|
على متن السفينة (1)
وليد مهدي
الحوار المتمدن-العدد: 4401 - 2014 / 3 / 22 - 15:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الإنسان والذاكرة
طالما انكر المرءُ تاريخه الحقيقي المرتبط كالوتد في رحم تأريخ الارض ، ولطالما عوضه بآخر منبثق من آفاق خيالاته اللامتناهية ، والذي صور له نفسه على انه كائنٌ سماوي هبط يوماً على هذه الارض من السماء ... ولعلها كانت ، هي اولى خطاياه التي عبر عنها بثقافاته بصيغة معكوسة ادعت المعصية التي قادته الى الارض ، والحقيقة هي ان خطيئته الاولى كانت " المثالية " التي جعلته يتطلع الى فوق .. الى السماء .. نعم ، تاريخ الجنس البشري يقارب العشرة ملايين سنة قضاها في الغابات يعيش كحيوانات الغابة ، وتلتها مليونين أخرى قضاها في العصر الحجري حيث الجبال والهضاب حين بدأت اولى ملامح انسانيتنا تتشكل والتي ختمت بآخر عشرين الف سنة حيث بدأت ولادة " الحضارة " التي نعرفها كما هي اليوم .. فالمورثات ( الجينات ) التي نحملها تحمل من تاريخ الغابة والعصر الحجري ما يزيد على 99 % من محتواها ، وهي ما يجعلنا نستنتج ببساطة اننا بميولنا للغابات والجبال والبحار كأماكن للتنزه والاصطياف إنما هي الميول الدفينة للتاريخ البيولوجي العميق .. ومن هذا نستنتج ايضاً ، ان " الاخلاق " و " القيم " إنما تكتسب اصالتها وتفوقها في حضارتنا العصرية من مدى قابليتها وقدرتها على " لجم " وتقليم وتقويم وتقنين تلك الميول التاريخية الجامحة للسلوك الحيواني الذي نحمله في الجينات ، بمعنى هي قيم تكتسب مصداقيتها من القوة التي تمارسها الجماعات والدولة بحق الفرد .. فإنسانية الانسان هي إعادة تشكيل الانسان على مسار الزمن عبر المحاولة في تغيير محتوى تاريخه الحيواني الى محتوى ثقافي حضاري يؤمن بالأخلاق وقيم الاجتماع التي تحكم العلاقات بين الناس ، ومن هنا جاءت اهمية " العقل " كمعيار للإنسانية .. فالعقل هو المحتوى الثقافي للحضارة ، بمقابل البربرية والهمجية التي تمثل المحتوى البيولوجي لها .. العقل محتوى تعلمي معرفي يعالجه الوعي في منظومة الدماغ الكبيرة ، أما البربرية فتلقائية طبيعية تعالجها الفعاليات الميكروية داخل الخلية الحية ..!! العقل قريب من الجزيئات الكبيرة في العالم ، قريب من كل ما هو محسوس ومدرك ، هو اقرب لميكانيك نيوتن ونسبية اينشتاين .. اما الغريزة ، فهي الاقرب للعالم الميكروي في القواعد النتروجينية للــ دنا DNA ، اقرب الى عالم ما تحت الذرة حيث ميكانيكا شرودنجر و هيزنبرك .. نعم هذا هو الانسان ، صراع ٌ على خط الزمن بين محتوى شريط الدنا DNA المختزن في نواة الخلية وبين محتوى ثقافة بني الانسان المحتواة في " اللغة " التي تختزل الثقافة والعلم والدين في الكتب والموروث التداولي الشفاهي .. فكل لغات العالم .. كل ثقافات العالم .. ورغم ما يتبدى فيها من صراعات وحروب بين الطوائف والامم ما هي في الحقيقة إلا محاولات تنويع يقوم بها الوعي الجمعي البشري لبناء اقوى الانساق الثقافية القادرة على الصمود بوجه محتوى الــ DNA .. فالوعي الجمعي البشري فتيٌ غض ، لا يتجاوز عمره العشرين الف سنة ، هو إنسان ٌ شاب ٌ خائف يعيش على سطح الكوكب الارضي وهو يواجه الوحش البشري ذو عمر العشرة ملايين عام .. وعي الخلية البشرية .. إنسان الغاب .. الثقافة البشرية استشرفت هذه الصورة في محلمة جلجامش ، فجلجامش البطل هو صورة من صور إنسان العشرين الف سنة ، المحتوى الثقافي للذاكرة ، أما خمبابا وحش الارز العملاق وكذلك " الثور " السماوي ما هي الا ترميزات للمحتوى البيولوجي للذاكرة ، ولعل نبوءة زرادشت كانت اكثر وضوحاً في التعبير عن هذا التناقض " التناحري " الذي يقود الى تطور الجنس البشري ممثلاً بهاتين القوتين : اهورومزدا – اله الخير .... وهو ترميز المحتوى الثقافي الاخلاقي لذاكرة بني الانسان ذات عمر العشرين الف عام .. اهريمان – اله الشر ....... وهو ترميز المحتوى البيولوجي الغرائزي لذاكرتنا الجينية المحفوظة في شريط DNA ..
ويبقى الصراع بحقيقته ، بمعناه الحرفي التجريدي ، هو صراع بين الماضي المنطوي في الجينات وما تحت العالم الذري وبين المستقبل الممتد على طول الكون .. والمستقبل يتقدم .. والماضي يضمحل ، لان الزمن يتقدم باتجاه واحدٍ فقط ..
كم نكره الحقيقة ؟
نعم ، الحقيقة حينما تكون صادمة تصبح كريهة تدعونا للفرار منها ، حتى لو كانت تجسيداً لذاتنا ، وليس الجنس البشري بقاصر اليوم لتصنيف هذا الصراع بين الخير والشر بعد كل ما توصل اليه من معارف وعلوم إلا لكون هذا الانسان ذو طبيعة تهويمية ، تعشق الاوهام بـ" الوعي " و ما جره من خيال يسمح له بالهروب عن المدركات التي تخيفه .. فمعرفة ان الشر الذي تحاربه الثقافة والاخلاق هو في الحقيقة " الذات " البشرية نفسها يعتبر اكثر شيء مخيف يواجهه الانسان في حياته على وجه الاطلاق ... فكيف للمرء ان يحارب نفسه ؟ كيف يمكن اقناعه بأن الشرير و الشيطان هما في الحقيقة ترميزات لتاريخنا الحيواني السحيق الذي قضينا منه اكثر من تسعة اعشار حياتنا كجنس بشري بصورة بهيمية ، وهي بجلها ميول تعلي شأن " الفردية " والذاتية على حساب الغيرية و الكلانية الجمعية .. فيما الخير و الاخلاق هي مواريث الايثار والعطاء التي تخفض جناح الفردانية على حساب البناء والعلاقات الاجتماعية .. فالوعي الجمعي ، انسان الحضارة ، هي قيم بناء المجتمع والدولة والطائفة والدين .. هي كل البنى التي تختصر بالضمير " نحن " .. اما اللاوعي البيولوجي العميق فهي قيم بناء الذات والنفس والخصوصية وكل البنى التي تختصر بالضمير " انا " .. حياتنا يا ايها السيدات والسادة صراع طويل بين الانا و النحن ... الانا تنتصر وراء الجدران ، تنتصر خارج نطاق الدولة والقانون التي تمثلها ( نحن ) ، تنتصر حين تصبح المجتمعات ضعيفة مهزوزة البناء الاخلاقي ، فيما تكسب " نحن " الجولة حين يصبح لها بناء مادي وحضاري عظيم كحال " الدولة " الغربية المعاصرة .. وبالمجمل .. وبتقدم التاريخ .. الانا تتراجع .. وفضيلة الــ " نحن " تنتصر ..
فمن يركب السفينة ..؟؟ من يقبل الصعود على متنها ليرى الصورة كاملة للمشهد ، ليعيد قراءة " الحق " و " الحقيقة " ..؟؟
#وليد_مهدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثقافة .. و الحضارة .. و التأريخ ، المسيرة الانسانية نحو ال
...
-
الثقافة الانتاجية : الطريق الى الدولة المدنية ، دولة الإنسان
-
السياسة الخارجية الاميركية و آل سعود ، إلى اين ؟
-
سقوط الحتمية
-
كارما التأريخ
-
بارادايم العقل البشري ، مقدمة في علم الحتمية
-
إشكالات في النظرية الماركسية 2-2
-
إشكالات في النظرية الماركسية 1-2
-
مراجعات في الماركسية (2)
-
مراجعات في الماركسية (1)
-
الإمام المهدي والحرب العقائدية الامبريالية !!
-
الوعي السياسي العربي بين قبول التسلط الاسرائيلي ورفض السلطة
...
-
الوعي السياسي العربي بين قبول التسلط الاسرائيلي ورفض السلطة
...
-
الكعبة , الرمز والدلالة
-
شيء عن الحب
-
شرقاً عبر المحيط ..
-
نحن والهوية : مقارنة في سيمولوجيا البناء الثقافي بين العرب و
...
-
التقمص و الذاكرة The Reincarnation and Memory
-
ذاتَ مساءٍ في تشرينْ
-
اجنحةُ الفراشةْ
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|