أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - رشيد عوبدة - الإنتحار و الإندماج الاجتماعي: مدخل دراسة الظاهرة لابد ان يكون سوسيولوجيا















المزيد.....

الإنتحار و الإندماج الاجتماعي: مدخل دراسة الظاهرة لابد ان يكون سوسيولوجيا


رشيد عوبدة

الحوار المتمدن-العدد: 4409 - 2014 / 3 / 30 - 23:22
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


كم هو حزين جدا أن تفقد إنسانا ـــ (مهما كان) ـــ قرر يوما أن يرحل انتحارا من دون أن ينتظر الموعد الطبيعي للرحيل ...
شهد المغرب في الآونة الأخيرة ارتفاع وتيرة الانتحار بشكل رهيب و مرعب، اذ لا يكاد يمر اسبوع من دون ان نسمع خبرا هنا و هناك عن رجل شنق نفسه و امرأة رمت بنفسها في غفلة من الناس في البحر و ثالث تناول سما و رابعة تناولت سمّاً قطَّع أمعاءها و...و...
ولعل تأمل الإنتشار المهول لظاهرة الانتحار، هو ما دفع بي الى تذكر كتاب كنت قد قرأته أيام الكلية لعالم الاجتماع "اميل دوركايم" E.Durkheim، و كان قد اختار له عنوان "الانتحار"، و أتذكر أني توقفت لحظة القراءة عند فكرة أساسية مؤداها أنه " كُلَّما قَلَّت وتيرة الاندماج الاجتماعي كلما ارتفعت وتيرة الانتحار، و كلما ارتفعت وتيرة الاندماج الاجتماعي كلما قَلَّت وتيرة الانتحار" ...
يحلو للبعض أن يربط ما بين انتشار ظاهرة الانتحار و ما يعيشه الأفراد من فراغ روحي و حب مرضي لما هو مادي، و لئن كان لِلْمُبَررِ قسط من الموضوعية بحكم تَرسُّخ ثقافة الاستهلاك فينا بشكل بنيوي(علما ان الاستهلاك بات سمة بارزة لدى كل المجتمعات على وجه التقريب) إلا أنه من غير المقبول اختزال مسببات الظاهرة في ما هو "مادي" كنقيض لما هو "روحي"، لأن ذلك يعتبر نتيجة طبيعية للتحول الذي تعرفه المجتمعات ، و التي انتقلت من حالة التجانس الى حالة اللاتجانس كما ذهب الى ذلك "هربرت سبنسر" Herbert Spencer، ومن حالة "الاجتماع الآلي" الى حالة "الاجتماع العضوي" كما نَظَّر لذلك "اميل دوركايم" ...
ان المجتمع بما هو مجموعة من الأفراد يعيشون في رقعة جغرافية محددة، يتميزون بملامح ثقافية متجانسة، يمتحون من هوية غنية ويشتركون نفس المصير التاريخي...هو أيضا مجال للصراع "ماديا" كان أو "رمزيا"، و هو (أي المجتمع) كيان مفعم بالحياة، متغير باستمرار وإن كان تغيره تدريجي فقد يكون تغيرا فجائيا كذلك، وهذا التغير يسايره أيضا تغير في "الأمزجة البنيوية" لأفراده، الأمر الذي يتسبب في ظهور عدة تحولات جذرية على مستوى ذات الفرد تواكبها تحولات نفسية عميقة، مما ينتج عنه اختلال في التوازن الاجتماعي، علما أن "ظاهرة الانتحار" لم تقتصر على فئة دون اخرى، بل إنها انتشرت بين الجنسين معا كما سقط ضحيتها أناس من طبقات اجتماعية وفئات عمرية مختلفة ...الأمر الذي بات ينذر بخطورة أن مجتمعنا أصبح له استعداد للانتحار.
قد يخلص قارئ هذا المقال إلى أني أختزل انتشار ظاهرة "الانتحار" بشكل مبالغ فيه في العامل الاجتماعي و التحولات التي يعيشها مجتمعنا، متناسيا العامل النفسي و تفشي الأعطاب النفسية المنتشرة كالفِطْر في مجتمعاتنا، إلا أن هذا العامل هو في الأصل مرتبط بالعامل الاساسي الذي هو المجتمع، فالتحول الذي عرفه هذا الأخير أَثَّرَ على منظومة القيم السائدة في كل مناحي حياتنا المعاصرة، هذا التحول جعل الفرد بوصفه عضوا في المجتمع مجبرا على إحداث تغييرات أو تعديلات في نمط حياته، سواء بشكل إرادي أو بشكل لاإرادي (قَسْري)، و تغييرات مثل هذه كانت كافيه لإرباك حياته النفسية ( التسبب له في اكتئاب على وجه الخصوص)، و جعله غير قادر على الإندماج في المجتمع، و بالتالي القضاء على مناعته القِيَمِيَّة و الأخلاقية، بحكم أن المجتمع هو من يَسُنُّ قيمه و يُخْضِعُ الافراد لها، وإِنْ حدث "تَمَرُّدٌ" من قِبَل الأفراد على هذه المنظومة الأخلاقية فهذا ليس عيبا، بحكم أن الاخلاق نسبية، تتغير من فرد لآخر، من مجتمع لآخر ومن جيل لآخر، و تعديلها أمر جد طبيعي إذا ما نظرنا إلى أن الأخلاق هي التي في خدمة الفرد لا العكس ، إلا أن مجتمعات لازالت لم تحدد بوصلة التغيير، هي من تُرَسِّخُ في الفرد قيم التسر على كل ما يُعِيقُ عملية الاندماج داخل الجماعة (الاغتصاب بما فيه زواج القاصرات، الأمية ، الفقر، العنف الأسري،...)، و هو الأمر الذي من شأنه أن يخلق شبه رفض لدى الفرد لكي يستمر على قيد الحياة مع الجماعة، لهذا سرعان ما يختار الطريق الأصعب و يصدر قرار الإعدام في حق ذاته... إما هروبا من الخطر، أو من فضيحة مُتَخَيَّلَةٍ، أو استجابة لأمر "تَلَقَّاه من أعلى"...لكن هذه تبقى مجرد هلوسات أو وساوس، تَكَرَّسَت بفعل صراع داخلي رمزي قيمي بين الفرد و المجتمع...
إن مختلف ما يعيشه الفرد من أزمات نفسية على اختلاف أشكالها ناتجة بالضرورة عن شكل الصورة التي يكونها كل فرد عن الجماعة، لهذا ترتفع حدة الأمراض النفسية كلما تطورت المجتمعات و تغيرت قيمها، مقارنة بالمجتمعات التي لازالت تعيش وضعيات مُتَحَوِّلَة ببطء (مادام أنه لا مجال للحديث عن سكونية و ثبات المجتمع فهو منتوج حركي)، فالانتحار ليس إلا محصلة واحدة الى جانب انتشار حالات الطلاق، و العنف ضد الاخر و ضد الذات،و غيرها...
لقد راهن "اميل دوركايم" على أن مساهمة "السوسيولوجيا" في توضيح ما يبدو أنه فعل فردي مثل الانتحار يفسح المجال لها للانفتاح على التحليل السوسيولوجي لظواهر اجتماعية أخرى، و يأتي اختياره لدراسة ظاهرة "الانتحار" نتيجة لإقناعه للمجتمع العلمي بضرورة اللجوء لعلم الاجتماع، لتحليل المعطيات، و هذا ما جعل "السيوسيولوجيا" تحظى باعتراف العالم الأكاديمي، و قد رفض دوركايم التصور الذي جاء به "مرسيللي" Morselli عندما أكد على أن الفضاء الموجود بين خطي العرض 47 و 57 من جهة، وخطي الطول 20 و40 من جهة أخرى،إنما هو الفضاء المفضل للانتحار، و هو المكان الذي يتطابق طبعا مع المنطقة الأكثر اعتدالا في أوربا، و هو الامر الذي نفاه دوركايم عندما اعتبر أن الانتحار لا علاقة له بالطقس فهو يحدث في جميع المناخات، مثلما أنه ليس قرارا فرديا منعزلا عن العوامل الاجتماعية، وخصوصا الاختلافات في البناء الاجتماعي وفي درجة التضامن الاجتماعي، و قد لاحظ أن "الكاثوليكية" تؤدي إلى تكامل اجتماعي أكثر مما تؤدي اليه "البروتستانتية" التي تتميز بالطابع الفردي، و أن شعور اليهود بالاضطهاد المزعوم جعلهم يرتبطون بروابط توحدهم و تؤلف فيما بينهم، و أن تضامن المجتمع يزداد أوقات الشدة و الحرب مقارنة بحالات السلم، و أن الناس في المناطق الريفية تكاملهم الاجتماعي أقوى من سكان المناطق الحضرية...
يعتبر الارتباط بين تفشي ظاهرة "الانتحار" و العوامل الاجتماعية التي يعيش في كنفها الشخص المنتحر ارتباطا وثيقا، لذا حدد دوركايم ثلاثة اشكال للانتحار تشخص علاقة الفرد هنا بتركيبة المجتمع الذي يعيش فيه :
1 ـ "الانتحار الاناني" : أو الانتحار المدفوع إليه الفرد من نفسه، و يكون فيه الفرد فاقدا لأي ارتباط بالجماعة، لهذا يشعر الفرد ان الجماعة غير مؤثرة فيه، لذلك لا يعيرها أي اهتمام حتى عندما يراوده ميل الانتحار، لاعتقاده أن فعله لا يؤثر على الجماعة...
2 ـ "الانتحار الغيري" : أو الانتحار الذي يدفع إليه الغير، و هو ناتج عن فقدان الفرد لفردانيته بسبب قوة و شدة اندماجه بالمجتمع ، فمثلما أن النقص المفرط في الفردانية يؤدي إلى الانتحار بسهولة، مثلما تصبح النتيجة نفسها عند الإفراط في الفردانية " فعندما ينفصل الانسان عن المجتمع فإنه ينتحر بسهولة، و هو ينتحر أيضا حينما يكون مسرفا جدا بالاندماج فيه" (دوركايم . الانتحار.ص.225).
3 ـ "الانتحار الفوضوي" : أو الانتحار الذي تدفع إليه فوضى ناجمة عن فقدان نظام الشرعية، فهو انتحار ناتج عن انكسار معايير الجماعة التي من شانها أن تضبط الحياة الاجتماعية ( كالقيم و العادات و المعتقدات...)، و تحولها إلى معايير غير ملائمة لأشخاص عاشوا في ظروف و قيم تختلف عن ظروف الحاضر و قيمه الجديدة، إنه انتحار ناتج عن فقدان القيم أو غيابها وهو ما يؤدي إلى اختلال في التوازن الاجتماعي للمجتمع، فترتفع معدلات الانتحار في أوقات الأزمات الاقتصادية، علما أن ذلك لا يرجع إلى الأزمة الاقتصادية فقط أو إلى انتشار الفقر، وإنما ينتج ذلك بسبب تحطيم التوازن الاجتماعي. و هذا ما نعاينه من حالات انتحار يكون مقترفيها من أناس يعيشون فترات انتعاش اقتصادي .
إن مقاربة ظاهرة الانتحار من منظور أخلاقي و قانوني هي مقاربة غير موضوعية بل إنها مقاربة اختزالية، إذ لا يكفي أن نظل حبيسي قيمتي "المحظور" و "المباح"، و أن الانتحار سلوك محظور داخل بنية كل المعتقدات، أو أنه مُجَرَّمٌ قانونا، و بالتالي فمحاولة الإقدام عليه يجر على الساعي إلى ارتكابه عقوبات تتراوح ما بين الغرامة و السجن، بل إن مقاربة الظاهرة تتطلب الانفتاح اللامشروط على "السوسيولوجيا" كفرع من "العلوم الانسانية"، بغرض دراسة مختلف التحولات التي تعرفها مجتمعاتنا، و اتخاذ نتائج هذه الدراسة أرضية لكل تصور تربوي يؤهل بيداغوجيا و سيكولوجيا الأفراد إلى القبول بهذه التحولات على اعتبار أنها تحولات طبيعية تعيشها كل المجتمعات، مع تهيئة الأفراد نفسيا لقبولها و من تم المحافظة على توازنهم النفسي الذي يضمن لهم اندماجا سلسا داخل المجتمع، و في ذلك حماية للفرد و للجماعة.


بقلم : رشيد عوبدة



#رشيد_عوبدة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثقافة الأوراش ترسيخ لقناعات التطوع في تنمية البلد ورش تأهيل ...
- مع كل ذكرى ... أنت أمي
- فرع -حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية- بآسفي: رأس بدون ج ...
- أي مدخل لدمقرطة الدولة : التعددية الحزبية أم دمقرطة الأحزاب؟
- اتهامات و ردود : -للتاريخ مكانين لاثالث لهما !!-
- ما معنى أن تكون بلطجيا؟
- مؤسسة تعليمية بآسفي تركب التحدي: إنتاج أول فيديو كليب بشمال ...
- فلسفية سؤال -ما الفلسفة؟ -
- شكرا سيدي -رئيس الحكومة المحترم...-
- -الحقيقة تظهر مع زلات اللسان-
- الجسد شرارة حراك...الجسد أيقونة تغيير
- الفلسفة و العلم : عودة الى حضن الام !!!
- تدهور اللغة السياسية من تدهور السياسة
- الفلسفة الغربية الحديثة وإشكالية منهج المعرفة
- علم الكلام و الفلسفة الاسلامية
- -الرُّؤْيَا- في السّيَاسة ... سياسة !
- -الدولة المدنية الوطنية- بديل عن الدولتين:-الثيوقراطية- و -ا ...
- لوك الكلام في ما بين حرية التعبير و الوقاحة من انفصال
- لقد نفد رصيدكم ...المرجو تعبئته بأسرع وقت !!!
- الخطاب الملكي : هل هو جرعة سياسية لإنقاذ التعليم المغربي؟


المزيد.....




- الثلوج الأولى تبهج حيوانات حديقة بروكفيلد في شيكاغو
- بعد ثمانية قرون من السكون.. بركان ريكيانيس يعيد إشعال أيسلند ...
- لبنان.. تحذير إسرائيلي عاجل لسكان الحدث وشويفات العمروسية
- قتلى وجرحى في استهداف مسيّرة إسرائيلية مجموعة صيادين في جنوب ...
- 3 أسماء جديدة تنضم لفريق دونالد ترامب
- إيطاليا.. اتهام صحفي بالتجسس لصالح روسيا بعد كشفه حقيقة وأسب ...
- مراسلتنا: غارات جديدة على الضاحية الجنوبية
- كوب 29: تمديد المفاوضات بعد خلافات بشأن المساعدات المالية لل ...
- تركيا: نتابع عمليات نقل جماعي للأكراد إلى كركوك
- السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - رشيد عوبدة - الإنتحار و الإندماج الاجتماعي: مدخل دراسة الظاهرة لابد ان يكون سوسيولوجيا