|
الهيولية و انقاذ اليقين
جمال الدين أحمد عزام
الحوار المتمدن-العدد: 4435 - 2014 / 4 / 26 - 13:55
المحور:
الطب , والعلوم
بدأت الأزمة بتجربة يونج الشهيرة التي صدمت المجتمع العلمي بفكرة الاحتمالية فيما يعتبر مرجعية اليقين و هو العلم. لم يستطع العلماء التعامل مع فكرة كثافة احتمال وجود إلكترون أو فوتون فالعلم قبل تلك التجربة كان يقطع بوجود جسم ما في مكان محدد. ليس هناك مجال مثلا لأقول أنا هنا بنسبة كذا، كما أن سرعتي في نفس لحظة تحديد مكاني محددة أيضا؛ إمكانية معرفة مكاني و سرعتي معا مقطوع بها إلا أن ذلك غير ممكن في العالم الذري. و هذا لا يعني أن قوانين العالم ما فوق الذري مغايرة لقوانين العالم الذري و انتهت المسألة إذ على العلماء أن يبرروا كيف نقطع، مثلا، بأن شخصا ما يمشي في شارع ما في لحظة ما بينما الذرات المكونة لجسمه لا يسري عليها ذلك فالعالمين غير منفصلين. لقد قدم بعضهم تبريرا لذلك من خلال تجربة يونج ذاتها. فالإلكترون يسلك سلوك الجسيم المادي المتوقع عندما يتم رصده مما يعني أن الاحتمالية تسقط بالرصد. و هذا ما عبر عنه شرودنجر في تجربة القط الافتراضية. فالقط حي و ميت؛ الإحتمالين قائمين طالما الصندوق مقفل؛ لن تقطع بحاله إلا إذا فتحت الصندوق و نظرت. و هذا فاقم الأزمة فإما أن الإحتمالات تلاشت جميعها حال الرصد لصالح إحتمال واحد أو أنها قائمة في عوالم موازية و نحن لم نرصد إلا إحتمال عالمنا؛ مما دفع أينشتين للسخرية من تبرير الرصد بقوله، "أريد التأكد أن القمر موجودا عندما لا أتطلع إليه في السماء". لقد تزعم بور جماعة علمية استطاعت تقبل الاحتمالية في العلم. و أصبح منطقيا بالنسبة لهم أن العالم النيوتوني الحتمي مجرد حالة خاصة و أن المعادلات البسيطة و النماذج الحدسية المباشرة القادرة على وصف العالم و التنبؤ بسلوكه لم تعد ممكنة؛ فليس هناك سوى عمل عقلي مضن و إحصاءات هائلة و معادلات رياضية معقدة. و هذه المعتقدات الجديدة أثارت استياء جماعة مناوئة كان يتزعمها أينشتين العجوز في ذلك الوقت. فأينشتين و من معه كان قد تجذر لديهم أن العلم لا بد أن يكون بسيطا و أنيقا و قابلا للتنبؤ. بور و رفاقه الشبان انقلبوا على ذلك بتفجيرهم ثورة ميكانيكا الكم و كانت محاولة التقريب بين الجماعتين غير ممكنة لأن المنهج العلمي بل و رؤية العلم نفسه بالنسبة لكلا الجماعتين متعاكستان تقريبا. إن انقسام العالم ما بين كبير أو مرصود و صغير أو غير مرصود كان أمرا مزعجا. و لا يمكن التغاضي عن ذلك الازعاج خاصة و أن العالمين يمكنهما الحلول معا؛ كما حدث عند اكتشاف الثقوب السوداء؛ فالثقب الأسود يسحق أية كتلة هائلة ذات حجم هائل إلى كتلة هائلة ذات حجم ميكروسكوبي و هذه الأخيرة تنتمي للعالم الصغير من حيث الحجم و للعالم الكبير من حيث تأثير كتلتها. و هكذا اهتز اليقين العلمي و جعلت ثورة الكم الاحتمالية في مقابلة الحتمية؛ التعقد في مقابلة البساطة؛ الصغير في مقابلة الكبير. ترى من ينتصر؟ هل هذا هو السؤال؟ أم أن هناك فرصة لتصور جديد؟ لحل وسط؟! إن أسوأ ما في هذه الأزمة أنها لم تعد مجرد خلاف بين مدرستين علميتين أو مجرد خلاف يخص العلماء و معاملهم و معادلاتهم؛ لقد امتدت لتطال من هدف العامي قبل العالم في الحياة و هو بلوغ اليقين. كان العلم قبل ثورة الكم هو ملاذ اليقين الأخير؛ فمهما ضل العامي و شطح الفليسوف و أخطأ العالم كان العلم هو الأمل في إيجاد أرضية صلبة لا تتزعزع لتأسيس الفكر و الحضارة. و لأن العلم كائن لا ييأس أبدا فقد استطاع، و باستغلاله صدفة محضة على يد عالم لم تكن تلك القضية تشغله، أن ينقذ نفسه. و كان الانقاذ أمامنا دائما ماثلا في جو السماء ينتظر من يراه. كان إدوارد لورنز [1] مشغولا بالطقس و كان نموذجه الرياضي لمحاكاة دورات الطقس يعمل بكفاءة و يخرج نتائجه المتوقعة. كانت الطابعة تخرج البيانات حتى الرقم الثالث بعد العلامة العشرية بينما البيانات على الحاسب كانت مقربة حتى ستة أرقام بعد العلامة، و كانت تعتبر نتائج الطابعة هي نتائج الحاسب فالفارق لا شيء تقريبا. ثم أراد لورنز ذات يوم أن يدرس جزءا معينا من دورة الطقس التي أخرجتها الطابعة من قبل بشيء أكثر من التفصيل. و دون تفكير، أخذ رقما من قلبها و غذا به الحاسب مفترضا أن التنبؤات التي سيحصل عليها ستكون موافقة تماما لما حصل عليه من قبل؛ لأن هذه العملية هي التي كان يفعلها الحاسب الآلي تلقائيا ليحصل على قيم التنبؤات السابقة, الفرق الآن فقط هو أنه قام بإدخال المعلومات يدويا بدلا من أن تكون تغذيتها تلقائيا. ترك لورنز المكان فقد كان حره خانقا بسبب الحاسب البدائي و ذهب لشرب فنجان قهوة ريثما ينتهي الحاسب من عمله. عاد متوقعا أن يحصل على نفس النتائج السابقة والمتعلقة بالفترة التي يدرسها غير أن الذي حدث شيء آخر تماما! لاحظ لورنز أن النموذج بدأ يعطي نتائج مختلفة قليلا، في أول الأمر، عن النتائج السابقة و أن هذا الاختلاف يزداد شيئا فشيئا حتى لا يكاد يلمس أي تشابه بين النتائج الحالية والنتائج السابقة. وبعد البحث والتحري اكتشف لورنز أن الفارق الوحيد الذي يمكن أن يعزى إليه هذا الاختلاف الكبير في النتائج يكمن في البيانات الابتدائية التي غذيت بهما التجربتان. فارق الثلاث أرقام بعد العلامة العشرية الذي أدخله من النتائج المطبوعة هو السبب رغم تفاهته [2]. كان الأمر غريبا فالمعادلات التي استخدمها تنتمي للعالم النيوتوني. و حسب التصور المسبق، لا يمكن أن يؤدي اختلافا بسيطا في الشروط الابتدائية إلا لاختلاف بسيط في النتائج عن المتوقع. و هذا يعني أن اللحظة الحالية تحدد المستقبل و أي اختلاف بسيط فيها سيؤدي لاختلاف بسيط في تحديد المستقبل؛ فهو مجرد شوشرة طارئة. أما أن يؤدي هذا الاختلاف إلى عدم التنبؤ بالمستقبل تماما فهذا كارثي. هذا يعني أن الاحتمالية نالت أيضا من العالم فوق الذري بغض النظر عن الرصد. لقد أصبح يقين العلم في وضع أسوأ حتى من وضعه بعد ثورة الكم!! و لكن لورنز لم يتوقف عند هذا الحد. كان يشعر أن لا دورية الطقس لها علاقة بتكبير الأخطاء الابتدائية؛ ففكرة أن الطقس لا يعيد نفسه أبدا ألهمته ذلك. فقام بصياغة معادلات تقارب معادلات الطقس و لم يتجنب الحدود اللاخطية و إلا فالحركة ستكون دورية [3]. ثم وقع البيانات في فضاء الطور ثلاثي الأبعاد (فضاء الطور هو وسيلة بيانية لتمثيل النظام الديناميكي و كل نقطة موقعة في هذا التمثيل تعبر عن جميع المعلومات الخاصة بالنظام في لحظة ما و كلما تغيرت الحركة رسمت النقاط مسارا يعبر عن ذلك التغير و مع مرور الزمن و بغض النظر عن أية نقطة نتخذها كشرط ابتدائي للحركة نجد مسارا محددا ثابتا يمثل مآل حركة النظام يسمى الجاذب [4]) و إذا به يحصل على جاذب غريب الشكل فهو منحنى لا يتقاطع مع نفسه أبدا و يظل يلتف صانعا جناحي فراشة في مساحة محدودة [5]. هذا هو مصير الحركة بغض النظرعن نقطة البدء و هو ليس كالمعتاد؛ نقطة ثابتة؛ فالحركة لا تؤول للسكون، أو منحنى مغلق؛ فالحركة ليست دورية (مصير أي نظام ديناميكي لا يتأثر بالاختلاف الطفيف في الشروط الابتدائية هو السكون نتيجة فقدان الطاقة بسبب الاحتكاك مثلا أو أن يعيد نفسه في دورات إن كان هناك مصدرا للطاقة يعوض هذا الفاقد) لكنها دائما تؤول إلى هذا الهيكل مهما يحدث من تغيرات طفيفة في الشروط الابتدائية. صحيح أن النتائج تختلف كميا بشكل هائل نتيجة تلك التغيرات إلا أنها تؤول لنفس الهيكل أو الجاذب. و هذا الجاذب جديد و غريب فهو يعني أن مآل النظام فوضوي و منظم في نفس الوقت؛ احتمالي و حتمي في نفس الوقت. إن ما تعلمناه في الدينكاميكا يخبرنا دائما عن حالتين من الإتزان؛ الإتزان المستقر و الإتزان غير المستقر. و الحالة الأولى تعني أن نظاما ما يتعرض لاضطراب ما سيعود إلى حالته التي كان عليها بعد زواله. فمثلا، إذا دفعت كرة موضوعة على سطح مقعر ثم تركت ستتأرجح قليلا ثم تتوقف لتعود كما كانت ساكنة عند نفس النقطة؛ فالجاذب في هذه الحالة و الذي يعيد النظام إلى ما كان عليه قبل الاضطراب نقطة ثابتة. أو إذا قفزت قطة داخل ساعة سيضطرب البندول ثم يعاود حركته الدورية المنتظمة بعد مغادرتها بقليل؛ فالجاذب في هذه الحالة دوري. أما الحالة الثانية فتعني أن النظام إذا تعرض لأي اضطراب مهما كان طفيفا لن يعود أبدا لحالته التي كان عليها بعد زواله. فمثلا، كرة موضوعة على قمة سطح أحدب تعتبر متزنة و لكنها غير مستقرة فبمجرد دفعة طفيفة لها سيزول عنها هذا الإتزان و ستنزلق ( صحيح أنها ستتوقف عن الحركة في النهاية كصخرة تتدحرج من قمة جبل و تستقر ساكنة عند السفح و لكنها نقطة استقرار غير التي كانت عليها). لكن مسألة لورنز وضعتنا أمام نوع ثالث من الإتزان (و بالتالي الجاذبات) يمكن تسميته "الإتزان الاضطرابي المستقر" فالاضطرابات في نظامه لا تزول أبدا و تظل سارية فيه حتى بعد توقف مصدرها و لكنها لا تغير مصيره المحدد الذي لا بد سيستقر عليه؛ فالجاذب في هذه الحالة و إن كان يمثل حالة استقرار نهائية للنظام إلا أن كل اضطراب يتعرض له يظل موجودا فيه و هذه حالة غريبة؛ استقرار على الاضطراب أو اضطراب مستقر، لذا سمي هذا النوع من الجاذبات بالجاذب الغريب حيث عدم الانتظام يؤدي للانتظام و ما يعتقد أنه فوضى، بنظرة أشمل، هو منظومة محددة بدقة؛ فعلى المستوى المحلي (على مستوى الفترات الزمنية القصيرة) النظام الديناميكي غير قابل للتنبؤ و لكنه على المستوى الشامل (على مستوى الفترات الزمنية الطويلة) مستقر. إن ذلك يتضح من منحنى الفراشة ببساطة. فعندما قام لورنز بإحداث تغير طفيف في أحد الشروط الابتدائية حصل على نتائج مغايرة تماما للمتوقع بعد زمن قصير و لكنها انتظمت بعد زمن طويل في منحنى فراشة جديد مطابق للسابق قبل الاضطراب. يبدأ المنحنى الجديد متقاربا مع القديم للغاية ثم بعد مدة قصيرة يأخذ مساره في الابتعاد عنه باضطراد أسي. و هذا هو التعريف الرياضي لما يعرف بظاهرة الفراشة؛ تنامي الخطأ في نظام ديناميكي لا خطي نتيجة تعرضه لاضطراب طفيف باضطراد أسي [6]. إذن نحن أمام جاذب للحركة يتشكل تحت مطر من الاضطرابات الطفيفة (و التي لا يمكن تفاديها فهي حالة دائمة تعاني منها كافة النظم الديناميكية) أو باختصار شوشرة (ليس معنى ذلك أن الشوشرة لا يمكن أن تكون على هيئة اضطرابات متوسطة أو كبيرة بل يمكن أن تكون كذلك و قد يصمد النظام الديناميكي أمامها و لكنها ليست دائمة الحدوث لذا فالاضطرابات الطفيفة هي محك اتزان النظام الديناميكي). و لكنه لا يطرد تلك الشوشرة، كما يحدث في حالة الجاذب الساكن أو الدوري، بل يحتفظ بها و يطور بها حركته؛ فهي تمده بتدفق للحركة جديد و غير متوقع رغم ضآلتها و لكنه يصبها في هيكله المستقر المحدد دائما فهو لا يفقد هويته أبدا. باختصار نحن أمام نظام للحركة تخلق فوضاه نظامه و يحد نظامه فوضاه. لذا تسمية هذا النظام الديناميكي بالفوضى خطأ فادح فالفوضى ظاهرة و النظام مستبطن. و لأن الظاهرة التي تعتبر خاصية أساسية في هذا النوع من الحركة هي ظاهرة الفراشة و لأنها منتجة لمعلومات غير محدودة من بدايات محدودة للغاية؛ سميت هذه الحركة بالحركة الهيولية نسبة للكلمة اليونانية هيولا التي تعني الأصل في الأشياء [7]. و السؤال الآن، ما الذي جعل مسألة نيوتونية حتمية النتائج مسألة هيولية؟ إن العامل الجديد الذي دخل على تلك المسألة النيوتونية هو اللاخطية. في الديناميكا التقليدية كان الرياضيون يحلون ما يعرف بالمعادلات التفاضلية الجزئية و التي تعبر عن طبيعة حركة النظام. و هذه المعادلات في الأغلب لا خطية أي لا يمكن فصل المتغيرات المستقلة فيها عن التابعة مما يجعلها صعبة الحل (الحل في هذه الحالة، و ليكن السرعة مثلا، سيكون دالة في متغير ما، و ليكن الاحتكاك، الذي بدوره دالة في السرعة) و لتفادي هذه المشكلة كانوا يقومون إما بالتصرف رياضيا من خلال تقريبها إلى معادلات خطية أو بالتصرف فيزيائيا عن طريق إلغاء الحدود الغير خطية باعتبار فقط الجزء من الحركة المحقق لشرط الإتزان المستقر. و هذا ينسجم مع الرؤية النيوتونية التي تفترض أن الكون مبني على الاستقرار و أن مظاهر الاضطراب و العشوائية و التعقد طارئة. فحركة الكون في الأصل مستقرة و قابلة للتنبؤ و يمكن صياغتها بمعادلات بسيطة. فالكون كالساعة الدقيقة؛ طالما علمنا كل شيء عن اللحظة الحالية نستطيع أن نعلم كل شيء عن أية لحظة مستقبلية. و إذا أصاب تروس الساعة بعض الغبار (أخطاء بسيطة في الحسابات) ستتأثر حركتها قليلا و حسب و سيظل الخطأ دائرا معها بلا تنام (كما حدث عند حساب مدار المذنب هالي؛ فالخطأ البسيط الذي دخل في الحساب في عام 1910 أدى إلى خطأ بسيط في حساب موعد ظهوره عام 1986 و سيظل هذا الخطأ عالقا لملايين السنين القادمة [8]) لذا لم يتجنى الرياضيون على الحركة بحذفهم لتلك الحدود. صدفة لورنز وحدها هي التي خرقت هذا التصور. فبمجرد زيادته لمعامل اللاخطية في مسألته إلى حد معين تبين له سبب اختلال نتائج الطقس بهذا الشكل الهائل. اللاخطية هي التي تعظم من الاضطرابات الطفيفة؛ التفاعل المتبادل بين المتغيرات المستقلة و التابعة أو اعتماد المخرجات على المدخلات أو على وجه الدقة، تثبيط المخرجات للمدخلات هو الذي يقوم بذلك (هناك أمثلة عديدة على النظم الديناميكية اللاخطية التي تثبط المخرجات فيها المدخلات كنظام سيارة تتحرك على أرضية خشنة فكلما ضغط السائق على دواسة الوقود ازداد احتكاكها بالأرضية و الذي يعمل على تخفيض السرعة فيزيد السائق من السرعة و هكذا. كذلك نظام الطقس؛ فبينما يعمل احتكاك طبقات الهواء على تثبيط حركته تعمل الطاقة الشمسية على زيادتها بتوليد تيارات الحمل. هي إذن أنظمة مخمدَة و محفزة في نفس الوقت؛ مخمدة من المعوقات و محفزة مما تحصل عليه من دفع خارجي. أما إذا كانت المخرجات معززة للمدخلات سيتحقق التنامي الهائل في الاضطرابات الطفيفة و لكن بلا مآل محدد للحركة و هنا تكون الحركة عشوائية تامة و يمكن تسميتها حركة فوضوية أو شوشرة) و لكنه في ذات الوقت يحفظ الإتزان فيصبح للحركة جاذب محدد [9]. و الآن لم يعد رصد الحركة من عدمها هو المعيار الذي يحدد طبيعة الظاهرة؛ عشوائية أو هيولية أو حتمية، العامل هو معامل اللاخطية؛ فإن كان صفرا كانت النتائج إما منعدمة أو خطية حتمية و كلما ازداد تحولت النتائج إلى لاخطية دورية و تظل حتمية. أما إذا ازداد عن حد معين أصبحت الحركة عشوائية إن كانت المخرجات معززة للمدخلات أو هيولية إن كانت المخرجات مثبطة للمدخلات. و لكن ماذا عن ميكانيكا الكم؟ إن كل ما تم ذكره عن الهيولية يدور في فلك الميكانيكا الكلاسيكية فماذا عن القفزات الكمية و دالة كثافة الاحتمال؟ إن ميكانيكا الكم مختلفة و هذا ما ولد الأزمة بالأساس (و التي اتضح أنها كانت كامنة أيضا في الميكانيكا الكلاسيكية؛ الفيزيائيون و الرياضيون هم من تعاملوا مع الحالات الخاصة فقط للنظم الكلاسيكية و هي الحالات الخطية). فهل يمكن أن تقدم الهيولية حلا لها كما فعلت على المستوى فوق الذري؟ و لكن ما علاقة الهيولية بميكانيكا الكم؟ هل يمكن أن تسري قوانين الهيولية على عالم الكم؟ إن علما جديدا نشأ ليجيب على هذا السؤال سمي بـ "الهيولية الكمية"، و هو يبحث عن الظواهر الكمية التي تكون في نفس الوقت هيولية. ربما هذا التعريف يشي بالتواضع إذ يوحي بالبحث عن حالات خاصة تنطبق فيها قوانين الهيولية على ميكانيكا الكم. و لكنه علم في بدايته و سيكون الانجاز كبيرا لو أنه استطاع اختراق جدار هذا العالم الاحتمالي المنيع. ثم أنه حتى في الميكانيكا الكلاسيكية لم يستطع العلماء القطع بانعدام العشوائية بل أقروا بوجودها في حالة ذكرتها من قبل. إن الانجاز الأكبر للهيولية ليس أنها قضت على العشوائية بل أنها قدمت معيارا يفرق بين العشوائية الظاهرية و التي يختبئ النظام بين طياتها و العشوائية الفعلية التي لا نظام فيها. و هذا ما يقوم به المشتغلون بالهيولية الكمية؛ محاولة الوصول لمعيار كهذا. لذا فعملهم و إن كان في البداية إنما هو امتداد لذلك الزلزال الذي أحدثته الهيولية في تصوراتنا عن العلم ذاته؛ فبعدما كان يقينيا ثم احتماليا أصبح بفضلها يقينيا احتماليا؛ احتمالي على المستوى المحلي و يقيني على المستوى الشامل. البداية كانت عندما ألقى نلز بور الضوء على تلاقي عالمي ميكانيكا الكم و الميكانيكا الكلاسيكية من خلال اكتشافه لمبدأ التوافقية و الذي يعني باختصار أنه في حالة الطاقات العالية تخضع ميكانيكا الكم لقوانين الميكانيكا الكلاسيكية. و تفسير ذلك أنه في حالة ما تكون الذرة مكتسبة لطاقات عالية فإن مدارات إلكتروناتها، أي مستويات الطاقة فيها، تتقارب بشكل كبير يجعل القفزات الكمية بينها تضيق لدرجة يمكن معها اعتبار حركة الإلكترونات متصلة. إن هذا التقريب يعني ببساطة أنه طالما خضعت قوانين الكم في حالة الطاقة العالية لقوانين نيوتن فإن خضوع بعض مسائلها للهيولية في هذه الحالة وارد أيضا. و بالفعل تمت صياغة مسألة تعبر عن ذلك و هي مسألة ريدبرج لذرة هيدروجين عالية الطاقة (ليست أعلى من حد معين و إلا فقدت إلكترونها) تتعرض لمجال مغناطيسي قوي [10]. و عند توقيع حركة الإلكترون في فضاء الطور نحصل على منحنى للجاذب على هيئة شديدة التعقيد و لكي يكون هذا الجاذب غريبا و بالتالي تكون الحركة هيولية لا بد أن يكون منحناه فراكتاليا (فراكتالي تعني كسري و هي منحنيات تتمتع بالخشونة لذا هي مقاربة للمنحنيات الواقعية في الطبيعة و تمثل المنحنيات الملساء حالة خاصة منها) على خلاف الجاذبات الدائرية الملساء للحركة الدورية. و لكي يكون منحنى ما فراكتاليا لا بد أن يكون لا نهائي الطول و في نفس الوقت يشغل مساحة محدودة و هذا متحقق بالنسبة للمنحنى الناتج. و لا بد أن يحمل خاصية المعاودة أو المقياسية و هي تعني تكرر خاصية ما للمنحنى باستمرار على مستوى المقاييس الكبيرة و الصغيرة لا فارق إذا تعاملنا مع المنحنى على مستوى المليمتر أو الكيلومتر، الثانية أو القرن و هذه الخاصية غير واضحة في المنحنى الناتج لتعقد مساراته (أشهر منحنى فراكتالي كان ذلك الممثل لبيانات أسعار بورصة القطن الأمريكية على مدى ستين عاما، من عام 1900 حتى عام 1960، حيث وجد أن التغير في أسعار القطن كان يحدث بصفة ثابتة على مستوى اليوم أو العام أو الستين عاما برغم تعرض البورصة لحربين عالميتين و كساد عالمي. و هذه الخاصية الثابتة تمثل مقياسية هذا المنحنى) [11]. و للكشف عن فراكتالية هذا المنحنى ابتكر بوانكارية طريقة و هي قطع مسارات هذا المنحنى عند أي موضع بمستوى رأسي و ملاحظة توزيع نقاط تقاطع المسارات مع هذا المستوى [12]. و بالفعل عند تطبيق ذلك رسمت النقاط نمطا و بزيادة التوقيع يتضح نمطا مشابها له داخله و هكذا، في محاكاة لدمى الماتروشكا. هذا يعني أن المنحنى فراكتالي و بالتالي يمثل جاذبا غريبا، مما يعني ببساطة أن ذرة ريدبرج تمثل ظاهرة كمية هيولية. و قد لوحظ من رسم توزيع الطيف لكمات إلكترون ريدبرج المتقاربة أنه محدد المعالم و مترابط بينما في الحالة العادية لذرة الهيدروجين فإن توزيع الطيف عشوائي و غير مترابط [13]. هناك أيضا مسألة أخرى من مسائل ميكانيكا الكم و التي تخضع للهيولية. من المعروف أن موضع إلكترون ذرة الهيدروجين مثلا غير محدد قطعا و إنما تحدده دالة كثافة احتمال على هيئة سحابة موجية في الزمان و المكان. فإذا اعتبرنا التغيرات مع المكان فقط حصلنا على موجات موقوفة. و قد وجد عند دراسة الموجات الموقوفة لإلكترون ذرة الهيدروجين مع اعتبار التغير في مكان على هيئة إستاد كرة قدم أن توزيعها ليس عشوائيا كما يبدو ظاهريا و أن معظمها تتركز حول قنوات ضيقة تصنع أشكالا بسيطة داخل الإستاد سميت بالندوب [14]. ربما بعد عرض المسألتين السابقتين يبدو أن الطريق ما زال طويلا في مجال ميكانيكا الكم الهيولية. إلا أن هذا العلم أثبت أن عالم الكم الاحتمالي لم يعد احتماليا محضا و أن اعتبار نظرية الكم حجة كافية للقول بانتقال العلم من الحتمية للاحتمالية لم يعد مقبولا و ما ترتب على ذلك من آثار على تطور العلم بخاصة و المعرفة كلها بعامة يحتاج إلى مراجعة. فاليقين العلمي كان و ما زال حاضرا و الفوضى و العشوائية كثيرا ما تكون ظاهرية و الهيولية أصبحت معيارا للفصل بين العشوائية الفعلية و العشوائية الظاهرية و لا يجب عند دراسة أية ظاهرة تبدو غير مترابطة العناصر أن نتعجل و نصفها بالعشوائية؛ ربما نحن من غرق في التفاصيل المحلية؛ ربما إذا ابتعدنا للوراء قليلا و توقفنا عن التحليل و التفكيك و نظرنا نظرة شاملة تاركين للزمن فرصة الامتداد لرأينا اليقين لا مراء فيه. المراجع: [1] الهيولية تصنع علما جديدا - تأليف: جيمس جليك - ترجمة: علي يوسف علي - المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 2000- ص 25، 26. [2] الهيولية تصنع علما جديدا - تأليف: جيمس جليك - ترجمة: علي يوسف علي - المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 2000- ص 28، 29. [3] الهيولية تصنع علما جديدا - تأليف: جيمس جليك - ترجمة: علي يوسف علي - المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 2000- ص 35، 36. [4] الهيولية تصنع علما جديدا - تأليف: جيمس جليك - ترجمة: علي يوسف علي - المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 2000- ص 110...114. [5] الهيولية تصنع علما جديدا - تأليف: جيمس جليك - ترجمة: علي يوسف علي - المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 2000- ص 40. [6] الهيولية تصنع علما جديدا - تأليف: جيمس جليك - ترجمة: علي يوسف علي - المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 2000- ص 51. [7] الهيولية تصنع علما جديدا - تأليف: جيمس جليك - ترجمة: علي يوسف علي - المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 2000- ص 242. [8] الهيولية تصنع علما جديدا - تأليف: جيمس جليك - ترجمة: علي يوسف علي - المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 2000- ص 28. [9] الهيولية تصنع علما جديدا - تأليف: جيمس جليك - ترجمة: علي يوسف علي - المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 2000- ص 35...39، 47. [10] http://www.scientificamerican.com/article/quantum-chaos-subatomic-worlds/ [11] الهيولية تصنع علما جديدا - تأليف: جيمس جليك - ترجمة: علي يوسف علي - المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 2000- ص 75، 77، 85، 88. [12] الهيولية تصنع علما جديدا - تأليف: جيمس جليك - ترجمة: علي يوسف علي - المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 2000- ص 117. [13] http://www.scientificamerican.com/article/quantum-chaos-subatomic-worlds/ [14] http://www.scientificamerican.com/article/quantum-chaos-subatomic-worlds/
#جمال_الدين_أحمد_عزام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل تنقذ الهيولية توماس كون؟!
-
اليساريين و الليبراليين بعد ثورة يناير
-
حكاية الساكن عزمي أبو العزايم
-
الخطيئة الكبرى
-
فراسة
-
إيناس
-
ماتروشكا
-
سعاد
-
مكان شاغر
-
أزمة مرور
-
بيت الشمس
-
رسائل من العالم الآخر
-
خواء العودة
-
يقظة ذكرى
-
العقاب
-
كان لي صديق
-
رائحة الليل
-
المأوى
-
تي
-
الجلاد
المزيد.....
-
مخدر الماجيك المشروم.. تأثيرات على القلب تصل للغيبوبة وتهدي
...
-
هل العالم مستعد لنطاق وسرعة ثروة الذكاء الاصطناعي؟ رئيس -غوغ
...
-
أطباء ألمان يقترحون البديل.. الفحص اليدوي غير فعال لكشف سرطا
...
-
مع انخفاض درجات الحرارة.. اعرف مخاطر قلة شرب المياه فى الشتا
...
-
مخدر المشروم المستحدث.. يسبب الهلوسة وارتفاع ضغط الدم وتدمير
...
-
مفاوضات شاقة للوصول لمعاهدة عالمية ضد التلوث البلاستيكي
-
أشهر الأمراض الوراثية عند الأطفال وأهمية التشخيص المبكر للوق
...
-
التقاط صور دقيقة لنجم -يحتضر- للمرة الأولى
-
تجمع الأطباء الفلسطينيين بأوروبا يدعم طلبة الطب في غزة
-
لولو الشطورة تقدم أغاني جديدة..تردد قناة وناسة كيدز على الأق
...
المزيد.....
-
هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟
/ جواد بشارة
-
المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
-
-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط
...
/ هيثم الفقى
-
بعض الحقائق العلمية الحديثة
/ جواد بشارة
-
هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟
/ مصعب قاسم عزاوي
-
المادة البيضاء والمرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت
...
/ عاهد جمعة الخطيب
-
المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين
/ عاهد جمعة الخطيب
-
دور المايكروبات في المناعة الذاتية
/ عاهد جمعة الخطيب
المزيد.....
|