لتكوينات هذه المجتمعـات... فما الذي أنتجه كل من
هذين النمطين
؟
الإمبراطورية الروسية , ثم الاتحاد السوفيتي , والإمبراطورية النمساوية المجرية
, والإمبراطورية العثمانية , والإمبراطورية اليابانية , والاتحاد اليوغسلافي ,
والدولة العراقية... هي أنظمة من النمط الأول , منها من ذهب غير مأسوف عليه إلى ذمة
التاريخ , ومنها من ينتظر..ومنها من رمم الداخل ديمقراطياً ليواصل السير والحياة
والتقدم...
الاتحاد السويسري , وألمانيا الاتحادية , والولايات المتحدة , والسويد, هي
نماذج من النمط الثاني, ضامة شعوباً من أعلى مستويات شعوب العالم , ومازالت تتسابق
لمزيد من العُلى والرقي
والتقدم...
حتماً ستلحق قريباً السلطة الأُحـادية في العراق بالذاهبين إلى ذمة التاريخ من
نمطهـا , وحتماً سيشرق على العراق فجر الحرية والديمقراطية والتعددية , وليأتِ
البرلمان والحكومة صورة جميلة وزاهية بألوان تكوينات الشـعب العراقي , بإقرارٍ من
دســتورٍ يحمل ُكل بصمات نسيجه الاجتماعي , ويصبح العراق بعدها سـويسرا العرب وجنة
الشـرق... نعم... لابد من ذلك... فنحن والمستوطنون الجهلة على موعد قريب
...
نوري العلي-كوبنهاكن