صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1254 - 2005 / 7 / 10 - 11:37
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
يمكن عادة اتباع الاوامر, وكسب رضا من اصدرها, بطريقتين: اتباع كلمات الاوامر, او اتباع معناها والقصد منها. قد تنطبق الطريقتان احيانا, وتختلفان احيانا اخرى, بل تتناقضان في حالات معينة. فان انطبقتا, سهل علينا الاختيار, اما اذا افترقتا, فهنا يحار الناس ويختلفوا عن بعضهم. اختيارنا لأي من الطريقتين عند الافتراق, يعتمد على اعتبارات عديدة احدها هو: ايهما اسهل بالنسبة لنا.
يختلف اختيارنا ايضا حسب موقفنا من مصدر الأوامر. فاذا كنا نتبعه ونطيعه حبا واحتراما لتفوق روحه وافكاره, أي نتبعه لأسباب مبدئية وعن قناعة, فاننا سنميل الى ان نتبع روح اوامره. اننا نشعر في هذه ان ما نصبوا اليه في الحقيقة ليس تنفيذ الاوامر نفسها, بل الهدف الذي توجهنا اليه تلك الاوامر. اننا نشعر في تلك الحالة اننا نشترك في مسؤولية ايصال عالمنا الى تلك الاهداف السامية.
اما اذا كان موقفنا من مصدر الاوامر الخوف من غضبه او الطمع في نعمته, فاننا نميل الى تنفيذ كلماته نفسها. نحن في هذه الحالة لا نركز على الاهداف التي تعد بها الاوامر, بل نحرص على الدقة في تنفيذها باقصى ما تكون الدقة. اننا لا نشعر بمسؤولية مشتركة للوصول الى هدف ما, بل مسؤولية ان نثبت اننا طائعين مخلصين.
ان اللحظة التي نستعد لها في الحالة الاولى هي لحظة الحساب, فيما اذا كنا قد فعلنا ما نستطيع لايصال عالمنا الى ذلك الحلم السامي. اما اللحظة التي نستعد لها في الحالة الثانية فهي لحظة الحساب ان كنا مشينا كما قيل لنا ان نمشي.
نركز في الحالة الاولى على ان يبقى الهدف نصب اعيننا, ونركز في الحالة الثانية على ان تتبع اقدامنا الطريق المحدد لنا.
نحس في الحالة الأولى بالحرية في المناورة والحركة حول العوائق والتفاصيل, ولا نجرؤ في الثانية ان نحيد عن الخط, فنفضل السير في العثرات الطارئة على المخاطرة بأي خروج عن الامر.
في الحالة الاولى نثق بتفهم من نتبع تعليماته لأختياراتنا حتى ان اخطأنا, ولا نثق به في الثانية, بل نخافه ولانريد ان نعطيه فرصة لإيذائنا.
امامَ حكومة الجعفري, وهي حكومة مؤمنة, نفس الخيارات في الوصول الى الجنة. فهي تعلم جيدا انها لا تستطيع ان تصل الى جميع اهدافها, وان عليها ان تختار البعض منها وتركز طاقتها عليه وتهمل الباقي.
فلها ان تختار طريق تنفيذ روح الدين وافكاره فتركز على مسائل أساسية كاقامة العدل ومجابهة الفساد المالي والسياسي والابتزاز والنهب,خاصة الذي يقوم به الكبار, والوقوف موقف مبدئي حازم امام كل من يهدف الى سلب الشعب ماله وكرامته وسعادته, واتباع الطرق الشفافة غير الملتوية في القرارات السياسية وكلها حسنات لايختلف احد عليها.لكن المشكلة ان لا احد يختلف على صعوبتها وخطورتها ايضا.
ولها ايضا ان تختار طريقا اخر. فتركز على ملابس الجينز وطول الشعر, وعلى الحلاقات وعلى الطلاب والطالبات في سفراتهم المدرسية وفي ملابسهم, وعلى المغنين والملحنين وشاربي الخمر. لابأس ان تتخلل تلك الاعمال بعض الحسنات على الفقراء والمحتاجين, ولابأس من قطع ايدي بعض اللصوص الصغار, ولابأس باعادة اعمار الاماكن المقدسة, واطالة فترة قراءة القرأن في التلفزيون والمدارس, زيادة في الحيطة. كلها سهلة لا تكلف صاحبها شيئا, ولا تجابه قويا, لكنها تؤدي الى الجنة.
وفي اثناء ذلك يهرب من البلاد من لايرضى بهذه المضايقات, ويحقد على الحكومة من لايستطيع الهرب, ويكره الناس الاسلام والمسلمون, ويتمنى اخرين عودة صدام او شبيه له. وفي اثناء ذلك ايضا, يكمل اللصوص نهبهم لما بقي في البلاد وتحكم شركات المحتل سيطرتها على ثرواتها وتنتشر عصابات الاطفال المشردين كقطعان الذئاب كما حدث في البرازيل مثلا, ولم تكن البرازيل بلدا فقيرا ولا متخلفا قبل ان تزورها نعمة السوق الحر.
الى قبل فترة وجيزة كنت امل كثيرا, رغم تحفظاتي, ان يتبع الجعفري وحكومته ذلك الطريق الصعب, وان يكون طريقه الى جنة السماء بأن يبذل جهده بتقريب البلاد من جنة الارض. لكن تصريحاته الأخيرة المغازلة للامريكان عن اختلاط دمائنا ودمائهم, والتي لاتشبه بشيء مشاعر العراقيين الذين يفترض ان يمثلهم, ولاتطمئننا.
واكثر اقلاقا من ذلك الغزل, الدعوة التي وجهتها الحكومة الى قوات الاحتلال لتمديد بقاءها, على العكس ايضا من رغبة كل اطراف الشعب العراقي, بما فيها تلك التي تمثلها الحكومة, وفوق ذلك تم الامر دون علم البرلمان العراقي, مما يذكر بالاساليب التعبانة التي حاولت نفس المجموعة ان تسجل بها "حسنة" تساعدها على محو ذنوبها عند الله, بغض النظر عن نتائجها على الاخرين, عندما اصدرت القرار 137 في غفلة عن بقية اعضاء مجلس الحكم.
ثم هناك التصريح الغريب الذي سمحت به الحكومة, عفواً, "رحبت" به الحكومة بمفاوضة الامريكان سرا مع المسلحين العراقيين (مهما كانت الصفة التي يعجبك ان تطلقها عليهم). وهو امر غريب عن اية حكومة تحترم سيادتها على ارضها. كيف تسمح الحكومة ان يكون رضا المسلحين يمر من خلال الامريكان, يضعوه وقت ما يشاؤون ويرفعوه وقت ما يشاؤون؟ كيف "ترحب" حكومة في العالم بوضع نفسها موضع الابتزاز من قبل دولة اجنبية و"ترحب" بسلطة تلك القوة على مسلحين من ابناء البلد؟ هل وصلت الثقة بالامريكان الى هذه الدرجة العمياء؟ لو ان الامريكان حاولوا التوسط بين اسرائيل والمقاومة الفلسطينية لجن جنون اسرائيل, فهل علاقة الجعفري بامريكا وثقته بها تزيد عن علاقة اسرائيل وثقتها بأميركا؟
اما الحماس الجديد للخصخصة واطاعة اوامر البنك الدولي فهو الكارثة القادمة الكبرى. لقد بدأ الحديث عن احتمال بيع النفط, وتم بالفعل التعاقد على مصنع للسيارات الامريكية (الله يعلم باية شروط). لاتصدقوا احاديثا عن ضرائب ستدفعها الشركات "للبلاد" لانها لن تكون للبلاد على اية حال, كما لم تكن في اي من البلدان في يوم من الايام. لم تقدم الشركات, وخاصة الكبرى والاجنبية منها اكثر من غيرها, الى اي شعب سوى التدخل السياسي والكوارث, وتجارب تأريخ العراق لم تختلف عن ذلك.
يقول البروفسور نعوم جومسكي انه يعرف امثلة عديدة على بلدان حطمتها حرية السوق, ولايعرف مثالا واحدا لبلد نجح في بناء اقتصاده على اساسها, بضمنها البلدان الرأسمالية الكبرى, التي بنت نفسها طويلا قبل ان تقترح حرية السوق, وبقيت لا تنفذها على نفسها, والدليل على ذلك الصراع المستمر بينها على الدعم للقطاع الزراعي والطيران وغيرها.
اما في العراق فيكثر الحديث هذه الايام عن ازالة الدعم عن الوقود مما يعني ان نفذ ان يصل سعر اللتر الواحد من البنزين ما بين دولار و دولارين. وبالطبع سيأتي الحديث عن رفع كل انواع الدعم عن كل شيء ولكم ان تتخيلوا ما سيحدث. ما سيحدث هو ان العراق بناسه سوف يحترق بجحيم الأرض وستتبعها بلا شك جحيم السماء.
ولكن ماذا يهم؟ مادام البعض سيذهب بذلك الى الجنة؟
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟