|
محاضرة حول- العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي - في الملتقى العربي الثالث للفنون التشكيلية المنظم من طرف مؤسسة محمد البوكيلي ابداع وتواصل في مدينة القنيطرة المغربية
حذام الودغيري
(Hadam Oudghiri)
الحوار المتمدن-العدد: 4417 - 2014 / 4 / 7 - 14:14
المحور:
الادب والفن
العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي مقدمة لا يمكن تعريف لفظة "فن" بطريقة مطلقة ، لا لبس فيها. فقد تنوع تعريفه عبر المراحل التاريخية ومن ثقافة إلى أخرى. ومع ذلك، يمكننا أن نختار من الدلالات المختلفة التي أعطيت لحد الآن لمفهوم "الفن" : "الفن" هو نتاج خلق الإنسان. لكن ليس كل إنتاج بشري فنيّا فطابع الفن يسبغ فقط على العمل الذي يمتاز بجودة عالية.
أما الشعر فقد كان يدرج في مجال المعرفة، وهو غير عقلاني، وقادر على سبى العقول. وإغوائها وكان الشاعر يعتبر نبيا أو كاهنا أو رائيا لأن قصائده موحاة من " ربّات الشعر" Les muses، أو الآلهة، ولهذا كان يعتبر ذا قيمة أعلى من كل ما يخلقه الإنسان في الإغريق القديمة . فلم تكن هناك قواعد للتأليف الشعري على الأقل من حيث المحتوى ولهذا لم يكن الشعر يدخل في مجال مفهوم الفن. وقد أصبح يعتبر فنا في أوروبا بعد أن ترجم Bernardo Segni في 1549 بالعامية (مقابل اللاتينية) la Poetica لأرسطو، وهو العمل الذي عده فيه الفيلسوف فنا من ضمن الفنون الأخرى. أصبحت العلاقة الوثيقة بين الشعر والرسم "رسمية " بعد الجملة الشهيرة التي صاغها هوراس :ut pictura poesis " القصيدة مثل اللوحة" وقد تميزت هذه العلاقة بالتوافق interdépendance (توقف الشيء على الشيء)، وحرّكتها دينامية خصبة. فحسب المؤلف اللاتيني، القصيدة، مثل اللوحة، تقدر أن تعطينا انطباعا باللذة بفضل خبرة و تقنية خاصة. فاللوحة إذن يمكنها أن تقدم نموذجا للتفكير في كتابة القصيدة . إلاّ أن هذه القولة تم تحويل معناها الأول في عصر النهضة من قبل المنظّرين الكلاسيكيين، الذين جعلوا بالعكس الأدب النموذج الأمثل لكل لوحة، حتى يرفعوا من قدر أعمال الرسّام إلى الكرامة التي تمتعت بها دائما فنون اللغة. ففي الإتاج الأدبي كان معظم الرسامين يبحثون عن شرعية لفنهم. وبتشبّههم بالشعراء، حاولوا الوصول إلى مكانة فنّ "liberal ليبرالي " مُحَرّر - أي فنّاً ممارساً من قبل إنسان حرّ، تُتوقّعُ منه رؤية شخصيّة و وتنتظر منه فكرة خاصّة - تُنسي طابع " الحرفة الميكانيكية " (الآلية) التي كان الرسم محصورا فيها إلى ذلك الحين. فتكاثرت اللوحات المستقاة من الأعمال الأدبية، كما اكتشفت الأساطير والميثولوجية القديمة إضافة إلى الخلفية الدينية المعروفة في القرون الوسطى. وهكذا تميزت النهضة ببداية فترة ستمتد طويلا من "اللوحة الأدبية " وحيث أصبحت تُتداول صيغة جديدة لتعريف اللوحة باعتبارها " قصيدة صامتة" والقصيدة " لوحة ناطقة". بينما يقول ليوناردو : "الرسم شعر صامت، والشعر رسم أعمى"
كان موقف Leonardo Da Vinci مفارقا لموقف عصره،(ولعله كان يدافع عن فنه وعبقريته ورموزه وأسرار لوحاته) فهو يقول : "الشاعر ، في وصفه للجمال أو القبح لأي جسم ، فإنه يظهره لك عضوا عضوا وفي أوقات مختلفة ،بينما يريك الرسام الكلّ في نفس الوقت ، والشاعر لا يمكنه أن يجعل بالكلمات الهيئة الحقيقية للأعضاء المكونة للكل مثل الرسام ... ولهذا لا يزال الشاعر في تجسيم الأشياء المادية متخلفا كثيرا عن الرسام " فانسجام الكل ، الذي تلتقطه العين في الصورة ، يُفقد في الوصف الشعري . أما أسبقية قيمة اللوحة على القصيدة فتظهر أكثر وضوحا في الصفحة الأشهر لكتابات ليوناردو على فن الرسم: إذا كنت أيها الشاعر تصوّر معركة دامية [ ... ] في هذه الحالة، الرسام يتفوّق عليك ، لأن قلمك سيستهلك قبل أن تصف تماما ما يمثله لك الرسام فوريا بعلمه. و سيمنع العطش لسانك ، والنوم والجوع جسمك قبل أن تبيّن بكلماتك ما يظهره لك الرسام في لحظة [ ... ] سيكون طويلا و عسيرا جدا على الشعر أن يقول بالكلمات كل حركات المشتغلين في تلك الحرب وأجزاء ًمن أطرافهم ، و لباسهَم وزينتَهم ، بينما اللوحة المنتهية ، بإيجاز كبير و حقيقي تضعها أمامك [ ... ] لأن الرسام سوف يفعل أشياء لا تعد ولا تحصى، لا تستطيع الكلمات أن تسمّيها، لأنه لا يملك ألفاظا مناسبة لها." ويقول ليوناردو أيضا في كتابه Trattato délia pittura :" الرسام يمتلك قدرة الاستحواذ على عقول البشر لدرجة أنه يمكن أن يوقعهم في حب لوحة لا تمثل حتى امرأة حقيقية. هذا ما حدث معي: رسمت لوحة ذات موضوع ديني ، اشتراها أحدهم، شُغِف باللوحة وافتتن بها لدرجة أنه أرادني أن أزيل الرموز الدينية حتى يقبّلها بدون حرج. وفي النهاية غلب ضميره على تطلعاته الشهوانية، لكنه اضطر لتنحية اللوحة من بيته ". إلا أن النصف الأول من القرن العشرين، كما تقول Dò-;-ra Schneller فقد كان العصر الذهبي لإعادة تعريف Ut pictura poesis في فرنسا، ذلك أن الأدب أصبح في غالب الأحيان يأخذ الدروس من الرسامين ويحاول الحصول على الصفات الحسية والموحية الخاصتين بالمرئي، دون الاعتراض على كون الأدب والرسم نوعين من مجالين مختلفين ولكل فن منهما خاصياته وأدواته . وقد أحدثت بعض الحركات الفنية ثورة في الفن والعقلية الفرنسية، وبخاصة : الحوشية le fauvisme، والرسم التكعيبيي و السريالي . وقد سبقت نشأة هذه الحركات الفنية الثورة الأدبية وهذا يفسر أن الأدباء والشعراء غالبا ما اختاروا كنموذجٍ، الابتكارات والتطوّر الذي أحرزه الفن التشكيلي. . الشعر والفن التشكيلي: النقط المشتركة
الشعر ينتمي إلى الشعور، و الحدس أو البديهة وإلى العاطفة. أشكاله متعددة و تتغير باستمرار: تهز بناء الجملة و لا تخضع بالضرورة إلى رموز التواصل. والشعر في جوهره متعدد المعاني polysémique. فليس من مهمته أن يوضح من خلال التكرار ، بل من شأنه أن يحفز مخيّلة القارئ الذي ينظر أوالمتلقي الذي يسمع ويجعلها تمتدّ. وحين يكون التطابق أو التزامن بينهما كاملا لا نعرف إذا كنا نقرأ(أو نسمع) أم ننظر. يقول خوان ميرو : " أنا لا أميز أبدا بين الرسم و الشعر. أحيانا أوضح لوحاتي بعبارات شعرية و أحيانا العكس " . أما بيكاسو فإنه يعتبر نفسه رساما وشاعرا : " بعد كل شيء ، والفنون كلها واحدة . يمكن أن نكتب لوحة بالكلمات كمايمكن أن نرسم المشاعر في قصيدة " وفي كلامنا اليومي ، نتحدث عن "الإنتاج الفني" كما نتحدث عن "الإنتاج الأدبي أو الكتابي " ، لأنه في الحالتين تُشكّلُ مواد وكلمات. وهذه المواد و هذه الكلمات لها تأثير على الخالق ـ المبدع الذي يجب أن يتكيف مع ما ليس متوقّعا ويديره. كما أنه إذا تعددت معاني الكلمات، فإن للصورة أو اللوحة معانٍ متعدّدةٌ أيضا. بعض الشعراء رسموا : Baudelaire ولوحاته لـ Jeanne Duval Apollinaire رسم نفسه على شكل arlequin Victor Hugo ولوحاته الحبرية الشهيرة كما أن عددا من الشعراء والرسامين تفاعلوا فيما بينهم. إلا أن هذا التوضيح illustration لم يكن زائدا ، لكنه جلب شيئا آخر، إنه نوع من لعبة الصدى بين الرسم والشعر. وهكذا سنجد : Stéphane Mallarmé و Edouard Manet Guillaume Apollinaire و André Derain Pierre Reverdy و Henri Matisse Paul Eluard و Man Ray, Georges Bataille و Giacometti Max Jacob و Picasso
سيقول Paul Valéry : " القصيدة هذا التردّد أو الحيرة بين الصوت و المعنى" فالقارئ يجد لذة ومتعة في الكلمات ، وفي ترتيبات معيّنة و يلعب على المعنى ،لأن التأويل يتولد وفق مشاعره الشخصية ، ومن خياله الخاص. فتصبح اللغة مُولّدا للغموض (السر) ، فينمو الخيال، و يصبح العالم مدهشا ، والحياة اليومية رائعة: " وهكذا تصبح "الأرض زرقاء مثل برتقالة " كما يقول:Paul Eluard
والآن لِننظر عن كثب إلى نقط التشابه بين هذين الفرعين الفنّيين، الشعر و الفنون التشكيلية : 1 ـ الأغراض " الإستيطيقية" (الجمالية) أصل لفظة إستيطيقا، الكلمة اليونانية aesthesis التي تعني" الشعور" ، " العاطفة " . وهذا الشعور ليس بالضرورة إحساسا ، بالجمال والتناغم، أو يبعثه الشيء "المصنوع جيدا" أو "المكتوب جيدا" وليس بالضرورة تعبيرا عن المشاعر ( الرومانسية مثلا) للمؤلف. لا، الغرض الإستطيقي هو في الإنتاج نفسه وهو يمسّ (يؤثر) أو لا يمسّ المتلقّي. وهكذا فإن العاطفة التي يثيرها العمل الفني أو الشعري يمكنها أن تتخذ جميع أشكال ، ابتداء من النشوة واللذة ، إلى الرفض، مرورًا بالاشمئزاز ، فكثير من الأحاسيس والمشاعر ممكنة: الخفة و الوجع ، الحرارة و البرودة ، البهجة والحزن ، الفضاء، الحركة و الجمود ، الخلود ، الضوء والظلمة ، اللون و السواد، الدوخان، التساؤل، العنف ، الخ ... ينظر إلى العمل البلاستيكي (التشكيلي) مباشرة من حاسة البصر : ولغته غنية بالمدلولات (مضيئة ، قاتمة ) ، وبالألوان والأشكال والأحجام و المواد. أما لغة الشعر فهي الكتابة التي تتطلب مهارات معيّنة. وقد يبدو لأول وهلة أن اللغة التشكيلية (البصرية ) أسهل مقاربة ولكن كما أنه لا تكفي القراءة لتذوق الشعر وفهمه، فإنه لا يكفي أن نرى ، بالعين ،عملا فنّيا لنفهمه ونتذوقه . البعد الإستطيقي مرتبط وتابع لثقافة و لمخيلة المتلقي :الناظر أو القارئ. وبهذا المعنى ، فإن الإنتاجين الشعري و الفني التشكيلي متشابهان جدا : فهما يثيران العاطفة من خلال قناة المخيّلة. " الفنان (الرسام )يجعل الفعل الشعري مرئيّا . " كما قال Nicolas Poussin .
2 - تجربة للمخيّلة أ ـ تغذية الخيال يقول Jean-Luc Aubert "بصورة شاملة، يمكن اعتبار الخيال مثل خزان ، متجدد باستمرار، متألّف من صور وأحاسيس وتصوّرات، وهو يتكون طوال مراحل الحياة.( ... ) و الخيال له جذوره في الواقع و يمر بالضرورة عبر الحواس ، ( ... ) و هو دائم الاشتغال " . والإدراك الحسّي للأعمال الشعرية أو الفنية التشكيلية ، فضلا عن العواطف التي تثيرها، فإنها تولّد صورا سوف تغذي ، تجدد خيالنا. فهناك وضع منظوري mise en perspective للصور المعروفة ـ في الذاكرة ـ مع الصور الجديدة التي تتجاوز العمل الفنيَ نفسَه : فالقصيدة لن يثير نفس الصور في الجميع، و كذلك اللوحة، فإنها سوف تُدرَك بوجه مختلف حسب مخيلة المشاهد . ولكن كما قال أحد الرسامين بعد أن زار معرضا فنّيا " لا يخرج أحد سالما من مثل هذا السفر. "
ب . تطوير الخيال االإبداع ، سواء كان شعريا أو فنيا تشكيليا ، فإنه يغرف مواده من الواقع إلا أن الخيال يحوّلها. و إذا كانت هناك عدة أشكال للخيال أو المخيلة (هناك من لا يضع فرقا بينهما) سواء كانت صوتية : ملفوظة صوتا أم موسيقية ، أو تشكيلية : تصويرية ، نحتية ... أو لغوية : بلاغية أو شعرية ... إلخ ، فإن الإبداع يتمّ عبر نفس العملية .وتتطلب هذه العملية في الفنون التشكيلية نفس القدر من الخيال ومن التحكم العقلاني، كما تتطلب نفس القدر من التفكير التباعدي ( divergent) و من التفكير التقاربي (convergent) . فهذان الاتجاهان ضروريان ومتكاملان. والفنان لا يمكنه أن يصل إلى إنتاج عمل فني دون أن يعرف و يقبل القيود المادية والتقنية المتعلقة بالمادة التي اختارها. ناهيك عن ضرورة تمكّنه من التقنيات الفنية والتأثيرات البصرية ( الفضاء ، والضوء، التناقضات ، والأشكال ... )التي تشكل في مجموعها معرفة الفنان. نفس الشأن يتعلق بالشعر، فالمعرفة اللغوية على حد تعبير Josette Jolibert " تتشابك مع مخيّلة الشاعر. فالخيال، الذي يخلق ويُستمَد من الواقع، يحتاج إلى هذه الأداة التي هي اللغة ، وهي التي تمثل الرسم بالنسبة للشاعر."
ج . بناء الشخص الإبداع الشعري أو الفني التشكيلي يمرّ من اكتشاف الخيال ، واستكشاف الواقع ، وتحويله وهذا يعني للمبدع اكتشافَ العالم ، وامتلاك َالعالم ، وفي نفس الآن اكتشافَ الذات والآخرين. فهناك متعة بدائية، عند الإنسان تكمن في الحركة ، في ترك أثر، وفي إيقاف الزمن يقول André Malraux: " الفن وسيلةٌ لمكافحة فساد ِالزمن الذي يمرُّ ولمكافحةِ غريزةِ الموت". والإنتاج الشعري تعبير عن الذات أيضا ، وتأكيد للذات، وهو طريقة للانعكاس في صورة موجهة للآخرين . وهكذا فإن الشاعر Georges Jean يرى "وظيفة اجتماعية" للشعر يمكن تطبيقها على الفن بشكل عام، كما يرى أن تربية الخيال التي يشترك فيها الشعر والفنون التشكيلية "ضرورة حيوية "، لأن " تربية الخيال ، هي إثراء وتخصيب القدرة على المعرفة " كمايرى المفكر Gérard Guillot .
3 - الإبداع، أوالتصميم والصنع : " الشعر " في" Poiein " اليونانية يعني " إنشاء وتصنيع " أو يعني الخلق . وبقصيدة لفرانك أوهارا سنرى بطريقة مدهشة التعبير عن هذه العملية: FRANK O HARA (1926-66) عمل منذ عام 1951 في متحف الفن الحديث وكان له دور قيادي في المشهد الفني والأدبي في نيويورك كما كانت له صداقات مع أكبر رموز التيار التعبيري التجريدي . وشارك معاصريه في فكرة أن الفن يتجلى أكثر في عملية الإنتاج منه في المنتج الفني . وكثير من قصائده، عبارة عن تقارير "ميتاـ شعرية" metapoetici مبنية على أنشطته اليومية، لقاءات،وعلاقت عاطفية، وتعليق على اللوحات والأفلام و الأخبار. MICHAEL GOLDBERG, من مواليد نيويورك( 1924ـ2007) ، وكان من دعاة التعبيرية التجريدية في نيويورك في فترة عمل أوهارا بمتحف الفن الحديث في نيويورك.
Frank O Hara Why I Am Not a Painter لماذا لست رسّاما؟ لستُ رسّاما ،أنا شاعر . لماذا؟ ربما فضلت أن أكون رساما ، لكن لست كذلك.
مثلاً، مايك غولدبرغ يبدأ لوحةً ، أزوره "اجلسْ واشرَب شيئا "، قال لي أشرب، نشرب. أنظر إلى الأعلى. "كتبت : سردين هناك" " نعم، كان ينقص شيء " "آه ". أذهب ، و تمر الايام وأرجع ثانية. اللوحة تتقدّم ، وأذهب وتمرّ الأيام . أزوره. اللوحة اكتملت . "أين سردين ؟ " لم تبق منها سوى حروف " كانت مليئة جدا "، يقول مايك .
وأنا؟ أفكرُ يوماً في لون : البرتقال(ي) .أكتب بيتاً عن البرتقالي. فجأة يصبح صفحة من كلمات، لا من أبيات. ثم صفحة أخرى... ينبغي أكثر ليس من البرتقالي ، ولكن من الكلمات، عن فظاعة البرتقاليّ والحياة. تمرّ الأيام . حتى في النثر، أنا شاعر حقيقي. انتهت القصيدة ، ولم أسمِّ بعد البرتقاليّ. اثنتا عشر قصيدة ،أسميتها برتقالات. ويوماً في معرض أرى لوحة مايك بعنوان "SARDINES" .
"لماذا لست رساما" لفرانك أوهارا تبدو لأول وهلة قصيدة حول الفرق بين الرسم و الشعر ، ولكن شيئا فشيئا نكتشف أنها تتعلق أساسا بنقاط الاتصال بين الفنين. فاللوحة تدور حول كلمة واحدة "سردين" ، بينما نقطة البداية في القصيدة صورة . الرسام يمكن أن يصوّر السردين ، في حين أن الشاعر يمكنه فقط أن يبدأ الكلام عن اللون البرتقالي. ولكن القصيدة تلعب على الغموض الملتفّ بين الكلمة والصورة ، وكلمة "سردين " أيضا صورة ، بينما البرتقال(ي) orange هو لون (أو فاكهة ) يعني صورة تتحوّل إلى كلمات. في كلتا الحالتين:الشاعر و الرسام يجمعان بين التمثيل و التجريد. يبدآن من مفهوم "الشيء" ، ولكن فيما يحتاج الرسام لجعل الكلمة المجردة بأحرف بسيطة، يكتب الشاعر طيلة أيام، دون ذكر البرتقال (ي). وعلى كل من الشاعر و الرسام أن يتفاوضا حول الجوانب الشكلية لعملهما الخاص ولموضوعه. عندما سئل الرسام عن لوحته ، أجاب بعبارات تخص الهيكل ( البنية) والترتيب الشكلي : " هناك كان ينقص شيء ما " وبالمثل، يركزّ الشاعر على وسيلة اللغة - الكلمات وليس الأبيات و صفحات من الكلمات و أخيرا النثر - ليوصل معنى " ما أفظع البرتقال(ي) والحياة " وهكذا فكل من الشاعر و الرسام ، يتنقلان بين تمثيل الموضوع ( الشيء) و التنظيم الهيكلي لموادهما. وفي كلتا الحالتين يبدو موضوع الانطلاق مختلفا كثيرا عن محتوى العمل الناتج عنه. فمن الضروري أن العملية الإبداعية لا ينبغي أن تضع أهدافها مسبقا أو بداهة. فرغم أن الشاعر والرسام لديهما نقطة انطلاق ، لا يوجد شيء مقدّر سلفا (محتوم)، لأن العملية الإبداعية عملية ارتجال ، وتغير مستمر ، ولهذا فإن العمل أو المُنتج يكمن في هذه العملية. فبينما مايك غولدبرغ يضطر لإزالة أشياء من اللوحة لأنه رآها " مليئة جدا " ، فإن أوهارا يستطيع فقط كتابة الشعر دون أن يتحدث مباشرة عن البرتقال(ي) . وفضلا عن ذلك ، فإن تطور القصيدة واللوحة مترابطان : التفاعل الفني والاجتماعي بين الشاعر والرسام يشجع على التبادل السيميائي بينهما. وتؤكد هذه القصيدة على طبيعة التعاون والتناص الكبرى في العملية الإبداعية . وللمفارقة، بناء قصيدة أو لوحة فنية يمكن أن يعني أيضا كسر أو تخريب مكوناتها الفردية. ففي اللوحة تتحول الكلمة إلى أحرف منفردة ، في حين تتحول القصيدة إلى نثر. كما توضح القصيدة نفسُها الترابط بين النموذج التصويري والنموذج التجريدي. فالعناصر الملموسة " الرمزية " في القصيدة ( السؤال الأول ، ووضع المحادثة الواقعية بين الشاعر والرسام ) لا تجد ما يكفي من الملموس في المعنى النهائي للنص الشعري. فالقارئ ، عمليّا، لا يعثر على إجابة واضحة، لكون أوهارا، لا يصبح رساما رغم رغبته تلك . ومع ذلك ، فقد تم إشراك القارئ أو المتلقي ، في عملية بناء القصيدة وتنظيمها الهيكلي ، في حركة جدلية بين الفرق و التشابه وبإحساس جسدي تقريبا بعدم القدرة على جعل القصيدة في وضع محدّد (وهذا ينطبق أيضا على اللوحة) .
نماذج شعرية Yang Lian (من كتاب "حيث يتوقف البحر" ترجمة حذام الودغيري عن دار التكوين ـ دمشق)
موسوعةُ الأمواجِ بأجزائها الألفِ تدُقُّ كُلُّها داخلَ الجملة تمسحُ الصّخورُ الجوقةَ لا شِعرَ إنْ لم يكن قاسِيّاً
يُمْكنُ للحوارِ مع الشّاعرِ أن ينتهي الصّقيعُ يتدفّقُ كُتَلاً من بشرةٍ ناصِعة البياض أَشْواكٌ تُطيلُ استفهاماتِ الشّتاء.
الجثةُ عُشٌّ لا تفقيسَ فيه يُفرِغُها دوْماً شَطْرٌ أخير. اِنعكاسُ البحرِ فوقَ جدارِ الصّباح
يَجعلُ كَلماتٍ وكَلِماتٍ تَدْفنُ رَجُلاً جِهاراً. لم يَبقَ شيءٌ سِوى غُيومِ القصيدةِ السّوداء هُناك مَنْ تَقْضِمُهُ حروفُهُ نَفسُها.
كمِثْل عَليلٍ يَرْشحُ من طولِ تأملِّه في المَرَض سيرةُ الموتِ تُعانقُ الميتَ في السّماء. لا جَمالَ إِنْ لم يَكُن قاسِيّاً
ولا شاعِرَ لم تُقطَعْ أصابِعُهُ بالمِنْشار حريقٌ هادئٌ بينَ صفحاتٍ بيضاءَ يَصنعُ غُروباً يقولُ خوفاً لا يُقال.
Giuseppe Conte من كتاب "فرح بلا اسم " ( ترجمة حذام الودغيري عن دار التكوين ـ دمشق)
يا لَلظّلام المسكوب! سأحتفلُ وأقولُ: " أنا شاعرٌ، أنا مُخَرّب، أنا مُنْقذ،
أنا شاعرٌ، أُصَلّي وَ أَرْقُص"، هُوَ ذا سِرّ ُالغناء، أيّها العالمُ، أيّها الّليل!
أنا هنا لأحتفيَ بكم، لأغنّيَ الشرَّ والخيَر ـ خيرٌ كلُّ
ما يوجدُ في النّور ويَحْيا ويمنحُ الحياة،َ ولا يمنع الآخرين من الحياة ـ
لأغنّيَ الشّبابَ والشيخوخةَ، العفّةَ والشّبَق، الدمَ والروح
البحرَ والنهر وقُبّة السّماء وفسحةَ الأرض كلَّ شيء، وهذا المكانَ، شارِع ماسّينا وَالكونَ، والمخرّبَ والمنقذ، والرّقص والصّلاة،
والوقتَ الذي يهدّدنا، أي هوميروس، أي ويتمان.
ومن شعر أدونيس :
و أنت، أيّها الموتُ ـ الضّوء الذي نقرأ به الحياةَ، علّمنا كيف نحتفي بالجسد، وكيف نقيم طقوسه ـ عُريا، وتلك هي حال البحر، حال التّكوين و المُكَوِّنِ، حال الحبّ وحال الولادة لَنْغا / يوني و الحجرُ الكريمُ عريُُ ُ و البذرة عارية و الضّوء عارِ ِ و الشّمس لا تلبس إلاّ شعاعها واللّه لا يكتسي إلاّ بالنّور و الآلهة خُلقوا عُراةَ َ ـ تقول حكمة الهند لَنْغا / يوني.
...................
قالوا: مشت، فالحقلُ ، من ولَهٍ متلبِّكٌ ، والقمح يكتنزُ بُعث التناغم عِبْرَ خُطوتها والهيدَبى والوّخْدُ والرجَزُ تومي فيلتفت الصباح لها من لهفةٍ ، ويتُغْتغُ العنَزُ ما الوشْمُ ؟ ما الخرَزُ ؟ ما الأقدمون السُّمْر ؟ لم يلجوا لُغزاً ، ولا اكتنهوا ولا رمزوا ، لفتاتها تَخزُ وجفونها وَتَرٌ وأغنيةٌ صيفيّةٌ ، وقميصُها كرَزُ.
#حذام_الودغيري (هاشتاغ)
Hadam_Oudghiri#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من محاضرة الدكتور يوسف زيدان - تراثنا الروحي- بمركز دربة للت
...
-
قراءة في -اللاهوت العربي وأصول العنف الديني - للدكتور يوسف ز
...
-
قصيدة للأب فينتشينزو ريتشو (مترجمة عن الإيطالية)
-
قصيدة للأم إيدموندو دي أميتشيس ( مترجمة عن الإيطالية)
-
قراءة في اللاهوت العربي وأصول العنف الديني للدكتور يوسف زي
...
-
برتولد برخت حياة جاليليو (الفصل 1، المشهد 1) عن الإيطالية (
...
-
ألدا ميريني قصيدتا -ليدا - و - فانّي- (مترجمتان عن الإيطالية
...
-
لوتشو دالاّ كاروزو (الأغنية الشهيرة) عن الإيطالية
-
إدموند روستان، - سيرانو دو برجراك- (الفصل 2، المشهد 8) ( متر
...
-
قصيدتان ل ألدا ميريني ( مترجمتان عن الإيطالية)
-
قصيدة -شاعرة- ل إيلدا ميريني (مترجمة عن الإيطالية)
-
قصيدة -حبّ- بابلو نيرودا (مترجمة عن الإيطالية)
-
قصيدة -الحب- لويس أراغون (مترجمة عن الفرنسية)
-
لماذا تنبغي قراءة -اللاهوت العربي وأصول العنف الديني- للدكتو
...
-
حول التحقيق مع الدكتور يوسف زيدان أمام نيابة أمن الدولة العل
...
-
حبٌّ لا يسكن نفساً حرّة، لا يُعَوّل عليه... قراءة في - ظل ال
...
-
نظريات الحب من خلال - مأدبة - أفلاطون
-
قصيدة -جُمَلٌ سَلْبِيّة لِبذْرَةِ عُبّادِ شمس- للشاعر الصيني
...
-
لمحة عن تطوّرات الشعر الإيطالي الحديث
-
الصرخة ( II ) ألان جينسبيرغ ( ترجمة عن الإنجليزية)
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|