ـ الولايات المتحدة
اليسار اتجاه فكري وآيديولوجي وسياسي عرف في الساحة منذ اقدم العصور. وشيئاً فشيئاً أصبحت صفة اليساري تطلق على السياسي الذي يلتزم بالمنهج اللبرالي في التفكير والمعالجة والمنطق. واليساري ـ كما معروف في بعض الدول الأوربية ـ هو النائب الجالس في جهة اليسار من البرلمان. وفي الولايات المتحدة تدعي الصحافة انه يوجد في الحزب الديمقراطي الامريكي جناح يساري وآخر يميني. وان الحزب الجمهوري يشهد بين صفوفه قادة يساريين!!
واليساري في العالم عموماً صفة مخففة جداً لما تقصده الصحافة لدينا! فاليساري بالمفهوم المحلي هو السياسي المنتمي لحزب شيوعي أو عمالي او اشتراكي وفي (أفضل) الحالات تطلق على المفكر القومي والعلماني صفة اليسارية.
عملاً بهذه التوصيفات (المحلية) لليسار واليمين نكتب مقالنا هذا حول اليسار العربي. ولد اليسار العربي بعد ثورة اكتوبر الأشتراكية في روسيا اذ نشأت حركات واحزاب يسارية متعددة في منطقة الشرق الأوسط وولدت مع اليسار العربي امراضه الطفولية التي لم يتخلص منها لحد الآن! وأذا استثنينا اليسار العراقي المتميز عن اليسار العربي بأطاره الأممي وبعلمانيته وقربه نسبياً من الفكر اليساري الغربي وتأثره المباشر بآيديولوجية الأشتراكية العلمية
فاليسار العربي قد اتخذ في معظم الحالات مواقف سياسية وفكرية (غريبة) بعض الشئ عن الأطار اليساري المألوف. واذكر اني حينما غادرت لاول مرة الى اوربا في اوائل الستينات ذهلت في بعض العواصم الأوربية من سطحية التفكير والمنهج لبعض الطلبة القادمين من البلدان العربية كمصر وسوريا والاردن والسودان و شمال افريقيا. كان هؤلاء الطلبة ينتمون في معظمهم الى الفصائل اليسارية العربية. وكانوا ـ على سبيل المثال ـ يعدون جمال عبد الناصر قائداً لليسار العربي!! وكنت اعلم على صغر سني آنذاك وكما كشفت الأيام لاحقاً ان ذلك الزعيم القومي المحسوب على اليسار كان يمارس التصفيات الجسدية بشكل اسطوري في همجيته ضد اليساريين المصريين والسوريين (ايام الوحدة الأندماجية الفاشلة).
كان اليساريون العرب يستبشرون خيراً المرة تلو المرة كلما علموا ان خالد محيي الدين (من الضباط الأحرار لثورة يوليو المصرية) قد ترأس وفداً (رفيع المستوى) الى (الأتحاد السوفياتي) للتفاوض على شراء السلاح!! والذي لم يعلموه ابداً ان خالد محيي الدين لدى عودته الى مصر كان يلقي القبض عليه من قبل المباحث المصرية (اليسارية) بتهمة التجسس!! لقد (وظب) النظام الناصري الدكتاتوري الذي سلب لب اليسار العربي طيلة فترة الستينات والسبعينات زعيمين من مجموعة الضباط المصريين الكبار: الأول خالد محيي الدين المحسوب على اليسار المصري والآخر زكريا محيي الدين المحسوب على اليمين ويستخدمهما بخبث دكتاتوري سلطوي (ناجح) كممثلين متناقضي القطب للتفاوض مع السوفيات او مع الغرب حسب (الحاجة)!!
لدى وصولي اوربا في نهاية الخمسينات التقيت يسارياً سودانياً ذات يوم وكان في حالة غضب وقنوت شديدين فبادرني صائحاً:
ـ " لقد اغتالوا الوحدة!! أغتالتها قوى اليمين والرجعية!! لقد عاد العرب الآن خمسين عاماً الى الوراء !!" وكان اليساري السوداني يعني بذلك الخبر حدث الأنفصال بين مصر وسوريا بعد فشل الوحدة الأندماجية التي فرضت بالقوة على الشعب السوري. ولم ارد وقتها حرصاً مني على سلامتي الجسدية (!!) على صاحبي اليساري العربي موضحاً ان شعب سوريا صنع خيراً بتحرره من تلك الحالة البائسة حيث غزو ملايين المصريين العاطلين عن العمل اسواق سوريا الصغيرة مما تسبب عن انتشار البطالة و الفقر والبؤس هناك.
وكاد احد اليساريين المغاربة ان يأخذ بخناقي بعد ان حاولت توضيح سبب وجود محكمة الشعب بقيادة المهداوي ايام عبد الكريم قاسم بعد تدخل ما يسمى بالجمهورية العربية المتحدة (!!) في الشؤون الداخلية للجمهورية العراقية في عهد ثورة 14 تموز وفي مقدمة ذلك التدخل قيام ما يسمى بثورة الشواف بالموصل التي كان مخططاً لها من قبل النظام الناصري التوسعي. قال لي اليساري المغربي:
ـ "كيف تقول هذا؟! المهداوي جلاد رجعي قاسمي يميني يحاكم اليساريين (الوحدويين) التقدميين والأشتراكيين العراقيين!!"
كانت تلك بعض اعراض المرض الطفولي لليسار العربي في الخمسينات و الستينات أما السبعينات والثمانينات فقد شهدت اعراضاً أخرى أهمها الأنحدار في منزلق القومية الأشتراكية والأتجاهات التدينية الراديكالية الداعية الى (العنف الثوري) والأستقطاب الأثني. فنشأت عشرات المنظمات السياسية على يمين الأحزاب الشيوعية واحياناً على يسارها بدء بالقوميين الأشتراكيين والأشتراكيين العرب التقدميين والعديد من (الجبهات) الشعبية التقدمية وغيرها!!
ففي الثمانينات وبينما كان مئات الألوف من الجنود العراقيين الأبرياء يسفح دمهم في سوح القتال مع الجارة ايران أصبح النظام العراقي (القومي الأشتراكي التقدمي) في نظر اليسار العربي (المريض) المدافع الأمين عن البوابة الشرقية!!
وفي التسعينات وبعد ان خسر العراق مرة اخرى اكثر من ثلاثة ارباع المليون من جنوده ومدنييه كرداً وعرباً ومن كافة الأثنيات من الضحايا بسبب الممارسات العدوانية المستهترة للنظام العراقي هلل وكبر وطبل اليسار العربي (للقائد المغوار) الذي دعا لأول مرة في تأريخ الزعامة العربية الى اعادة تقسيم الثروات العربية بصورة اشتراكية عربية عادلة عملاً بشعار "نفط العرب للعرب!" وكان هذه المرة معظم القادة العرب (الفقراء) اللانفطيين من انصار (روبن هود) العرب! واختلط اليمين باليسار مما نتج عن ذلك كوكتيل (يمي ـ ساري) فريد من نوعه!!
ولاحقت الأمراض الطفولية اليسار العربي طيلة العقد التاسع من القرن العشرين لترسم صورة مشوهة عن القعقاع الجديد للأمة العربية المقارع للأستعمار والصهيونية والرجعية!! الزعيم العربي الوحيد الذي ( تجرأ) وأمطر تل ابيب بالصواريخ الأشتراكية المصممة من قبل (الأصدقاء) السوفيات! وفي الوقت الذي كانت فيه الصواريخ (الأشتراكية) سوفياتية الصنع تقصف الآلاف من مواطنينا العراقيين من الأكراد والعرب وغيرهم مسلحة بالغازات السامة المحرمة دولياً وكان النظام العراقي الدكتاتوري يلاحق فيه جموع اليساريين والتقدميين العراقيين راحت كتائب اليسار العربي تعقد المؤتمرات واللقاءات في شتى بقاع المنطقة لمناقشة هذه الظاهرة (الثورية الأسطورية) الخارقة التي تميز بها النظام العراقي (اليساري)!!
من الواضح ان المرض الطفولي لليسار العربي هو مزيج من الغباء والسذاجة والسطحية النادرة !! لأنه لم يعلم او يفقه او حتى يصدقنا ان نحن اخبرناه بأن آلاف المصريين المخلصين قد صفوا من قبل النظام (الوحدوي) الدكتاتوري! وان آلاف اليساريين العراقيين قد هدرت دماؤهم في السجون العراقية من قبل القعقاع (اليساري) العراقي!! وان الأسلحة السوفياتية قد استخدمت ببراعة لقتل المواطنين الأكراد واليمنيين والمصريين وغيرهم. واليوم وبينما يشهد شعبنا العراقي آخر ايام معاناته حيث ظهرت له في الأفق القريب علامة الخلاص وهبت على العراق طلائع رياح التغيير نجد اليسار العربي مرة أخرى يقترف اثمه الأزلي ويغرق في اعراض مرضه الطفولي التقليدي ومن ورائه ـ ويا لسخرية الأقدار!! ـ جميع القادة والسياسيون الرجعيون والمشبوهون والمرتدون عن الصف الوطني والملتحفون بالدين ـ زوراً وبهتاناً ـ وهم يرفعون جميعاً وبكل حماس ولا مبدئية (راية القعقاع) المشبعة بدماء العراقيين الزكية. دماء اليساريين والأسلاميين وكافة المعارضين بثبات للنظام الدكتاتوري.
وفي ختام مقالنا ننصح زعماء اليسار العربي ان يهدأوا ملياً ويكسروا اقلامهم الملوثة بالعداء للشعب العراقي ولليساريين العراقيين ويعودوا الى صفوف المدارس الأبتدائية لتعلم الفباء السياسة والمنطق من جديد دون ان يأخذوا معهم منظارهم التقليدي الصدئ الذي يقيمون من خلاله وبصورة مشوهة الأحداث الجسيمة على الساحة العربية! ننصحهم ان يتعلموا مع تلاميذ الأبتدائية أوليات جدلية الصراع الحالي بين عولمة القطب المنفرد وبين الأتباع الذين تجاوزتهم (الحاجة) وانتهى الدور المسند اليهم! وتلك ظاهرة عالمية بدأت بعد سقوط الأتحاد السوفياتي! على اليسار العربي ان يفهم قواعد اللعبة الجديدة! ان نورييغا لم يعد (ينفع) بشئ! و(شيوخ) البترول قربت نهايتهم! و(الأمبراطوريات) العتيدة قد انتفت الحاجة الى قيامها!! ان القذافي لم يعد (بطلاً افروعربياً صنديداً)! والملالي قد ادوا الدور ببراعة وبسببهم نسبياً نبعت (القواعد العسكرية الأجنبية) على طول سواحل بحر قزوين! وبن لادن قد صدر امر تقاعده واستحق (المكافأة) على قتله آلاف الجنود السوفيات! وما صنعه مؤخراً كان اعلان عصيان يستحق بموجبه الأعدام! أما القعقاع فقد برع في اداء الدور التخريبي في المنطقة العربية والأسلامية طيلة ثلاثين عاماً واضحى بقاؤه عبئاً ثقيلاً على (صانعيه)!!
هذه هي اهم الدروس الأولية التي ننصح قادة اليسار العربي بالتدرب عليها ليصبح بمقدورهم ان يحللوا الأمور التي تحصل على ساحتهم بمنطق عقلاني ولكي يبتعدوا عن منهجهم السطحي الطفولي! ننصحهم بالسمو الى مستوى الأحداث ومعرفة كنهها ومدلولاتها لا بالبقاء أسرى قافلة اللهاث وراء (الزعماء والحكام) الفاسدين الذين لم يستطيعوا خداع شعوبهم او بناء الجسور مع الناس الذين يحكمون بينما استطاعوا ان يستقطبوا السذج والسطحيين من فرسان (كتائب) اليسار العربي المريض!!