|
المؤتمر الثامن لحزب البعث واستحقاقات الاصلاح المستحيل
عبد الرزاق عيد
الحوار المتمدن-العدد: 1252 - 2005 / 7 / 8 - 11:08
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لاشك أن معظم مفردات الحداثة والتحديث التي تسربت الى حقل الثقافة الوطنية العربية) الداخل) انما هي نتاج الاصطدام بـ (الخارج) ، الآخر ، أي الغرب ، بل إن مصطلح الثقافة الوطنية ليس له أي رصيد تداولي في فضاء الثقافة العربية إلا منذ تلك اللحظة التي تم فيها التقاطع التاريخي بين المحلي : الوطني / القومي / والعالمي : الخارج / الغرب / الاستعمار / الانتداب ... الخ . فبدأ هذا الاحتكاك في صيغة اقرار بتفوق الآخر ، ومن ثم الخلود إلى المبدأ الخلدوني حول محاكاة المهزوم للمنتصر ، فاختارت النخبة العربية أن تحاكي المنتصر باستعارة منظومته الليبرالية تحت تسمية " الاصلاح " فكان ثمة تياران اصلاحيان : ليبرالية علمانية حداثية من جهة ، وليبرالية اسلامية اصلاحية من جهة ثانية ، ولعل النموذج النهضوي المصري هو الأكثر تمثيلا لهذه الترسيمة التاريخية عن هذه العملية التفاعلية الحضارية، وإذا شئنا التقريب الملموس فربما صح الحديث عن هذين الخطين في نموذجي ( أحمد لطفي السيد كممثل للاصلاح الليبرالي الغربي الكوني ، ومحمد عبده كممثل للاصلاح الليبرالي الاسلامي) وبينهما الخط الوطني الشعبي الذي يقتات على مزيج مركب تبسيطي لما يرشح عن التيارين ، ويتمثل هذا الخط بـ (مصطفى كامل) عبرالحزب الوطني ، الذي رغم شعبويته الوطنية الحماسية ، فإن المؤرخين لتاريخ الحركة الوطنية المصرية يشيرون إلى أن الانكليز هم من كتبوا وو ضعوا برنامج الحزب الوطني ! هذه الترسيمة التي تكثفها التجربة المصرية بما هي تكثيف للتجربة العربية ، سيبدأ خط انكسارها –بغض النظر إن كان هبوطا أم صعودا- مع الثورة المصرية 1952، حيث سينتصر الخط (الكاملي: الوطني والشعبوي) ، الأمر الذي كان من شأنه أن يعزز هذا الخط بوصفه بديلا عن التيارين الليبراليين ، أي بمثابته قطعا مع الفضاء الليبرالي الديموقراطي بما هو (فضاء مفتوح على الآخر في "الداخل" ) : (برلمان- أحزاب – نقابات- صحافة) ، و (مفتوح على "الخارج" ) : في تقبل النموذج الغربي بوصفه نموذجا حداثيا كونيا ، حيث الانكسار سيكون باتجاه فضاء مغلق منكفئ على الذات يرفض الآخر داخليا : من خلال إلغاء الحياة السياسية: الأحزاب، الصحافة، البرلمان ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى: رفض الآخر خارجيا : قوميا، حيث الآخر سيغدو –وفق هذا المنظور- معاديا ومعوقا للأنا القومية والوطنية ، ومن ثم رفص الآخر إسلاميا : حيث الآخر سيغدو دار حرب في مواجهة دار الإسلام، وسيرفض الآخريساريا : عندما سيغدو امبرياليا ، تتلخص غايته ووجوده في الاستعمار والنهب وسرقة الشعوب ! هذا الفضاء المغلق سيدشنه في المجال القومي العربي (الناصرية والبعث) ، بيد أن هزيمة حزيران أتت1967 لتشكل هزيمة نكراء لهذا التيار (الكاملي) الشعبوي الذي أبى إلا وأن يحل هذه المشكلة الكارثية ( لغويا / بيانيا) فيسميها "نكسة" ، بتأييد من الحليف السوفياتي الذي سيغدو من حينها (مثالا) معياريا، فقد قدمت (الستالينية) بنموذجها الاتوقراطي نموذجا باهرا للأتوقراطية القومية ( الناصرية والبعثية ) العسكرية الريفية الناهضة ، فراحت تبني على مثالها ، لكن دون مكتسب الشق الحداثي العلماني في التجربة السوفياتية على الأقل ، وذلك لأن الهزيمة التي لحقت بالشعبوية القوموية (البيانية) وبداهاتها الثورية ، فتحت أبواب السماء لسلطان الايديولوجيا السلفية التي كانت قد قطعت مع موروث الإمام محمد عبده ، لتتشبع بفكرة الحاكمية التي تكفر الآخر الوطني (داخليا) وترفع راية الجهار ضد الآخر (دار الحرب) (خارجيا/عالميا) ، وذلك مع سيد قطب الذي سيعود من أمريكا غاضبا جدا من فجورها وفسوقها ، فكان استقبال الناصرية له في السجن كافيا لتحريضه وتحفيزه على رفع راية الجهاد في وجه العالم كله كي لا تكون هناك فتنة ، وليكون الدين كله لله ولو كره الكافرون ! . الناصرية انصاعت لاستحقاقات التاريخ بعد هزيمة حزيران ، ففتحت الطريق أمام قوى أخرى بغض النظر عن تقييمنا لها في حينها ، وذلك بالاختفاء الفيزيولوجي لشخص عبد الناصر و(كاريزماه) ، بينما البعثيون لم ينصاعوا منذ تلك اللحظة حتى اليوم في سوريا والعراق ، ولهذا يبدو أن مخاض الولادة المصرية للديموقراطية بعد أربعين سنة –اليوم- لن يكون قيصريا كما كان عليه في عراق البعث ، ولن يكون عسيرا كما هو عليه حال البعث في سوريا. إن البعثيين لم ينصاعوا لحكم التاريخ بالهزيمة منذ تلك اللحظة حتى اليوم في سوريا والعراق، ولذا فإن الشعبين العراقي والسوري يدفعون اليوم استحقاقات هذا التاريخ وإتاواته ، وذلك منذ أزفت –في العراق- الآزفة لم يجد البعث لها من صارفة ، فكانت كالقيامة بل وأشد هولا ! فرغم الاستحقاقات المدمرة لدى الجار العراقي ، فإن الشقيق السوري لم يستفد حتى الآن من قيامة الشقيق ، أي حتى اللحظة التي يعقد فيها مؤتمره العاشر هذا الذي يفترض أنه مؤتمر انقاذ النظام على الأقل قبل أن يكون انقاذا للبلاد ، لأنه فيما يبدو أن عملية التماهي بين النظام والمجتمع- بعد تدمير الدولة كبنية مؤسساتية دستورية وقانونية بوصفها وسيطا بينهما - دفعت إلى حد توحيد المصيرين : مصير النظام والمجتمع ، حيث يطرح النظام على الخارج والداخل أن في انقاذه انقاذا للبلاد وأن في هلاكه هلاكها ، أو على الاقل ليس ثمة خيار سوى عيش تجربة المأساة العراقية التي لا تسر عدوا ولا صديقا ، انطلاقا من استشعار باليأس ، بلغت ذروة فلسفته –لدى أهل النظام- في الحكمة الشمشونية "علي وعلى أعدائي" . ولهذا سيخلص الصحفي البريطاني الصديق للنظام السوري (باتريك سيل) بعد المؤتمر بانه : " يظهر الانطباع العام جوا من السطو وغياب القانون ، مع أجهزة مخابرات تعمل على سجيتها، لا يستطيع الرئيس أو يتمكن من ضبطها". لماذا آلت الامور إلى هذه الدرجة من الاستعصاء التاريخي؟ سيقول لنا التاريخ : إن حزب البعث الذي استفاد من المرحلة الليبرالية حزبيا من حيث اثبات الوجود في الخمسينات ، وانقلب عليها عسكريا إذ استوى على عرش السلطة انقلابيا في الستينات منذ 1963 ، فإن هزيمة حزيران التي يفترض أن تخرجه من السلطة لو ظلت الشرعية الدستورية الليبرالية –مرحلة الخمسينات- القائمة ما قبل الوحدة مستمرة وهذا لم يحدث ، إذ قد ظل قابضا على السلطة وإن بدأت منذ تلك الفترة (السبعينات ) حقبة تهميشه لصالح شمولية فردية حلت محل الشمولية الحزبية المكرسة بـ "الشرعية الثورية" " والمستظلة بالشرعية الستالينية هذا من حهة ، ومن جهة أخرى ستبقى حالة الطواريء المعلنة منذ 1963 هي السمة المميزة لتاريخ البعث بوصفه تاريخا خارجا على القانون ، وذلك لأنة في ظل حالة الطواريء تتوقف القوانية العاملة تحت سقف الدستور ، وعلى هذا فإن حالة الطوارئ هذه منذ أربعين سنة ، لا يمكن قراءتها قراءة دلالية صحيحة إلا بدلالة القول : إن حكم حزب البعث ظل طارئا على حياة البلاد خلال العقود الأربعة بفعل حالة الطواريء المعلنة التي حكم تحت مظلتها وحتى اليوم ، إذ بدأ عقد الستينات بالطواريء طارئا على البلاد كسلطة شمولية توتاليتارية عسكرية ريفت السلطة ولاحقا المجتمع السايسي بل والمدني ، ثم بدأت التوتاليتارية الفردية استثنائية طارئة –السبعينات- التي استخدمت الحزب استخداما وظيفيا في خدمة السلطة ووثنية الفرد ، بعد أن انتقل هذا الحزب من سلطة مجتمعية (الخمسينيات) إلى سلطة عسكرية في الستينات، ثم إلى سلطة تفرض نفسها على المجتمع من خلال دستور موضوع تحت خدمة الفرد في السبعينات ، حيث ستستذل حالة الطواريء (ثوريا) الدستور لتجعله مطية لمطامح السلطة الطارئة بدورها بالإستحواذ على الدولة والمجتمع من خلال المادة الثامنة التي أعطى الحزب نفسه فيها حق قيادة الدولة والمجتمع ، وصولا للثمانينات الذي ستنتهي فيه سلطة الحزب لصالح سلطة المخابرات ، لكن الممسوكة بقبضة الفرد الحديدية، القادرة على ممارسة دور المايسترو الأب الكهنوتي في كنيسة قروسطية يخضع كل جوقات فرق موسيقى الرعب الحزبي والأمني والعسكري لعصاه السحرية القادرة على ابتلاع كل الحيّات الحزبية والأمنية والعسكرية، لكن بغياب المايسترو وعصاه السحرية، ستنطلق كل (الحيايا) منفلتة من عقالها ، بيد ان حية المخابرات ظهرت أنها الأبقى ، فغدت هي الوحيدة التي تسعى وتطغى ... ! ولهذا سنجد أن المؤتمر العاشر لم يشكل أفق انتظار لأحد ، وذلك عندما خرج بنتائجه الهزيلة (التراجيكوميدية) ، فإنه لم يصدم أفق انتظار أحد – سوى أفق الذين لم يصعدوا إلى السماء- وفق تعبير الأسلوبيين (امبرتو ايكو) عندما يتحدثون عن شروط انتاجية النص، التي تكمن في قدرته على تحقيق الانزياح عن المألوف ، وعلى هذا فإن (تراجيكوميديا) المؤتمر لم تضحك ولم تبك أحدا لأنها لم تحقق أي انزياح عن أي مألوف ، حتى لأولئك الذين أعدوا النص وخشبة المسرح والإخراج ، وذلك لأن كل شيء كان معدا ومعروفا ومألوفا مسبقا، إذ لم يجترح حتى (مآثر ميلودرامية) كأن يقدم فصلا عن الفساد يفرغ فيه –المؤتمرون- شحنات الامة من شدة الغمة ، فيقوم (الرفاق) مثلا باختيار شيطان من شياطين الفساد لرجمه ، رغم أن المؤتمر كان عامرا بحضور الشياطين : جهابذة المافيات الحزبية والطغم اللصقراطية ، وقراصنة المال وأساطينه والسماسرة بكل شيء وعلى كل شيء من "أكالي السحت" ، لكن المؤتمر ظل صارما ورصينا وجديا جدا في انتاج هزلياته الممجوجة ! . الفصل الاستعراضي الطريف الوحيد: كان خروج من سموا بالحرس القديم ، وذلك لإيهام (الخارج : الامبريالي -الصهيوني ) بأن ثمة ما يتغير في سوريا ، وذلك لأن المجتمع (الداخل : مجتمع الجنود ) يعرف أن هذا الحرس لا يحرس لا نظاما ولادولة ولا بلادا ، بل يحرس ممتلكاته الريعية ومنهوباته الخاصة ، كل حسب مكانته وميزان قواه المافيوية ، ولهذ بات من المسموح الهجوم والسخرية من اكثرهم (دروشة) أي (مبروكي القيادة القطرية) الوحيدين في حزب البعث من يصدقون أنفسهم ايديولوجيا لكثرة ما يرددون شعارات الحزب ومقولاته كالأمين العام المساعد الذي سمح حزبيا وشعبيا بالسخرية من توبته عندما قام بفريضة الحج مع أولاده ، أومن الأمين القطري المساعد الذي سمح للرفاق بأن ينددوا بفساده قبل المؤتمر ، فكشفوا سرقاته من ميزانية القيادة القطرية ثمن (ملابسه الداخلية) ، كما وقد سمح للرفاق أن ينتقدوا (نقه) في الحرص على منصب ، فأعطي دورا قياديا في (الجبه الوطنية التقدمية) باعتبار أن مواهبه القيادية لا تتجاوز هذا المنصب حسب تعليق (الرفاق) ، طبعا لن نتوقف عند دلالة نظرة (الحزبيين) للجبهة الوطنية التقدمية بوصفها أوطأ موقعا لممارسة المواهب المحدودة ! لنتصور أن هذا الرجل (المسكين : الأمين المساعد ) الذي ما فتيء يحاسبونه على ألبسته الداخلية ، أنه هو الممثل للحرس القديم الفاسد والمعوق للاصلاح ، إذا كان هذا هو موقعه في عملية الفساد ، فإنه –والأمر كذلك على الأغلب- لا يملك من فعاليات عرقلة مشروع الاصلاح ، أكثر من عرقلة (اصلاح) أعطال التمديدات المائية والكهربائية في مبنى القيادة القطرية ، أصلح الله الرفاق ما أشدهم على الفساد والمفسدين !؟ . فالرجل ظل ثلاثين سنة يخطب في الاحتفالات والمناسبات الكبرى، وهو يخلط بين (مفردتي: الملكية "بالفتح" والملكية "بالضم") دون أن يتمكن من إصلاح هذا الخلط حتى آخر مرة سمعناه ، رغم تشدد الأمبن العام الراحل في الحفاظ على سلامة القواعد النحوية في قراءة اللغة العربية ! ونحن ممثلو أغلبية الضمير الاجتماعي المقهورعندما لم نكن آبهين لهذا المؤتمر، كنا قد فسرنا أسباب انصرافنا عن الاهتمام به من خلال ماسبق ، أي ما يمكن اختصاره في صيغة : إن هذا الحزب لا يحكم ، بل يتم التحكم به كأداة وظيفية ايديولوجية إعلامية ، ولهذا كنا نرصد نوايا النظام ودرجة مصداقيته من خلال جديته –بدون جدية منا- في معالجة الانتهاك الدستوري الفظ المتعلق بالبند الثامن الذي يعطي الحزب حق قيادة الدولة والمجتمع، والذي استخدم كغطاء دستوري حقوقي لاستيلاء أهل النظام على الدولة والمجتمع فعلا ، معتبرين –ولو لمجرد الرهان - ان معيار استشعار الماسكين برقاب الدولة والمجتمع بالخطر الذي يتهدد الدولة والمجتمع، هو تحرير الاثنين من هذا (الاغتصاب القانوني) للأمة والدولة المتمثل بالبند الثامن وهذا أضعف الإيمان إذا كان ثمة ايمان . وفي واقع الأمر إن الاستقراء الذي نقوم به ، والذي جوهره أن الحزب ومؤتمره لا يمثل قوة فعلية وفاعلة في الحياة السياسية لسوريا، والسبب في ذلك ببساطة أنه –وكما نكرر- ليس ثمة حياة سياسية في سوريا، هناك سلطة مطلقة عارية من أية غطاء للمشروعية، سوى الإيهام بالمشروعية العقائدية والايديولوجية التي يوظف حزب البعث في خدمة طغيانها المنسرح، كما كنا قد أوردنا انطباع باتريك سيل صديق النظام . إن مسالة الهيمنة الأمنية على كل مفاصل السلطة والانتشار السرطاني للاستبداد والفساد في هواء الحياة الاجتماعية، حيث أصبحت ادق دقائق الذرة تتكون من نيترون الفساد وبروتون الاستبداد، تحت مظلة ايديولوجية بعثية لشرعنة الإثنين معا ، نقول : إنه في هذه المناخات لم يكن لأحد أن يتوهم أن النظام يسعى لتحسين سمعته أمام شعبه، بل الشعب هو الذي عليه أن يحسن سمعته أمام حكامه وذلك في أن يبرهن على حسن هذه السمعة عبر الطاعة والإذعان لسلطته في كل يوم ، فالنظام لا يسعى إلى تحسين صورته سوى تجاه الغرب ، وليس التأكيد المستمر على أن قرارات المؤتمر لا توجهها ضغوط الخارج سوى تكرار (توتولوجي) يعكس حالة عصاب التثبيت النفسي للقلق تجاه الخارج ، وهذا المعنى لا نستخلصه بحكم تجربتنا واستقراءاتنا وحدوسنا، بل هي وقائع ملموسة عبر عنها كل المهتمين بالشان السوري في الإعلام الغربي ، فقد لاحظت لوفيغارو أن : ( نظام دمشق يحضر "إصلاحات خجولة.." ستجري دمشق انفتاحا سياسيا تحت سيطرة شديدة، يهدف إلى تلبية المطالب الغربية مع وصد الباب أما قوى المعارضة المنظمة، ولكن يشك معظم المراقبين السوريين وبشكل كبير ان يكون المؤتمر القوة أو القدرة أن يواجه المصدر الحقيقي للمآسي الوطينة: استئثار اجهزة الأمن بالسياسة والاقتصاد، وبالشراكة الصلبة حول عائلة الرئيس ) ، وهذه الموضوعة ، موضوعة السطوة الأمنية واستئثارها ، ليست بحاجة إلى التأويل والتأول ، بل إن المؤتمر لم يكن يهدف إلا لإرسال رسالة للخارج بأن ثمة تغيير من خلال تغيير الأشخاص ، لكن بغض النظر عن أن الخارج لم تخدعه هذه المراوغة فعبر فورا عن موقفه في أن "لاعبرة بتغيير الأشخاص" ، فإن الداخل لم يكن معنيا بأية رسالة سوى "رصد الباب أمام قوى المعارضة " كما لاحظت الفيغارو، وذلك ليس بتعزيز النفوذ الأمني في القيادة القطرية من خلال رفدها ليس بشخصيات أمنية فحسب ، بل عبر المجيء بمحافظ مدينة حلب كمكافأة له على الدور الأمني الذي لعبه فيما سمي بقضية (الأظناء الـ14 ) بعد أن نسي دوره كـ ( والي) وحاكم ، وقامت شرطته باعتقال الناس في الشوارع بتوجيه من عناصر الأمن ، وهؤلاء ال14 هم الذين حوكموا أمام المحكمة العسكرية في حلب على نية شروعهم بحضور محاضرة عن حالة الطواريء والقوانين العرفية في سوريا ! هذه (الأمننة) للقيادة القطرية التي عبرت عنها الفيغارو وباتريك سل ، ليست هي المظهر الوحيد لحالة (الأمننة الشاملة ) للبلد ، بل تمثلت بالتغييرات في الأجهزة الأمنية التي واكبتها لـ"وصد الأبواب أمام المعارضة" ، إذ يترتب على هذه المتغيرات الأمنية تغييرتردد التوليف الشخصي لنشطاء المعارضة في العلاقة مع الأجهزة الأمنية ، فتغير الجهاز يعني تغير العلاقة مع موضوعاته . إذ على نشطاء المعارضة –والأمر كذلك- أن يقوموا بعملية "فرمتة " لأجهزة حواسيب نظام علاقة فروع الأمن بملاحقة أنشطتهم وفق ترددات القادة الجدد وميولهم وأمزجتهم ، فعلى الناشط المتابع من قبل أمن الدولة –مثلا- أن يتكيف مع نظام تردد الأمن العسكري الذي يبدو-أخيرا- أنه بات صاحب القدح المعلى وعلو الكعب اليوم في اعادة الاعتبار لثقافة الخوف في المجتمع الذي يبدو في منظورهم العسكري أصبح (فلتان) يجب اعادة ربطه ، ليتكيف هذا الناشط مع أشكال التخويف التي تناسب مقام سمعة الأمن العسكري ومهابته الصنديدية الذي يتمتع ويفتتن (ساديا) بسمعة بث الذعر في كل ما حوله وحولك وحولنا وحولكم وحولكن ، ليس في وسط أصدقائك الذين اعتادوا على ذلك ، بل وفي أوساط أصدقاء أبنائك وأبناء أقاربك وأبناء عمومتك وخالاتلك وكل ما وصلته بك الأرحام ، بل وكل من قال لك (مرحبا) على الهاتف ، عبر ملاحقة كل من يتصل بك هاتفيا بمن فيهم سيئوا الحظ الذين يطلبون رقمك خطأ ! كما ونريد بهذه المناسبة أن نهدي ونزف مؤتمر حزب البعث العاشر هذا الخبر : وهو أن نطمئنهم أن فحولة مخابراتهم لازالت في عز فتوتها ، إذ بلغنا أن شابا كرديا –بشهادة أهله- قد تم اغتصابه في سجن صدنايا وهو اليوم حطام انسان ، فلتمضوا إلى عرين المجد مكللين بالغار !؟ إن المشكلة الكبرى أن النظام الذي يستشعرهذا القلق من الخارج ، فإنه يلجأ إلى آلية التعويض عن العجز بالتعاظم والتمجد ، فتارة يتحدث المؤتمر عن "مواصلة الحوار مع الولايات المتحدة" ويتحدثون عن ذلك –بعنجهية وغطرسة- أنهم يمدون للولايات المتحدة يدهم ! هذه الغطرسة البيانية البلاغية المنتفخة الصدر والأوداج تنتج خطابا مضادا يتوهم التكافؤ من خلال الايماء بأنهم يعطون فرصة للولايات المتحدة في الحوار لتعدل سلوكها وسياساتها، بل لا نعرف من هو مخترع فكرة أن سوريا ليست "جمعية خيرية" لتقدم "صدقات سياسية" للولايات المتحدة! هل هو تعبير من صناعة (السيميولوغ/ السينمالوج) أم من ابداع وزارة الخارجية ( وزارة غروميكو ) ، فلابد لرايس ورامسفيلد وقبلهم باول –والأمر كذلك- أن يفهموا أن سوريا ليس لديها ما تتصدق به وتتبرع للولايات المتحدة مجانا على حد تعبير علم كلام السياسة الخارجية ، بل لابد للولايات المتحدة إذا لم تغير نظامها ، أن تغير سياساتها فيما يبدو وفق منطوق خطاب التعاظم الكلامي ، وذلك –على الأغلب- بانتظار تغيير رؤسائها (الذين تغير أكثر من ستة رؤساء أمريكيين خلال حكم البعث في سوريا والعراق ) ، بل وفي عمر رئيس بعثي واحد من رؤساء سوريا أو العراق ... هذه الأوهام التي تغذيها الفخفخة البلاغية لأدلوجة البيان الديكي ، هي التي كانت وراء امتلاء الصدر بالهواء لوصف القرار 1559 بأنه قرار تافه ، وهي التي تفسر الحكمة الصينية التي تتحدث عن أن الهواء الذي يملأ الصدر زهوا أو صلفا وتجبرا، لا يلبث أن ينتقل إلى المعدة والامعاء ، ومعروف كيف تتخلص المعدة والامعاء من الهواء الذي يتحول إلى غازات (النفخة) وماهي مآلاتها وما هي أسماء الأصوات والنغمات التي تصدرها عندما يأزف أوان صدورها ، فهي معروفة لدى كل الامم والشعوب ، وليس فقط لدى صدام حسين وجيش القدس المؤلف من الـ(7ملايين) ، وليس فقط لمن يصفون قرارات الأمم المتحدة بأنها تافهة ، ومن ثم يرفضون-بيانيا وبلاغيا وخطابيا- أن يتعاملوا مع الولايات المتحدة كمتسولة سياسيا من النظام السوري المنافس لها على ادارة دفة قيادة العالم والذي يأبى أن يتعامل كجمعية خيرية معها ، ليمنحها الهبات السياسية مجانا كما يفعل عادة مع شعبه المسكين في منح هبات وعطايا زيادة الرواتب والأجور ، آجره الله على هباته وعطاياه !
حلب
#عبد_الرزاق_عيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في مستقبل العلاقات السورية اللبنانية
-
دعوة إلى تكليف رياض سيف بتشكيل حكومة سورية
-
أية حالة أصبح عليها الأخوان المسلمون في سوريا ؟
-
البيان الأممي ضد الارهاب وتعاويذ الفقه الأمني في سوريا
-
هل سقوط حزب البعث خسارة
-
الموت الهامشي -الهزيل- لفكر البعث أم الإنبعاث -الجليل- لفكر
...
-
المصالحة بين -الوطنية - و-الديموقراطية- هي أساس -المقاومة- ح
...
-
وداعاًً عارف دليلة أو الى اللقاء بعد صدور الحكم بـ -إعدامك-
-
متى النقد الذاتي الكردي؟
المزيد.....
-
ماذا فعلت الصين لمعرفة ما إذا كانت أمريكا تراقب -تجسسها-؟ شا
...
-
السعودية.. الأمن العام يعلن القبض على مواطن ويمنيين في الريا
...
-
-صدمة عميقة-.. شاهد ما قاله نتنياهو بعد العثور على جثة الحاخ
...
-
بعد مقتل إسرائيلي بالدولة.. أنور قرقاش: الإمارات ستبقى دار ا
...
-
مصر.. تحرك رسمي ضد صفحات المسؤولين والمشاهير المزيفة بمواقع
...
-
إيران: سنجري محادثات نووية وإقليمية مع فرنسا وألمانيا وبريطا
...
-
مصر.. السيسي يؤكد فتح صفحة جديدة بعد شطب 716 شخصا من قوائم ا
...
-
من هم الغرباء في أعمال منال الضويان في بينالي فينيسيا ؟
-
غارة إسرائيلية على بلدة شمسطار تحصد أرواح 17 لبنانيا بينهم أ
...
-
طهران تعلن إجراء محادثات نووية مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|