هيثم الحلي الحسيني
الحوار المتمدن-العدد: 4440 - 2014 / 5 / 1 - 08:09
المحور:
المجتمع المدني
دراسة في مكونات المجتمع المدني وأدوارها في دولة المؤسسات,
العراق نموذجا
الحلقة الثامنة
الدور السياسي والإجتماعي لمكونات المجتمع المدني, تأثيراته ومخاطره
دهيثم الحلي الحسيني
باحث في الدراسات الإستراتيجية
ثامناً: الدور السياسي والإجتماعي لمكونات المجتمع المدني
تحضى أنشطة المنظمات غير الحكومية NGOS, ومختلف مكونات المجتمع المدني، بإهتمام كبير في المجتمع والرأي العام(1)، فهي تمارس عملية التأهيل والتوعية والتثقيف المجتمعي من جهة، وكذا التأثير في السياسات الحكومية، للحصول على المكاسب الشعبية المخطط لها, وبذلك فان هذه الأنشطة تكون واسطة فاعلة، بين الفرد والمجتمع من جهة, والحكومة من جهة أخرى، التي عادة ما تكون منشغلة, في الإهتمامات السياسية العليا, والشؤون الدولية والإستراتيجية، عن تفاصيل ودقائق حياة المجتمع, ومتطلباته وحركته.
فعبر هذه المكونات, ينشط المجتمع المدني، ليكون مكملا للنظام العام، في إطار النهج الديمقراطي، من خلال النقاش الحر, ونشر الأفكار والرؤى، وإقامة المؤتمرات والندوات واللقاءات, والحلقات النقاشية العامة، وطرح مشروعات التعاون, والحوارات الفكرية, في ممارسة التفاهمات والخلاف والتوافق, وتقريب وجهات النظر، وثقافة قبول الآخر, لتمكين الحكومة من اتخاذ القرارات الملائمة, لجهة مصلحة الفرد والمجتمع, فالنسيج الاجتماعي المتنوع, من الأفراد والمصالح، يستوجب من المنظومة السياسية الدستورية، أن تضمن سماع أصوات جميع المواطنين, وأن تحترم آراءهم, وتجعلها في نظر إعتباراتها, وفي رسم سياساتها.
إن مكونات المجتمع المدني، تشكل حزمة من نقاط الضوء والإشعاع, بإتجاه النظام الديمقراطي, في دولة المؤسسات, بصفته أسلوب للحياة، وثقافة وسلوك, وليس نظام لممارسة السلطة وحسب, ويشمل ذلك الآراء والمقترحات, والضغوطات المؤيدة أو المعارضة للحكومة، والتي في النتيجة, تساهم وتشارك في العملية السياسية الديمقراطية(2).
فيمكن تشبيه عمل مراكز القرار السياسي, في المجتمع الديمقراطي, كوحدة معالجة تمر من خلال مدخلاتها، مطالب أفراد المجتمع المتنوعة، وتقوم مكونات المجتمع المدني, بجمع وإحتواء وإستيعاب هذه المدخلات, وإيصالها الى مواقع القرار السياسي, فتتحول إلى سياسات عامة، تعبّر في نهاية مخرجاتها, عن صوت المجتمع وارادته ومتطلباته.
إن من المظاهر المهمة لانشطة المجتمع المدني الإيجابية، هي الحملات التي تقودها الصحافة الحرة الإستقصائية, والإعلام القياسي المعياري, في كشف الفساد السياسي والإداري والمالي, في عمل الحكومة ومؤسساتها، وفي منع تسلطها وجورها، ويدخل في هذا المضمار أنشطة منظمات حقوق الإنسان, في مجال المتابعة العامة, لأوضاع الحقوق والحريات العامة، إضافة إلى إقامة الحوارات المفتوحة, حول القضايا التي تدخل ضمن إهتمامات الحكومة, خلال المراحل الحرجة، وتقديم الأفكار والمعالجات, المستمدة من القاعدة الإجتماعية, بما يعبر عنه, بالنسغ الصاعد.
وعليه فإن عملية الديمقراطية وممارستها, لا تنحصر شرعيتها, في الصندوق الإنتخابي, مع أنه المؤشر الأول لها, لكنها تشتمل على جملة من الممارسات والسلوكيات والأنشطة, التي تكمّل العملية الديمقراطية, وتستجيب لمتطلباتها, وتمنح السلطة التنفيذية شرعية وجودها, ثم شرعية إستمرارها بمواقعها, من خلال شرعية الإنجاز, والتي تعتبرها المراكز الرقابية, للتصنيف الدولي للديمقراطيات, معايير أساسية, في تقويم العمل الديمقراطي, ورصد مطابقته, للمقاييس الإتجاهية المعتمدة.
وإن في مقدمة هذه المعايير بالتأكيد, هي العملية الإنتحابية السليمة والنزيهة, والتي تطابق الشروط القياسية المعتمدة, وخاصة لجهة شموليتها وإتساع المشاركة فيها, وإتباعها أنظمة إنتخابية مقبولة, مستجيبة للمتطلبات الحلية, في ضمان حقوق الجميع, وبضمنهم حقوق الفئات الإجتماعية والأقليات والمرأة, ومن ثم معايير الأداء الحكومي, الذي يعبر عنه بشرعية الإنجاز, والمشاركة السياسية الواسعة, لسائر الطيف الفكري العقدي, والسياسي والمجتمعي, ومن ثم معايير تبني ثقافة الديمقراطية وممارستها, والحقوق والحريات العامة.
تاسعاً: مخاطر إحتمالات الدور التسلطي لمكونات المجتمع المدني
قد ترصد بعض المخاوف, من إحتمالات الدور السلبي لانشطة المجتمع المدني، مما يسوقها إلى العمل التسلطي, البديل عن تسلط الدولة, في الأنظمة القمعية أو الشمولية، وقد يبدو هذا التخوف مستغربا, لكنه ذا إحتمالية معقولة للوقوع, لأسباب ذاتية وموضوعية, تتعلق بالنهايات السائبة للديمقراطية, التي يصعب غلقها, دون ممارسة واعية, وخبرة وقناعة شعبية واسعة, ضمن العوامل التأريخية والثقافية المجتمعية.
ومن بين هذه الإحتمالات, تورط المكونات المجتمعية, في قضايا الفساد، من خلال ازدواجية معايير الفئة المثقفة, لجهة العمل الديمقراطي, لحساب قوى دون أخرى، وشيوع الممارسات غير الديمقراطية, في الحياة الداخلية لهذه التنظيمات, بين المرشحين المتنافسين, في انتخاب القيادات لمنظمات المجتمع المدني, وفق مصالح ذاتية وضيّقة.
إن تلك الإحتمالات غير الإيجابية, تنعكس سلباً على أداء الحكومة المنتخبة، كون هذه المكونات المجتمعية, تؤلف مساحة كبيرة, من مصادر القاعدة المعلوماتية، التي تستند إليها الحكومة في صناعة القرار، فضلا عن تشكيلها, لنسبة كبيرة من الأطر التشريعية أو المجالس الموازية لها، البلدية أو الإستشارية أو الرقابية، كما هو الحال خلال المرحلة الوطنية الراهنة, والحرجة في بناء دولة المؤسسات, في التجربة العراقية.
كما أن من المخاطر, التي تحيق بمنظمات المجتمع المدني وديمومتها, والتي تفقدها شرعيتها المجتمعية, وخصائصها المميّزة لها, في الحضور ضمن الوسط المجتمعي, والتفاعل معه, وإستيعاب الرأي العام فيه, هو نزوع بعض هذه المكونات, الى التنافس على السلطة, والحصول على مواقع حكومية, بعد خوضها التنافس الإنتخابي, وحصولها على مواقع في القبة النيابية, وهو ليس ضمن إختصاصاتها ووظائفها.
وبذلك تحاول هذه المكونات المجتمعية, أن تطرح ذاتها, بديلا عن الكيانات والأحزاب السياسية, أو متماهية مع أدوارها وتخصاتصها, وبذا تكون متجردة عن إنتمائها للمجتمع المدني, فيفقدها وتفقده, ويلمس هذا واضحا, ضمن المكونات المرشحة والمتنافسة, في العمليات الإنتخابية الجارية, في النظام السياسي العراقي.
إن الدولة التسلطية عادة, هي من نتاج مجتمع تسلطي، وان الخطر الأكبر في هذا المبحث، هو أن تظهر الدولة والحكومة، مساحة كبيرة من الديمقراطية والتسامح وقبول الآخر، أكثر مما يفعله المجتمع المدني نفسه، مثل إعتراض بعض مكونات المجتمع المدني, على حجم ترشيحات النساء للمقاعد السياسية والتشريعية، إستجابة لأعراف أو تقاليد جامدة، أو محرمات "تابوهات" مجتمعية أو تأريخية أو تقليدية, أو من خلال اعتراض بعض مكونات المجتمع, على إجراء الإنتخابات السياسية أو البلدية, بدعوى معوقات إدارية أو أمنية, أو بدعوى إنحسار الدور الإجتماعي, أو محاولاتها التأثير في التشريعات الشخصية والأحوال المدنية, إستجابة لمتبنيات عقدية أو ثقافية أو دينية.
عليه فانه مثلما يكون الأداء الديمقراطي، حاضرا في الدولة أو المجتمع المدني، فان الأداء التسلطي، قد ينسب أيضا للدولة أو للمجتمع كذلك.
إن تغلغل المكون الديني في الثقافة والنشاط الاجتماعي، مثل دور الأوقاف الدينية في مساعدة غير القادرين, وذوي الإحتياجات الإجتماعية، ونفوذ الواجهات الدينية, في المؤسسات العلمية والثقافية, وحتى في مؤسسات الدولة, قد يحمل مؤثرات متباينة داخل المجتمع المدني, وقد يطرح نفسه بديلا عن النخبة السياسية.
لقد أثبتت التجمعات الدينية, حضورها في الساحة السياسية, واتخاذها من العمل الأهلي, ضمن المجتمع المدني, آلية من وسائلها في التعبئة والتجنيد، ويظهر ذلك جليا في الأنشطة المكثفة للجماعات ذات التوجهات الدينية, في الأوساط السياسية, منذ أواسط القرن الماضي, وعليه فان هذا الدور المميز داخل المجتمع المدني، إذا ما جرى قيادته, من خلال تلك الجماعات, فانه سوف يلقي بظلاله لجهة الدور التسلطي للمجتمع المدني, مقابل انحسار الاتجاه المدني للدولة, في الفكر والأداء داخل المجتمع.
ولقد تنبهت المؤسسة الدينية ذاتها, بوقت مبكر, الى هذه المخاطر, فيما عرف باحتمالات الإستبداد الديني, الذي أشار له بوعي متقدم, العلامة الشيخ محمد حسن النائيني, في رسالته البحثية المعمّقة, المعروفة برسالة التنزيه, أو "تنبيه الأمة وتنزيه الملة"(3), منذ قرابة القرن, التي نشرها في الحوزة العلمية في النجف الأشرف, في دعمه للحركة الدستورية, والعدالة السياسية والمجتمعية, ولاتزال آراؤه ونظرياته, تتداولها الأوساط العلمية الدينية, والأكاديمية السياسية والنخب المجتمعية وبقوة, حيث أكدت على الصفة المهنية السياسية لممثلي الشعب, بعيدا عن مواصفات العالم الديني, أو إمام الجماعة, لضمان الإبتعاد عن ما أطلق عليه "الإستبداد الديني", والذي يربطه بعوامل الإستبداد الإجتماعي والإستبداد السياسي.
إن مستوى التطور السياسي والاجتماعي للنظام، يتحكم عادة في مستوى الحضور العام لمنظمات المجتمع المدني، كما أنه يتحكم كذلك في توجيهاتها, وجداول أعمالها، فضلا عن حضور المنظمات ذات الأنشطة الحساسة, مثل حقوق الإنسان, وإسناد الشباب, والحقوق السياسية للمرأة, ورعاية الطفولة، التي تستخدم المدخل النوعي في مقاربة قضاياها، بمعنى التعامل وفق علاقة حركية "ديناميكية" متطورة, تتأثر بوضع طرفيها, من مرحلة إلى أخرى.
إن علاقات السلطة مع منظمات المجتمع المدني في أشكالها السلبية، تكون متفاوتة عادة, بين تدخل السلطة في شؤونها, والضوابط التي تضعها لتأسيسها وتوجيه فعالياتها, وتعيين بعض ممثليها في قياداتها، وقد تصل العلاقة السلبية, إلى تجميد عمل المنظمات أو حلّها أو تعقّب أنشطتها, أو التأثير في وظائفها.
وعليه ستنصرف مباحث الحلقة القادمة من الدراسة, الى تسليط الأضواء على آليات تسجيل مكونات المجتمع المدني, أو المنظمات غير الحكومية NGOS, ضمن تطوراتها, وتحولات مرجعياتها, ومسؤوليات دوائرها وشرائطها, كونها تعد الضامنة الأساس, للممارسات السليمة لتلك المكونات, بالتالي إلتزاماتها بالمعايير التي تضمن إنتماءها, لبيئتها المجتمعية, ضمن الفكر والأداء, وبالتالي الواجبات والأهداف.
الهوامش:
1. هيثم الحلي الحسيني (الباحث), وعدنان بهية، منظمات المجتمع المدني تجربة جديدة، صحيفة بغداد، العدد 759، نيسان 2004.
2. رحمن الجبوري، مدير برنامج التنظيمات السياسية والمنظمات غير الحكومية، المعهد الدولي للديمقراطية، مقابلة أجراها الباحث، بغداد، ت 2 2003.
3. نسخة دراسة "رسالة التنزيه", للشيخ النائيني, المنشورة في مجلة الموسم التراثية, رئيس التحرير, الأستاذ محمد سعيد الطريحي, في عددها الخامس, لسنة 1990م.
#هيثم_الحلي_الحسيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟