|
نظــرة قــانونيــة: الدســتور الــدائـم واشــكاليــة العلاقــة بيــن الديــن والدولــة
فلاح اسماعيل حاجم
الحوار المتمدن-العدد: 1256 - 2005 / 7 / 15 - 13:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شهد تأريخ التطوّر الدستوري للبشرية علاقة بالغة التشابك والتعقيد بين الدولة ككيان سيا-اجتماعي والمؤسسة الدينية وتعاليمها؛ والتي اريد لها ان تكون سندا ايديولوجيا لماكنة الدولة ومبررا غير قابل للجدل والنقاش لسيطرتها اللامحدودة. وهذا ما يفسر لجوء دوّل اوروبا الاقطاعية الى اعتماد قواعد الكتب السماوية لترويض رعاياها في الداخل وشرعنة الحكم الملكي المطلق وتنصيب الحاكم وكيلا للخالق مع كل ما يترتب على ذلك من تصرف مطلق باموال الناس وارواحهم؛ ذلك ان كل ما يصدر عن الحاكم ان هو الأ بارادة الهيّة مقدسة وغير قابلة للمساس. ولا اعتقد ان هنالك ضرورة للتذكير بأن الرمز الديني كان حاضراً في جميع حروب الابادة منذ الحروب الصليبية وحتى حملات الانفال و حروب ابو مصعب الزرقاوي (الجهادية). واذا كانت تعاليم الدين تؤلف مصدراً لسلطة الحاكم المطلقة في اوروبا الاقطاعية فانها (التعاليم) اصبحت ذريعة لتعطيل اي جهد لتدوين القواعد التي من شأنها تحديد تلك السلطة في الملكيات الشرق-اوسطية. حتى ان دساتير البعض منها؛ والتي صدر اغلبها بطريقة المنحة؛ ظهرت الى النور بعد مرور اكثر من قرنين على اقرار اول دستور عصري في العام 1787. ان مراجعة متأنية لتأريخ الموروث الدستوري للبشرية سيبيّن بوضوح بأن علاقة الدين بالدولة تراوحت بين رفض كامل للدين من قبل الدولة (تجربة الدولة السوفيتية واغلب دوّل المنظومة الاشتراكية السابقة) او انصهار احدهما بالآخر (جمهورية ايران الاسلامية). فيما تتوسط اغلبية الدول الاوربية والولايات المتحدة الامريكية طرفي هذه المعادلة. فمواقف الكثير من الدوّل الاوربية تراوحت بين ابداء المساعدة والدعم للمؤسسة الدينية او اتخاذ موقف محايد منها مع التأكيد على مبدأ الفصل بين الدين والدولة. ان الدستور باعتباره النتاج الطبيعي للمساومات السياسية بين القوى الاساسية الفاعلة في المجتمع يقوم برسم الخطوط العامة لتنظيم العلاقة بين الدولة ممثلة بمؤسساتها (سلطاتها)؛ والافراد الذين يمكن تصنيفهم على اساس وضعهم القانوني في الدولة المعنية؛ اي بالارتباط مع حجم الحقوق والواجبات الممنوحة لهم والمفروضة عليهم (مواطنون و اجانب و" بدون"). وعلى هذا الاساس يذهب علماء القانون الدستوري الى تصنيف اطراف العلاقات القانونية السائدة في الدولة الى مجموعتين؛ تظم الاولى منها ذوي العلاقة المباشرة بتأليف وتفعيل جهاز الدولة؛ حيث يأتي في المقدمة من هذه المجموعة الشعب باعتباره المصدر الرئيسي للسلطات اضافة الى اجهزة الدولة؛ المنتخبة منها (التمثيلية) والمعينة (التنفيذية في اغلب الاحيان). فيما تحتل الاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني مكانة بالغة الاهمية بين اطراف المجموعة الاولى ذلك انها (الاحزاب والمنظمات) تسهم بشكل مباشر في رسم السياسة الداخلية والخارجية للدولة من خلال الفرق واللجان البرلمانية والتي تؤلف تلك الكيانات عمودها الفقري. ومع تأثيرها الكبير الا ان تلك الكيانات لا يمكنها بأي حال ان تكون بديلا لاجهزة الدولة الممثلة فيها. ذلك ان طبيعة جهاز الدولة ذاتها وتركيبته الداخلية وامتلاكه لامكانية اصدار قرارات ولوائح ملزمة للجميع و ذات قوّة قانونية يتطلب تنفيذها؛ في اغلب الاحيان؛ استخدام اسلوب الاكراه الذي تفتقر اليه الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني؛ تلك المنظمات التي ما ان ينتهي مبدأ الطواعية لديها حتى تنتهي لأن تكون مدنيّة؛ ان كل ذلك سيؤدي الى ما يمكن ان نطلق عليه فوضى الصلاحيات والتي ستفضي؛ كما تثبت تجربة الدولة السوفيتية؛ الى انهيار كل من الدولة واداتها السياسية. وتمتلك الاحزاب الدينية؛ او تلك التي تتخذ من الخطاب الديني برنامجاً لنشاطها السياسي خصوصية استثنائية في المنظومة السياسية للدولة وخصوصاً في البلدان التي يؤلف الدين فيها احد المكوّنات الاساسية للوعي الاجتماعي. وتتأتى هذه الخصوصية من القراءات المختلفة للتعاليم الدينية ذاتها الى الدرجة التي تجعل من القواعد الدينية اقرب الى الايديولوجيا السياسية منه الى التعاليم الدينية المقدسة. وتبدو اشكالية العلاقة بين الديني والسياسي اكثر خطورة في البلدان متعددة الاديان والملل والنحل الدينية والمذهبية؛ ذلك ان بامكان اي منها الرجوع الى الموروث الديني والمذهبي؛ سيما وان ذلك الموروث يحمل من القدسيّة والحلول النهائية والمفروغ من صحتها ما يجعل امر المساس به من الكبائر. عند الحديث عن اشكالية العلاقة بين الدين والدولة اجد ضرورياً الاشارة الى اربعة محاور كانت وما تزال تشكل موضوع جدل بين المشرعين الدستوريين والساسة على حد سواء. وتلك الموضوعات هي: علمانية الدولة؛ والغاء امكانية دعم المؤسسة الدينية من قبل الدولة؛ بالاضافة الى مبدأ فصل المؤسسات الدينية عن الدولة مع اقرار مبدأ مساواة تلك المؤسسات امام القانون؛ واخيراً اعطاء الدين الصفة القانونية باعتباره دين الدولة الرسمي. على انه لابد من التأكيد هنا الى انه قد تبدو بعض المفاهيم الواردة مترادفة في الضاهر مثل مفهومي العلمانية ومبدأ فصل الدين عن الدولة؛ ألأ ان التعمق في دراسة وتحليل تلك المفاهيم سيكشف بأن مفهوم العلمانية اكثر شمولية من مبدأ الفصل؛ حتى انه يمكننا اعتبار فصل الدين عن الدولة والغاء دعم المؤسسة الدينية من قبل الدولة عنصرين لا يستقيم بدونهما مبدأ العلمانية ذاته. وفي جميع الاحوال فأن العلمانية لا تعني القطيعة الكاملة بين الدين والدولة ذلك ان مجالات كثيرة يمكنها ان تشكل نقاط التقاء وتعاون بين المؤسسة الدينية والدولة؛ وربما تبرز السياحة الدينية كواحدٍ من مجالات هذا التعاون في العراق تحديداً. لقد اختلفت الدساتير في تحديد العلاقة بين الدين والدولة؛ ففي الوقت الذي ذهب فيه بعضها الى اغفال اية اشارة الى الدين في القانون الاساسي للدولة ارتأى الاخر التأكيد على عدم دعم الدولة للمؤسسة الدينية . فالتعديل الاول على الدستور الامريكي يحرم على برلمان الولايات المتحدة (الكونغرس) سن التشريعات التي من شأنها دعم المؤسسات الدينية او تلك التي تكرس ديناً رسميا للدولة. ذات القاعدة يمكن العثور عليها في المادة 116 من الدستور النمساوي لعام 1901. والمادة 16 من دستور بيلوروسيا لعام 1994. والمادة 11 من الدستور الاثيوبي لعام 1994 . والدستور النيجيري لعام 1995. والمادة 14 من دستور روسيا الفيدرالية لعام 1993. في ذات الوقت فان عدد غير قليل من الدساتير ذهب الى تأكيد علمانية الدولة من خلال تضمين مبدأ العلمانية في الفصول الخاصة بالاسس الدستورية للدولة معتبراً هذا المبدأ من الثوابت الجامدة والغير قابلة للتعديل. فالمادة الاولى من الدستور الفرنسي لعام 1958 اعلنت فرنسا " جمهورية موحدة ؛ علمانية و ديمقراطية". وذات القاعدة تضمنتها ديباجة الدستور الهندي لعام 1950. والمادة الثامنة من الدستور الانغولي. والمادة السابعة من دستور اذربيجان لعام 1995. والمادة الاولى من دستور كازاخستان. وذات المادة من دستور جمهورية قرغيزيا. وديباجة دستور الكاميرون. والمادة الاولى من دستور جمهورية مدغشقر. والفقرة الاولى من المادة الاولى من دستور جمهورية مالي. والفقرة الاولى من المادة 14 من دستور روسيا الفيدرالية. والمادة الاولى من دستور طاجكستان. ومثيلتها من دستور تركمانيا...الخ. وهنا ارى مناسبا الاشارة الى ان الكثير من الدوّل المارة الذكر يولف المسلمون فيها اغلبية سكانية. وليس اقل مما ورد اعلاه الدوّل التي ذهبت دساتيرها الى النص صراحة بفصل الدين عن الدولة. فالمادة العشرين من الدستور الياباني لعام 1947 تنص على ان اي من المؤسسات الدينية لا يمكنها الحصول على امتيازات من الدولة او الاستحواذ على السلطة السياسية فيها. فيما حرمت ذات المادة على اجهزة الدولة تنظيم الفعاليات ذات الطابع الديني او المساهمة في الانشطة التي تقيمها المؤسسات الدينية. ان الحديث عن موضوعة فصل الدين عن الدولة والعلمانية يبدو مجتزءأًً ومنقوصاً دون الاشارة الى واحدٍ من المبادئ الاساسية والتي يشكل توفره دعامة لا غنى عنها في البناء الدستوري للدولة العصرية؛ وهو مبدأ المساواة بين المؤسسات الدينية. حيث وجد مبدأ المساواة الدينية تجلياته في القواعد الدستورية للغالبية العظمى من البلدان. فالدستور الفرنسي؛ على سبيل المثال؛ ينص في مادته الاولى على " مساواة كافة المواطنين امام القانون بغض النظر عن العرق والاصل والمعتقد الديني". ويمكن العثور على قواعد مشابهة في المادة الحادية والثلاثين من الدستور الكمبودي. والمادة الثانية عشرة من دستور استونيا. ومثيلتها في الدستور السلوفاكي. والمادة الثالثة من الدستور الايطالي. والمادة الحادية عشرة من دستور الكونغو....الخ. وبذلك تكون المنظومة التشريعية لهذه الدوّل قدالتزمت بواحد من اهم المبادئ التي جعلتها اللوائح القانونية الدولية معياراً لدرجة التزام الدوّل وحكوماتها بالدفاع عن حقوق الانسان. واذا كانت العلمانية تشكل الحل الانسب لاشكالية العلاقة بين الدين والدولة؛ فانها (العلمانية) شكلت مخرجاً مناسباً من اشكالية التنازع بين القاعدة الدينية (الشرعية) والقاعدة القانونية (الوضعية). ذلك ان اعتبار القاعدة الشرعية مصدراً اساسياً (او حتى احد مصادر) التشريع في المنظومة الحقوقية للدولة سيثير من الاشكالات اكثر مما سيقدمه من حلول وخصوصاً في البلدان التي تتميّز بالتعددية الدينية والقومية والمذهبية والاثنية. بالاضافة الى ذلك فان اعتماد القاعدة الشرعية في القانون الاساسي للدولة سيؤدي الى تنازع القواعد القانونية ليس فقط في الدستور وانما في التشريع الفرعي (القوانين العادية) ايضاً؛ وهذا ما يمكن تلمسه في دستور جمهورية ايران الاسلامية والذي اكدت الفقرة الرابعة عشرة من مادته الثالثة على " ضمان الحقوق للجميع نساءً ورجالاً وايجاد الضمانات القضائية العادلة لهم ومساواتهم امام القانون". فيما ذهبت مادته الخامسة عشرة بعد المائة الى الغاء تلك المساواة باشتراطها لمن ينتخب لرئاسة الجمهورية ان يكون " من بين الرجال المتدينين....". وهذا ما يمكن تلمسه ايضا في الكثير من القوانين المنظمة لعمل السلطة القضائية في اغلب بلدان المشرق العربي. انني ارى ان واحدة من ضمانات نجاح التجربة الديمقراطية في بلادنا هو صياغة القواعد الدستورية بالشكل الذي يؤمن حقوق الافراد الاساسية وحرياتهم الشخصية وبناء علاقات متكافئة بين الدولة وجميع الكيانات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وجعل حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية من الحقوق الشخصية والعمل على تأمينها بالشكل الذي لا يؤثر سلباً على الحقوق الشخصية للآخرين؛ والسعي الجاد من اجل فصل الدين عن الدولة حمايةً لقدسية الدين من الدولة.
#فلاح_اسماعيل_حاجم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نـظـرة قـانـونيــة: الاســتفـتاء و مـحاولــة تـبـريــر الأخـ
...
-
نظرة قانونيــة: لجنــة صياغــة الدستور بين الاستحقاقــات الا
...
-
نــظرة قــانونيــة: اللجــان البـرلمانيــة
-
نظــرة قانونيــة: الدستــور الدائــم ومهمــة الاصــلاح السيا
...
-
نظرة قانونيــة: المعالجــة القانونيــة لمسؤوليــة الجهاز الت
...
-
نظرة قانونية: المعالجة القانونية لتنظيم العمل داخل الجهاز ال
...
-
نظــرة قانونيــة:المعالجــة القانونيــة لثنائيــة الجنسيــة
-
نظرة قانونية:المعالجــة القانونيــة لتفعيــل الحــق الانتخاب
...
-
الفيـدرالـيــة وضـمانــات وحــدة العــراق
-
اي الاهداف يبرر الوسائل
-
نظرة قانونية: السلطــة العراقيــة القادمــة ومهمــة التأسيــ
...
-
نظرة قانونيــة: السلطــات العراقيــة القادمــة ومهمـة صيانــ
...
-
نظــرة قانونيــة: المعالجــة القانونيــة لعــد اصــوات الناخ
...
-
نـظرة قـانونيــة: وحـدة السلطــة ومبــدأ الفصــل بيــن السـل
...
-
نظرة قانونيـة: المعالجة القانونية للقيام بالدعاية الانتخابية
-
الانتـخابات وشـرعية السـلطـة القـادمـة فـي العـراق
-
نظرة قانونية: المعالجة القانونية لمراقبة العملية الانتخابية
-
نظرة قانونية: الوطني والدولي في التنظيم القانوني للعملية الا
...
-
ســيــنـتـفــض جــدُ نا حــمـورابــي
-
الـناخــبـون العـراقـيـون فـي الـخارج بيـن مـبدأ الاقتراع ال
...
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|