|
المجتمع السياسي بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 4416 - 2014 / 4 / 6 - 16:39
المحور:
المجتمع المدني
يحضر مفهوم ( المجتمع المدني ) واحداً من المفاهيم الأساسية التي لابد من استعماله في السعي لتكوين رؤية تحليلية ـ تقويمية، علمية وموضوعية، عميقة لواقعنا السياسي الراهن الملتبس والمتأزم، لاسيما في مقاربة إشكاليات الهوية والتنوع والتعددية، وتوطيد أركان الدولة المدنية الديمقراطية وإنشاء سرديتها، مع ما يتواقت معها من صراعات تتخذ، في الوجه الكالح منها، منحىً عنفياً ينذر بالكوارث والخراب.. وهذا المفهوم الذي ولد تاريخياً برؤى فلاسفة الإغريق القدماء ( أرسطو مثالاً ) في عصر ازدهار الديمقراطية اليونانية، أُعيد إحياءه في سياق اجتماعي ـ اقتصادي ثوري في أوروبا عصر الأنوار، ومن ثم الثورة الصناعية، ليكتسب معاني ودلالات شتى بحسب مقتضيات كل ظرف ( زمكاني ) طُرح فيه، وعلى وفق المنظورات الإيديولوجية المتباينة للمفكرين الذين تناولوه. يستعرض الكاتب عبد القادر الزغل ( راجع كتاب "غرامشي وقضايا المجتمع المدني: ندوة القاهرة 1990" ) تحوّلات تلك المعاني والدلالات في الفكر الغربي الحديث، مركِّزاً في البدء على أفكار الفيلسوف الاسكتلندي آدم فرجسون في كتابه ( مقال في تاريخ المجتمع المدني/ 1767 ) حيث تتلخّص أطروحته المركزية "في الاعتقاد بوجود مسار حضاري طبيعي يتجلى في حركية الانتقال من الأشكال الخشنة للحياة الوحشية البرية نحو مجتمع متحضر، هذه التحضّرية ملحوظة أيضاً في انتشار المبادلات التجارية وفي تطبيق مبدأ تقسيم العمل في الحرفية والصناعات اليدوية كذلك فالتخصص العسكري هو مظهر آخر لهذه العملية التحضّرية". ولكي لا ينحرف مسار التحضّر نحو الاستبداد والطغيان يلقي فرجسون بسؤاله المهم: "كيف نحمي المجتمع المدني نفسه من خطر عسكرة نظامه السياسي؟". أما توماس بين المنتمي لثقافة أنجلو/ أمريكية فقد تحدّث في كتابه ( حقوق الإنسان/ 1791 ) عن تقليص هيمنة الدولة لصالح المجتمع المدني، ودافع عن "مبدأ حكومة محدّدة الوظائف ومجتمع مدني حر وسامٍ، حكومة غير مكلفة وتحترم الحقوق الطبيعية للإنسان". لم يعتقد هيجل ( 1770 ـ 1831 ) بوجود حقوق طبيعية للإنسان، فيما المجتمع المدني عنده هو "لحظة في التطور التاريخي متميزة بالتنافس في المصالح الفردية طبقاً لطبيعة الاقتصاد البرجوازي" وقد طالب "بدولة قوية مستقلة ومتموقعة فوق المجتمع المدني". واقترب كارل ماركس ( 1818 ـ 1883 ) من موقف هيجل في عدّ المجتمع المدني "فضاء مواجهات بين المصالح الاقتصادية طبقاً للأخلاقية البرجوازية". وهو عند ماركس فضاء الصراع الطبقي حيث الموضوع المحسوس والحقيقي برأيه هو "الإنسان الحقيقي، إنسان المجتمع المدني". لكن موضوعة المجتمع المدني لم تأخذ زخماً نظرياً عالياً وتصبح أداة مفهومية فعّالة في التحليل السياسي إلا مع المفكر الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي ( 1891 ـ 1937 ) وذلك في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.. وقد عالج في كتابه الشهير ( كراسات السجن ) وتحديداً في القسم الثاني منه هذا المفهوم من زوايا مختلفة ليتكلم، مرةً، عن توازن بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني حيث الدولة هي حاصل الجمع بينهما، وليقول في مرة أخرى بأن المجتمع المدني والدولة هما في الحقيقة شيء واحد. ومستلهماً هيجل في تعريفه للمجتمع المدني بوصفه "الهيمنة السياسية والثقافية لجماعة اجتماعية على المجتمع كله، باعتبارها المضمون الأخلاقي للدولة". وإذ توضع الدولة/ المجتمع السياسي ( هيغلياً ) في مقابل المجتمع المدني بعدِّهما لحظة في البنية الفوقية فإن الدولة تصبح "أداة تكييف المجتمع المدني ليلائم البنية الاقتصادية". وفي تحليله لمبدأ الفصل بين السلطات، وجد أن ما أثاره هذا الموضوع "من مناقشات، وما تمخض عنه من مذاهب قانونية، هو نتاج للصراع بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي في فترة تاريخية محددة". والمجتمعان يستدعي أحدهما حضور الآخر بالضرورة.. فإذا كان الأول هو مجال الهيمنة الإيديولوجية فإن الثاني هو مجال السيطرة بالقوة والتلويح بالعقوبة. ولأن المجتمع المدني يمتلك في الغرب بنية صلبة في مواجهة المجتمع السياسي بات، كما يجتهد غرامشي، لزاماً على الطبقة العاملة الغربية بتعبير عبد القادر الزغل "الانسجام مع استراتيجية الهيمنة على المجتمع المدني قبل أن تنخرط في صراع للسيطرة على المجتمع السياسي ومن هنا يأتي الدور الاستراتيجي لفئة المثقفين باعتبارهم منظمين مؤهلين للهيمنة". ارتبط مفهوم المجتمع المدني في الغرب بانهيار النظام الإقطاعي ونشوء نظام رأسمالي ليبرالي تقوده طبقة برجوازية صاعدة. وقد لاحظ غرامشي أن الطبقات التي هيمنت في المرحلة السابقة للرأسمالية كانت محافظة، مسجونة برؤية طائفة مغلقة، "ولم تتجه إلى تنظيم الانتقال العضوي organic transition للطبقات الأخرى إلى مواقعها، أي أنها لم تكن معنية بتوسيع مجالها الطبقي تكتيكياً وإيديولوجياً". ومع البرجوازية عرف المجتمع الغربي ما نسميه بالحراك الاجتماعي بعدما قدّمت هذه الطبقة نفسها "باعتبارها الكائن الدائب الحركة، القادر على استيعاب المجتمع كله والارتقاء به إلى مستواها الثقافي والاقتصادي". لتتغير بالتساوق مع نشاطها ودورها وظيفة الدولة، لتصبح الدولة المربية. فصرنا ننظر إليها لا بوصفها "جهازاً للحكم فحسب، بل باعتبارها أيضاً جهاز الهيمنة الخاص، أو المجتمع المدني". كان غرامشي يتحدث عن ظروف بلاده ( إيطاليا ) السياسية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي مع صعود الفاشية، وظهور حركة يسار قوية، واقتصاد صناعي يعد متقدماً نسبياً بمعايير عصره، وطبقة عاملة آخذة بالتوسع. وذلك سياق تاريخي يختلف عن سياقنا الراهن. وإذن يمكننا استعارة مفاهيم غرامشي من غير الركون الكامل إلى استنتاجاته وتقويمه، وتكييف ( تبيئة ) مفهومي المجتمع المدني والمجتمع السياسي، والمفاهيم الحافة بهما، مع الوضع العراقي الآن.. وهنا لابد من إعطائهما دلالات مضافة بوصفهما من ضمن الأدوات المفاهيمية المساعدة في عمليات التحليل والاستنتاج. ففي سبيل المثال لا يمكن أن نماهي بين المجتمعين ( المدني والسياسي ) عراقياً، كما عند غرامشي، ولا أن نصف الدولة العراقية بكونها حاصل جمع ذينك المجتمعين على الرغم من عمليات التنافذ والتداخل التي تحصل بينهما في إطار ظروف تاريخية، سياسية معينة. ولأسباب منهجية إجرائية في عمليات التحليل والتقويم سنعتمد تقسيماً ثلاثياً بدل التقسيم الثنائي ( المجتمع المدني والمجتمع السياسي ) وذلك بإضافة مفهوم ( المجتمع الأهلي ). وهذا ما يتوافق، باعتقادنا، مع آنية الحالة العراقية، حيث يجري الصراع بين أشكال المؤسسات ما قبل الدولتية؛ ( قرابية ومناطقية معزولة أو شبه معزولة، وطائفية )/ المجتمع الأهلي، وبين أشكال المؤسسات المستقلة الحديثة المتجاوزة للعلاقات ما قبل الدولتية تلك، نحو علاقات مستندة في العمق على مبدأ التخصص والتقسيم الاجتماعي للعمل، ومؤمَّنة بقيم التحضّر والمواطنة والحريات المدنية وحقوق الإنسان/ المجتمع المدني. وصراعهما معاً، ولكن بموجِّهات ومقاصد متباينة، مع المجتمع السياسي. يتجسد المجتمع الأهلي في منظومات قرابية أو متوارثة ( العشيرة، المنطقة الجغرافية الواحدة، الجماعة الطائفية ) تخضع لتراتبية عمودية قائمة على مبدأي العصبية والطاعة، وتميل إلى العزلة أكثر من ميلها إلى الانفتاح. أما المجتمع المدني فهو نتاج تقدّم ثقافي وتقني وحضاري، وتحوّلات في أنساق العلاقات الاجتماعية ـ الاقتصادية، يتخذ تقسيماً أفقياً، وينبثق في أطر مؤسسية، مرسِّخاً قيماً وأعرافَ وقواعد عمل وأنماطَ سلوك تجعلها منفتحة على محيطها، متفاعلة مع معطيات عصرها، فيما رائدها مبادئ الديمقراطية والإرادة الحرّة والتسامح والحوار. يعد المجتمع الأهلي المنهل الأول للمجتمعين المدني والسياسي، ويحمل قيماً وتقاليد أصيلة هي جزء من المادة الروحية للمجتمع بكليته، لذا فالكلام عن انحلال المجتمع الأهلي واضمحلاله كلياً لا يعدو كونه جانباً من سجال بيزنطي لا معنى له ولا يصمد أمام امتحان الواقع والتاريخ. فالعلاقات الاجتماعية المستندة على أسس القرابة والدم والمكوِّن العائلي والمعتقدات الدينية وما تفرضه ظروف التعايش في الحيّز المكاني المشترك من قيم وأعراف وتقاليد ستبقى قائمة وفعالة. بيد أن ما يعنينا، في هذا المقام، حقيقتان، الأولى؛ حتمية خروج المجتمع الأهلي تحت ضغط التطورات الحاصلة من حالة عزلته وعصبيته نحو أفق التمدن، وتحوّله من نسيج يستند إلى تراتبية عمودية ( بطريركية ) إلى آخر محدد طبقياً نتيجة التقسيم الاجتماعي للعمل في ظل اقتصاد قائم على الإنتاج البضاعي والخدمات، مع ازدهار تقني ومعلوماتي، وبنية سياسية عمادها القانون والإدارة المؤسساتية والآليات الديمقراطية.. والثانية؛ الحد من هيمنته ( أي المجتمع الأهلي ) على المجتمع السياسي، والحيلولة دون انتقال قيمه المحافظة ونمط علاقاته القرابية، العصبية إلى ذلك المجتمع.. وإذن، هذا هو المكان الذي ينبثق فيه المجتمع المدني وينتعش.. يتجلى المجتمع المدني عبر أطروحة فكرية ( إيديولوجية ) جوهرها مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان والحريات المدنية وحق الفرد في الاهتمام والمشاركة في الشأن العام، والفصل بين السلطات ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ). ويتأسس بوساطة قيم وتقاليد جديدة تسود، وسلوك اجتماعي أخلاقي متحضر، وثقافة علمانية تقيم فكرة الحكم لا على الحق الإلهي بل على أسس العقد الاجتماعي والانتخاب والتمثيل وتداول السلطة.. وهذه كلها تتمأسس متجسدة في شريحة اجتماعية مدينية متنورة. وما يضمن تقوية المجتمع المدني وتكريس هيمنته هو الخروج من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي ونشر التعليم العلمي الراقي، وتكوين طبقة وسطى مؤثرة وفعالة. إن الموقع يقرر الدور والوظيفة. وموقع المجتمع المدني هو أن يظل بين المجتمعين: الأهلي والسياسي، فيما دوره ووظيفته يكمنان بالحد من التأثير الكابح للأول، وتعزيز الروح المدنية للثاني.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هوية الدولة والسردية التأسيسية
-
وهم الهوية الواحدة: الفردانية، العزلة، والعنف
-
الهوية والنزوع إلى العنف
-
تعددية ثقافية متفاعلة أم تعددية ثقافات منغلقة على نفسها؟ الق
...
-
قراءة في كتاب: إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين.. أن
...
-
تعددية ثقافية متفاعلة أم تعددية ثقافات منغلقة على نفسها؟ الق
...
-
الهوية وإشكالية التمثيل: صورة الذات.. صورة الآخر
-
معضلة الهوية ورهانات الثقافة العراقية: مدخل
-
قراءة في رواية ( الأمريكان في بيتي )
-
قراءة في مجموعة شريط صامت للشاعر عبد الزهرة زكي
-
لا بد من أن تكون للنخب الثقافية مشاركة فعالة في بناء الدولة
...
-
أناييس والآخرون
-
يوميات أناييس نن
-
المثقف والحيّز العمومي
-
المثقف الذي يدسّ أنفه...
-
أنسنية إدوارد سعيد
-
-لقاء- كونديرا
-
المثقف والسلطة، وحقل المعنى
-
حين يقيم الشعر نصباً للحرية؛ قراءة في مجموعة -بروفايل للريح.
...
-
رحلتي في عوالم جبرا إبراهيم جبرا
المزيد.....
-
كاميرا العالم ترصد خلوّ مخازن وكالة الأونروا من الإمدادات!
-
اعتقال عضو مشتبه به في حزب الله في ألمانيا
-
السودان.. قوات الدعم السريع تقصف مخيما يأوي نازحين وتتفشى في
...
-
ألمانيا: اعتقال لبناني للاشتباه في انتمائه إلى حزب الله
-
السوداني لأردوغان: العراق لن يقف متفرجا على التداعيات الخطير
...
-
غوتيريش: سوء التغذية تفشى والمجاعة وشيكة وفي الاثناء إنهار ا
...
-
شبكة حقوقية: 196 حالة احتجاز تعسفي بسوريا في شهر
-
هيئة الأسرى: أوضاع مزرية للأسرى الفلسطينيين في معتقل ريمون و
...
-
ممثل حقوق الإنسان الأممي يتهرب من التعليق على الطبيعة الإرها
...
-
العراق.. ناشطون من الناصرية بين الترغيب بالمكاسب والترهيب با
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|