|
المُعاناة في حياة المُلحد
هشام آدم
الحوار المتمدن-العدد: 4421 - 2014 / 4 / 11 - 19:48
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قبل مَا يقربُ مِن عامٍ تقريبًا، أهداني أحد الأصدقاء المسيحيين كتابًا بعنوان (مُعضلة المُعاناة – The Problem of Pain) للكاتب كليف ستابلس لويس C. S. Lewis وهو كتابٌ شيِّقٌ في الحقيقة، يقع في نحو 160 صفحةٍ مِن القطع المُتوسط، يتناولُ موضوع الألم والمُعاناة، ويُحاول أن يشرح لنا مُعضلة المُعاناة، وأن يُبرِّر لماذا هنالك مُعاناة في حياتنا، ومِن أين جاءت هذه المُعاناة مِن وجهة النَّظر المسيحيَّة طبعًا. وبطبيعة الحال فإنِّني لا أرغب في مُناقشة الأفكار الواردة في الكتاب، ولكن ما يهمني هنا هو مُناقشة فكرة المُعاناة من وجهة النَّظر العامة، وفي هذا الصَّدد تجدر الإشارة إلى أنَّ مُعضلة المُعاناة هي مُعضلةٌ خلقتها فرضيَّة الخالق نفسها التَّي يُؤمن بها المُؤمنون، ويُصرُّون عليها. وتكمن المُشكلة بالتحديد في اعتقادهم بأنَّ هذا (الخالق هو خيِّر بالمُطلق، ومُحبٌ بالمُطلق، ورحيمٌ بالمُطلق، ولا يُمكن أن يكونَ شريرًا، فإذا كان خالق الكون والكائنات خيِّرًا فمِن أين جاء الشَّر؟) مِن هنا تبدأ مشكلة المؤمنين مع المُعاناة والألم، ولهذا أقول بأنَّ مُعضلة المُعاناة هي مُعضلةٌ تخصُّ المُؤمنين، ولهذا أيضًا يُحاولون التَّبرير لوجود الشَّر والمُعاناة في حياتنا بحُججٍ وتبريراتٍ كثيرةٍ ومُتعدِّدة، تدور كلُّها في فلكٍ واحدٍ لا ثاني له، ألا وهو: "تخليص الله مِن تهمة الشَّر التَّي ينسبها المُلحدون إليه." وكما أنَّ للمسيحيين تبريراتهم، فكذلك المُسلمون لهم تبريراتهم أيضًا، ولكل أتباع ديانةٍ (بل وكل طائفةٍ دينيَّةٍ، بل وكل مُتدينٍ صاحب رأيٍ وفكرٍ واجتهادٍ) له تبريراته الخاصة بمُعضلة المُعاناة والشَّر، التَّي أوجدتها مِن الأساس فكرة الخالق التَّي لَم يتمَّ البت في صِحَّتها بعد، وهذا ما يدعو للسخريَّة!
للمسيحيين رأيٌ عامٌ وواضحٌ حول مُعضلة المُعاناة، وهي تتمحور حول فكرة الحُريَّة والإرادة المُتاحة للإنسان منذ أن خلقه الله، فالله –بحسب زعمهم- خلق الإنسان مُتمتعًا بكامل الحريَّة، وجعل له إرادةً يختار بها بين الخير والشَّر، ولكن المُعضلة هنا أنَّ الشَّر ليس موجودًا حتَّى يكون موضوعًا للاختيار! فإذا كان الله خيِّرًا ولا يخلق إلَّا كل مَا هو خير، فإنَّ الإنسان لن يكون شريرًا، وحتَّى عندما يُعطيه الحريَّة فسوف لن يجد أمامه إلَّا أن يكون خيِّرًا، لأنَّه لا وجود للشَّر أصلًا، ولو كان الشَّر طبيعةً بشريَّةً، فإنَّنا سوف نوجِّه أصابع الاتهام إلى خالقه، الذي وضع فيه بذرة الشَّر مُنذ البداية (قابلية أن يكون شريرًا)، لأنَّه إذا كان الله هو المُصمِّم الذكي The Intelligent Designer الذي صمَّم (خلق) الإنسان The Intelligent Design فلابُد أنَّه هو المسؤول عن طبيعة Software هذا التصميم. ولكن كيف وضع الله بذرة الشَّر في الإنسان والله خيِّر ولا يخلق إلَّا الخير؟ على أيَّة حال، هذا هو التبرير المُستخدم مِن قِبل بعض المسيحيين، وهم يرون أنَّ الإنسان أسيرٌ للخطيئة الأُولى التَّي ارتكبها أبوهم (آدم – Adam)، الذي كسر وصيَّة الله، وأكل مِن شجرة المعرفة (أنا شخصيًا لا أعرف مَا هي مُشكلة الله مع المعرفة، ومع أن يعرف الإنسان، ولماذا أراد أن يظلَّ آدم جاهلًا!). الغريب في الأمر أنَّ آدم نفسه لَم يمتلك المعرفة (معرفة الخير والشَّر) إلَّا بعد أن أكل مِن الشَّجرة، وليس قبل ذلك! فحسب الكتاب المُسمَّى بالكتاب المُقدَّس، فإنَّ آدم بعد أكله مِن شجرة المعرفة أصبح مثل الله عارفًا بالخير والشَّر، ولنا أن نسأل: "إذن، فماذا كان آدم قبل أن يأكل مِن الشَّجرة؟" نحن هنا نتكلم عن كائنٍ لا يعرف معنى الخير والشَّر، وهذا بالضَّرورة يعني أنَّه عندما أكل مِن الشَّجرة لَم يكن مُدركًا فعليًا بأنَّ فعلته هذه هي شر، لأنَّه لَم يمتلك هذه المَلَكة إلَّا بعد أن أكل مِن الشَّجرة. وقد يطول النِّقاش حول هذه النُّقطة. وعلى العموم، فهذا هو محور الرَّد المسيحي تقريبًا، وقد يشترك معهم فيه بعض المُسلمين كذلك، فجذور الخرافة واحدةٌ على أيَّة حال.
إلَّا أنَّ البعض الآخر يرى أنَّ الشَّيطان هو مصدر الشَّر وليس الله، وعلى هذا يكون لنا مصدرٌ للخير وهو الله، ومصدرٌ آخرٌ للشَّر وهو الشَّيطان، وهي فكرةٌ مُنحدرةٌ مِن عصورٍ قديمةٍ كان فيها الأسلافُ يُؤمنون بوجود إلهٍ للخير، وإلهٍ آخر للشَّر، وأنَّهما على الدَّوام في صِراعٍ أبدي، غير أنَّ تطوُّر الفكر الدِّيني وانتقاله مِن طور الآلهات المُتعدِّدة إلى طور الإله الواحد أو التوحيد Monotheismهو مَا حمَّل هذا الإله كل الصِّفات التَّي كانت مُتوفرةً في الآلهات التَّي كانت موجودةً مِن قبل، وحتَّى فكرة الملائكة أيضًا مُنحدرةٌ -في أساسها- مِن فكرة الآلهات المُتعدِّدة، فبعد أن كان هنالك إله للمطر، وإله للثلج، وإله للنَّار، وإله للإخصاب، وإله للموت، وإله للجبال، وإله للحرب، توزَّعت هذه المهام على مخلوقاتٍ هُلاميَّة تُسمَّى الملائكة، فبدا الأمر وكأنَّهم يقومون بهذه المهام بالنِّيابة عن الإله الواحد القابع على عرشه. وعلى أيَّة حالٍ، فإنَّ السُّؤال المُوجَّه هنا لأصحاب هذا الرأي: "مَن خلق الشَّيطان؟" أو بمعنىً آخر أكثر سُخريَّةً: "مَن خلق مصدر الشَّر؟" ومِن نافلة القول بأنَّ خالق الشَّر (أو مصدر الشَّر) لا يُمكن أن يكون شيئًا آخر إلَّا شريرًا، أو على الأقل مُريدًا لوجود الشَّر، وهذا الرَّأي هو ما يذهبُ إليه طائفةٌ أُخرى، إذ يرون أنَّ الله هو خالق الشَّر فعلًا، ولكن ليس لأنَّه شريرٌ، بل كنوعٍ مِن الابتلاء، أو فلنقل: ليكونَ أمام الإنسان الفرصة الحقيقيَّة للاختيار بين الخير ونقيضه، ولكن أليس مِن الغريب أن يُتيح الله الحريَّة للإنسان في أن يفعل الخير أو الشَّر ثمَّ يُحاسبه عقابًا أو ثوابًا؟ أعني أنَّ الحريَّة يجب أن تكون لها استحقاقاتها، ومِن أُولى هذه الاستحقاقات، وأهمها على الإطلاق مِن وجهة نظري: احترام الخيارات النَّاجمة عن استعمال الحريَّة. فإذا خيَّرنا أحدهم بين البقاء في المنزل أو مُغادرته، فإنَّه يتوجب عليه أن يحترم اختيارنا النَّاجم عن هذه الحريَّة، وإلَّا فإنَّها لن تكون حريَّة على الإطلاق، لأنَّ إيقاع عقوبةٍ ما على أيِّ الاختيارين يعني إكراهًا ضمنيًا على اختيار الخيار الثاني. فمن يشترط عقوبةً على خيار مُغادرة المنزل مثلًا، يُريد أن يُكرهنا –بطريقةٍ غير مُباشرةٍ- على اختيار البقاء في المنزل، وهنا يأتي احترام اختياراتنا إتمامًا لمعنى الحريَّة واستحقاقاتها، وإلَّا فهي مكيدةٌ باسم الحريَّة، وليس أكثر مِن ذلك. وكثيرًا ما يُردِّد المُسلمون آيةً قرآنيَّةً مشهورةً ليستدلوا بها على حريَّة التديّن وعدم التديّن في الإسلام، وهي آية: {فمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليكفر} ويتوقفون عند هذا الحد مِن الآية. والغريب، أنَّهم يُطالبون غير المُسلمين بألَّا يجتزئوا آيات القرآن، حتَّى لا يضيع المعنى، ولكنَّهم يفعلون الأمر ذاته، عندما يتطلب الأمر ذلك، وتمام الآية هي :{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنَّا اعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سُرادقها} وهذه هي المكيدة التَّي كنتُ أتحدث عنها، فعندما تتظاهر بإتاحة الحريَّة، ثم تضع عقوبةً على اختيار أحد الخيارات، فهذا ينفي الحريَّة مِن أساسها، ويُصبح الأمر وكأنَّه إجبارٌ على اختيار طريقٍ واحدةٍ، حتَّى لا تنالنا النَّار التَّي يُحيط بنا سُرادقها، والأمر ذاته ينطبق على العقيدة المسيحيِّة، فالله الخيِّر الدِّيمقراطي الذي أتاح للإنسان الحريَّة سوف يُعاقب هذا الإنسان إن اختار –بملء إرادته- طريقًا آخر غير الطَّريق الذي يُريده الله له، وسوف يُصليه بُحيرة الكبريت ليتعذَّب فيها إلى ما لا نهاية مِن الزَّمان، فليس أمام الإنسان إلَّا أن يُؤمن بيسوع إلهًا ومُخلصًا وفاديًا، حتى ينجو بنفسه مِن هذا العذاب الأبدي، ويُقنع نفسه بعد ذلك بأنَّ الله محبَّة! ولهذا نسمع المُسلمين والمسيحيين على حدٍ سواء يُردِّدون عباراتٍ لها المعنى ذاته: "لا تُراهن على دينونتك." وهو في الواقع ليس إلَّا تهديدٌ مُبطَّنٌ يعكس مدى الخوف الذي يعيشه المُتدينون مِن هذا الإله المُحب الخيِّر.
هنالك طائفةٌ أُخرى ترى أنَّ الله مسؤولٌ عن الخير والشَّر على حدٍ سَواء، وأنَّ المسألة مُرتبطةٌ بعلم الله الأزلي والمُطلق بالبشر وبنواياهم وأفعالهم، فهو عارفٌ بالبشر جميعهم مُسبقًا، وحتَّى قبل أن يخلقهم: مَن مِنهم سيكون شريرًا، ومَن مِنهم سيكون خيِّرًا، وإذا بحثنا في الكُتب المُسماة بالكُتب المُقدَّسة، فسوف نجد مِن النُّصوص مَا يُؤيِّد كل رأيٍ مِن الآراء السَّابقة، فقط يتفنَّن المُتدينون واللاهوتيون في تفسير النَّص ذاته، ليتوافق مع أفكارهم وقناعاتهم الخاصة، ونفس هؤلاء المُتدينون يتجاهلون نصوصًا أُخرى لا تتفق مع أفكارهم تلك، ويتجاوزونها بحجج مُختلفةٍ ومُتنوعةٍ، فمنهم مَن يفعل ذلك بحجة تأريخانية النَّص، أو بحجة القياس الاشتراطي، أو بحجة اللغة وفضفاضيتها والتلاعب باللفظ ومعانيه، أو بحجة قابليَّة النَّص لأن يكون موضوعًا للحداثة، وإعادة النَّظر أو النقد وفقًا للمُعطى المكاني والزماني، أو بحجة الرَّمزيَّة. وهكذا نرى كيف أنَّ فكرة الخالق خلقت مُعضلةً فكريَّةً وفلسفيَّةً كُبرى للمُتدينين، علمًا بأنَّ فكرة الخالق نفسها لَم يتمَّ التَّحقق مِن صحتها بعد! الأمر أشبه بأنَّ نتخيَّل كائنًا له جسم أسدٍ ورأس ثور، ثمَّ نبدأ بالتنظير حول مَا إذا كان هذا الكائن مِن آكلات اللحوم بسبب جسده الأسدي، أم مِن آكلات الأعشابِ بسبب رأسه الثَّوري، كل ذلك قبل أن نتأكد أولًا مِن وجود هذا الكائن من عدمه! أرأيتم ماذا يفعل الدِّين بالعقول؟
أمَّا بالنسبة إلى المُلحد، فمُعضلة الشَّر والمُعاناة ليستا مطروحتين أساسًا، ليس فقط لأنَّه لا يُؤمن بوجود الله، ولكن لأنَّه يعرف تمامًا أنَّه لا وجود للمُعاناة نفسها. نحن جزءٌ مِن هذا العالم، تسري علينا قوانينه، تمامًا كما تسري على بقيَّة الكائنات والموجودات، ولا شيء يجعلنا مُميزين عنها. نحن (ككل الأنواع الأُخرى) مُتمايزون عن بقيِّة الأنواع ولسنا مُميزين، تمامًا كما أنَّ كل نوعٍ مِن الأنواع مُتمايزٌ عن بقية الأنواع دون تميُّزٍ عنها. كلنا دون استثناء تسري علينا قوانين الطَّبيعية، وهذه القوانين مُحايدةٌ تمامًا مع الجميع، هذه القوانين تسري على المجهريات Micro-Organism وعلى الدَّيناصورات Dinosaurs. وأيُّ حَدثٍ أو ظاهرةٍ تحدث، تحدث لأنَّها يجب أن تحدث، أو لأنَّها حدثت وحسب. وسواءٌ عانينا أو لَم نُعاني فما سيحدث، سيحدث حتمًا لأنَّه يجب أن يحدث، ولكن الأهم في كل ذلك أنَّ مَا يحدث لا يحدث مِن أجل إسعادنا أو مِن أجل جَعلنا نُعاني أو نتألم، وهذا هو المقصود مِن عبارة أنَّ الطَّبيعة مُحايدةٌ تمامًا تجاهنا، وتجاه بقيَّة الكائنات. لا وُجود للشَّر كما لا وجود للخير أيضًا، فهذان ليسا سوى مُجرَّداتٍ Abstractions، والأمر هنا مُتعلقٌ بمصلحة الكائن نفسه، فما كان في مصلحته اعتبره خيرًا، وما كان ضد مصلحته اعتبره شرًا. والأمر ذاته الذي يكون خيرًا لكائنٍ مَا قد يكون شرًا لكائنٍ آخر، فنحن عندما نقتل حيوانًا لنتغذى عليه، فإنَّ فعلنا هذا (القتل) يكون شرًا مِن وجهة نظر الضَّحيَّة، لأنَّ ذلك يتسبب في مُعاناته وموته، ولكن الفعل ذاته (الغذاء) مِن وجهة نظرنا خير لأنَّه يتسبب في إسعادنا وحياتنا. (ملاحظة: الخير والشَّر هي أفكار بشريَّة صرفة لا تتوفر في بقيَّة الكائنات)
كما أنَّه لا وجود للمُعاناة أبدًا، كل مَا في الأمر أنَّنا نعتقد أنَّ هذا العالم مُعدٌ خصيصًا لنا ومِن أجلنا، لذا نتوقع أن تكون حياتنا في هذا العالم مثاليةً وخاليةً مِن المُنغصات: فالموت ليس مُعاناةً، بل هو قانونٌ بيولوجيٌ وحتميٌ تمامًا كما أنَّ الحياة قانونٌ بيولوجيٌ أيضًا، ولا يحدث الموت ليتسبب لنا في الألم والمُعاناة، كما لا تحدث الحياة لتتسبَّب في إسعادنا، نحن فقط مَن يستشعر هذه المشاعر تجاه هذه الظَّواهر والقوانين الطَّبيعية، تمامًا كما قد تُشعرنا رؤية قوس قزح بالفرح والسَّعادة، في حين أنَّ هذا القوس البصري لا يتكوَّن بقصد إسعادنا أو إخافتنا أبدًا. المرض ليس مُعاناةً، إنَّه فقط دورة حياةٍ بيولوجيَّةٍ لفيروساتٍ وجراثيم تشاركنا هذا العالم، وتصارع مثلنا مِن أجل البقاء. هذه الجراثيم لا تقصد إيذاءنا، بل هي تبحث عن مصلحتها فقط، هي تبحث عن وسائل تضمن لها الحياة والبقاء والتكاثر، المرض ليس ابتلاءً أو عقابًا إلهيًا، بل هو أمر طبيعيٌ جدًا. الفشل ليس مُعاناةً، وانَّما هو سوء تخطيطٍ وسوء اختيارٍ مِن الفرد نفسه، وليس هنالك مَن هو مسؤولٌ عن فشلنا غير أنفسنا، نحن لا نفشل لأنَّ الله لَم يُوفقنا، أو لأنَّنا لم نُحسن التوكُّل على الله أو لَم نُحسن الظَّن به، نحن المسؤولون عن فشلنا وليس شيءٌ آخر. الفقر ليس مُعاناةً، إنَّه قانونٌ اجتماعيٌ يسري على الإنسان كما يسري على كثيرٍ جدًا مِن الكائنات الحيَّة. الطَّبقات الاجتماعية ليس قانونًا إلهيًا يُريد أن يبتلي به الأغنياء بالمال، والفقراء بالصَّبر، بل هو قانون اجتماعيٌ يسري على كثيرٍ مِن الكائنات والأنواع الأخرى، كما يسري علينا نحن أيضًا، ولأنَّ الكائنات الحيَّة لا تعرف المال والثروات، فإنَّ مقدار حصتها مِن الفرائس أو فرصها في التَّزاوج والاستحواذ على الإناث (وبالتَّالي عدد الذريَّة) أو مكانتها بين أفراد القطيع أو السِّرب أو حتَّى حدود مناطق سيطرتها ونفوذها، هو ما يُمكن أن يكون القاسم المُشترك في هذا المِثال.
الإلحاد يُتيح لنا أن نرى العالم على حقيقته وبشكلٍ موضوعيٍ تمامًا، كما هو عليه، وليس كما نتمناه أو نتخيَّله، لأنَّ هذا العالم له وجودهُ الموضوع المُستقل تمامًا عن تصوُّراتنا وأفكارنا الذِهنيَّة عنه. وعندها نبدأ بالتَّصالح مع الطَّبيعة وقوانينها، هذا لا يعني أنَّ المُلحد لا يتألم ولا يحزن، لأنَّ هذه المشاعر هي جزءٌ مِن التَّكوين الطَّبيعي للكائن الحيِّ، فكلُّ الكائنات الحيَّة تقريبًا تمتلك مشاعرًا تُعبِّر بها عن حالتها النَّفسية، فهي تفرح، وتحزن، وتتألم، وتتعاطف، وتغار، وتخاف، وتثق، وتتعب، وتضجر ... إلخ، لأنَّها مُمتلكةٌ للوعي والإدراك الذي يُؤهلها للتفاعل مع ذاتها ومع مُحيطها الخارجي، ولهذا فهي كائناتٌ حيَّة، وفي علم الأحياء Biology فإنَّ الكائن الحيَّ هو أيَّ نظامٍ حيويٍ -بسيطًا كان أم مُعقدًا- قادرٌ على الاستجابة للمٌحفزات Stimuli، فإذا فقدنا هذه المشاعر فإنَّنا سوف لن نعود كائناتٍ حيَّة، أو سنكون قد مُتنا، وإذا كانت مُعضلة المُعاناة بالنِّسبة للمُؤمنين محصورةً في هذه المشاعر، وليست في جدليَّة الخير والشَّر، فالإجابة ببساطةٍ مُتناهيةٍ هي أنَّنا كائناتٌ حيَّة، ولكن تكون مشاعر المُلحد وعواطفه مُروَّضةً وعقلانيةً إلى الحد الذي يهبه العزاء، لأنَّنا –كبشرٍ- بحاجةٍ إلى هذا العزاء، وبإمكان المُؤمنين –طبعًا- أن يجدوا العزاء في خلق إلهٍ في عقولهم وأذهانهم، يعتقدون أنَّ لديه حكمةً مِن كل ما يجري. وهذا أمر صحيح، ففكرة الله في كثيرٍ مِن الأحيان تتسبب في الشعور بالسَّعادة والرِّضا والطُّمأنينة لكثيرٍ مِن المُؤمنين، لاسيما في أوقات الأزمات والمِحن، فهم يُعزُّون أنفسهم عن فقدهم لعزيز أو قريبٍ بأنَّهم سوف يلتقون به في الدَّار الآخرة، أو بأنَّ هذا الشَّخص رحل عن دار المُعاناة إلى دار الرَّاحة الأبديَّة، وهذا وهمٌ محض، فهل مِن الأخلاق أن نصدَّق الوهم، ونتركه يتحكَّم بنا، فقط لأنَّه يهبنا السَّعادة والرَّاحة؟ المُخدِّرات تهب شعورًا بالسَّعادة والرَّاحة للمُدمنين، فلماذا تُحارب الأديان والقوانين الوضعيَّة تجارة المُخدرات إذن؟ لدينا الآن مُخدِّرٌ طبيعي آمنٌ وليس بوهم Delusion، بل هو الحقيقة والواقع: "الطَّبيعة لا تقصد إيذاءنا." هذا هو عزاء المُلحد، ومُخدَّره الآمن، وليس مُخدِّر المُؤمنين الوهمي الذي ذكره كارل ماركس ووصفه بأنَّه "أفيون الشعوب".
وسواءٌ تصالحنا مع الطَّبيعة وقوانينها أم لَم نتصالح معها، فإنَّ القوانين لن تتوقف أبدًا عن عملها، وهذا يجعل مِن فكرة التَّصالح فكرةً أكثر عقلانيَّة ومنطقيَّة وعملانيَّة، عوضًا عن الرُّومانسيَّة والمثاليَّة التَّي تتسبب لنا في مزيدٍ مِن المُعاناة والألم، لأنَّنا نتوقع مِن الطَّبيعة ما لا يتوجب عليها فعله. والحقيقة أنَّني –شخصيًا- مُنذ أن تجلَّت أمامي هذه الأفكار –بكل مَا تحمله مِن طبيعةٍ تبدو قاسيَّةً وجافةً إلى حدٍ كبيرٍ- تغيرت رؤيتي لكثير مِن الأمور، فلم يعد الموت مُخيفًا كما كان في السَّابق. وعرفت أنَّه لا يوجد كائنٌ مُضرٌ على الإطلاق: لا الأفاعي، ولا الحشرات، ولا الضَّواري، ولا أيَّ شيء آخر. ليس هنالك شيءٌ يحمل لنا ضغينةً ويُريد إيذاءنا. هذه الكائنات –ببساطةٍ- إمَّا أنَّها تريد حماية نفسها أو أنَّها تريد الحياة، ووجودنا في المكان والزمان غير المُناسبين هو مَا يجعلنا نرى هذه الكائنات مُضرةً ومُؤذية. عندما نتخلص مِن أنانيتنا، ونفهم أنَّنا تروسٌ صغيرةٌ جدًا في ترسانةٍ ضخمةٍ وعملاقةٍ تُسمى "الكون"، وعندما ندرك أنَّ وجودنا وعدمه لا يعنيان شيئًا لهذا الكون، سوف تختلف رؤيتنا للأشياء، وكذلك أحاسيسنا ومشاعرنا سوف تتهذَّب وتتشذَّب لتبدو أكثر عملانيَّةً وعقلانيَّةً مِمَّا هي عليها الآن. الأديان تُساعد كثيرًا في تكريس إحساسنا بالأنانيَّة، وبأنَّنا كائنات مُميَّزة، وبأنَّ هذا العالم مُعدٌّ مِن أجلنا، وأنَّ كل ما هو موجود فيه مُسخَّر لنا، وهذا ما يجعلنا نشعر بالغرور، وغرورنا هذا هو ما يتسبب في مُضاعفة مُعاناتنا أكثر وأكثر. ولهذا فإنَّنا نسمع كثيرًا مِن المُؤمنين يلومون الخالق على أشياءٍ هي مِن صميم اختصاص الطَّبيعة، وعلى سبيل المثال:
• تقول سيِّدة: "لماذا لم يخلقني الله رجلًا؟" • يقول رجل: "لماذا تحدث لي كل هذه المصائب يا الله، فأنا لم أؤذ أحدًا." • يقول رجل: "لماذا تخلى الله عني في محنتي رغم أنَّي أصلي له دائمًا." • تقول سيِّدة: "لماذا يحرمني الله من الإنجاب؟" • يقول رجل: "هل مِن العدل يا الله أن يكون هنالك فقراء وأغنياء؟" • يقول رجل: "لماذا يبتليني الله بطفلٍ مُشوَّه؟"
وهذه مُجرَّد أمثلة لمقولاتٍ شعبيَّةٍ تتكرَّر، ونسمعها يوميًا مِن أشخاصٍ مُؤمنين. صحيح أنَّهم قد يعودون بعد حينٍ ويستغفرون إلههم مِن هذا القول لدافع الخوف، ولكن الفكرة الأساسيَّة مِن هذه الأمثلة هي افتراض ألَّا تكون هنالك مُعاناة في هذه الحياة، لأنَّ الله المُحب للبشريَّة لا يجب أن يجعلهم يُعانون، لاسيما إذا كانوا مُؤمنين به، وعابدين وشاكرين له، والأمور لا تسير على هذا النَّحو في الطَّبيعة. ولعلَّ القارئ الكريم قد وقف بنفسه على مدى التَّناقض المُريع والمُضحك في الأمر، فقد قلنا -في بداية المقال- إنَّ تبريرات المُؤمنين لوجود الشَّر تتمحور كُلُّها حول فكرةٍ واحدةٍ، ألا وهي: "تخليص الله مِن الشَّر الذي ينسبه المُلحدون إليه"، والواقع أنَّ المؤمنين هُم مَن ينسبون الشَّر إلى الله (في لحظات ضعفهم) وليس المُلحدون، فالمُلحد لا يُؤمن أصلًا بوجود الله، فكيف يلوم شيئًا غير موجودًا على وجود الشَّر؟ وكثيرًا ما يُسمِّي المُؤمنون أولئك الذين يلقون اللوم على الله بأنَّهم قومٌ ضعيفو الإيمان، وهي عبارةٌ مُنتشرةٌ بانتشار الأمثال الواردة أعلاه. والحقيقة أنَّ فرضيَّة الله هنا (وجودًا أو عدمًا) تخلق مُشكلةً كبرى لدى المُؤمنين أنفسهم، فإذا قال المُؤمنون إنَّ الله خلق الإنسان وابتلاه بالمُعاناة، فإنَّ الأمر يعني أنَّ الله المُحب هو مَن يخلق الشَّر ويُريد وجوده (بصرف النَّظر عن العِلَّة مِن ذلك)، وهنا تبدو عبادة إلهٍ شريرٍ فكرةً غير منطقيَّةٍ على الإطلاق، وإذا قال المُؤمنون إنَّ مُعاناة الإنسان هي بسبب الإنسان وليست بسبب الله، فإنَّنا نُذكِّره بأنَّ فرضيته تقتضي بأنَّ الله هو مَن خلق الإنسان، وبالتَّالي فهو المسؤول عن هذه الطَّبيعة الشِّريرة في الإنسان، وعندها سيكون مِن المنطقي أن نتساءل: "لماذا سمح الله بوجود هذا الشَّر في الإنسان؟" وكل هذه التساؤلات والتَّبريرات سوف تختفي تمامًا إذا استبعدنا فرضيَّة الله والخالق، واقتنعنا أنَّ هذا الكون لا تتحكم به قوىً خفيَّةٌ ومُلغزةٌ، بل إنَّ كل الأمور تسير على نحوٍ طبيعي، وإنَّ علينا أن نتصالح مع هذا الكون بكل ما فيه مِن خير وشر، لأنَّ الخير والشَّر ما هُما -في نهاية الأمر- إلَّا انعكاساتٌ أخلاقيَّة داخل أذهاننا لموضوعاتٍ ليست أخلاقيَّةً في ذاتها.
الأشياء الجميلة والمُدهشة في هذا الكون، ليست موجودةً بسبب أنَّ الطَّبيعة تُريد إسعادنا أو إدهاشنا، وليس بسبب خالقٍ غامضٍ يُريد أن يُسعدنا أو يُعرَّفنا على نفسه، كما نقرأ في القرآن: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}، الأمر أشبه بأن أقول لك: "أنا نبي. وآية نبوتي هي مذنبٌ، أو كسوف الشمس." والحقيقة أنَّ هذه الآيات ما هي إلَّا ظواهر طبيعية مُحايدة تمامًا، لا علاقة لها بنبوة أحد، ولا علاقة لها بإلهٍ أو قوةٍ عظمى، كما أنَّ هذه الظَّواهر لا تقصد إسعادنا أو إخافتنا أو مُعاناتنا، ببساطةٍ لأنَّ الطَّبيعة وقوانينها لا تمتلك وعيًا وإرادةً وعِلَّة وغائيَّة.
#هشام_آدم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخالق ورطة الخلقيين
-
مصير الأنبياء
-
الحجاب والحرية الشخصية
-
دفاعًا عن نظرية التطور
-
خطايا السَّيد المسيح - 2
-
خطايا السَّيد المسيح
-
فضائح السَّند والمتن في علم الحديث
-
الالتفاتة الأخيرة لخلدون
-
رَمَدُ العُيون في مقالة المدعو خلدون
-
قراءةٌ في سِفر الوثنية
-
محاولة لقراءة التاريخ الإسلامي بعينين
-
زواج عتريس من فؤادة باطل
-
هكذا تكلَّم يهوه 1
-
يا فتيات العالم المختونات .. افتحوا
-
لماذا الله غير موجود 2
-
ما الغاية من حياتنا وما الهدف منها بلا دين؟
-
هولي بايبل يحرق مراكب العودة - 2
-
بين محمَّد ومُسيلمة الكذاب
-
هولي بايبل يحرق مراكب العودة
-
دردشة فقهية: حدّ الرِّدة في الإسلام
المزيد.....
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
ليبيا.. سيف الإسلام القذافي يعلن تحقيق أنصاره فوزا ساحقا في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|