أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - الثورة والاستعصاء الثوري في سورية















المزيد.....


الثورة والاستعصاء الثوري في سورية


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 4432 - 2014 / 4 / 23 - 23:23
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


الثورة في مأزق؟ لا شك في ذلك، وهذا ما فرض نشوء استعصاء يدفع الأمور لصراع دموي مدمرّ دون أفق كما يبدو. ربما هذا ما كانت تريد الدول "الخارجية" (الغربية والشرقية) الوصول إليه، لكي يظهر فشل الثورة، لكن أيضاً لكي يزداد الدمار كما يريد بعضها، وأقصد الإمبريالية الأميركية.
ما أوصل إلى ذلك هو عنصران، الأول: هو نجاح سياسة السلطة بإظهار الثورة كحراك "سنيّ" (وإخواني يريد الانتقام مما حدث سنة 1980 في الصراع بين السلطة والإخوان)، من خلال سياسات قوى معارضة ودول إقليمية ودولية كانت تريد أن تظهر الثورة كذلك لأن قوى المعارضة تلك كانت تراهن على تدخل "خارجي" وبالتالي كانت في غنى عن الأقليات (خصوصاً أنها تحمل أحقاداً ضدها)، ولأن الدول الإقليمية كانت تريد إفشال الثورة وتحويلها إلى صراع طائفي (أو يبدو كذلك)، والقوى الإمبريالية التي تريد التدمير والتفكيك وليس انتصار الثورة. وكان هدف السلطة من ذلك هو ضمان تماسك "الأقليات" خلفها، خصوصاً العلويين نتيجة أنها شكلت قوتها القمعية الصلبة منهم بالتحديد، وبالتالي باتت تستخدمهم كأداة قمع معها لحماية سلطتها (بمعزل عن أي منظور طائفي، حيث كانت تستخدم الطائفة ولم يكن لديها أيديولوجية طائفية). بالتالي استطاعت السلطة أن تؤسس لنشوء شرخ مجتمعي مهم ساعدها على التماسك طويلاً. لكن ما ساعدها كذلك هو الدعم المباشر من قبل إيران وأدواتها (حزب الله وكتائب أبو الفضل العباس)، والتسليح المستمر والخبرات من روسيا، وكذلك الحماية الدولية لها (رغم أن الدول الإمبريالية لم تكن ترغب في التدخل، سوى ربما فرنسا وتركيا). لهذا حينما استهلكت قواها جرى امدادها بالسلاح من قبل روسيا وإيران، والمقاتلين من قبل حزب الله والطائفيين العراقيين التابعين لإيران وإيران ذاتها، وقبل ذلك بالخبرات والتدريب والإشراف.
كل ذلك سمح للسلطة لأن تبقى متماسكة رغم خسرانها عشرات آلاف الجنود ورجال الأمن من "البنية الصلبة" (الرقم الرسمي هو 40 ألف)، وكذلك الشبيحة. ورغم عجزها عن تحريك معظم الجيش الذي بات يعيش حالة احتقان هائلة، أصبحت مهيئة للقيام بانشقاقات كبيرة، وهو الأمر الذي فرض وضعه في معسكرات مغلقة. ولقد ظهر في لحظة أن السلطة باتت تفقد السيطرة لأنه لم يعد لديها قوى كافية للدفاع، الأمر الذي فرض دخول حزب الله وكتائب أبو الفضل والحرس الثوري بأعداد كبيرة وبشكل علني. لتتماسك من جديد، وتبدأ سياسة استرجاع المناطق التي اضطرت للانسحاب منها. ولا شك في أن نجاح السلطة في الحفاظ على تماسك "البنية الصلبة" (أي كبار الضباط) هو الذي سمح بألا تسقط، لأنه سمح بعدم انشقاقها وخروج "كبار" من البنية الصلبة لقيادة "تحوّل ديمقراطي" كما حدث في البلدان الأخرى. لقد كان هدف الفئة الحاكمة هو الحفاظ على هذا التماسك، ولقد نجحت به، بالضبط نتيجة "الجائزة" التي قدمتها بعض أطراف المعارضة (الإخوان وإعلان دمشق) وأيضاً بعض الدول الإقليمية (السعودية خصوصاً).
ولهذا لازالت السلطة قائمة، وهي المدعوة إلى جينيف2.
العنصر الثاني هو: تحويل الثورة إلى عمل مسلح على أمل حصول دعم "دولي" (كما كانت تروج المعارضة الخارجية)، أو كنتيجة طبيعية لوحشية السلطة. وإذا كان الميل الطبيعي للتسلح من أجل حماية التظاهرات قد فرض تصعيد العنف السلطوي واستغلال ذلك لممارسة أقصى الوحشية، فقد أفضت زيادة الوحشية إلى تسليح أعلى للثورة. لكن الأمر المهم هنا هو أن التدمير الذي مارسته السلطة ضد مدن، ومناطق، كانت فاعلة جداً في الحراك الشعبي، قد فرض كذلك تراجع النشاط الشعبي، واختفاء التظاهرات تقريباً، واهتمام الناشطين "السلميين" باللاجئين الذين باتوا دون مأوى أو إعالة، بعد أن كان قسماً أساسياً منهم قد حمل السلاح. بالتالي بات العمل المسلح هو الشكل الوحيد تقريباً. لكن العمل المسلح يفرض الحاجة إلى التسلح، وإلى المال، وبهذا كان محتاجاً إلى التواصل مع معارضة الخارج (التي تمتلك المال، خصوصاً الإخوان المسلمين) ومع الدول التي تقول أنها تدعم الثورة (قطر والسعودية، وفرنسا وتركيا خصوصاً).
هنا خضع العمل المسلح لابتزاز بعض القوى المعارضة، كما لابتزاز بعض الدول الإقليمية (السعودية وقطر)، الأمر الذي فرض "الأسلمة" في تسمية الكتائب. لكنه ربط وضع الكتائب بكليته بها، وبالتالي بسياساتها. ولقد كانت ليس في وارد إسقاط النظام (كما السعودية)، أو تريد إسقاطه لكن في إطار قيادة تابعة لها، كان المجلس الوطني هو خير ممثل لذلك (وهنا قطر وتركيا وفرنسا). وإذا كانت العلاقة مع "الخارج" تضر شعبياً، وكذلك الأسلمة التي كانت تنجح سياسة السلطة، فقد خضع التسليح لسياسة تقوم ليس على حسم الصراع من خلال الدعم الكافي بل تقوم على إعطاء "حقن" لكي يستمر الصراع. فقد اراد بعضها بأن تفشل الثورة، وتتحوّل إلى صراع طائفي يُظهر بأن التمرّد على الحاكم لا يؤدي سوى إلى الدمار. ولهذا أرادت أن تكون الثورة السورية هي مقبرة الثورات العربية، والشكل الأفظع للوحشية التي ترعب الشعوب لكي لا تتمرّد.
بالتالي ظل التسلح ضعيفاً، ولا يكفي لمواجهة آلة السلطة التي تحوي كل أنواع الأسلحة، وتتفوق بقوة نيران هائلة، وبالطائرات والصواريخ بعيدة وقريبة المدى، وبالأسلحة الكيماوية. ولهذا بدا أن الدفع نحو "التسلح السريع"، والتحريض على استخدام السلاح فخاً ليس أكثر. ووسيلة لحرف الثورة عن طابعها الشعبي و"سلميتها" (رغم أن هذا التحديد ليس دقيقاً) وتقودها إلى متاهات تودي بها إلى الفشل. فالتسلح يحتاج إلى المال الوفير والسلاح الكثير، وبالتالي إلى سند "خارجي". وحين تسلحت الثورة، وتخلت عن طابعها الشعبي (الذي كان من الممكن الحفاظ عليه مع التسلح ضمن سياسة مدروسة)، باتت في مأزق عميق. ولقد زاد في المشكلة أن المسلحين لم يكن لديهم خبرات الحرب التي قرروا خوضها، وأن من انشق من كبار الضباط حُجز في تركيا والأردن ولم يسمح لكثير من هؤلاء الانخراط في الثورة، وتقديم الخبرة الضرورية. وأن تنافس أطراف المعارضة عمل على شرذمة الكتائب المسلحة من خلال التنافس على "شراء الذمم"، أو الولاء، أو استثارة النوازع العائلية والمناطقية والقبلية وحتى الطائفية. وهو الأمر الذي شتت الكتائب، وابقاها ذات طابع مناطقي، ودفاعي، وفتح المجال لدخول العصابات وأنجح اختراقات السلطة. فقد اصبحت الثورة فوضى بكل معنى الكلمة، خصوصاً بعد أن فرض المسلحون سلطتهم بديلاً عن سلطة الشعب، وباتوا يمارسون السلطة في مناطق سيطرتهم بدل قتال قوات السلطة. ومن ثم بات الجذب يسير نحو مركزة السيطرة لدى كتائب أصولية نتيجة امتلاكها المال وبعض السلاح (الذي كان يأتي من الخارج خصيصاً لها في الغالب). وأيضاً ترسّخ وجود تنظيمات مثل "دولة العراق والشام" وجبهة النصرة وأحرار الشام، التي هي امتداد لتنظيم القاعدة، والتي بات بعضها يحوّل الصراع إلى صراع في صف الثورة، حيث يفرض سلطته القروسطية المتخلفة الأصولية الشمولية على الشعب (داعش). وحيث اندفعت قوى أصولية أخرى لتشكيل "جيش الإسلام" من أجل إقامة "دولة الإسلام".
بمعنى أن التفكك والفوضى هما السمتان الأساسيتان الآن في الثورة، إضافة إلى انسداد الأفق نتيجة غياب الهدف (إسقاط النظام أو قيام دولة إسلامية)، وغياب الاستراتيجية التي تشير إلى كيفية إسقاط النظام. فإذا كانت السلطة قد ضعفت، وكانت في بعض الأوقات قابلة للسقوط، فإن الوضع الآن مختلف، فلم تستغل الثورة ضعف السلطة لإسقاطها (بداية سنة 2013 إلى معركة القصير ودخول إيران وحزب الله) بالضبط نتيجة غياب الرؤية لكيفية إسقاطها، وغياب الإستراتيجية العسكرية المناسبة لمواجهة قوة متفوقة بقوة النيران. على العكس من ذلك جرى إتباع إستراتيجة تخدم تماسك السلطة لأنها تظهر تفوقها، وهي الإستراتيجية التي أسميت: تحرير المدن. حيث كان يضع المسلحون ذاتهم تحت سطوة قوة نيران العدو مما كان يفضي إلى تهجير السكان وتدمير المدن والمناطق، حتى وإنْ ظلت بيد الكتائب المسلحة فلم يفد الأمر شيئاً ما دامت السلطة متماسكة، ولم يجري تدمير بنيتها الصلبة (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والأمن والشبيحة). وما دام ليس هناك توحّد للكتائب، وليس هناك بلورة للطريقة التي يمكن أن تسقط السلطة فيها.
بمعنى أننا فقدنا الزخم الشعبي دون أن يكون لدينا "إستراتيجية حرب" واضحة. ودون أن يكون ممكناً تشكيل جيش موحد قادر على الحرب.
إذن، لم يحدث كسر في السلطة لكي يبدأ "التحوّل الديمقراطي" كما حدث في تونس ومصر خصوصاً، ولم تحدث الضغوط الخارجية (السعودية والأميركية والروسية والأوروبية) لكي يرحل الرئيس كما حدث في اليمن، ولا تحقق التدخل العسكري كما حدث في ليبيا. ولا شك في أن المراهنات الأولى لدى الشعب انبنت على الشكل التونسي المصري، وانبنت مراهنات أطراف في المعارضة (ما بات يسمى المجلس الوطني) على الشكل الليبي، وما طرحه أوباما بداية سنة 2012 هو أن ترعى روسيا مرحلة انتقالية كما حدث في اليمن حينها. لكن سياق الثورة وتداخلاتها، واللعب الإقليمي والدولي، والتشبث الشديد للسلطة، ومن ثم نجاح سياستها لأن تبقى متماسكة، أفشل إمكانية انشقاقها (إلى الآن على الأقل). ومن الواضح (أو ما يجب أن يكون واضحاً) أن التدخل العسكري "الغربي" ليس ممكناً بل هو مستحيل، وظهر ذلك واضحاً في التهديد الأميركي الأخير المتعلق بالأسلحة الكيماوية. وأصبح واضحاً كذلك أن "الحل السياسي" هو المطروح بتوافق أميركي روسي، وبدعم أميركي للدور الروسي، على أساس مبادئ جينيف التي أقرتها مجموعة العمل حول سورية في 30 يونيو/ حزيران سنة 2012، والتي باتت تحظى برعاية دولية بعد أن جرى تضمينها بقرار مجلس الأمن الخاص بالأسلحة الكيماوية السورية ذو الرقم 2118. ولا شك في أن إدارة أوباما حاسمة في أن الحل هو حل سياسي، وان روسيا هي الراعية له بدعمها، وأن مبادئ جينيف هي كل الأمر.
إذن، ستكون الموازنة الآن هي بين الحل العسكري، سواء من قبل السلطة أو من قبل الثورة، أو الحل السياسي عبر جينيف2. وكما أشرنا فإن الوضع يعاني استعصاءً لا يؤشر إلى إمكانية لانتصار عسكري (الآن على الأقل، ووفق الوضع الراهن)، وأن أي كسر في بنية السلطة الآن سوف يصبّ في سياق عقد مؤتمر جينيف2، بالتالي كان هذا ما يرجّح السير نحو عقد المؤتمر، رغم أن موافقة الائتلاف الوطني السوري (الذي جرى تغيير موازين القوى فيه لكي يقرر المشاركة) على الذهاب إلى جينيف2 قد فتحت أفق "التمرّد" من قبل كتائب مسلحة أساسية، هي تلك الكتائب الأصولية أو الإسلامية (بيان الـ 13 فصيل في حلب منها جبهة النصرة وأحرار الشام ولواء التوحيد، وبيان تشكيل جيش الإسلام من 43 فصيل عسكري في ريف الشام والشام)، حيث سحبت اعترافها بالاتئلاف الوطني ورفضت مؤتمر جينيف2 والحوار مع السلطة، ودعت لإقامة "دولة إسلامية"، وأيضاً تهديد المجلس الوطني السوري بالانسحاب من الائتلاف فيما إذا قرّر الذهاب إلى جينيف (لكنه عاد عن انسحابه بعد نهاية الجولة الثانية). وهذا يعني بأن ثقلاً من القوى المسلحة هو غير موافق على نتائج المؤتمر كما يبدو. والأخطر هو أنه كان يمكن أن يربك وضع المعارضة في جينيف2، حيث يظهرها ضعيفة ومفككة، ويعزز من الشروط التي تفرضها السلطة أو التي تريدها روسيا. لكن بدأ جنيف2 دون أن يتغيّر الوضع كثيراً.
السؤال إزاء ذلك هو: هل هناك بديل أمام الثورة عن مسار الحل السياسي؟ هل يمكن أن تتطور بما يجعلها قادرة على الانتصار؟
في ظل الظرف الحالي لا يبدو أن هناك بديل، فحن نجد التالي:
1) أن وضع الشعب بات صعباً للغاية نتيجة الدمار والقتل، لكن أيضاً التهجير وافتقاد فرص العمل وبالتالي إمكانية العيش، بعد انهيار الوضع الاقتصادي. ومن ثم الوضع الأمني الضاغط، الذي يؤثر بدوره على الوضع الاقتصادي. واحتمالات القتل أو الاعتقال أو الاهانة. وظروف اللاجئين مؤسية، واحتمالات تهجير ما تبقى يظل قائماً. كل ذلك مع الشعور بأن الثورة دون أفق لأنها تاهت عن أهدافها، وأن القوى الأصولية هي التي باتت تسيطر أو تسعى إلى السيطرة، وبالتالي وجود بديل أسوأ.
2) أن المناطق التي باتت خارج سيطرة السلطة باتت فوضى، وأن داعش باتت تمارس كأنها السلطة الحقيقية في وضع يدفع إلى "الكفر" بالثورة وحتى بدين هؤلاء. وعنصر التخريب واضح هنا، وبات يحتاج إلى علاج حقيقي لن يكون ممكناً في ظل الصراع الراهن، لأنه يحتاج إلى "توافق ما" يفرض مواجهة هذه القوى، ويلغي دور محركيها وينهي حاجة المستفيدين منها. وأيضاً سنلمس زيادة ميل الأسلمة والتفرّد في طرح بديل محدَّد، غير مقبول من قطاعات شعبية مهمة.
3) وكما أشرنا، ليس من إمكانية للتسلح أو للتخلي عن سياسة شراء الذمم وتفكيك الكتائب المسلحة وتدعيم أسلمتها من قبل قوى "خارجية". وليس من خبرة تسمح بإعادة تأسيس الكتائب المسلحة أو توحيدها.
لهذا يجب أن يكون واضحاً أن الحسم العسكري مستحيل الآن، وليس من إمكانيات واقعية له، سواء نتيجة غياب التسليح أو تعميم التشرذم، أو لأن إسقاط النظام يحتاج إلى إستراتيجية ليست عسكرية فقط، لأن العسكرة وحدها سوف تبقي الصراع سنوات دون طائل، ومع شرذمة سورية وتفكيكها وتدميرها. وهذه هي أصلاً مشكلة العسكرة منذ البدء، وهو خطأ الشباب الذي اندفع معتقداً بأن السلاح هو الذي سيجعله قادراً على أن يحسم الصراع بقوة إرادته (مع معرفتنا بالظروف التي فرضتها السلطة لدفع الشباب نحو التسلح)، ولكن أيضاً التدخلات من قبل أطراف في المعارضة (الإخوان) ارادت أن تكرر تجربة سنة 1980الفاشلة حتماً، معتمدة على أن يكون التسلح مدخلاً تحضيرياً للتدخل الخارجي. أو نتيجة السعي لتخريب الثورة من قبل بعض الدول الإقليمية خصوصاً (السعودية). ولهذا كانت "سياسة التحرير" كارثة بكل المقاييس، وساعدت السلطة على أن تبقى متماسكة، وأن تظهر جبروتها باستخدام أسلحتها المتفوقة، والنتيجة هي تعميم التدمير الشامل دون الوصول إلى كسر السلطة وإسقاطها.
كل ذلك واضح لـ "الشعب"، واضح عبر الحس السليم الذي يمتلكه، وعبر ملاحظاته ومشاهداته، رغم ان الشعب لم يتراجع عن هدفه: إسقاط النظام، ولن يقبل حلاً لا يودي ببشار الأسد وآل الأسد ومخلوف وشاليش وكل الزبانية. وهذه هي مراهنة جينيف2، أي هل ستنهي سلطة الأسد أو ان المطلوب هو تحقيق عملية انتقال تحت سيطرته؟ هذه الأخيرة ستكون لعباً على الزمن، وعجزاً عن تحقيق "استقرار" عبر قبول الشعب بالحل. ما يوصل إلى حل (وإنْ كان مؤقتاً لأنه لن يحل مجمل المشكلات التي قامت الثورة على أساسها) هو التخلص من سلطة آل الأسد والزبانية. وفتح أفق لمرحلة انتقالية ترسي أسس دولة مدنية ديمقراطية. وتوجد حلاً سريعاً لمشكلات الشعب الذي تدمرت بيوته وأشغاله وبات مهجراً (إعادة الإعمار الفعلية)، وحلاً للوضع المعيشي عموماً.
في كل الأحوال، سواء وصل مؤتمر جنيف2 إلى نتائج أو لم يصل في حال انعقاده، فإن واقع الثورة بحاجة إلى إعادة بناء، سواء بتحديد الأهداف التي يطرحها إسقاط النظام، أوبتحديد الخطاب المعبّر عنها، أو بتحديد وضع العسكرة والنشاط الشعبي فيها. لأنه في كل الأحوال الثورة سوف تستمر حتى بعد تحقيق حل في جينيف نتيجة أن القوى التي يمكن أن تحكم (من السلطة والمعارضة) لا تمتلك حلولاً حقيقية لوضع الشعب ولوضع سورية. لكن هنا يمكن أن يؤدي الحل إلى "نزع سلاح"، و"منع استخدام سلاح"، وبالتالي يمكن أن يؤدي وقف الصراع المسلح، وإنهاء وحشية السلطة إلى أن يتحوّل صراع الشعب إلى "السلمية" من جديد، أي إلى كل أشكال الاحتجاج، خصوصاً وأن الحل يقوم على تأسيس شكل ما من الديمقراطية والحريات لا شك سوف يتضمن حرية الصحافة وتأسيس الأحزاب والنقابات، وحق الإضراب والاحتجاج والتظاهر. لهذا سيعود النضال "السلمي" (قياساً بكل الوحشية التي مورست والتحوّل إلى الصراع المسلح) أساساً لكل الصراع من أجل تحقيق مطالب الطبقات الشعبية، التي ستظهر هنا واضحة بعد أن أخفيت لسنتين ونصف، أي مطالب العمل والأجر والتعليم والصحة، والسكن. التي تفرض بدورها تغيير كلية النمط الاقتصادي لمصلحة نمط منتج من أجل استيعاب العمالة والمرونة في رفع الأجور، وتوفير مجانية التعليم والصحة، وتطوير البنية التحتية.
هذا الأمر يفرض تأسيس النقابات والاتحادات والمجالس الشعبية، وهيئات الدفاع عن الشعب. وأيضاً تأسيس الأحزاب والتحالفات التي تهدف إلى تحقيق ذلك. هنا سيكون الفعل هو فعل سياسي طبقي بامتياز، ومن اجل تحقيق مطالب الشعب. ولمقاومة السيطرة الاقتصادية التي ستفرضها الدولة الرابحة (روسيا)، وإعادة الإعمار التي ستوكل لشركات أجنبية. ما سيميّز الوضع هنا هو أن السلطة ستكون "ضعيفة" بعد أن تحطمت "بنيتها الصلبة"، وسوف تميل للتفكك بعد فقدان "البنية الصلبة" الضابطة لكلية الوضع. في المقابل ستكون أمام الشعب فسحة كبيرة لكي يعيد بناء مطالبه، وينظّم قواه، ليستعد لصراع حقيقي.
لكن، ولكي لا يضيع الوقت في انتظار جينيف2، لا بد من إعادة بناء الثورة، هذا يقتضي التالي:
أولاً: أن الهدف الأساسي هو إسقاط النظام وبناء دولة علمانية ديمقراطية، وتغيير النمط الاقتصادي لمصلحة نمط منتج. وبالتالي حل مشكلات الطبقات الشعبية (البطالة والأجر المتدني وانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية).
ثانياً: يجب قطع كل مراهنة على "دور خارجي" يمكن أن يدعم الثورة، فالكل ضد الثورة، ولا يريد سوى تدمير سورية. الثورة يجب أن تنتصر بقواها الذاتية، وهي قادرة على ذلك نتيجة قوة الشعب، لكن الشعب المنظم، وواضح الرؤية. وهنا تأتي أهمية الفعل السياسي.
ثالثاً: هذا يقتضي إعادة تأسيس العلاقة مع كل مناطق سورية، وإزالة التخوفات والتخويفات التي جعلت "الأقليات" مترددة أو داعمة للسلطة. فلا إمكانية لإسقاط النظام دون خلخلة القاعدة الاجتماعية التي يأخذ منها شبيحته وبنيته الصلبة، ودون دمجها في الثورة، خصوصاً وأنها مفقرة كمعظم السوريين، ومهمشة ومسحوقة كذلك. وهذا يفترض إدانة كل طائفي، وكشف اللثام عن كل القوى الأصولية الطائفية، ومواجهة محاولة بعض القوى فرض سلطة أصولية. والشغل على إيجاد مخارج لمشاركة القاعدة التي تريد السلطة إبقائها ملحقة بها.
رابعاً: لا بد من التأكيد على أن الأفق العسكري فاشل، فليس من دعم "خارجي"، وليس من تسليح كافٍ يمكن أن يتوفّر، ولقد انحكم العمل العسكري للتنازع المناطقي، وللمنطق الدفاعي، وأيضاً حين قام على التقدّم اتخذ شكل "التحرير"، وهو الشكل الذي كان يعطي السلطة كل الفرص لتصعيد التدمير والقتل نتيجة تفوقها الحاسم في قوة النيران. لقد افتقد الرؤية الإستراتيجية، وتحوّل إلى صراع جيش ضد جيش في وضع غير متكافئ، وتكرّس كبديل للنشاط الشعبي وعلى الضد منه مما أفقده البيئة التي تحميه حيث تربك قوى السلطة وتشلها.
خامساً: لم "تتحرر" المناطق نتيجة قوة العمل العسكري بل نتيجة قوة الحراك الشعبي الذي توسّع في كل سورية، وانتقل إلى احتقان متصاعد لدى معظم قطاعات الجيش، التي باتت خارج معادلة الصراع على ضوء ذلك، ولهذا اضطرت السلطة إلى سحب قواتها من المناطق التي باتت تسمى محررة (رغم وجود مناطق جرى تحريرها بالفعل بعد ذلك). لهذا لا بد من إعادة "الزخم الشعبي"، رغم ما تعرضت له المناطق من تهجير، ورغم تحوّل كثير من الناشطين إما إلى العمل المسلح أو إلى العمل الإغاثي. لا بد من أن تتأسس سلطات شعبية في المناطق التي باتت خارج سيطرة السلطة، ولا بد من محاولة تحريك المناطق التي لم تتحرك بعد، نتيجة جملة مصالح، لكن أيضاً مشكلات في سياسات الثورة، وبعض أطراف المعارضة خصوصاً التي ربطت إسقاط النظام بالتدخل الخارجي فأخذت موقفاً مضاداً لـ "الأقليات" (والعلويين خصوصاً). فالمطلوب هو إعادة بناء العلاقة بين العمل المسلح الذي بات واقعاً والنشاط الشعبي الذي تلاشى أو يكاد. فالثورة لن تتطور وتنتصر وهي تعاني من واقعها الصعب، وتشهد التفكك والتفتت والفوضى. وتعيش انسداد الأفق أمام العمل المسلح نتيجة "السياسة العسكرية" المتبعة، والتي تنم عن عدم فهم للعمل المسلح وللثورات معاً.
سادساً: طبعاً لا بد من بلورة التعبير السياسي عن كل ذلك، وهنا يجب الانطلاق من أن كل أطراف المعارضة ليست جديرة بأن تمثل الثورة، بله أن تقودها، وأنها يجب أن تكون خارج المعادلة. بالتالي لا بد من تأسيس التعبير السياسي الذي يمثل الثورة حقيقة، من المجموعات التي نشأت في خضمها، ومن كل الفاعلين السياسيين الملتصقين حقيقة بالثورة بعيداً عن كل القوى السياسية القائمة.
هذا يفترض إعادة بناء الثورة، فأولاً يجب تحقيق توازن بين النشاط الشعبي والعمل المسلح، كيف؟ هذا ما يحتاج إلى دراسة جادة لواقع الثورة، ولمشكلاتها وأيضاً للظروف الواقعية التي نتجت عن صراع دموي لعامين ونصف، ونتيجة التدخلات الإمبريالية والإقليمية التي كانت تخرّب على الثورة.
فسواء نجحت جينيف2 في الوصول إلى حل أو فشلت فإن المطلوب هو إعادة بناء الثورة، لأن ذلك ضرورة في كل الأحوال، أي سواء نجحت وتشكلت حكومة انتقالية "كاملة الصلاحيات"، أو فشلت. حيث أن الصراع مستمر، ولا بد من إعادة زخمه الشعبي، الذي ربما يساعد نجاح جينيف2 على تحقيقه بفعل الانتقال من شكل الصراع الدموي الذي تخوضه السلطة، والذي يؤسس لرد عسكري ويجهض كل أشكال النشاط الشعبي، إلى الصراع السياسي الذي يفرض إعادة الزخم الشعبي. وهذا يفرض بناء الأشكال السياسية الضرورية لتطويره، والتركيز على تنظيم النشاط الشعبي في نقابات وإتحادات ومجالس وهيئات، وكل أشكال التنظيم التي تجعل الشعب قادراً على خوض معركته منظماً ومن أجل المطالب التي تعبّر عنه.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعد ثلاث سنوات من الثورة في سورية: من أجل إعادة نظر شاملة
- النتائج الممكنة لمؤتمر جنيف2 والموقف منها
- المهمات الديمقراطية والاشتراكية
- الحرب على الإرهاب في سورية
- عن الإمبريالية وتشويه -اليسار الممانع- للماركسية
- قانون ضبط التظاهر يعيد الحراك الاجتماعي لشوارع مصر
- روسيا والحل الروسي وقاسيون
- معركة حزب الله وإيران.. في سوريا
- الطائفية و«النظام الطائفي» في سورية
- ممكنات نجاح مؤتمر جنيف 2
- أزمة الثورة في سورية: تعدد الأعداء وتعدد مصالحهم
- الثورة السورية وآفاق صراع متعدد
- عن تحديد التخوم (ملاحظات حول وحدة اليسار)
- درس للأغبياء حول الإمبريالية الروسية
- توضيحات ضرورية حول الماركسية
- الأسد أو لا أحد كأيديولوجية سلطوية
- بصدد رؤية مختلفة للعالم الماركسية والصراع الطبقي الراهن
- مصر وسوريا واليسار
- «جبهة النصرة» تمارس مهماتها
- عن التدخل الإمبريالي في سورية وعن فهم الثورة السورية


المزيد.....




- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...
- حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء ...
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...
- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...
- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - الثورة والاستعصاء الثوري في سورية