|
عمارة مكتبة الاسكندرية : الحيز ، المكان ، والزمان
خالد السلطاني
الحوار المتمدن-العدد: 1255 - 2005 / 7 / 14 - 13:07
المحور:
الادب والفن
تطمح مختلف المباني المشيدة الى تكوين حكاياتها الخاصة ، وتزيد المباني المميّزة معماريا ً الى تلك الحكايات اساطير مضافة ، تتداخل فيها متعة التفصيل ، مع التشويق المـتأسس عن مجرى الاحداث . بيد أن بامكان مجرد الكلام وحده ، عن محض " مواضيع " لبُنى متخيلة ، محفورة في مكان ما من " سجل " الذاكرة المستعادة ، بامكانه ان يخلق ، هو الاخر ، قصصه الجذابة ، وبمقدوره ان يثير انتباهنا " بسردية " تاريخانية ، عن سيرورة رموز ذلك الكـلام المحكي و تداعيـاته ! . واذ قـّدر لتكوينات المبنى المميز معماريا ً ان ينزع الى تجسيد شكل " ثيمة " شيقة ، ذات نفس ميثولوجي ؛ فان انجاز عمارة ذلك المبنى ، سيكون لا محالة بمنزلة حدث مهم وراسخ في سفر كنوز البيئة المبنية . وهذا هو بالذات ، ماتم تحقيقه في مشروع " مكتبة الاسكندرية الجديدة " بمصر . فاقتران التصميم المعبر مع الفكرة الاسطورية لموضوعة " الحدث " القديم ؛ هو الذي يمنح عمارة " مكتبة الاسكندرية " الجديدة تلك الاهمية الفائقة للحيّز المصمم ؛ ويجعلنا نولي اهتماما عاليا الى مكان ، أو الى " روح " مكان الموقع المصطفى ؛ كما ان ذلك الاقتران هو ، الذي ايضا ، يصنع من شأن العمارة المتحققة منجزا مثيرا ، مقارنة بما هو حاضر في المشهد المعماري العالمي الراهن . وبافتتاح المكتبة ابوابها للجمهور في 25 نيسان/ ابريل 2002 ، واجراء مراسيم افتتاحها رسميا ً في 16 تشرين الاول / أكتوبر من نفس العام ، تكون " مكتبة الاسكندرية " قد اعلنت عن تأسيس فصول " لقصة " ممتعة ، تشي تفاصيلها الى استثنائية نادرة لتسلسل فعاليات : المشاركة ، والفوز ، والتنفيذ لفكرة معمارية ذكية ، تميزت ايضا ً ، بكونها جريئة ! .
شغل موضوع " مكتبة الاسكندرية " القديمة ، الناس لقرون ، منذ انشائها من قبل " البطالمة " بالقرن الثالث قبل الميلاد ، ولحين الوقت الحاضر . ومرد هذا " الانشغال " ليس فقط ، كونها مثلت حيزا ً لخزين الذاكرة المسجلة ، والذي انتهى دوره فعليا ً وتراجيديا ً غب حريقها الاسطوري " الغامض " ؛ ولكن ايضا ً بسبب خصوصية الافكار ، وطبيعة الامال التى اقترنت بحدث تأسيس المكتبة القديمة ؛تلك الافكار والامال ، التى مافتئت تثير لدينا تعاطفا ً وانحيازاً كبيرين لجهة ما ارستـه " المكتبة " من قيم أمست تقاليد موروثة ، سعت بها الى تكريس " روح العالمية ، الملتزمة بالتسامح ، والتنوع ، والانفتاح على ثقافات الاخر ". عرفت " مكتبة الاسكندرية القديمة " بهذا الاسم ، كونها انشئت في مدينة الاسكندرية في اعلى دلتا النيل ، المطلة على البحر . المدينة التى اخذت اسمها من اسم القائد اليوناني القديم " الاسكندر العظيم " ، الذي فتح مصر عام 332 ق. ب . ، ورغم ان الاسكندر ،هو الذي شخصيا ً ، امر بتأسيس هذه المدينة بعد عام من فتح مصر ، فانه لم يرها مطلقا ، اذ سرعان ما توجه بعد التأسيس بحملته العسكرية نحو الشرق ، لكنه لم يلبث ان توفي في بابل بارض مابين النهرين سنة 323 ق. ب . ونقل جثمانه بعدئذٍ اليها ليدفن في المدينة التى ارتبط اسمها باسمه ، وكان ذلك اثناء حكم بطليموس الثاني ( 285-246 ق. ب. ) . ظلت الاسكندرية عاصمة لمصر لمدة حوالي عشرة قرون تقريبا ً ، الى ان نقل العرب العاصمة نحو الجنوب ، عندما " مصّروا " مدينة الفسطاط ، بالقرب من " ممفيس " عاصمة مصر الفرعونية ، وكان ذلك عندما فتحت قواتهم الاراضي المصرية في النصف الاول من القرن السابع الميلادي . وطيلة قرون من تاريخها العريق ، حافظت الاسكندرية على نسيج سكاني اتسم بميزة التعدد الاثني والثقافي . ولاحظ احد الجغرافيين اليونانيين القدماء ، بان الاسكندرية قد جمعت بين مميزات الحضارتين النهرية والبحرية ، وعاش فيها ، بالاضافة الى المصريين الذين شكلوا السواد الاعظم من سكانها ، الاغريق ، والرومان والسوريون ، والاقوام القادمة من بلاد وادي الرافدين كما من بلاد فارس وغيرها من البلدان البعيدة التى استقرت في المدينة وساهمت في انشطتها التجارية ، كما اغنت الجوانب الثقافية والعلمية فيها . لقد كانت ، حقا ً ، بمثابة نقطة التقاء اساسية لسكان وثقافات ثلاثة قارات هي : افريقيا ، وآسيا واوروبا . اعتبرت " مكتبة الاسكندرية القديمة " ، بالاضافة الى مؤسسة مبنى" الموزيون Mousein " ، اهم ما تركته الاسرة البطليموسية وما اورثته للاجيال اللاحقة . وقد ساهم كلا المبنيين في تعزيزمجد الاسكندرية العلمي والثقافي ، فقد كانا مكانين مثاليين لالتقاء اساطين الفكر في العالم القديم ، وكذلك رجال الفلسفة والشعراء . ولم تشتهر المكتبة القديمة بكونها مكانا ً لجمع المخطوطات والبرديات ، التى جمعت منها حوالي 000 700 بردية ، وهي اكبرتغطية للمواد المكتوبة في ذلك العصر ، وانما كانت ايضا مكانا لنقاش حر ومثمر لمواضيع وقضايا متنوعة ، ولدتها عقول خيال اولئك العلماء . وهي بهذا المعنى ، ووفق كلمات اسماعيل سراج الدين ، كانت " ترمز الى احد اكبر طموحات المغامرات الفكرية في تاريخ الانسانية ، وأكثرها إثارة " . لقد عمل في اروقة المكتبة القديمة خيرة علماء ذلك العصر ، كما الف العديد منهم مؤلفاتهم التى ساهمت بجد في تقدم مسار الانسانية ؛ ففيها على سبيل المثال ، عمل وألف " اريسطارخوس Aristarchus مؤلفاته الفلكية ، التى اشارات لاول مرة بان الارض تدور حول الشمس ، وهذا قبل 1800 سنة من مقولات كوبيرنيكوس ! . وفيها كتب " اقليدس Euclid كتابه < مبادئ الهندسة المسطحة > ، والتى لاتزال طروحاته تمتلك صدقية عاليه ، كما ان " ارخميدس Archimedes " الذي منح البشرية صيغ قوانينه المعروفة والخاصة في توازن السوائل ، عمل هو الاخر في اروقة المكتبة القديمة .
عندما تقرر اعادة بناء مبنى " مكتبة الاسكندرية " ، تلبية لفكرة طموحة ، طرحت في منتصف السبعينات ، وما لبثت ان تحققت تصميميا ً في نهاية الثمانينات ، ارتؤي ان يكون المنهاج التصميمي للمكتبة الجديدة ، متضمنا ً افكار لمقاربات تنشد الى استرجاع قيم وروح سابقتها ، التى شيدت قبل اكثر من نيف وثلاثة وعشرين قرنا ً ، والمتمثلة في قيم الانفتاح والحوار ، والعقلانية التى من خلالها يتم تشجيع ضروب البحث والاستكشاف . ويحدد "اسماعيل سراج الدين " – وهو مدير المكتبة الجديدة ، واحد النقاد المعماريين العرب المعروفين ، اربعة اهداف يراها اساسية تعمل كاعتبارات لتشكيل الخلفية المضمونية للحل التصميمي للمبنى الجديد، وهي ان تكون المكتبة : • نافذة يطل منها العالم على مصر ؛ • نافذة تطل منها مصر على حوض البحر المتوسط ، وعلى العلم ككل ؛ • مركز رائد للسيطرة على الثورة الرقمية ؛ • مركز مزدهر للتعلم وللتناظر وقطب حوار فيما بين الثقافات والحضارات .
يعيد فوز المكتب المعماري " سنوهيتا Snøhetta " النرويجي في المباراة الدولية التى نظمها < أتحاد المعماريين الدولي > بالاشتراك مع منظمة " اليونسكو " ، وبطلب من الحكومة المصرية ، لاعداد تصاميم مبنى " مكتبة الاسكندرية " الجديدة ، يعيد الى الذاكرة الطفرات المثيرة ، والاختراقات المفاجئة ، التى شهدها سجل المبارات الدولية السابقة، مثل فوز "ايفان ليانيدوف"الروسي " في تصميمه لـ < معهد لينين > عام 1925 ، او فوز يورن اوتزون " الدانمركي مصمم " مبنى اوبرا سدني " عام 1957 ، او نجاح " رنزو بيانو مع ريجارد روجيرز" في تصاميمهما < مركز بومبيدو للثقافة بباريس > عام 1971 ، او الفوز المدوي لـ " زهاء حديد " لتصميم < نادي على قمة جبل > في هونغ كونغ عام 1981 . فمعاريو " مكتب سنوهيتا ´الثلاث الرئيسيون ، كانوا ، كما سابقيهم في مجال " الطفرات التاريخية " ، شبابا مغمورين ، وغير معروفين لدى الاوساط المعمارية العالمية . لكن الفكرة التصميمية التى اتوا بها لمشروع " مكتبة الاسكندرية " ، وجرأتها ، و " تماميـمية " تطابقها المثير مع مفردات المنهاج التصميمي ، فضلا عن " فورماتها" الشكلية غير المسبوقة ، في المباراة التى نظمت عام 1989 ، والتى اشترك فيها حوالي( 700 ) مشروع ، من( 52 ) بلدا ً ؛ كانت لدرجة مقنعة وموفقة وذكية .. وملائمة ايضا ً ، بحيث ان لجنة التحكيم المتكونة من معماريين عالميين مرموقين ، لم تبذل كثير عناء في تحديد اسم " الفائز الاول " بتلك المباراة الدولية المهمة . بعد اعلان نتائج المسابقة ، اتجهت الانظار نحو " اوسلو " ، عاصمة النرويج ، حيث مقر المكتب المعماري ، الحائز على المرتبة الاولي في تلك المباراة الدولية . وفجأة ، وبسرعة مذهلة امست اسماء المعماريين النمساوي " كريستوف كابلار Christoph Kapeller " والنرويجي " كيتيل تورسين Kjetil Thorsen " و الامريكي " كريغ ديكيرز Craig Dykers " مشاركي ومصممي مكتب " سنوهيتا " المعماري – امست اسمائهم مشهورة في الصحافة المتخصصة ، ومعروفة لدى اوساط مهنـة عالـمية . وتبين ، لاحقا ، بانهم نظموا فريقهم التصميمي على عجل في مدينة " لوس – انجليس " بالولايات المتحدة – مقر سكن وعمل اثنين منهم ، وقاموا بتأجير شقة في عمارة منعزلة ، في تلك المدينة المطلة على المحيط الباسفيكي ، هي الارخص التى بمقدورهم تأجيرها ، لتكون بمثابة " استديو تصميمي " . وبعد شهرين من العمل المكثف والجدي ، وبعد ان قاموا بعدة زيارات بحثية الى الصحراء خارج مدينة " لوس – انجليس " ؛ ارسلوا تصاميمهم باسم مكتب " سنوهيتا " الاوسلوي ، حيث كان زميلهم " تورسين " قد اسس سابقا ً هناك ، في العاصمة النرويجية ، مكتبا متواضعا ً بهذا الاسم ، تيمناً باسم < قمة جبل > ، يقع في شمال النرويج .
تضمن المنهاج المحتوياتي لمبنى الاسكندرية الجديدة ، فضاءات متنوعة ، كفيلة بتنظيم وتخديم الاهداف التى من اجلها تم ّ الشروع ببناء " مكتبة الاسكندرية " ، واعادة افكار وقيم ما اورثه ذلك " الحلم " الذي ارتبط بتأسيس مكتبة الاسكندرية القديمة . من هنا ينبغي فهم تنوع محتوايات المكتبة ، وادراك رسالتها كونها تخرج عن نطاق مفهوم " مكتبة عادية " ، لتضحى اكثر من كونها مكتبة بكثير ، انها بجد " مجمع ثقافة متشعب " تشمل على ما يلي : • خزين من الكتب يصل سعته ما بين 4 و8 ملايين مجلد ؛ • مركز اتصال بالانتيرنيت ؛ • ثلاثة متاحف ؛ • خمس مؤسسات بحوث ؛ • قبة فلكية ؛ • اربع قاعات عرض لوحات فنية ؛ • مركز مؤتمرات يسع 3000 شخص . حاول التصميم المقترح من مكتب " سنوهيتا " ، ان يؤسس له مقاربة تصميمية تحرص في معالجاتها الفضائية الى تجميع مكثف لمجمل الانشطة المتشابهة لمتطلبات المبنى في احياز محددة ، وتفريقها عن الاحياز الاخرى ذات الوظائف المتباينة ؛ مع الحرص الشديد على ان يكون معظم تلك الفضاءات تحت غطاء مشترك ، يكون اساس التصميم و " ضربته " التكوينية القوية . ولهذا فان الحل التكويني المقدم من مكتب " سنوهيتا " والخاص بمشروع " مكتبة الاسكنرية " الجديدة ، اشتمل على مفردة اساسية لكتلة اسطوانية ذات قطع مائل ، وفيها تتجمع مختلف فعاليات المشروع ، مع مبنى مرصد فلكي ، موقع خارج الكتلة الاساسية ، ومنفصل عنها . وثمة مركز لقاعات اجتماع ، موجود اصلا ً في الموقع ، شيد في سنة 1982 ، واستخدمته الجامعة العربية كثيرا لعقد مؤتمراتها ، تم ربطه فضائيا ً مع كتلتي المشروع الاخرتين ، اللتان جرى وصلهما بقنطرة مصنوعة من الفولاذ والزجاج ، تخترق اسطوانة الكتلة الرئيسية من جانبها ، لتعبر الى الجهة الجنوبية من موقع المشروع ، نحو مجمع جامعة الاسكندرية . وهذه القنطرة الخفيفة والشفيفة ، قدر لها ان تربط مكونات المشروع جميعا ً ربطا ً فضائيا ً محكما ً يزيده تأثيرا ً نوعية الوجود الفيزياوي لممر القنطرة المسطح ، ومؤشرات مساندها الفرتكالية الدقيقة . تم " نشر " مكونات المشروع جميعا ً في موقع مكشوف ، اتسم على حضور بين ّ على فضاءات خالية ، بضمنها ساحة مكشوفة، موقعة في الجانب الغربي من مبنى المكتبة الرئيس، دعيت بـ " ميدان الحضارات " ، ويؤدي وجود تلك الفضاءات المكشوفة على حصر التركيز البصري وتوجيهه نحو كتلة المشروع الاساسية ، بغية تبيان اهميتها التكوينية . كما وقع الاختيار لان يكون مكان المكتبة القديم موقعا ً لانشاء المكتبة الجديدة ، وبهذا القرار فثمة وصل تاريخي يربط المبنيين ، الامر الذي أضاف بعدا رمزيا آخرا الى أهمية الموقع المختار، ومنحه قيمة اثارية مفعمة بمتعة دراما " الحدث " التاريخي ! . سعى مصممو مكتبة الاسكندرية الجديدة ، وكما اشير سابقا ً ، ان تكون مجمل الانشطة المتنوعة لها ، ضمن مجال مفردة تصميمية اساسية ، وهذه المفردة عبارة عن شكل دائري بسيط ، يصل قطره الى < 160 > مترا ً ، ذات سقف منحدر باتجاه البحر ، اي باتجاه الشمال . وتتوزع فضاءات المكتبة المتنوعة داخل هذه الهيئة الاسطوانية ، التى تشمل عدة مستويات بعمق 15.8 مترا تحت الارض ، وثمة مستويات اخرى فوقها بارتفاع 37 مترا ً . تشكل القاعة الرئيسية فضاءا مفتوحا ً موحدا ً بسبعة مستويات على شكل شرفات . ويقع قسم المطالعة فيها بحافة كل شرفة ، وبجانبه مباشرةً ،رفوف الكتب بنظام استعارة مفتوح . ويعطي هذا الاسلوب في تخطيط وتصميم المكتبات لقارئ المكتبة القدرة على استخدام سريع للكتب ، كما يمنحه امكانية توليد فكرة متكاملة عن مكان موقعه في القاعة الفسيحة . تؤمن مواضيع مستويات المكتبة السبعة داخل الشكل الاسطواني ، لزائر المكتبة ، الاطلاع على صنوف المعرفة المتنوعة ؛ وتبدأ من المستوى الاول الواقع في طابق التسوية الرابع ، حيث نجد ما نسميه " جذور المعرفة " ، وهي الفلسفة والتاريخ والجغرافيا .. ؛ ثم المستوى الثاني ، / طابق التسوية الثالث والمخصص للاداب والفنون ، وفي المستوى الثالث – طابق التسوية الثاني ، الفنون والثقافة ، وفي المستوى الرابع – التسوية الاول : المراجع العامة والمعارض ؛ وتوجد ايضا هنا مكتبة ايداع مطبوعات الامم المتحدة بالاضافة الى العديد من المعارض ومتحفين هما الاثار والمخطوطات ، اما المتحف الثالث والخاص بتاريخ العلوم فيقع اسفل القبة السماوية ؛ وفي المستوى الخامس – عند مدخل المكتبة من جهة ميدان الحضارات ، فهناك أرشيف الانترنت ، وعلم الاجتماع والقانون ؛ وخصص المستوى السادس الى العلوم الطبيعية ، وفي هذا المستوى ، وعلى الناحية الاخرى من المدخل الرئيسي ، يوجد مدخل المراكز البحثية ، والمكتبات المتخصصة للنشء والطفل ، وقاعة مخصصة لجمعيات اصدقاء المكتبة حول العالم ؛ اما المستوى السابع فهو مخصص للتقنيات الحديثة . وفوق تلك المستويات السبعة ، توجد قاعتان للندوات متصلة بالجزء الاداري والبحثي بالمكتبة من خلال قنطرتين معلقتين . عندما يشاهد المرء " القرص " المتسع ، المائل ، الذي يبدو وكأنه " ينهض " من باطن الارض مباشرة ، يحسب ان ثمة وظائف متباينة " تجري " داخله . فالفضاء الهائل الفسيح ، الذي يخلقه ذلك القرص " المُـثقب " ، الذي يصل قطره الى نحو 160 مترا ً ؛ لابد وان يكون متنوعا ً ومتعددا ً في آن . وهذه الرؤيا التى يستحضرها مشاهد سقف مبنى المكتبة الجديدة ، هي في الواقع انعكاس لسياق طبائع الابنية الاسلامية العظمى ، ومجاراة له ؛ ذلك السياق التصميمي المعتاد والمتعارف عليه في " ادبيات " البيئة المبنية المحلية ؛ اذ أن من " المألوفية " بمكان ، اللجوء تكوينيا ًًًً الى ممارسة توظيف اغطية موحدة ومتشابة لفعاليات وظائفية متنوعة ، الامر الذي نجم عنه ظهور وبروز قيمة تصميمية طبعت تكوينات المباني الاسلامية بطابع خاص ؛ بمعنى اخر ، ان " الشكل " هنا ، < لا > يتبـع " المضمون " ؛ بل ان القيمة التصميمية المرتجاة ،في مثل هذه البيئات ، والشائعة ايضا ً ، هي اقرب لاستيلاد احساس بثبوتية " الفورم " المختلق مع تنوع وظائف الاحيازالمصممة . ويتوق معمار مكتبة الاسكندرية الجديدة في لجوئه لهذا التوظيف الموحد للسقف ، شأنه شأن معماريين عالميين مرموقين اشتغلوا كثيرا على هذه " الثيمة " ، وشاهدنا ، في السابق ، محاولات تصميمية مبدعة لهم كتصميم مقترح " لقاعة اجتماعات كبرى " في شيكاغو ( 1953) للمعمار" ميس فان دير رو ّ " < والتى لم تنفذ > ، لكن فكرتها التصميمية سرعان ما تحققت في مبنى متحف الفنون ببرلين ، المانيا ( 1962-8 ) للمعمار ذاته ؛ وكذلك مشروع " لو كوربوزيه " لمبنى البرلمان الاقليمي في مدينة " جانديكار " بالهند ، اوائل الخمسينات من القرن الماضي ، يتوق المعمار ، اذن ، الى الاحتفاظ بالاهمية المؤولة لهذا المبدأ في مبناه ، لزيادة ترسيخ مفهوم " روح المكان " Genus Loci، الذي ينشد بقوة ، الى ان يكون حاضرا ً في تصميمه المقترح ! يكاد يخلو مبنى مكتبة الاسكندرية من اي وجود للواجهات ، الواجهات بمفهومها التصميمي – الفضائي ، تلك العناصر المألوفة في المباني العادية ؛ ذلك لان القرار التصميمي الساعي الى جعل المبنى " يغوص " في جانب منه في " بطن " الارض ، ويرتفع عاليا عنها في جانب آخر ، وكذلك حضور النزعة التشكيلية المتماثلة التى تسم اسلوب معالجات جدران محيط الاسطوانة ذات القطع المستدق ، تجعل المبنى وكأنه يخفي بتعمد تلك العناصر الملازمة لفعل الصياغات التصميمية للمبانى العادية . بيد ان المعمار يستعيض عن هذا " النقص " الحاصل ، بجعل سقف المبنى المائل ، الذي يرى من شارع الكورنيش الملاصق ، او من البحر المجاور ، والمجزأ وفق تقسيمات مصبعية Grids لوحدة قياسية Module ، ليكون بمثابة " واجهة " المبنى الرئيسية، ومظهر المكتبة العام ؛ ولكي يضفي المصمم بعدا ً جماليا ً مؤثرا ً للسقف- الواجهة ، فانه يشطر اشكال تصبيعات الشبكة المتصالبة في وترها ، ويخسف جوانب منها لتوجيه وتحديد مصدر الانارة الطبيعية نحو الشمال قصرا ، وذلك لتجنب مرور اشعة شمسية غير مرغوبة ، تفسد على المصمم توقه المبرر في جعل انارة فضاء قاعة المطلعة الكبرى ، الواقعة تحت السقف مباشرة ، ذات انارة " مروضة " وبمعايير محددة مسبقا ً تفي بمتطلبات واشتراطات المطالعة الجيدة . وتجدر الاشارة بان تحديد اتجاهات الواح التسقيف المشكلة لسطح المكتبة ، تمّ حسابها بدقة بالحاسوب " الكومبيوتر " في مراحل التصميم ، من اجل السماح لدخول مستويات مطلوبة ومقننة من الضياء الطبيعي فقط ، ومن دون الاباحة لمرور اشعة الشمس المباشرة . استفاد المعمار كثيرا من نتائج عملية المعالجة الكتلوية الناجمة عن اختلاف مستويات اجزاء التصبيعة في الشبكة المتسامتة لسقف المبنى ،وما نجم عنها من حضور بليغ لخاصية الظل والنور ، والتى تمكن المعمار ان يوظفها بمهارة ، لينأي بسطوح " الواجهة الخامسة " الفسيحة والمنسية عادة ، في المباني التقليدية ، ينأى بها بعيدا ً عن الاحساس برتابة التكرار المتوقع جراء التماثل الشكلي لهيئات تصبيعات الشبكة المتسامتة فيها . وقد اضافت تنويعات المعالجة التصميمية المختلفة في اجزاء من سطح سقف المبنى كوجود الافنية المفتوحة ،الخاصة بالقسم الاداري ، او ترك بعض تلك الوحدات احيانا ً من دون معالجة تذكر ، اضافت بعدا ً جماليا ً مؤثرا ً لجهة فنية " الواجهة " المصممة ، التى تذكرنا تأثيرات ثراء سطحها التشكيلي ، بتأثيرات خاصية "الظل والنور" عالية الفنية ، تلك الخاصية التصميمية المفعمة بالحيوية ، والرائجة ، عادة ، في تكوينات الابنية العربية التقليدية . واستذكار هذه الخاصية التصميمية هنا ، هو استذكار مؤثر ، وفطن ، و... ملائم ايضا ً، لجهة تقصي روابط متنوعة مع المكان ،وابداء ايماءة احترام مع ثقافته المبنية الحصيفة . تجدر الاشارة الى ان هذه الخاصية التصميمية ذاتها قد شاهدنا تأويلات معاصرة لها ، في مبانٍ ممّيزة ، كتلك التى طبعت تكوينات مبنى " معهد العالم العربي " في باريس ،( 1987) للمعمار" جان نوفيل " ، وغيرها من المباني الحديثة ؛ لكننا هنا ، في مكتبة الاسكندرية ، نشهد تنويعات مبدعة اخرى ، لتلك " الموضوعة " ذاتها ، المحببة الى قلب المعمار الاقليمي !
يعد حيز قاعة المطالعة الرئيسية العنصر الاهم في مكونات الحل التصميمي ، ليس فقط لكونه الاوسع مقاسا ً والاكثررحابة ، بل ولانه الحيز الذي يعطى حيثية مقنعة لمعنى المبنى ككل، ويجسد وظيفته الاساسية . يصل الزائر الى قاعة المطالعة ، بعد ان يجتاز بهو المدخل ، ذا الارتفاع الذي يرتقي الى ثلاثة طوابق ، عابرا ًقسم التسجيل ، ليرى نفسه في المنسوب الخامس من مناسيب المكتبة المتعددة المستويات . واذ يصل الى الداخل ، سيثير دهشته ، حتما ً ، اسلوب التوزيع الفراغي للقاعة، وطريقة انارة هذا الفضاء الفسيح ، الذي يشكل بمجموعه مفردة قاعة المطالعة الكبرى لمكتبة الاسكندرية الجديدة ، وسينجلي امامه فضاءا فسيحا وواسعا ً ، تصل مساحته الى اكثر من 000 20 مترا مربعا ، وهو ما يعتبر من اكبر المساحات المغلقة في مباني الشرق الاوسط ،اذا استثنينا فضاءات المساجد الجامعة التاريخية ، كما انه يعتبر ضمن اوسع قاعات المكتبات في العالم . وهذا الفضاء مقسم الى سبعة مستويات ، كما اشير سابقا ً ، تنتشر فيه اعمدة دقيقة ، يصل عددها الى نحو 90 عمودا ً ، يتحدد مكانها طبقا ً للنظام الصارم لشبكة الوحدة القياسية Module التى تقدر ابعادها بـ 9.6× 14.4 مترا ً، وهو مقياس يلائم ابعاده نظام تخزين المكتبات الموحد . تتألف الاعمدة من بدن خرساني ، يعلوه تاج بهيئة هرمية خاصة . وهذه التيجان تسند جسور متقاطعة ترتكز عليها وحدات الواح سقف القاعة المائل بدرجة ميل تصل الى(16.08) درجة باتجاه الشمال . وتنطوي الاعمدة المنتشرة في قاعة المطالعة على ابعاد مختلفة ، يتراوح اطوالها بين < 4 > امتار في الجزء الواطئ و < 6 > امتار في القسم العالي . يدرك معمار المكتبة جيدا ً ، بان اهمية مفردة حّيز قاعة المطالعة الرئيسية ، هي اهمية غير عادية ، لها حضورها الاستثنائي مقارنة بمفردات التصميم الاخرى . كما انه يعي ّ ايضا ً ، بان نوعية المقاربة التكوينية المصطفاة ، والتى سيتعاطى بها لجهة تصميم هذا الحيّـز ، ستكرس لاحقا ً صورة Image المبنى المقترح ، وتسهم في ترسيخ هيئته المميزة في الذاكرة البصرية . وتأسيسا ً على ذلك فانه ينزع الى جعل حضور " الانشاء " ، او ما يعرف بـ " التكتونية " Tectonic في " انتيرير " الحيز المصمم ، ليكون وقع حضوره ، حضورا ً بليغا ً ، يشي الى عقلانية المشهد المرئي، رغم غرائبية حال وسع الفضاء المحصور ، واسلوب انارته " الملونة " ، تلك العقلانية التى توحي بها اعمال العناصر التركيبية المنتشرة في القاعة ونظامها البسيط المعتمد على الجسور الرابطة الافقية ، والمساند العمودية الحاملة لها. تجزأ الاعمدة الخرسانية الرشيقة فضاء القاعة الرحيب ، وتسهل ادراكه بصريا ً . ويتغير منظر هذه الاعمدة ، ونظام ترتيب موقعها ، وشكلها باستمرار ، كلما جال المشاهد ببصره نحوها ، او تقصد الحركة من مكان الى آخر وسط فضاء القاعة ، ويسهم التغيير المستمر في اكساب المنظر المرئي حيوية ظاهرة ، يزيدها تأثيرا ً انتشار عناصر اثاث التصميم الداخلي في القاعة ، من مناضد قراءة ومصاطب جلوس ، ورفوف كتب ، فضلا على عامل وجود القراء انفسهم وحركتهم الدائمة . لا يمكن للمرء وهو يشاهد اسلوب فتحات الانارة السقفية ، في قاعة مكتبة الاسكندرية الجديدة ، الا وان يستحضر ولع " الفار آلتو " – المعمار الفنلندي المعروف ، في توظيفاته العديدة لهذه المفردة التصميمية . وبواعث هذا الاستحضار الفكري ، هنا ، تمتلك مبرراتها ، في الاقل لسببين ، اولهما : قوة وحضور الارث " الآلتوي " التصميمي ، وتأثيراته على عموم عمارة اسكندينافيا ، وبضمنها بالطبع النرويج ، ذلك الارث الذي ما فتأ المعماريون الاسكندينافيون يرون فيه نبعا ً غنيا ً من الافكار القابلة للمحاكاة والتأويل ؛ والسبب الثاني يرجع الى التماثل الموضوعي لاستخدام هذه المفردة تصميميا ً . اذ من المعروف بان " آلتو " استخدم مفردة الانارة السقفية لاول مرة وبمهارة ، في" مكتبة فيبوري " Viipuri ( 1927-35 ) الشهيرة ، ثم كرر استخدامها في مشاريع عديدة بعد ذلك ، سواء كانت منفذة اوغير منفذة . اي اننا ازاء فعالية " تناصية " مثمرة ، تدلل بدءاً ، على مرجعية القرار التصميمي لمعماريي مكتب " سنوهيتا " الشباب ، وتفسر لنا تاليا ً ،أهمية قرار توظيف مفردة الانارة السقفية والارتقاء بها ، لتكون حدثا ً تصميميا اساسيا في اجراءات تنظيم حيز قاعة المطالعة الرئيسية في المكتبة الجديدة . وربما قادت تداعيات رؤية المشهد المرئي ، الى استحضارات آخرى ، يدلنا على بعض منها ، الناقد المعماري " ريجارد انغيرسول " في مقاله الممتع والذكي عن " مكتبة الاسكندرية " المنشور في مجلة " عمارة " < انظر Architecture ,October 2001,pp 101-103,122 > . فيذكرنا بان هيئة قاعة المكتبة الفسيحة ، واعمدتها الرشيقة المنتشرة في فضاءها المغلق ، تستدعي الى الذاكرة هيئة القاعة الادارية " لشركة جونسون للشمع " (1936-37 ) في مدينة راسين ولاية وسكانسون بالولايات المتحدة ، للمعمار " فرنك لويد رايت " ، وفعلا فان حيز كلتا القاعتين المغلقتين ، وسيقان اعمدتهما النحيلة ، ذات نظام تيجان شبه متماثل ، تبدوان وكأنهما تنتميان الى مرجعية واحدة ومحددة . واستطرادا ً لهذا الشأن ، يمكن القول ان نظام توزيع اعمدة قاعة مكتبة الاسكندرية وفضاءها الفسيح ، يعيد الى الذاكرة ، ( في الاقل الى ذاكرتنا الشرقية ) ، تماثلات " غابة " اعمدة حرم مسجد قرطبة الشهير ( 786- 987 ) ، وفضاءه الغاص بالعناصر الانشائية من اعمدة وتقاطعات معقدة لعقود ترفع سطح التسقيف . وتنشد مثل هذه التماثلات الى تفعيل حضور خلفية لروابط اتصال مع انساق الثقافة المبنية المحلية . وعلى العموم ، فان مناسبة رؤية حيز قاعة المطالعة في المكتبة ، وادراك استثنائية الفضاء الفسيح ، والوعي بتفرده التصميمي ، ما انفكت تمثل بالنسبة الى المتلقي " تمرينا ً " فكريا ً منعشا ً ومنشطا ً ، تمرين حافل بفيض من صور متخيلة ، مستلة من خزين الذاكرة البصرية ، يتلائم حضورها وتتابعها الذهني مع نوعية ، وخصوصية ، وتعدد ثقافات مستخدمي الحيز الفضائي الممّيز ، ومشاهدي ذلك الحدث التصميمي البارع ! ولئن اتاح حيز قاعة المطالعة الرئيسية لزوار مكتبة الاسكندرية ، امكانية انتاج صورافتراضية ، وجعل مشاهديه منهمكين في حالة استيلاد خواطر لرموز مبان متنوعة ، تعود هيئاتها الى مرجعيات ثقافية مختلفة ، فان هذا يدلل على مستوى الاجتهاد التصميمي الحصيف ، المبذول في تصميم ذلك الحيّـز ؛ الذي يتبدى للناظر بمرأى بونارامي نادر ، تفتقده غالبية قاعات المطالعة في ابنية المكتبات الاخرى . وليس من غير دلالة ، ان يتذكر المرء ، وهو يجول ببصره ناظرا ً الى فخامة الحيز المبتدع امامه لقاعة المطالعة في مكتبة الاسكندرية الجديدة ، ان يتذكر مقولة " لو كوربوزيه " المجنحة ، بان " العمارة ، ماهي الا فضاء محصور ! " ، فضاء ، بمقدوره ولوحده ، ان يخلق عمارة : عمارة متميزة . وكلمة اخرى مضافة ، يمكن ان تقال بحق حدث " حيّز " قاعة مطالعة المكتبة ، من ان حضور ذلك الحيز الممّّيز في الحل التصميمي ، اكسب المكتبة ذاتها قيمة معمارية فريدة ، قيمة تؤسس للانابة عن مجمل المعنى الرمزي للمبنى ، واختزاله في هذه المفردة التكوينية المغلقة . وهو بهذا المعنى، يقع ضمن مبان ٍ قليلة في الموروث البنائي العالمي ، التى كرسّت حضورها في تنويعات الخطاب التصميمي ، من خلال " فورم " فضاءتها الداخلية ؛ وبالتالي ، فهي هنا ، قريبة من تصوراتنا عن " عمارة " مسجد قرطبة الكبير ( الذي ذكر توا ً ) ، التى نستحضرها حصرا عبر صورة فضاءه الداخلي ، والحال ذاته فيما يخص محاولة استذكار مبنى " وزارة الخارجية السعودية " بالرياض (1981-84 ) ، للمعمار" هنينغ لارسن " ، التى نسارع في تذكر فضاءته الداخلية المعبرة ، مقارنة بالاسلوب الحيادي للمعالجة الخارجية . لكن معماري مكتبة الاسكندرية الجديدة ، يخطون خطوة مضافة في هذا المجال ، فهم من ناحية يؤسسون لمقترب تصميمي معني في رفع شأن قيمة الفضاء الداخلي للمكتبة ، ومن ناحية اخرى ، فان نوعية مقتربهم ذاته ، يظل يعمل ، ايضا ً لجهة ايلاء اهتمام جدي للمعالجات الخارجية . وما التشديد على مفردة " الواجهة الخامسة " : واجهة السطح ، التى اشرنا الى خصائصها التصميمية سابقا ً ، سوى محاولة لافصاح المزايا المزدوجة للمسلك التصميمي الخاص بمعماري مكتب " سنوهيتا " ؛ ذلك المسلك الذي نعده ، ونقيّمه كأضافة هامة ورصينة في مجمل الخطاب الحداثي المعماري العالمي .
يستثمر مصمم مبنى المكتبة ، سطح الجدار ، ذا الارتفاع المتباين ، الذي يلف كتلة المنشأ الرئيسة من جميع الجهات تقريبا ، عدا الجهة الشمالية حيث يغوص قسم من تلك الكتلة ، هنا ، داخل الارض ، يستثمره كوسيلة مضافة ، مهمتها زيادة اثراء لغة عمارة المبنى تشكيليا ً، والتذكير ، مرة اخرى ، باهمية عامل اتحاد اجناس الفنون المتنوعة ، كتقليد رفيع ، سبق وان كان احد مكونات الحل التصميمي لعمارة مبنى المكتبة القديمة . وضمن تشكيلات فنية ، اعدها فريق من النحاتيين النروجيين برئاسة " يورون سانيس " وقوامها " اشارات " يصل عددها الى حوالي 6300 حرف ، وجملة ، ورمز تعود الى لغات العالم الحديثة والقديمة ، منقوشة بـطريقة النحت الغائر، والناتئ على اربع آلاف قطعة سميكة من الغرانيت المستخرج في اسوان ، يضحى سطح ذلك الجدارالطويل ، الخالي من اية فتحات فيه ، ( فاضاءة الحيز الداخلي تتم ، كما هو معلوم ، عبر الانارة السقفية )؛ يضحى في ايدي المصممين الكفوءين ، مؤهلا ليكون " ملصقا " < بوسترا ً > فنيا ً ، يشي الى وظيفة المبنى الاساسية ، ورمزها االتشكيلي ! قد تكون فكرة توظيف فن " الجداريات " المستخدمة في مكتبة الاسكندرية ، متساوقة مع فكرة سابقة ، كان قد طرحها المعمارييون المكسيكيون ، بوضوح ، اثناء اعدادهم تصاميم " جامعة نيومكسيكو " بالعاصمة المكسيكية ، في مطلع الخمسينات ، ونفذها فنان المكسيك المشهور " ديفيد سيكايروس " على سطوح جدران مكتبة الجامعة ايضا ً ؛ لكننا نزعم بان مصممي مكتبة الاسكندرية الجديدة قد احسنوا اعادة قراءة تلك التجربة الرائعة ، واجادوا كذلك ، تفسير الموروث المحلي في هذا المجال ، مقدمين لنا حلا معماريا ً ملائما ً ومعبرا ً ، يشدد اسلوب انجازه الفني ، من ناحية على طبيعة فكرة المكتبة ، ويؤكد في جانب آخر على حضور المكان ويرمز الى هويته ! .
يسعى معمار مكتبة الاسكندرية الجديدة ، ان يكون حال " فورم " مبناه المقترح ، موحيا ً لكشوفات تكوينية ، يمارس اكتشافها المتلقي نفسه . ويغدو التشديد على اكتناف ذلك " الفورم " لقيم تكوينية محددة ، هو بمثابة محض إستجابة لذلك النزوع التصميمي المفضل لديه . من هنا يمكن ، مثلا ً ، ادراك خلفية القرار التصميمي بازاحة جزء من كتلة المكتبة ، المطلّـة على " ميدان الحضارات " ، واسقاطها تماما ً من الهيئة الاسطوانية المشكله لها . ورغم منطقية مسوغات هذا القرار ، وهو الرغبة في توقيع المدخل الرئيس بمكان مناسب ، بعيدا ً عن الاشكاليات الناجمة عن محاولات اختراق مباشر لسطح الجدار الملتوي ، الذي يلف الكتلة الرئيسية للمكتبة ؛ فان قرارالازاحة ثم ، الاسقاط بعد ذلك ، المبرر وظيفيا ً ، كان يعمل ضمن اشتراطات بنود " اجندة " المعمارالمفضلة ، ويكشف ، في الوقت عينه ، عن تجليات قيمه التكوينية المميّزة ؛ ذلك لان تبعات ذلك القرار ، افضت الى الاخلال بالنقاء الكتلوي للشكل الاسطواني ، ويتوجب الان على المتلقي المشاركة في " التصميم " ذهنيا ً لاستعادة " فورم " الجزء المزاح . بمعنى آخر ، يقدم لنا المعمار عرضا غير مألوف ، وغير متوقع ، بالمرة ، ليشركنا ، نحن متلقي مبناه ، في فعالية ابداعية ، كانت لوقت قريب ، حكرا ً على طبقة المصممين ! " فغياب " الاقسام المزاحة المتقصد ، ينشط " حضور " المقترحات التصميمية الافتراضية لدى المتلقي ، ويكرس رغبة المعمار في جعل الاخير منهمكا ً في ممارسة متعة " التصميم " ! . من جانب آخر ، لا يود المعمار الرضوخ تلقائياً لاغواء التبسيط الناجم عن تكرار وتشابه معالجات الوحدة القياسية التى تبدو ظاهرة في شبكة التقسيمات المتسامتة ، المكونة الاساسية لواجهة المبنى الرئيس : واجهة السطح . اذ يحرص المصمم ان يكون ايقاع تلك الوحدات ، واسلوب معالجاتها مختلفا ً ومعقدا ً في آن . ؛ ليتسنى له الحصول على مزايا تبعات ظلال مكوّن < الاختلافات الطفيفة > التي تدعى بـ " Nuance " ، ؛ ذلك المكوّن التصميمي الذي يرفع المعمار من شأنه عاليا ً ، ويطمح ان تكون تأثيراته متواجدة ،ً وبقوة ، في اسلوب معالجات عناصر واجهته السقفية . ولهذا ، فان مفردات تلك الواجهة قد تبدو متماثلة ظاهريا ً ، لكنها في الحقيقة غير ذلك ، انها مختلفة ، ومتباينة ، ومتغيرة . اي انها ، باختصار شديد ، تنشد لان تتصادى مع مفهوم " التنوع في الوحدة " ، المفهوم الاثير ، والحاضر دوما ً في سياق ثقافة الموروث البنائي المحلي
وايا ً يكن الامر ، فان سلسلة التماثلات الذهنية التى يستحضرها المرء عند رؤية الفعالية التصميمية المرئية ، يجعل من عمارة مكتبة الاسكندرية الجديدة لان تكون حدثا ً تصميما ً مميزا ومؤثرا ً في مجمل الخطاب المعماري العالمي . كما ان هذا الامر يدلل على ان عملية الخلق المعماري الحداثي ، او بالاحرى مابعدالحداثي ، هي في الواقع عملية مضنية ومعقدة ، تتطلب فيما تتطلب ، الالمام العميق في معرفة وادراك انجازات الحضارات المختلفة ، والمقدرة الفطنة في التعاطي مع فعاليات التأويل ، فضلا على استثمار معطيات الحاضر،والاشتغال على قيم تصميمية مبتكرة والتركيز على تطلعاتها المستقبلية ؛ وليس كما يروجّ ، من ان نتاج عمارة مابعد الحداثة ، ما هو الا محض قطيعة ، و قطيعة مطلقة مع كل ما انتجته الانسانية سابقا ً . في حين يبين منجز عمارة مكتبة الاسكندرية الجديدة ، كمجز معماري ما بعد حداثي بامتياز ، من ان " القطيعة " التى يتردد ذكرها دوما في ادبيات النقد الخالي من الموضوعية ، هي ليس سوى ، قطيعة " ابستمولوجية " مع كل ماهو عادي ، ومبتذل ، وعابر في المشهد البنائي ! .
ولئن عبر منجزعمارة مكتبة الاسكندرية الجديدة ، عن حضوره الهام ضمن منجزات العمارة العالمية المعاصرة ، فان ذلك ، كان بفضل اضافات ذلك المنجز النوعية ، من حيث الفكرة المعمارية اولا ، وتمظهراتها المطبوعة بالاسلوب التصميمي المتفرد ، ثانيا ً ، الذي جسد " فضائيا ً " تلك الفكرة ، ومن ثم ساهم الانشاء الحصيف في تحقيقها . وفيما يخص الجهد الاخير ، الجهد الهندسي ، الذي اضطلع به المكتب الاستشاري المصري : " حمزة ومشاركوه " ، فقد عُدت الحلول الهندسية للمبنى المعقد انشائيا ً ، عملا ً ابداعيا ً مميزا ، وخصوصا معالجاته فيما يخص المشكلات الناجمة عن تأثيرات المياه الجوفية ، والعمل على عدم تسربها الى داخل المبنى ، سيما وان المكتبة لا تبعد سوى اربعين مترا عن البحر . كما ان معضلة تباين واختلاف الاحمال في اقسام مبنى المكتبة ، وما ترتب عنه من تقصي منظومات انشائية خاصة< واحيانا غير مسبوقة > للاسس ، كلها عملت على جعل أداء المهندسين المصريين لان يكون اداءا معبرا ً ، لا يقل من حيث الاهمية التصميمية عن فرادة حلول المبنى المعمارية .
لقد عُد ّ حدث تنفيذ " مكتبة الاسكندرية " الجديدة ، بمثابة تحقيق حلم ؛ حلم معماري جميل ، وحلم ثقافي رائع ، وننتظر من فعل تحولات ذلك الحلم الى واقع مادي ، مشيد الان في مكان ما ، من شارع " كورنيش " مدينة الاسكندرية ، ان يكون ذلك الفعل ، وذلك الواقع حافزاً للجميع بمنطقتنا ، لتحقيق احلام اخرى : جميلة ورائعة : معمارية وثقافية ؛ تليق بما يعده لنا المستقبل الاتي السعيد ، المستقبل الذي يبشر بملامحه ، قرص " شمس " مبنى المكتبة ، الذي تشي هيئته دائما ً الى فعل .. البزوغ ! .
#خالد_السلطاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سلالة الطين : الكاتب ، والكتاب
-
تسعينية جعفر علاوي - العمارة بصفتها مهنة
-
مسجد ما بعد الكولونيالية
-
رسالة مفتوحة الى برهان شاوي
-
صفحات منسية من تاريخ العراق المعماري: مبنى مجلس الامة-الى ال
...
-
تحية الى 9 نيسان المجيد
-
نكهة العمارة المؤولة
-
مصالحة ام ... طمس حقوق؟
-
مقترح شخصي ، لادانة جماعية
-
المشهد المعماري في الدول الاسكاندينافية بين الحربين - صفحات
...
-
الانتخابات و - رياضيات - الباجه جي المغلوطة
-
العمارة في العصر الاموي : الانجاز والتأويل - مقدمة كتاب ، يص
...
-
تجليات العمارة العضوية : نتاج رايت في الثلاثينات - صفحات من
...
-
في ذكرى عبد الله احسان كامل
-
بزوغ( الار نوفو .. واختفاؤه ) تيارات معمارية حديثة _ من كتاب
...
-
قضايا في العمارة العراقية :العمارة ، بصفتها منجزا ً ثقافيا
-
ثمانينية خالد القصاب : المثقف المبدع ، المتعدد المواهب يتعين
...
-
صفحات من كتاب سيصدر قريباً - العمارة الاموية : الانجاز ، وال
...
-
تيارات معمارية حديثة : التيار الوظيفي
-
صفحات من كتاب سيصدر قريباً - العمارة الاموية : الانجاز والتأ
...
المزيد.....
-
-أرسيف- تعلن ترتيب الجامعات العربية حسب معامل التأثير والاست
...
-
“قناة ATV والفجر“ مسلسل قيامة عثمان الموسم السادس الحلقة 168
...
-
مستوطنة إسرائيلية: قصف غزة موسيقى تطرب أذني
-
“وأخير بعد غياب أسبوعين” عودة عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
من هو الفنان المصري الراحل حسن يوسف؟
-
الليلادي .. المؤسس عثمان ح168 الموسم 3 على قناة atv وعلى الم
...
-
أوليفيا رودريغو تستعيد اللحظة -المرعبة- عندما سقطت في حفرة ع
...
-
الأديب الإيطالي باولو فاليزيو.. عن رواية -مملكة الألم- وأشعا
...
-
سوريا.. من الأحياء القديمة إلى فنون الطب الصيني
-
وفاة الفنان المصري حسن يوسف
المزيد.....
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|