|
المصالحة الوطنية وتجربة إيرلندا
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 4419 - 2014 / 4 / 9 - 18:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أخطر ما واجهته حركات التغيير في الوطن العربي ما بعد العام 2011 هو مسألة المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية . وهما المسألتان المترابطتان اللتان واجهتهما أيضاً الكثير من التجارب الدولية، وبعضها تصدّى لهما بشجاعة على الرغم من ثقل الماضي وتركته الملأى بالمآسي وتاريخه الحافل بالجرائم والارتكابات، لكن من يريد أن يواجه الحاضر، فلا بدّ أن يفكّر بالمستقبل، بدلاً من العيش في الماضي على حد تعبير نيلسون مانديلا . ولعلّ شجاعة المنتصر لا تقتضي الثأر من المهزوم، بل العمل على بناء المستقبل بدمجه في إطار مصالحة وطنية من دون أن يعني ذلك إهمال الارتكابات والانتهاكات التي تستحق المساءلة وكشف الحقيقة، وفي الوقت نفسه العمل على جبر الضرر وتعويض الضحايا وصولاً إلى المصالحة الوطنية في إطار إصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني، لكي لا يتكرر ما حصل . قد ينصرف الذهن أن المقصود من فكرة المصالحة الوطنية، هو "نسيان الماضي" استناداً إلى الفكرة الدارجة "عفا الله عمّا سلف"، لكن مسألة المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية أعقد من ذلك كثيراً، وبقدر ما تقتضي عملية التحوّل وضع حد للماضي، فإن هذا الأخير ينبغي أن يظل في دائرة الضوء، لأجل أن تبقى الذاكرة حيّة، والمصالحة لا تعني المبدأ الأخلاقي الذي يقوم على الصفح من جانب المنتصر الذي هو بموضع الاقتدار، بل تعني الانطلاق من الواقع الانتقالي الجديد لإعادة البناء خارج دائرة الثأر والانتقام والكيدية، وبمشاركة الجميع في إطار قواعد للتحوّل الديمقراطي . استذكرت ذلك بمناسبة مرور عقدين من الزمان على تجربة المصالحة الوطنية في إيرلندا الشمالية، خصوصاً ببعض جوانبها المتعلقة بالعدالة الانتقالية، فبعد صراع وحروب وعنف دامت عشرات السنين، بدأ مشروع بناء السلام في إبريل/نيسان ،1993 حيث تم التوقيع لاحقاً بعد مفاوضات مضنية في 15 كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته على "اتفاقية داوننغ ستريت"، التي تعهّدت فيها الحكومة البريطانية بعدم إجراء أي تغيير في وضع إيرلندا الشمالية من دون موافقة الأغلبية فيها، والعمل على بناء مؤسسات تربط الشمال بالجنوب لغرض تعزيز التعاون في مجال التجارة والسياحة . وفي 31 أغسطس/آب 1994 أعلن الجيش الجمهوري الإيرلندي وقف إطلاق النار وأعقبته فصائل أخرى، على الرغم من بعض الاختراقات التي حصلت لاحقاً، حتى كادت عملية السلام أن تتعثر، لكن صعود حزب العمال البريطاني برئاسة توني بلير إلى السلطة، ساعد في اتفاق بريطانيا وجمهورية إيرلندا على تعيين السيناتور جورج ميشيل ليترأس عملية التفاوض حتى وافقت جميع القوى على وقف إطلاق النار تماماً في 18 يوليو/تموز العام 1997 . وسارت المفاوضات خلال العام 1998 في قصر ستورمونت بالقرب من مدينة بلفاست وتم التوصل إلى اتفاق "الجمعة العظيمة" (عشية أعياد الفصح- الإيستر) بين الأحزاب السياسية التي تمثل الكاثوليك والبروتستانت وحكومتي بريطانيا وإيرلندا . ويشكّل النزاع البروتستانتي- الكاثوليكي جوهر المشكلة الإيرلندية حيث يؤلف البروتستانت نحو 54% والكاثوليك ما يقارب 43% من السكان، ويعاني هؤلاء بعض مظاهر التمييز، وعملت بريطانيا منذ استيلائها على إيرلندا إلى زيادة نسبة البروتستانت في الجزيرة الإيرلندية وأصبحت اللغة الإنجليزية منذ قرون هي اللغة الرسمية، واستمر الأمر حتى عند استقلال جمهورية إيرلندا في العام 1921 بموجب الاتفاق مع بريطانيا، في حين بقي نحو ثلثها لاسيّما الشمالي تابعاً لبريطانيا . انعكست مشكلة الثلث على علاقات جمهورية إيرلندا مع المملكة المتحدة، ففي حين ظلّت مساعي الكاثوليك في الجزء المتبقي، تعمل على الانفصال عن بريطانيا لتحقيق حلم الوحدة مع إيرلندا، كانت الأغلبية البروتستانتية تتمسك بخيار البقاء، الأمر الذي أوجد نزاعاً مستديماً، بما فيها ما اتسم بأعمال مسلحة وعنفية، حيث عاشت إيرلندا الشمالية حالة اضطراب سياسي وأمني لعقود من السنين، وتقاتلت الجماعات المسلحة ممثلة للفريقين الكاثوليكي (الميّال لإيرلندا) والبروتستانتي (الراغب في البقاء مع بريطانيا) وخلّف هذا القتال آلاف الضحايا . قام الجيش الجمهوري الإيرلندي بسلسلة من أعمال العنف والتفجير، وامتدت عملياته حتى شملت العاصمة البريطانية لندن . وردّت لندن بأعمال عنف مضاد وارتبط باسمها "الأحد الدامي" حين شنّت القوات البريطانية هجوماً ضد اجتماع جماهيري في مدينة بلفاست راح ضحيته العشرات في 12 آب (أغسطس) العام ،1984 وبدلاً من تقليص العنف كما اعتقدت الإدارة البريطانية لإيرلندا، فإنه ازداد وتيرة، حتى تحقق توقيع الاتفاقية البريطانية- الإيرلندية في العام ،1985 التي لم تقنع الفريقين المتنازعين، لكن خطوات المصالحة اللاحقة ساهمت في الوصول إلى اتفاق "الجمعة العظيمة" في العام 1998 . وإذا كانت مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الأسبق قد أُرغمت على توقيع اتفاقية العام 1985 بعد تشدّد وتعنّت، فإنها حاولت تثبيت أن أي تغيير في وضع إيرلندا ينبغي أن يحظى بتأييد السكان، كما نصت الاتفاقية على عقد مؤتمر لتحقيق السلام والاستقرار والرفاه واحترام حقوق الإنسان ومنع التمييز وحماية التراث الثقافي، إضافة إلى تحديث نظم الانتخابات وغير ذلك . وتعتبر اتفاقية "الجمعة العظيمة" نقطة تحوّل في المسألة الإيرلندية، لاسيّما إشراك جمهورية إيرلندا في المؤتمر الخاص بشؤون إيرلندا الشمالية، على الرغم من تحفظات الكاثوليك الوحدويين على الاتفاقية، وهو ما أثار حفيظة البروتستانت أيضاً . إن أساس المصالحة في إيرلندا هو الاعتراف بالآخر على قدم المساواة، وحقه في القيام بممارسة شعائره الدينية بكل حرّية وإزالة أسباب التوتر الطائفي، لاسيّما بنزع السلاح الذي كان واحداً من العقد الكبيرة، وقد كان التوافق على ذلك وإنهاء الكفاح المسلح وانتخاب الجمعية في إيرلندا الشمالية أساساً في الوصول إلى المصالحة الوطنية . ونستطيع القول إن ما سارت عليه بعض التجارب الدولية، سواء في إيرلندا الشمالية أو في تشيلي أو الأرجنتين أو بعض دول أمريكا اللاتينية أو ما حصل في دول أوروبا الشرقية أو المغرب أو جنوب إفريقيا أو غيرها، هو ما تحتاج له التجارب الجنينية في البلدان العربية التي جرت فيها تغييرات منذ العام ،2011 والأمر لا يتعلق باقتباس أو تقليد أو استنساخ أو نقل حرفي لهذه التجارب بحذافيرها، بقدر الإفادة منها، خصوصاً اعتماد مبدأ التوافق، وهذا ما احتاجت إليه عملية إعداد الدساتير كما حصل في تونس ومصر وما تحتاج إليه اليوم اليمن وليبيا، وضمان حقوق الجميع من دون تمييز، والعمل على مشاركتهم في إطار "الديمقراطية التوافقية" كمرحلة مهمة وخيار حيوي للانتقال الديمقراطي، وقد لعبت منظمات المجتمع المدني في إيرلندا الشمالية دوراً إيجابياً في نشر قيم ثقافة جديدة تقوم على أساس الحوار ونظمت ورش عمل للمصالحة في برامج الشباب والقادة والنساء، فضلاً عن تعميم ثقافة التسامح ونبذ العنف ومعالجة آثار الطائفية . إن نجاح أية تجربة تقتضي مشاركة الجميع من دون إقصاء أو تمييز أو تهميش لاعتبارات سياسية أو دينية أو إثنية أو لأي سبب آخر، أما المرتكبون فالقضاء وحده هو الفيصل في الحكم وعلى أساس الادعاء الفردي .
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفارقات فنزويلا!
-
أوباما – بوتين.. دبلوماسية القوة وقوة الدبلوماسية
-
تونس: صراع ما بعد الاستعصاء
-
الدستور والدستورية في الفقه العربي الحديث- استعادة مستقبلية!
...
-
خليج ما بعد الأزمة
-
ليس للحب من وطن!
-
عندما تفقد روسيا أوكرانيا فإنها تفقد عقلها
-
واشنطن والأمن الإنساني
-
السلفادور وثورة صندوق الإقتراع
-
المفكّر وحيداً .. لكنه جامع!
-
جولات كيري المكوكية وحق تقرير المصير
-
الهوتو والتوتسي ورسائل العدالة !
-
مدينة تتعدّى المكان وتتجاوز الزمان
-
من أوراق الجنادرية
-
بعد 40 عاماً ...حين يتجدد السؤال
-
عبد الحسين شعبان يسلّط الضوء على فصل ساخن من فصول الحركة الش
...
-
مقتدى الصدر والعزلة المجيدة
-
الجنادرية والمواطنة الافتراضية
-
مصر تحتاج إلى مشاركة المهزوم لا الانتقام منه
-
استمرار الصراع في سوريا هو مصارعة على الطريقة الرومانية
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|