غسان المفلح
الحوار المتمدن-العدد: 1256 - 2005 / 7 / 15 - 08:59
المحور:
المجتمع المدني
إنها المتاهة بعينها الكتابة يوميا عن الديمقراطية وفي أفق الوجع الاجتماعي العام لغيابها و أن تكون هما شعبيا ووطنيا و
المسافة واضحة بين الفعل المعارض بما هو فعل تاريخي سواء كان فاعلا أم لا وبين النمط المعاش في الحياة اليومية لكل
فئات المجتمع الساكن منها والمعارض والسلطوي والمنكوب بالسلطة , إنها مسافة بين الثقافة والهم اليومي , بين الثقافة المؤسسة والسلطة الثقافية , وأين تكمن الثقافة المؤسَسة والمؤسِسة في حركية المجتمع السوري , هذا المجتمع الذي يعاني موضوعيا من غياب ثقافة ديمقراطية
بالمعنى الفعلي للعبارة وغيابها عائد لسببين:
الأول ـــ لم يكن المجتمع السوري , داخل ملاطا ثقافيا واحدا بل على العكس من ذلك , كان منقسما عموديا وبقي كذلك أقله منذ ابتدع السلطان العثماني
في بداية القرن الثامن عشر نظام الملل والنحل بالمعنى القانوني للعبارة وأصلا تم ابتداع هذا القانون لسوريا ولبنان بشكل خاص, وبقي الأمر كذلك حتى
ما بعد عام 1931 يوم قررت فرنسا توحيد الدول الطائفية والجهوية في دولة واحدة هي : سوريا كما هي اليوم .
وإذا كانت الثقافة هي في هذا المجتمع عبارة عن تمازج بين ثلاثة مكونات رئيسة هي: اللغة والدين والمعيوش التقليدي.
1ــ اللغة: بين اللغة ولهجاتها مسافة التجربة التاريخية والنبر الحار أو البارد للمعاش بالمعنى اليومي للكلمة, فإن المسافة بين اللغة العربية في سوريا
وبين لهجاتها كانت بعيدة حتى بعد نشوء نظام تعليمي موحد من قبل الدولة السورية هذا النظام التعليمي الذي بقي رهينة لسلطات تعاقبت ولا تمتلك
أي خيارا ديمقراطيا وبقي هذا النظام التعليمي حتى وقتنا هذا هو نظاما منفصلا عن الفضاء الاجتماعي العام وتحدد بوصف التعليم هو المال والسلطان
وليس الثقافة والأوطان فمن أين لهذه اللغة المكتوبة في النظام التعليمي أن تنتج معاييرها الموحدة للمجتمع مادمت هي نفسها لا تمتلك إرادة التغيير و
الحرية, وإذا كانت ترتكز أصلا في استمراريتها على بقاء الانقسام الجهوي في المجتمع السوري. ومتى امتلكت سلطة في سوريا خيار الثقافة المكتوبة
التي تأسس لملاط ثقافي على المستوى المدني يجعل من الثقافات الشفهية خزينة فارغة من المعايير والمدلولات الجهوية مهما كانت دينية أو طائفية أو
] آليات ويجعلها فلكلورا ولا تبقى شحناتها [ العنصرية واللاغية للآخر... ] آليات تشغيل ثقافي وقيمي , وبشيء من التفصيل السوري نقول : أن
اللغة / اللهجات ــ المتداولة لازالت تحمل مضامينها الماقبل مدنية ولازالت لاتؤطر الفرد: كمواطن , بل لازالت تؤطره كعنصر في طائفة أوقوم أو دين
وهذه لازالت إرادة السلطة في سوريا مع الأسف. والحديث هنا عن ثقافة البعث هو حديثا للاستهلاك من جهتين سواء من السلطة أو من المعارضة التي
روجت وتروج لفكرة أو لمفهوم [ النظام الشمولي ] التي ارتاح لها النظام كثيرا وساهم في تسويقها من خلال سياسة غض الطرف عن تداولها في السوق
الفكري والسياسي السوري وإذا تجاوزنا هذه النقطة وتحدثنا عن مفهوم الأكثرية في المجتمع السوري وأقصد هنا العرب السنة : بعد فشل أول تجربة
ديمقراطية في سوريا الخمسينيات ومجيء الوحدة السورية المصرية ثم مجيء البعث , أدت هذه المسيرة في التصحيح الطائفي للمجتمع وليس التصحيح
الاجتماعي للطوائف إلى عودة هذه الأكثرية إلى الدين بوصفه طائفة وعبر ذلك عن نفسه في الأحداث الدامية التي شهدتها سوريا منذ عام 1976 تقريبا
وحتى عام 1984. وبالتالي تحولت لغة الأكثرية في المجتمع السوري إلى لغة طائفية ــ دينية. وانهارت كل المحاولات التي جرت سابقا لعلمنة هذه
الأكثرية والتي استطاعت المعارضة ربما في لعب دورا ايجابيا على هذا الصعيد, وكي نبقى في الدائرة نفسها لا يمكن لمجتمع فسيفسائي كالمجتمع السوري أن يدمقرط ما لم يتم تحول الثقافة الديمقراطية إلى ثقافة مؤسيسة لدى الفاعلين التاريخيين لدى الأكثرية الدينية أو الطائفية وهذا رغم كل شيء ما
بدأت تظهر ملامحه خصوصا بعد تبني الأخوان المسلمين للبرنامج الديمقراطي وإن كان الأمر لا يزال بحاجة إلى مسيرة ليست قصيرة ولكنها خطوة
في اتجاه تخلي جزء مهم من الفاعل التاريخي لدى هذه الأكثرية عن ـــ طائفيته ـــ والدخول إلى لغة العقد الاجتماعي من أوسع الأبواب. حتى حديثنا هذا
الذي يبدو خروجا عن النص هو في صلبه لأننا أمام وضع هذه هي لغاته ــ أقصد لهجاته وتعابيره ورموزه المكشوفة والمخبأة ـــ التي طالما استمرت
طالما نكأت الجراح وخصوصا في ظل سلطة لم يعد لديها ما تقدمه على هذا الصعيد وقد انكشف المجتمع انكشافا خطيرا سواء للخارج أو للداخل بحيث
أمنه الاجتماعي أصبح تحت أقل هزة في مهب الريح .
اللغة هي التي لم تتخل في مجتمعنا عن وظيفتها في أن تكون بلهجاتها هي القامع والمقموع , لم تصبح بعد مؤسسة من مؤسسات المجتمع وتنزل من
تعاليها الديني والطائفي , ترفض أن تتحول إلى وسيلة , ترفض أن تتخلى عن أنها السجل المدني للمجتمع , هي التي تمنحه الهوية وللأسف عندما نتحدث
هنا عن اللغة أنما تحدث عن لهجاتها وليس عن مكتوبها الذي مافتئ يتململ من ضيق ومن تعسف , لا حدود له هذا المكتوب الذي يدخل كل بيت بلا فاعلية تذكر ولا يترك بصماته على أطفاله , هنالك من لهجاتها من يغتصب على مرأى من عينها وظيفتها .
2 ـــ الدين : الطوائف لدينا في سوريا هي أديان قائمة بحد ذاتها بطقوسها وتعاليمها ومقدساتها بغض النظر عن المرموزيات المشتركة[ داخل الأنساق الدينية ــ الطائفية ] والتي وظيفيا هي المرتع الأكثر شقاقا بالمعنى الديني للكلمة : مثال واحد لأنني أخاف فعلا من الدخول إلى بحر الألغام المغلق هذا
على الجميع ومالم يفتح لن تكون سوريا بخير , والمثال هو النبي { محمد } عليه السلام ما هو موقعه داخل هذه الأنساق الدينية أو الطائفية إن شئتم ؟؟
لن يغب عن بال أحد من دعاة النظام الشمولي الدور الوظيفي للأديان في عرقلة بناء الأوطان الحديثة. هذا موجود في سوريا قبل مسيرة التصحيح الطائفي التي قادها الراحل, وعلينا دخوله إن أردنا أن نبقى متعايشين في وطن حر ولكرامة الإنسان الفرد فيه الأولوية بغض النظر عن دينه أو طائفته أو قوميته. سأكتفي بهذا القدر في الحديث عن هذه النقطة رغم إدراكي أن السلطة هي الطرف الأكثر مصلحة في بقاء هذا الباب للحوار مغلقا....
3 ـــ المعيوش التقليدي: أنه مجمل الشرط الاقتصادي الاجتماعي, مجمل العادات والتقاليد , وتبعا لحديثنا السابق وكتابات سابقة سأعطي مثالا عن وضعية المرأة فهناك فارق نوعي وجوهري بين وضعية المرأة عند العرب السنة ــ نقول عرب لأن سوريا فيها قوميات أخرى مثل الكرد والشراكس
والتركمان ..الخ ــ وبين وضعيتها عند الأقليات ـــ الإسلامية في سوريا ــ , ودون الدخول بالمقدس الديني للجميع فإن وضعيتها عند هذه الأقليات هي
وضعية تاريخية أكثر منها دينية وهذا في مصلحة المرأة بالطبع بينما لدى العرب السنة فوضعيتها لا تاريخية لأنه مرتبط بالحدود القرآنية والتي هي
حدود لا تاريخية بل هي حدود سرمدية وهذا ما يجعل التفارق كبيرا بين الوضعيتين , مع العلم أن المعاش التقليدي في الريف السوري عموما يتشابه
كثيرا بغض النظر عن التمايز الطائفي بين منطقة وأخرى , قبل انتشار الدين العالم والمكتوب بالطبع وقبل انتشار مفاعيل حركة التصحيح الطائفي
وهذا ما تشير له غالبية الدراسات عن تاريخ العادات والتقاليد في الريف السوري : أعراس , غذاء , ملبس , معاناة الفلاحون بإقطاع أم بدونه ..الخ
ولكن رغم هذا التشابه في الشرط الاجتماعي العام كانت مناطق الريف السوري معزولة عن بعضها ,خصوصا الريف مناطق الريف التي تتمركز
فيها الأقليات الدينية أو الطائفية وهذا نتاج أيضا لسياسات الدولة العثمانية , واستمرارية التوارث للثقافة الدينية منبثة في الأعراف والتقاليد كل على
طريقته سواء المكتوبة أو الشفهية . مثال : هل كان انتشار شرب ــ العرق ــ لدى ريف الساحل هو تقليد عرفي أم لأنه مسموح شربه وفق النص المقدس
في الواقع لأعرف هذه النقطة بالضبط , ولكنه كان من المحظورات في الريف السني مثلا ولازال .
وما خلق أيضا نوعا من التمايز ترك بصمته القوية على تاريخ سوريا المعاصر هو اهتمام الاستعمار الفرنسي بتجنيد أبناء الأقليات في الجيش الفرنسي
ثم استمر الأمر بعد ذلك وهذا ما نلحظه في تركيبة الجيش بعد الخروج الفرنسي من سوريا والكم من الضباط والعسكر من أبناء الطائفتين العلوية و
الدرزية , والدور الذي لعبه هؤلاء في التاريخ السوري والذي لم يكن قليلا أبدا لدرجة تجعل باحثا مثل غسان سلامة في كتابه عن الدولة في المشرق
العربي ــ الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ـــ يقر أن مجموعة من الضباط في نهاية الخمسينيات لم يكن خارج خلفياتهم ودوافعهم السياسة
قيام [ مشروع طائفي ] دون أن يشير إلى أسماء معينة ولكن من يقرأ الكتاب يستطيع فهم المعنى المراد أكثر ـــ هكذا أنا فهمت نص الباحث ــ .
بقي أن نقول أن أسطوانة سلطوية درجت : أن السبب في نشوء هذا المشروع هو الاضطهاد الذي كانت تتعرض له الطائفة العلوية من قبل السنة أو
سكان المدن سواء اللاذقية أو حمص أو حماه .. الخ وبالطبع هذا موجود ولكنه ليس مبنيا على أساس طائفي بل على تناقض / ريف ــ مدينة / وهذا ما
نلحظه في ريف دمشق وحلب ودير الزور ...الخ
وفق هذه المقدمة السريعة لموضوع شائك طالما حاولنا ونحاول الكتابة فيه وكل مرة في الواقع يمنعني الخوف من السلطات المتعددة في هذا الموضوع.
أو النقص الوقائعي والمعرفي الخطير الذي يعاني منه هذا الحقل من تاريخ سوريا وحاضرها والتي لن يكون لها مستقبل حقيقي دون المرور من هذه
العتبة . وعدم تمكني من الحصول على مراجع مهمة في هذا الشأن , لأن المراجع المهمة هي في الواقع جزء من المقدس أو أنه غير مكتوب حتى تتناقله
الأجيال بسطوته وقداسته .
ووفق هذا المنظور كيف يمكن التأسيس الديمقراطي على هذا ؟؟ في الواقع لدينا نموذجا ــ حسب معرفتنا المحدودة بالطبع ــ أن الحاكمية لدى الطائفة
الإسماعيلية تفصل الدين عن السياسة على الأقل نظريا هذا ما نعرفه كما هي الحال عند الطوائف المسيحية , وهذا يعتبر خطوة متقدمة غير متوفرة عند الطوائف الأخرى من سنة وعلوية ودروز ... الخ .
دون الدخول في حوارا علني وبناء بين أفراد المجتمع حول المواضيع المثارة سواء كان هؤلاء المشاركين فاعلين دينيا أو سياسيا أم لا ولكن على هذا الحوار أن يفتح علانية أو سرا لا فرق كمقدمة أولى وضرورية لإنتاج سوريا ديمقراطية . دون حساسيات ودون الأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى
السلطوي ومصالحه , لأنه المعيق الوحيد لنشوء أي حوار داخل المجتمع السوري . رغم أن كثير من الفاعلين داخل كل الطوائف تتمنى نشوء مثل هذا
الحوار لما فيه مصلحة وخير الجميع .
ويجب أن تكون روحية الحوار مبنية على أن لا أحد سيخرج خاسرا بالمعنى استمرارية الوطن كوطن للجميع . تبدو دعوتي ساذجة ولكنها الطريق الذي
لا مفر منه أبدا ومهما طال الزمن أو قصر إذا أراد الجميع التعايش بكرامة في وطن واحد ديمقراطي مع الجميع وللجميع بغض النظر عن دينه وطائفته
وقوميته ..
اللغة, الدين, المعاش التقليدي, هي مكونات الفضاء الثقافي بالمعنى الشعبي للكلمة, وهذا هو الغائب الأهم عن كتابات المعارضة والمثقفين السوريين
وأحزابهم وأعتقد أنها ستبقى غائبة؛ يخاف الواحد منا من نفسه الأمارة بالسوء الطائفي؛ كما يخاف من رفاقه ــ فالتهمة الطائفية جاهزة أحيانا ــ كما أنه
يخاف السلطة وليس السياسة الأمنية وحسب بل هنا السلطات في هذا الحقل كثيرة.
بالتأكيد الكتابة في الهم السياسي هي من الأوليات, ولكن نحن لازلنا في مرحلة من التأسيس الوطني والديمقراطي, أم هل نترك الأمر لما بعد, لعلم
الغيب. كما حدث ويحدث في لبنان ؟ وإذا كانت العلمنة هي خيارا سلطويا فهي أيضا ثقافة اجتماعية, تتأسس خارج اللا تاريخي من النصوص الدينية
هي هكذا شئنا ذلك أم أبينا ؟ سواء كانت هذه النصوص علنية أم سرية ــ حتى لو كانت السرية جزء من مقدسها ــ الإنسان السوري الذي لم يوجد بعد
هو الأهم, لمن إذا هذه الكتابات السياسة ؟ لمن هذه التضحيات ؟
أليس خطابنا الديمقراطي والسياسي مستلهما من التجربة الغربية, أليست المجتمعات الغربية هي نموذجنا المعرفي والتاريخي, أم أن هذه المفاهيم التي
تتناثر هنا وهناك هي مفاهيم من نتاجنا ومن صميم ثقافة شعوبنا ؟؟
أعتقد أن هذا النقص في حوارنا وثقافتنا هو الذي يشكل المساحة التي لازالت السلطة تلعب فيه وحيدة لأنها تدرك أهميته, رغم بروز ظاهرة جديدة
ـــ منظمة العمل الوطني الديمقراطي في محافظة اللاذقية ــ تهيئ لقيام مثل هذا الحوار والتوجه التأسيسي السليم, وهذا بالطبع متوقف على إمكانيات
عمل هذه المنظمة ؟ التوجه نحو رأب الصدع الاجتماعي والطائفي وتسمية الأمور بمسمياتها وتشكيل مثل هذه المنظمات المدنية في المحافظات وتعميم
هذه التجربة هو أمر أكثر أهمية بكثير من الاستمرار بهذا السيل الجارف من الخطاب السياسي المبستر والذي لم ينبت خلفه سوى الطحالب والتشرذم
والتفريخات السياسية والتهم المتبادلة بين هذه التفريخات.
إن هذه المقدمة هي ليست موقفا ثابتا من أحد بل هي محاولة جادة لفتح حوار جاد داخل صفوف النخب السياسة والثقافية والشعبية من أجل عدم ترك هذا
الحقل للسلطة والأهم هو التأسيس لحوار دائم ولمستقبل ثقافة ديمقراطية حقيقية.
#غسان_المفلح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟