|
نحو دور تنموي ثقافي وانساني لجامعة الدول العربية
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 4400 - 2014 / 3 / 21 - 13:45
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
بعد جلاء آخر جندي فرنسي عن سوريا، سنة 1946، وأثناء الاحتفال برفع العلم العربي السوري، قال شكري القوتلي، رئيس الجمهورية السورية آنذاك: لا يرتفع فوق هذا العلم، سوى علم الوحدة العربية! وتشاء الأقدار ان يكون شكري القوتلي نفسه رئيسا للجمهورية السورية في 1958، حين اعلان الوحدة مع مصر بزعامة جمال عبدالناصر، ومنح القوتلي لقب "المواطن العربي الاول". وقد راود الجماهير العربية الواسعة الحلم حينذاك بأن " الجمهورية العربية المتحدة"، الاسم الرسمي لدولة الوحدة المصرية ـ السورية، ستكون نواة للوحدة العربية الشاملة. ولكن لم تكد تمض ثلاث سنوات حتى انهارت الوحدة. ولقد مضى أكثر من ثلثي قرن على إنشاء جامعة الدول العربية، كواحدة من المنظمات الاقليمية والدولية العديدة، التي ظهرت ولا تزال تظهر بعد الحرب العالمية الثانية، بموازاة هيئة الامم المتحدة، أو تحت سقفها. وهو ما يعبر عمليا عن الضرورة التاريخية لعملية التقارب والاتحاد، على شتى الاصعدة، فيما بين الدول والشعوب، على اختلاف أنظمتها الايديولوجية والسياسية والاقتصادية. ولكن "الجامعة العربية" تتميز عن غيرها من المنظمات في أنها لا تقوم على اساس الانتماء الاقليمي فقط، كالاتحاد الاوروبي، او الديني كمنظمة المؤتمر الاسلامي، او المحوري كمنظمة الكومنولث، او السياسي والعسكري كحلف الاطلسي، بل أنها تتفرد بصفة خاصة بها، وهي انها تقوم على اساس الانتماء القومي. ونشدد القول على الانتماء القومي، لا اللغوي، اذ انها ليست ايضا منظمة دول ناطقة باللغة العربية، على غرار مؤتمر الفرنكوفونية او ما اشبه، بل منظمة دول ذات انتماء حضاري ـ قومي واحد. واذا كان الانتماء الى أي منظمة اقليمية ودولية اخرى، هو انتماء "اختياري"، تمليه حسب كل وضع مختلف الاعتبارات والمصالح الايديولوجية والثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، الآنية او المرحلية، فإن الانتماء الى الجامعة العربية، بالنسبة لأي دولة عربية، وإن كان "اختياريا" من حيث الشكل، إلا انه الى جانب جميع الاعتبارات والمصالح الآنية والمرحلية كأي انتماء اقليمي ودولي آخر، يعبر بالاساس عن الانتماء القومي العربي الواحد، الذي هو انتماء تاريخي موضوعي، غير مرتهن بإرادة أي فرد او حزب او نظام او مؤسسة سياسية او دينية، ويتجاوز الأطر الايديولوجية والسياسية والاقتصادية الخ، بأطروحاتها وتجسيداتها المرحلية الملموسة. وبكلمات اخرى، يبدو الانتماء الى جامعة الدول العربية كحق غير مشروط، من جهة، وكواجب التزامي غير مشروط ايضا، من جهة ثانية، بالنسبة لأي دولة عربية كانت، بحيث انه اذا كان الانتماء الى أي منظمة اقليمية هو طوعي بالضرورة، فإن انتماء أي دولة عربية الى "الجامعة" هو فرض متبادل على الجهتين: الدولة العربية المعنية والمجموعة العربية معا. وفي حين يمكن تصور وجود أي دولة، بصرف النظر عن المصلحة في ذلك او صحته، خارج اطار المنظمات الاقليمية والدولية الاخرى بما في ذلك هيئة الامم المتحدة نفسها، فلا يمكن تصور وجود أي دولة عربية خارج نطاق "الجامعة العربية". والامر كذلك حتى في حالة مقاطعة احدى الدول للجامعة او فصلها منها. ذلك ان مثل هذا الفصل او المقاطعة لا يطال مبدأ او اساس الارتباط القومي الذي تقوم عليه "الجامعة العربية"، بل يقتصر على الجانب الممارساتي في العلاقات البينية العربية. وبذلك اصبح الانتساب الى "الجامعة العربية" صفة لازمة لوجود الدول العربية، مجتمعة ومنفردة، ليس فقط بمعنى العضوية في هذه المنظمة الاقليمية، بل ـ وهذا هو الأهم ـ بمعنى الانتماء الى "المجموعة القومية" التي تجسد "الجامعة العربية" وجودها، حتى في حال المقاطعة او تجميد العضوية. ويعود ذلك الى تبلور "العامل العربي"، الذي اصبح عنصرا الزاميا ثابتا في حياة كل دولة عربية، كما وفي السياسة الدولية ككل. فمن جهة، غدت السياسة العامة، الداخلية والخارجية معا، لكل من دول "الجامعة العربية"، مرتبطة ومتفاعلة، مباشرة وغير مباشرة، بالمدى العربي والانعكاسات والتطورات والمسارات والاحداث الواقعة فيه. ومن جهة اخرى، أصبح لزاما على أي دولة اجنبية، كبيرة او صغيرة، كما وعلى جميع المنظمات الاقليمية والدولية، أن تأخذ في الحسبان دور "العامل العربي"، ليس في سياستها العامة المتعلقة بالمنطقة العربية ومحيطها وحسب، بل وفي علاقتها مع كل دولة عربية على حدة، وكذلك في أية علاقات او مواقف، يمكن لها أن تطال من قريب او بعيد الشؤون العربية. وخلال هذه الفترة الطويلة من وجودها، تعرضت "الجامعة العربية" للعديد من الخلافات والنزاعات الحادة، كان ابرزها في الستينات الحرب اليمنية، التي حارب فيها الجيش المصري الى جانب الجمهوريين، بينما وقفت السعودية خاصة وغيرها من دول الخليج، الى جانب الاماميين. وقد اسهمت هذه الحرب بشكل ملحوظ في تمزيق الصف العربي، وإضعاف مصر بصورة خاصة، مما سهل الى حد كبير وقوع هزيمة 5 حزيران 1967. وجاءت حرب الخليج الثانية، التي بدأت باحتلال العراق للكويت، ولمّـا تنته فصولها المريرة بعد، لتسجل مدى لم يسبق له مثيل في حدة الصراع بين الاخوة ـ الأعداء، حيث وقفت بعض الدول العربية، كالاردن واليمن والسودان (وهي التي اطلق عليها الكويت في حينه تسمية "الدول الضد")، الى جانب العراق، بينما وقفت دول عربية اخرى، وعلى رأسها بالطبع السعودية وباقي دول "مجلس التعاون الخليجي"، الى جانب الكويت، من ضمن التحالف الدولي الذي نشأ بزعامة اميركا، وقام بشن الحرب المضادة على العراق، التي سميت "عاصفة الصحراء"، وتم فيها تحطيم قوات الجيش العراقي وطردها من الكويت، وضرب مؤخرته العسكرية والمدنية، ومن ثم فرض العقوبات العسكرية والاقتصادية الجائرة على العراق، تحت مظلة الامم المتحدة. واذا نظرنا الى تعدد وضخامة الجيوش، وكثافة الاسلحة التدميرية، ومستوى التكنولوجيا، التي استخدمت في هذه الحرب، والاهتمام الدولي الذي استقطبته، لأمكننا القول أنها اشبه ما تكون بـ "حرب عالمية" مصغّـرة، من طرف واحد، بعد الحرب العالمية الثانية ذات المدى الأشمل. وهي، بهذه الصفة، نوع من "الدرس" العام، الذي يرسم بعض ملامح ما يسمى "النظام العالمي الجديد"، بزعامة الولايات المتحدة. وقد احدثت هذه الحرب ما يشبه الزلزال في الساحتين العربية والدولية، وتمخضت عن نتائج خطيرة كثيرة، أهمها ثلاث: الاولى ـ أنها فتحت جرحا عميقا، بل الأعمق حتى الآن، في الجسم العربي، ووضعت قيد المراجعة الاساسية طبيعة العلاقات العربية ـ العربية. الثانية ـ أنها شـّرعت الوجود الغربي، وخصوصا الاميركي، في المنطقة، بحيث اصبحت الولايات المتحدة تصرح علنا بأن شؤون الشرق الاوسط تدخل ضمن المدى الحيوي للأمن والمصالح "القومية" الاميركية. ويدخل ضمن هذا البند تشريع الوجود الاسرائيلي، ومحاولة ادخاله في إطار اقتصادي ـ سياسي اقليمي (شرق أوسطي)، يخضع للوصاية الاميركية، ويقوم بتهميش جامعة الدول العربية والحلول محلها. الثالثة ـ بعد الحرب الافغانية ضد السوفيات، التي قوضت هيبة الجيش الاحمر، اهم الاركان الرئيسية للنظام السوفياتي السابق، وشوهت صدقية السياسة الخارجية لهذا النظام، فإن حرب الخليج الثانية وجهت الضربة القاضية لوضعية الاتحاد السوفياتي السابق كقوة دولية عظمى، حيث انكفأت روسيا الى داخل حدودها الخاصة، وفتح الباب على مصراعيه لانهيار الاتحاد السوفياتي من الداخل، بعد ان فقد مبرر وجوده كهيكلية لدولة متعددة القوميات، ذات مستوى ونفوذ عالميين. ونرى من الضروري ان نتوقف قليلا عند هذه النقطة الاخيرة: ان العلاقات بين الدولة السوفياتية السابقة، وعدد من الدول العربية، "الثورية" وغيرها، كانت تمثل أحد عوامل التوازن الستراتيجي الدولي في المنطقة، بما في ذلك التوازن العربي ـ الاسرائيلي. وإن عددا من الدول العربية المحافظة ذاتها، الصديقة التقليدية للغرب، كالسعودية والكويت والمغرب، أخذت في حينه في اقامة وتوسيع العلاقات مع الكتلة السوفياتية السابقة، ومع الصين الشعبية، بما في ذلك على الصعيد العسكري الى حد معين، ليس فقط سعيا وراء الفائدة المباشرة من هذه العلاقات، بل بالاساس وعيا من تلك الدول لأهمية هذه العلاقات في الحد من غلواء الغرب في دعم اسرائيل، وللانعتاق نسبيا وتدريجيا من ربقة الوصاية الغربية عامة، والاميركية خاصة. وقد ترتب على هذه العلاقات مفاعيل دولية عديدة، نتوقف عند اثنين منها: الاول ـ الالتزام الستراتيجي النسبي للسوفيات بالجانب العربي ككل. والثاني ـ انه اصبح للسوفيات "كلمة مسموعة" لدى الجانب العربي، في أي خطوة استراتيجية ذات طابع دولي، يمكن ان يقوم بها. وبناء على ذلك فإن السوفيات وقفوا الى جانب العرب في كل الحروب التي خاضوها مع اسرائيل، ودعموهم عسكريا واقتصاديا. ولكن السوفيات كان لهم مفهومهم الستراتيجي الخاص للصراع العربي ـ الاسرائيلي في مداه الدولي. وانطلاقا من هذا المفهوم، فقد طلبوا من جمال عبدالناصر، عشية حرب حزيران 1967، عدم المبادرة بالهجوم على اسرائيل. وقد "استمع" عبدالناصر للنصيحة السوفياتية. وفيما بعد، فإن انور السادات عمد الى ابعاد الخبراء السوفيات من مصر، قبل حرب تشرين 1973، والا لكان عليه ان "يستمع" الى نصيحة مماثلة. ومعلوم انه كانت تربط الاتحاد السوفياتي السابق والعراق، معاهدة ستراتيجية شاملة، تسمى معاهدة صداقة وتعاون، على غرار ما كان قائما فيما بين دول الكتلة السوفياتية ذاتها. وكان يترتب على هذه المعاهدة التزامات متبادلة، منها عدم قيام أي من الطرفين بخطوات ستراتيجية تهدد امنه القومي او الامن الدولي، بدون اشعار واستشارة الطرف الآخر. وبصرف النظر عن تقييم الغورباتشوفية، فإن القيادة الاخيرة للاتحاد السوفياتي السابق لم تكن ابدا في وارد تأييد مبادرة الهجوم على الكويت. فإذا كانت تلك القيادة قد "استشيرت" من قبل النظام العراقي، قبل الهجوم، ولم "يستمع" ذلك النظام لمشورتها، فتلك مصيبة لهيبة الاتحاد السوفياتي السابق كدولة عظمى. أما اذا لم يكن لها "رأي"، فتلك مصيبة اعظم. وأما اذا لم تكن قد "استشيرت" من قبل حليف استراتيجي بأهمية العراق، وفي مواجهة بمثل تلك الخطورة الدولية، فتلك الطامة الكبرى للقوة السوفياتية العظمى. ومن جهة ثانية، فإن القيادة السوفياتية لم تكن في وارد "احترام" معاهدة التحالف الستراتيجي بينها وبين العراق، وحماية "حليفها" من الضربة "التأديبية" التي تعرض لها. بل ويشاع ان تلك القيادة ـ او بعضها على الاقل ـ سهلت بشكل حاسم تلك الضربة، عن طريق تسليم اميركا الاسرار العسكرية "السوفياتية" الخاصة بالعراق، التي كانت تشمل كل شاردة وواردة فيه. وفي كلا الحالتين، فإن "عاصفة الصحراء"، ومع رميم الآلة العسكرية العراقية، السوفياتية في الغالب، دفنت في رمال الصحراء العربية ـ ايضا وبالدرجة الاولى ـ وضعية الاتحاد السوفياتي كدولة عظمى، مما سهل على القيادة الغورباتشوفية دفنه كاتحاد دول، ومن ثم فتح الطريق لمحاولة دفن روسيا ذاتها كدولة اتحادية. واذا كانت روسيا اليوم تحاول النهوض من جديد والعودة الى المسرح الدولي كقوة عظمى، فإنها لن تستطيع ان تسترجع الا بشق النفس المكانة التي كان يتمتع بها الاتحاد السوفياتي السابق. وهنا تبرز بشكل موضوعي مقارنة تاريخية، تستوجب التوقف عندها، وأخذ العبر اللازمة منها: ـ اذا كانت حرب الخليج الثانية، في دائرتها الابعد ـ الدولية، قد فعلت فعلها في التعجيل في القضاء على الاتحاد السوفياتي، كدولة عظمى ذات بنى موحدة، كالعملة والجيش والمخابرات والادارة المركزية وغيرها وصولا الى ـ او بدءا من ـ الحزب الحاكم الواحد ذاته الذي تشظى الى عشرات الاحزاب السوفياتية السابقة والروسية، فإن هذه الحرب ذاتها، في دائرتها الأقرب ـ العربية، وبالرغم من الزلزال الذي احدثته في العلاقات البينية العربية، والذي انعكس بشكل مأساوي على اوضاع الجامعة العربية، الا انها لم تؤد الى انهيار "الجامعة العربية" كمؤسسة، بالرغم من كل هشاشتها كبنية دولوية، بالقياس الى ما كانت عليه البنية الدولوية الصلدة للاتحاد السوفياتي السابق. وعلى العكس من ذلك، فإن حرب الخليج الثانية كرست موضوعيا، اكثر من أي وقت مضى، ضرورة ارساء العلاقات البينية العربية على اسس متينة، بشكل عام، وضرورة استمرار وتطوير الجامعة العربية، بشكل خاص، ليس فقط بالنسبة لطرفي النزاع العربيين، او للدول العربية ذات الوزن الخاص، كمصر وسوريا والسعودية الخ، بل ولكافة الدول العربية بدون استثناء. وليس في هذا الثبات للجامعة العربية امام صدمة حرب الخليج الثانية، وغيرها من الازمات العربية التي لا تكاد تنتهي، أي أعجوبة او سر خاص. بل هو يرجع الى طبيعة الهوية القومية للجامعة العربية، كما سبق واشرنا. فهذه الهوية هي موجودة وستوجد الان وفي المستقبل: قبل وبعد، مع وبدون، ضمن وفوق، أية خلافات او ازمات عربية. بل ولا بد ان نلاحظ ان النزاعات ذاتها، ضمن "منازل" العائلة العربية الواحدة، تفعل فعلها في تثبيت الهوية العربية، حيث اننا نجد مشهدا يتكرر في كل النزاعات، وهو ان كل طرف من اطراف أي نزاع يأخذ في التأكيد على عروبته، ولوم الطرف او الاطراف المغايرة بأنها لا تفي ـ مثله ـ العروبة حقها، وأنها تطعن الاخوة العربية في الظهر الخ الخ، بحيث يستوي المدعي والمدعى عليه، الجاني والمجنى عليه ـ اذا صحت هذه التعابير "القضائية" ـ في الوقوف في صف المحاماة عن العروبة، التي تصبح هي على وجه التحديد مادة الارتكاز الاساسية لـ "مطالعة" جهتي "الاتهام" و "الدفاع" على حد سواء. ويبدو هذا القول متناقضا، من حيث الشكل والمحتوى، مع الانطباع السلبي الذي انتشر في السنوات الاخيرة، حول تراجع المشروع القومي العربي، وضعف الحماس للوحدة العربية الخ. وهذا الانطباع لم ينشأ اعتباطا بل هو يستند الى "وقائع عنيدة"، كما يقول المثل الانكليزي، بدءا من انهيار الوحدة المصرية ـ السورية، وفشل مشروع الاتحاد الثلاثي المصري ـ السوري ـ العراقي، والمبادرات "الوحدوية" للقيادة الليبية السابقة وغيرها، ناهيك عن النزاعات الدموية كحرب اليمن والصحراء المغربية ولبنان والسودان والخليج ومآسي "الربيع العربي" المزيف الحالي الخ. وينبغي هنا ابداء الملاحظتين الرئيسيتين التاليتين: الاولى ـ ان انكفاء المشروع القومي، وفتور الحماس القومي، هو انكفاء وفتور تجاه اشكال وحدوية وممارسات قومية وقطرية محددة، مجسدة بأنظمة واحزاب وتيارات ومشاريع سياسية وعسكرية واقتصادية معينة، وليس بأية حال انكفاء عن الهوية القومية العربية من حيث الجوهر. ونورد على هذا الصعيد أربعة امثلة نعتبرها نموذجية: 1 ـ ان الصراع حول "عروبة لبنان"، الذي كان احد ابرز وجوه الحرب اللبنانية، لم يكن في الحقيقة سوى صراع حول "أية عروبة" للبنان. و"الانعزاليون" اللبنانيون انفسهم، في أي وقت من الاوقات ـ قبل وأثناء وبعد (اذا صح ان نقول بعد) هذه الحرب، وحتى في اوج علاقة اطرافهم الرئيسية باسرائيل ـ لم يكونوا مقطوعي الجذور العربية، او مقطوعين عن كل العرب. بل على العكس تماما، كان لهم "عربهم"، وكانوا هم بمعنى ما "روادا" لـ"عروبة" معينة. وهم لم يكونوا العرب الوحيدين الذيم ينزلقون الى التفرقة الطائفية، والمبالغة في الخصوصيات و"الافضليات" القطرية، والاستعانة بالغريب على القريب، والذين يرون ان التمدن والترقي لا يكون الا ـ على الطريقة التركية الاتاتوركية واليهودية الغربية الصهيونية ـ بتبني نهج التغريب السياسي والاجتماعي والثقافي. ومثلما ان "الصحوة الشرقية"، بشكلها الديني او السياسي او غيره، بدأت تطال المجتمع التركي، والمجتمع الاسرائيلي ذاته، فإنه لذو دلالة كبيرة ان هؤلاء "الانعزاليين" أنفسهم، او القسم الاكبر منهم، بدأوا يتوصلون الى استيعاب حكمة المثل الشعبي اللبناني المعروف، ذي المنشأ المسيحي الشرقي على الأرجح، وهو "زؤان بلدك، ولا قمح الصليبي"! 2 ـ ان انهيار الوحدة المصرية ـ السورية، وغيرها من المشاريع الوحدوية، لم يؤد الى التخلي عن الهوية القومية من قبل أي من الاطراف المعنية. بل العكس هو الصحيح. وفي ذلك تناقض ظاهري فقط. اذ ان سبب تلك الانهيارات لا يعود ابدا الى الخلاف حول الهوية القومية بذاتها، بل الى التعارض بين الرؤى والمصالح الفئوية والحزبية والقطرية، السياسية والاقتصادية، والى محاولات فرض الموقف الجهوي الخاص، على العلاقة الوحدوية او الاتحادية ذات الطابع التعددي. وبذلك فإن فشل تلك التجارب الوحدوية لا يعد فشلا للمشروع القومي بحد ذاته، بل تقصيرا وعيوبا وتعارضا وبالنتيجة فشلا لسياسات ومواقف محددة، حاولت اخضاع المشروع القومي العام لسقفها الفئوي الخاص. 3 ـ مثال "مجلس التعاون الخليجي"، الذي استمر في الوجود وتعزز دوره، بحيث اصبح ذا شخصية خاصة. وهذا النجاح ذاته يؤكد ايضا ان نجاح او فشل تجارب وحدوية جهوية معينة، ضمن الاطار العربي العام، لا يتعلق بالانتماء القومي الجامع، بقدر ما يتعلق بالتقاء مفاهيم وخطوط سياسية معينة. فدول "مجلس التعاون"، هي دول متقاربة من حيث التركيبة الاقتصادية، وطبيعة انظمتها المحافظة، ذات العلاقة التقليدية مع الغرب، والتي انتهجت سياسة متحفظة و"تطورية"، في التنمية الاقتصادية، والتحولات السياسية الداخلية، والالتزامات العربية والدولية. ومعلوم ان "مجلس التعاون"، وفي المدى الخليجي ذاته، يستثني من عضويته بلدين خليجيين مهمين، هما العراق واليمن. ومن زاوية نظر معينة، فإن هذا الاستثناء هو الذي ضمن استمرار "مجلس التعاون" حتى الآن. ولكن نجاح "مجلس التعاون" بتركيبته الحالية، مثلما "نقصان" خليجيته باستثنائه العراق واليمن، لا يزيد ولا ينتقص من عروبة لا الدول الاعضاء في "مجلس التعاون" ولا العراق واليمن خارجه. ذلك ان الاساس الذي يقوم عليه "مجلس التعاون" هو انه، اولا واساسا، يضم دولا ذات هوية عربية، وثانيا، هي على وجه التحديد دول ذات انظمة ومفاهيم ومناهج متقاربة. واذا كانت عروبة دول "مجلس التعاون" هي السدى الذي يجمعها، فإن هذا التقارب بالذات هو اللحمة التي يقوم عليها "مجلس التعاون". واذا ما افتقد هذا التقارب ـ جدلا ـ لأي سبب كان، فإن وحدة "مجلس التعاون" توضع امام الامتحان، دون ان يمس ذلك عروبة الدول العربية داخله وخارجه. 4 ـ حققت جمهورية اليمن وحدتها الوطنية منذ حوالى ربع قرن. علما ان اليمن الشمالية كانت قد تحررت من الامامية واعلنت الجمهورية سنة 1961، وان اليمن الجنوبية كانت قد نالت استقلالها سنة 1967، وبذلك اصبحت الطريق مفتوحة تماما لوحدة "اليمنين" منذ ذلك الحين، من وجهة النظر القومية والقطرية معا. ومع ذلك اقتضى مرور حوالي ربع قرن، ووقوع العديد من النزاعات العنيفة وحتى الدموية داخل كل من القطرين السابقين، قبل ان يكون بالامكان توحيدهما. وحتى بعد قيام الوحدة، دب الخلاف السياسي بين بعض القوى والاحزاب السياسية "الجنوبية" و"الشمالية" السابقة، بلغ حدود الصراع المسلح في 1994، وكاد يؤدي الى الانفصال من جديد. ومن الواضح ان السبب في تأخير الوحدة اليمنية، وخطر الانفصال الذي تعرضت له، انما كان سببا ذاتيا بحتا، لا علاقة له بالهوية القومية والوطنية القطرية، ويعود فقط الى عملية نضج القناعات الوحدوية لدى مختلف الاطراف السياسية الفاعلة. ونجاح وحدة اليمن هو مثال يحتذى بالنسبة لكل العرب. الثانية ـ ان استمرار وجود جامعة الدول العربية، هو "شهادة تاريخية" ـ اذا صح التعبير ـ ليس فقط على استمرار وجود المشروع القومي العربي، بل وعلى حتمية انتصاره. xxx فما الذي جعل "الجامعة العربية" تصمد لكل ما تعرض له الوطن العربي من محن وويلات وأزمات خلال نصف القرن الماضي، وتبقى الاطار الجامع لكل البلدان العربية، في مختلف حالات التوافق والتنازع، النجاح والفشل، في حين ان اشكال الوحدة او الاتحاد الاخرى، اما فشلت، او ظلت محدودة الاطار في حال نجاحها؟! يمكن الدخول في تحليلات مطولة حول مختلف جوانب هذا الموضوع الشائك والمعقد. ولكن السبب الجوهري ـ في رأينا ـ الذي يكمن فيه "سـر" استمرار الجامعة العربية وشموليتها العربية، هو الخيط الرفيع الذي يميز شرط "العضوية" او "الانتساب" للجامعة، من جهة، والاشكال التوحيدية العربية الاخرى، من جهة ثانية: فشرط الانضمام الى الجامعة هو شرط موضوعي، غير مرهون بارادة أي طرف او عضو من اعضائها، كبيرا او صغيرا، قويا او ضعيفا، غنيا او فقيرا. في حين ان شروط الانضمام الى الاشكال الاخرى هي شروط ذاتية، خاضعة لمدى وطبيعة الاتفاق والاختلاف فيما بين الاطراف المعنية. وبكلام آخر: ان الاساس الذي تقوم عليه "الجامعة العربية" ليس هو الانتماء الى خط سياسي قومي معين، متشدد او متساهل، ثوري او محافظ، تقدمي او رجعي، دمقراطي او دكتاتوري، الخ، بل هو ـ وبكل بساطة ـ مجرد الانتماء الى الهوية القومية العربية، التي يتساوى فيها الجميع، موضوعيا، بمعزل عن ارادتهم وقناعاتهم وخياراتهم ذاتها. فهذه الهوية ليست نتاجا ولا رهينة لأي عائلة او عشيرة او قطر او حزب او نظام او دين او مذهب او فلسفة او تيار، او غير ذلك من المؤسسات المجتمعية والدولوية، السياسية او الايديولوجية، بل هي نتاج للتاريخ، الذي تخضع له وتدخل فيه، فاعلة ومنفعلة ومتفاعلة، مختلف المؤسسات والحركات السياسية والاجتماعية. والانتماء الى الهوية القومية هو، بالتالي، محصلة تاريخية تقوم ليس فقط رغما عن "الغير"، بل و"رغما عن اصحابها بالذات"، ولا يستطيع "الهروب" منها حتى الذين "لا يريدونها"، كما جرى لذلك القسم من "الانعزاليين" اللبنانيين، الذين تعاونوا مع اسرائيل، ومع ذلك ظلوا "عربا" في تعاملها هي معهم، حتى في احسن اوقات "شهر العسل المر" بينهم وبينها. وهذا الانتماء هو ارث تاريخي مشترك، لا فضل فيه ولا منـّة لطرف على آخر، ويتساوى فيه الفقير والغني، الامي والمتعلم، المتخلف والمتقدم، الضعيف والقوي، المسلم والمسيحي واليهودي، الديني والعلماني، وحتى "الابن الشاطر" و"الابن الضال" ـ حسب التعبير المسيحي ـ بحيث يمتلك الجميع "حقوقا قومية متساوية"، لا بالقانون، ولا بالسلطة، ولا بالمال، ولا بالعقيدة، ولا بالرأي، بل بالطبيعة، الجغرافية ـ الديموغرافية الانسانية التاريخية، التي هي حقيقة بذاتها، تشهد لنفسها بنفسها، ولا تحتاج لشهادة احد بها، حتى صاحبها. وبحيث لا يستطيع احد ان "يختار" او "لا يختار" ان يكون او لا يكون عربيا. وبالتالي، يمكن لهذا الطرف او ذاك، انطلاقا من مركز نفوذ او مرجعية اعتبارية معينة، اعطاء "شهادة" ولاء او صلاح او صدقية، سياسية او فكرية او دينية، معينة، لأي طرف آخر، ولكنه يستحيل على أي طرف كان اعطاء "شهادة عروبة" لأي طرف عربي بالطبيعة، او نزع الصفة العربية منه. انطلاقا من هذا الاختلاف الجوهري ـ الموضوعي والذاتي ـ في شروط "العضوية"، فإن قيام واستمرار أي شكل وحدوي آخر، كان ولا يزال مرهونا باتفاق واختلاف اطرافه. في حين ان أي دولة عربية، حال حصولها على الاستقلال السياسي، كانت تجد نفسها تلقائيا "ملزمة"، من نفسها وبنفسها، وبصرف النظر عن طبيعة نظامها وسياستها الخ، بالانتماء الى الجامعة العربية. وبالمقابل كان الاعضاء السابقون عليها في الجامعة العربية ملزمين ايضا تلقائيا بقبول كل دولة عربية جديدة، مهما كان رأي كل منهم بها وبنظامها. و"الاستثناء" الوحيد الذي جرى على هذا الصعيد، قبل ما يسمى "الربيع العربي" والازمة السورية، هو تجميد عضوية مصر في الجامعة، بعد صفقة كامب دايفيد، التي شذت فيها القيادة الساداتية عن الاجماع العربي، في قضية مصيرية كقضية الصراع العربي ـ الاسرائيلي، مسببة اضرارا فادحة لا تزال مفاعيلها جارية حتى الان، للمصالح الستراتيجية العليا للامة العربية. ومع ذلك فقد بينت مجريات الامور انه كان ليس فقط من الخطأ، بل ـ اساسا وبالنتيجة ـ من المستحيل نفي عضوية أي من اعضاء الجامعة العربية، بصرف النظر عن صحة او عدم صحة المبررات التي يستند اليها هذا النفي. وبالتالي فإن تجربة هذا "الاستثناء" ذاته لم تلغ ميزة القاعدة الموضوعية التي تقوم عليها عضوية الجامعة العربية، بل اكدتها بشكل قاطع ونهائي. وقد تأكد بالتجربة خطأ وعبث فصل مصر من "الجامعة العربية"، كما يتأكد الان أيضا خطأ وعبث فصل سوريا في الوقت الحاضر. XXX بهذه الميزة الموضوعية، فإن الجامعة العربية التي استمدت وبنت وتبني وجودها، كشخصية قومية عامة، من ضمن الوجود المحدد الخاص لكل دولة من مجموعة الدول العربية المستقلة، تحولت بدورها الى قدر محتوم ـ ليس بالمعنى الغيبي، بل بمعنى الجبرية التاريخية ـ لوجود كل حلقة من هذه السلسلة الطويلة من الدول العربية. والواقع انه ليس في العالم مثال شبيه لوضع الامة العربية. فهناك امم عديدة مجزأة، لاسباب واوضاع تاريخية وسياسية مختلفة، كالصين وكوريا وكردستان وغيرها. ولكن ليس هناك في العالم امة مستقلة سياسيا وعلى هذا القدر من التجزئة، وفي الوقت ذاته تمتلك منظمة موحدة، قومية المحتوى اقليمية الشكل، كالجامعة العربية. هذه المفارقة المزدوجة تؤكد حقيقتين تاريخيتين هما: 1 ـ على قاعدة الضد الذي يؤكد ضده، فإن التجزئة بذاتها، ومستجراتها من الخلافات والحروب البين ـ عربية، هي نفسها تؤكد الطابع القومي للجامعة العربية. فلو انها كانت منظمة اقليمية او محورية وحسب، تتكون من امم وقوميات مختلفة، لما صمدت لمثل هذه النزاعات. 2 ـ ان عامل التوحيد بين العرب، يفرض نفسه بالضرورة على عامل التجزئة، وإن كان العاملان "يتعايشان" بصورة لا مثيل لها في أي مكان آخر في العالم. فإذا تجاوزنا الفسيفساء العجيبة، والفريدة في نوعها، للتجزئة العربية، ونظرنا في واقع أية امة اخرى مجزأة الى اكثر من دولة مستقلة ومعترفا بها دوليا، كالصين والهند وباكستان وكوريا الخ، لما وجدنا لدى ايا منها اطارا توحيديا توفيقيا كالجامعة العربية. فالتوحيد لدى تلك الدول، اذا تم، يمر حتما عبر التوحيد السياسي. ففي الحقبة الاخيرة، على سبيل المثال، تم توحيد "الالمانيتين" على قاعد انهيار النظام السياسي في احداهما، وسيطرة النظام الآخر. كما تم ضم هونغ كونغ الى الصين الشعبية، على قاعدة الاعتراف بالسيادة الصينية الكاملة على الجزيرة، مع الاحتفاظ لها بوضع اقتصادي ـ سياسي ـ اداري خاص لمرحلة تاريخية معينة. والمعادلة التي طرحتها الصين: دولة واحدة ونظامان، هي الآن بانتظار تايوان التي اعلنت رفضها لتلك المعادلة، ولكن الى متى. ومع كل مرونة هذه المعادلة، فهي تختلف اختلافا جوهريا عن المعادلة التي تقوم عليها جامعة الدول العربية، التي تحتفظ لكل قطر عربي بشخصيته المستقلة، لا كنظام اقتصادي ـ اجتماعي ـ سياسي وحسب، بل اساسا كدولة. XXX والاختلاف بين الحالة العربية، وحالة أية أمة مجزأة اخرى، يعود الى المسار الذي تم الوصول فيه الى التجزئة. فالصين والهند وكوريا والمانيا، كانت موحدة وتجزأت، على اساس سياسي او ديني الخ. وبذلك اصبح العامل السياسي او الديني الخ، الذي كان مثار الخلاف وسبب التجزئة، محكا اساسيا للعلاقات فيما بين دول الامة المجزأة، وعائقا امام ايجاد اشكال توحيد توفيقية. وبكلمات اخرى، فإن مثال الامم الاخرى التي تعرضت للتجزئة الدولوية في التاريخ الحديث يبين، بشكل عام، أن كل منها "وصلت" الى التجزئة، أي انتقلت من دولة ـ أمة موحدة، الى دول ـ أمة مجزأة. أما بالنسبة للعرب، فقد حدث العكس تماما. فالامة العربية لم "تأت" الى التجزئة بعد قيام دولة عربية مستقلة موحدة، بل جاءت ـ بالتتالي ـ الى نشوء كافة الدول العربية المستقلة الحديثة، على ارضية التجزئة التي كانت قائمة فعلا، والتي تكونت وتكلست عبر مئات السنين الماضية، نتيجة ما تعرضت له المنطقة العربية خلال الحقبات الماضية من عوامل التفكيك والتذويب والاستلاب والاجتياح، الداخلية والخارجية، التي توجتها الفتوحات "القارية"، كالحملات الصليبية والتتارية، و"الفتح" العثماني الذي دام قرونا، والذي أنجز ـ بمساعدة اوروبا الغربية وبالتعاون مع اليهود الخزر أبناء عم الطورانيين ـ ما كان قد بدأه الصليبيون، حيث فعل العثمانيون فعل الطاعون في ما كان قد تبقى حتذاك من الصرح الحضاري العربي ـ الاسلامي، وأخيرا لا آخر سيطرة النظام الكولونيالي والامبريالي القديم والجديد، على اختلاف اشكاله وجنسياته، وتناقضاته، والذي يعتبر السرطان الصهيوني واسرائيل جزءا لا يتجزا منه. وبعد انهيار الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الاولى، فرضت الدول الاستعمارية الجديدة على المنطقة العربية "اتفاقية سايكس ـ بيكو" (و"ملحقها" وبيت القصيد فيها: "وعد بلفور" لانشاء "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين المغتصبة). وقد فضحت الثورة الاشتراكية في روسيا هذه الاتفاقية وسمتها "اتفاقية لصوصية استعمارية". وقد استغلت "اتفاقية سايكس ـ بيكو" ورسخت و"طورت" التقسيم الديني والمذهبي والعشائري والمحلي القائم، ولكنها لم توجده، بل سعّرته وعمقته، واعطته طابعا سياسيا ـ دولويا كي يخدم المصالح الاستعمارية الخارجية وتقسيم المنطقة فيما بين الدول الاستعمارية، من جهة، وفيما بينها وبين الصهيونية العالمية التي دخلت في خدمتها، من جهة ثانية. ولكن بالرغم من نجاح الدول الاستعمارية في التقسيم السياسي ـ الدولوي للمنطقة العربية، الا انها لم تستطع نزع الصفة القومية "العربية" عنها، ذلك ان الخصائص الحضارية التاريخية التي تجمع الامة العربية، هي اعمق واثبت واكثر اصالة بكثير من الاختلافات الدينية والمذهبية والعشائرية والمحلية التي "تفرقها". XXX ولكن بالرغم من كل الحدود والسدود، الاتنية والطائفية والعشائرية والمحلية، التي "ساعدت" على ولادة كل هذه الدول العربية، وبالرغم من كل محاولات التتريك والتغريب والمذهبة والتطييف والقطرنة، التي دامت مئات السنين ولا تزال مستمرة حتى الآن، فإن الشخصية القومية العربية تجاوزت كل الصعاب، بل واصبحت خشبة الخلاص لكل فئة وجزء من فئات وأجزاء الامة والارض العربية. واذا راجعنا تاريخ كل حركة ذات طابع تحرري، اجتماعي او وطني، لوجدنا انها كانت تستمد قوتها الاساسية من هويتها العربية واعتمادها على العامل القومي العربي، محتوى ومدى، الذي كان يقلص ويعوض سلبيات وشوائب التقوقع المحلي والطائفي الخ، ويدعم تلك الحركة في الوصول الى اهدافها المبرّرة تاريخيا. حتى ليمكننا القول إنه ما من بلد عربي، صغيرا ام كبيرا، كان بامكانه التوصل الى تحقيق استقلاله وتكوين دولته الخاصة، بدون الدعم والمشاركة العربيين، بمختلف الاشكال المادية والمعنوية، المباشرة وغير المباشرة، وعلى مختلف المستويات الشعبية والرسمية، التلقائية والمنظمة. وإن جميع الدول العربية، واحدة واحدة بدون استثناء، هي مدينة ـ بوجودها كدولة حرة مستقلة ذات سيادة ـ لانتمائها العربي أولا وأخيرا. وهذا ما يعرفه تماما جميع "القطريين" و"الانعزاليين" أنفسهم، بالرغم من كل محاولات بعضهم أحيانا التبرؤ من التاريخ ومسخه، بما فيه التاريخ الخاص لاقطارهم، وهم الذين كانوا يتشدقون بالعربية، ويستجيرون بالعروبة، قبل الاستقلال، ويستنجدون بـ"الاخوة والاشقاء" لدى كل ضائقة ألمت ببلدانهم، بعد الاستقلال. فهذا الانتماء، في مداه ومدلولاته الحضارية، هو الذي كان ـ ضمن نطاق كل ناحية ودولة عربية على حدة ـ يمد الجميع بالقوة المعنوية الهائلة، قوة الهوية الحضارية العربية، الضاربة في اعماق التاريخ، مما كان ولا يزال يجعل حتى أصغر وأفقر عشيرة عربية شبه أمية، بفعل نوائب الزمان، تستعصي على التذويب، وتقف في مواجهة امبراطوريات استعمارية "عظمى"، وآخرها العثمانية والبريطانية والفرنسية، كما تقف اليوم في وجه الامبراطورية المالية ـ العسكرية، الاميركية ـ الصهيونية، لتقول ببساطة وقوة: نحن العرب! وهذا الانتماء، في مداه الجغرافي ـ البشري، هو الذي كان ولا يزال يجعل أية قوة معادية، مهما كانت كبيرة، تحسب الحساب لكامل الجسم العربي، حين تصديها لأي عضو من أعضائه. من هنا نجد أن مطمح التعاون والتضامن، وحتى الوحدة السياسية الكاملة، من أيام صلاح الدين حتى عبدالناصر، كان مرافقا على الدوام لكل حركة تحرر او نهضة، فوق أية بقعة عربية. ويكفي أن نشير هنا الى مثال واحد معبّـر، هو المراسلة التي تمت بين يوسف كرم، الزعيم اللبناني المسيحي الماروني الذي حارب التسلط العثماني على جبل لبنان في ستينات القرن التاسع عشر، ونفي الى اوروبا ومات فيها، وبين الامير عبدالقادر الجزائري، الزعيم العشائري ـ الديني المسلم الذي حارب الغزو الفرنسي للجزائر ونفي الى دمشق ومات فيها. فقد أرسل الاول للثاني رسالة يقول له فيها ما مفاده أنه اطلع على ألاعيب السياسة الاوروبية، وأنه لا أمل للعرب إلا بقيام الاتحاد فيما بينهم، وأنه يبايع الامير عبدالقادر (الذي أنقذ مسيحيي دمشق من مذابح 1860) ليكون هو زعيم هذا الاتحاد. ولم يكن من الصدفة في شيء أنه، غداة الحرب العالمية الثانية، ومع بداية انهيار النظام الكولونيالي القديم، وحصول الاقطار العربية على استقلالها بنتيجة ذلك، تجسد هذا الاتجاه التاريخي على الفور، بإقامة جامعة الدول العربية، كحد أدنى من أشكال الوحدة القومية، يقوم على التضامن التوافقي ـ الاجماعي. XXX ولا شك أن "الجامعة العربية" لا تلبي الى الآن التطلعات والمشاريع القومية الوحدوية، لا الطموحة وحسب، بل وحتى الحد الادنى منها، الرامية الى تجسيد وحدة الأمة في اي شكل من اشكال الدولة الموحدة. ذلك أن "الجامعة العربية" لا تخرج الى الآن عن كونها صيغة تعاقدية ـ توافقية دنيا، بين دول مستقلة تماما، ولا تمثل حتى حدا ادنى من أشكال الدولة الموحدة الحديثة، كالفدرالية او الكونفدرالية وما اشبه. ومن زاوية نظر معينة، تبدو الجامعة العربية وكأنها نوع من "التواطؤ الضمني"، في ما بين الكيانات العربية القائمة، على الاعتراف بالامر الواقع وتكريسه، أي أنها تبدو لا كفعل قومي توحيدي، بل كرد فعل معكوس للوحدة القومية. وهذا الانطباع السلبي، بالاضافة الى معطيات عديدة أخرى طبعا، هو برأينا العامل الرئيسي الذي كان ولا يزال يجعل الكثير من الوحدويين العرب لا يعيرون الاهتمام الكافي للجامعة العربية، إذ يعتبرونها مؤسسة للتجزئة، لا مؤسسة للوحدة او الاتحاد، ويعلقون الآمال الاساسية على المشاريع والنشاطات الوحدوية المبذولة خارجها، واحيانا "على الضد" منها. إلا أنه تبرز هنا ملاحظة صغيرة، ولكنها حاسمة، وهي: إن هذه المؤسسة "التجزيئية"، اللاوحدوية، هي المؤسسة السياسية "العربية" المجردة الوحيدة، التي أفرزها الواقع العربي الحديث. فمع وجود التأثير الخاص لعدد من الدول العربية "الاقطاب"، على باقى الدول العربية، بهذا الشكل أو ذاك، وتبعا للمحاور السياسية العربية القائمة الخ، إلا أن الجامعة، بمجموعها، وبالصفة العضوية فيها لكل من دولها، ليست تابعة لسياسة أية دولة ـ او مجموعة دول ـ "قطبية" أو غير "قطبية" فيها. فهي ليست جامعة مصرية ـ عربية، ولا جيبوتية ـ عربية الخ، لا من حيث امتلاك دولة ما مكانة مميزة مسبقة فيها، ولا من حيث ازدواجية الهوية العربية ـ القطرية، كما هي حال كل الدول العربية بدون استثناء. بل أنها ـ أي الجامعة العربية ـ مؤسسة غير مزدوجة الشخصية، أي مؤسسة عربية ـ عربية، او عربية وكفى. فكل دولة عضو في الجامعة هي عضو فيها لا بالقطب القطري لهويتها (السورية، السعودية، الليبية، الخ)، بل بالقطب "العربي" لتلك الهوية المزدوجة. ومن ثم فإن كل دولة عضو في الجامعة لا تشعر في انتسابها وممارسة عضويتها فيها، أنها تدخل في فلك دولة او سياسة قطرية عربية معينة، او تدخل تحت مظلة نفوذها. بل أن كل من الدول الاعضاء تشعر أنها بهذه العضوية تعبر عن سياستها ومصالحها القطرية الخاصة، ضمن هذا الاطار العربي العام، وأنها تأخذ من هذا الاطار وتعطيه بما يتوافق مع تلك السياسة والمصالح، كما يفهمها ويرسمها النظام السياسي القائم في القطر العربي المعين. وبذلك فقد جاءت الجامعة العربية، بالطريقة التي تكونت فيها وبتركيبتها الهيكلية وآلية عملها، نتاجا طبيعيا للوضع العربي العام ذاته، وصورة جامعة لخصوصيات هذا الوضع. XXX ونجد من الضروري ان نتوقف هنا عند مسألة العلاقة بين التجزئة والوحدة القومية: 1 ـ ان التجزئة، في الحساب التاريخي العام، وليس في بعض الحسابات المرحلية المجتزأة، هي موروث عربي "عريق"، او "اصيل"، لا يزال يجد امتداده حتى الان في ما لا يحصى من الظاهرات البنيوية، كالعشائرية والمذهبية والطائفية والاقليمية وغيرها من عوامل الفرز والمحورة، تحت ـ القومية، التي خدمت كأساس أو خلفية لاقامة الدول العربية الحديثة. واذا اخذنا كل من الاجزاء الرئيسية الحالية للوطن العربي مجتمعة ومنفردة: شبه الجزيرة العربية، ما بين النهرين، فينيقيا وسوريا الطبيعية، مصر والسودان وشرق افريقيا، المغرب العربي وشمال افريقيا، لرأينا ان التجزئة القبلية والمحلية والاقليمية، الدولوية وشبه الدولوية، هي السمة الغالبة، قبل الاسلام واثناءه وبعده، وانه قد وجدت اشكال شبه دولوية او دول "عربية" عديدة، ولكنه لم توجد في يوم من الايام دولة عربية شاملة واحدة (باستثناء الدولة العربية ـ الاسلامية، وهو موضوع ينبغي التوقف عنده على حدة). وهذه السمة ـ أي التجزئة ـ لم تفرض بالقوة على العرب فيما مضى من تاريخهم، ولا حتى من قبل الاستعمار الاجنبي في التاريخ المتأخر. وهذا الاستنتاج لا يتعارض ابدا مع الحقائق التاريخية، كمعاهدة سايكس ـ بيكو التقسيمية، والغزوات والاحتلالات التتارية والعثمانية والاستعمارية الغربية والصهيونية، المتعددة الاشكال والالوان، التي تناتشت وتوزعت الارض العربية وعملت بذلك على تعميق الفروقات واقامة السدود والحدود، فيما بين مختلف الاصقاع العربية. فهذه العوامل المضادة، مهما بلغ من قوتها وتأثيرها، لم تخرج عن كونها عوامل خارجية لم تفعل سوى "تحفيز" و"تظهير" واستغلال التجزئة، الموجودة اصلا في اساس التركيبة العربية، وبقوة العوامل الذاتية العربية نفسها. XXX 2 ـ بظهور الاسلام، وبنتيجة الفتح العربي ـ الاسلامي، تكونت الامبراطورية العربية ـ الاسلامية. وقد ادت هذه الدولة دورين حضاريين هامين، في التاريخ العربي خاصة والتاريخ العالمي عامة، وهما: الاول ـ هو أنها جمعت، ومن ثم وحدت، في ظل دولة واحدة، وللمرة الاولى في التاريخ، المناطق التي يضمها الان الوطن العربي، والتي تبنت لغة شمال شبه الجزيرة العربية، أي لغة القرآن الكريم. ولا شك أن الدين الاسلامي، سواء لجهة الدعوة الدينية، وادارة الدولة، وغيرها من الاشكال المساعدة لنشر اللغة العربية، او لجهة ايجاد الاطار الدولوي الموحد، لعب دورا رئيسيا حاسما في هذه العملية. ولكن الاساس الذي قامت عليه تلك الوحدة اللغوية، ضمن هذا الاطار العام، هو الاساس الحضاري التاريخي، المتمثل في التقارب اللغوي، بين اللغات القديمة لتلك المناطق، وبين اللغة العربية الشمالية. والدليل على ذلك ان شعوبا عديدة أخرى، كالفرس والاكراد وغيرهم، ضمتها الدولة العربية ـ الاسلامية الموحدة، أسلمت بشكل كلي، وتبنت بالتالي اللغة العربية كلغة طقسية ودينية مقدسة، ومع ذلك فإن العربية لم تتحول الى لغة بديلة للغات القومية الاصلية لتلك الشعوب. في حين ان قطاعات واسعة من السكان الاصليين للمناطق العربية الحالية، لم يتأسلموا، وظلوا يحتفظون بالديانة الاصلية لشعوبهم، اي المسيحية الشرقية، ولكنهم تبنوا اللغة العربية الشمالية، التي اصبحت لغتهم القومية، الوحيدة، او الاولى والاساسية من حيث الانتماء الحضاري والاهمية الاجتماعية، الى جانب لغتهم الاتنية القديمة، التي اصبحت لغة ثانوية محدودة. والثاني ـ الدور الحضاري، بفعل ضمها للمناطق ذات التاريخ الحضاري الراقي (فينيقيا، العراق، وادي النيل الخ الخ)، واحتكاكها الطويل، سلما وحربا، بالممالك الحضارية الاجنبية الكبرى (روما، بيزنطية، فارس، الهند)، وتواصلها معها (عبر المسيحيين العرب والشرقيين، كما عبر الاسلام). ولحقبة زمنية طويلة، وبالتحديد حتى نهاية مرحلة الصعود العباسية (مضافا اليها "الامتداد الاندلسي")، تحولت الدولة العربية ـ الاسلامية الى مركز اول للحضارة العالمية. وهذا ما جعلها تشغل مركز الحلقة المتوسطة في تطور الحضارة العالمية، بين المرحلة الاغريقية ـ الهيلينية ومرحلة النهضة الاوروبية الحديثة. وقد تمكنت الدولة العربية ـ الاسلامية من الاضطلاع بهذا الدور، انطلاقا من انها صهرت ووحدت في بوتقة حضارية واحدة الشعوب والمناطق الشرقية القديمة، ذات الحضارات العريقة، كفارس والعراق وفينيقيا ومصر واليمن الخ، والتي كانت على تماس وتفاعل مع الحضارة الاغريقية ـ الهيلينية من جهة، ومع حضارات الشرق الاقصى الهندية والصينية وغيرها من جهة ثانية. وقد ساهم ابناء جميع الشعوب التي ضمتها الدولة العربية ـ الاسلامية، في هذه العملية الحضارية العالمية، التي ـ بدورها ـ ساعدت على رفع المستوى الحضاري لتلك الشعوب. الا ان هذه العملية لعبت دورا خاصا في الصهر القومي للشعوب التي تتكون منها الامة العربية الحديثة. كما ان العرب لعبوا دورا مميزا فيها، بصفتهم الثقافية القومية العربية، وبمن فيهم العرب غير المسلمين. ومع ذلك فإن الدولة العربية ـ الاسلامية، لم تكن دولة عربية بالمعنى القومي، ارضا وشعبا وحضارة، بل كانت في الاساس دولة دينية (ثيوقراطية) فوق ـ قومية، وبالتالي امبراطورية متعددة القوميات، يشد لحمتها الارتباط السياسي ـ الايديولوجي، شأنها في ذلك شأن جميع الامبراطوريات المشابهة، التي نشأت قبلها وبعدها. وبهذه الصفة الايديولوجية الدينية (الثيوقراطية)، فإن الدولة العربية ـ الاسلامية، ككل دولة تقوم على الاساس الايديولوجي فقط، كانت تحمل في ذاتها بذور الفشل والاضمحلال، كدولة، بمثل ما كانت تحمل بذور النجاح. ويفرض ذلك المنطق التاريخي لظهور وصيرورة الحركة الايديولوجية، بالمعنى العام، وتحولها من حركة اجتماعية تسترشد بالايديولوجية المعينة، الى سلطة سياسية تستند الى تلك الايديولوجية وتستغلها. وهو ما قد رأيناه مؤخرا، على سبيل المثال، في مآل "الامبراطورية السوفياتية" السابقة: في البدء يأتي "المبدئيون" أصحاب المثل العليا والاهداف الكبرى، من خارج السلطة، وهم يضعون مبادئهم ومثلهم واهدافهم فوق الواقع القديم الراكد، ويخلقون ويقودون حركة ايديولوجية جديدة تؤطر حركة التغيير الاجتماعية وتتماهى معها، وتوصلهم الحركة الاجتماعية المؤدلجة الى السلطة، التي يعملون لاستخدامها كأداة لتنفيذ مبادئهم وتطلعاتهم الكبرى. ثم يأتي "الواقعيون"، الذين يرثون "المبدئيين" الاوائل دون ان تكون لهم الحوافز الذاتية والموضوعية نفسها، والذين يحاولون التوفيق بين المثل العليا الاساسية، وبين الضرورات والمصالح الواقعية الآنية للسلطة الايديولوجية ـ السياسية الجديدة. ثم يأتي "النفعيون"، او البراغماتيون، الذين تصبح المثل العليا والايديولوجية بالنسبة لهم نصوصا او كليشيهات جامدة، واحيانا ميتة، بينما تصبح المكاسب المادية والمعنوية الفئوية الخاصة، فوق ارضية النجاحات العامة المحققة بفضل الزخم التغييري السابق، هي مقياس النجاح والفائدة بالنسبة لهم. واخيرا يأتي "المرتدون"، والخونة المكشوفون، الذين يخونون التاريخ والارض والجماعة والشعب، ويحققون الردة، بمختلف اشكالها "السلفية" او "العصرانية"، ايديولوجيا وسياسيا واجتماعيا. وفيما خص الدولة العربية ـ الاسلامية، فإن تحقيقها، لمرحلة زمنية معينة، الدورين الحضاريين اللذين سبق واشرنا اليهما: توحيد العرب، وحمل لواء الحضارة العالمية وتطويرها، لم يكن هدفا بحد ذاته، بل كان نتيجة موضوعية متفرعة عن الهدف الاساسي لوجود تلك الدولة، وهو اقامة الحكم الاسلامي. وكانت النتيجة ان الحكم الاسلامي في المرحلة المتأخرة وخصوصا في العهد العثماني، قضى على ما بناه الحكم الاسلامي في المرحلة الاولى، فأعاد تشتيت العرب، ورمى المنطقة التي كانت مهد الحضارة ومشعلها، في غياهب الجهل والتخلف. وهنا لا بد من تقديم الملاحظة الاساسية التالية: حينما يتعلق الامر بالتاريخ الواقعي للبشر، فإن المحاكمة او المناقشة الايديولوجية لا يجوز ان تكون مناقشة نظرية مجردة، بل مناقشة تاريخية واقعية للبشر الذين يتولون الفعل باسم تلك الايديولوجية. وبالتالي فإن المناقشة التاريخية للحكم الاسلامي، ليست بأي شكل من الاشكال، وليس من فائدة البتة، بأن تكون فقط، او ان تعتبر، مناقشة لاهوتية ـ فقهية. وأية مناقشة مفيدة للاسلام، كقوة فكرية وعقائدية للتحرك يدين بها مئات ملايين البشر، هي مناقشة للاقوال والافعال التي يقوم بها البشر، وخصوصا اصحاب السلطة المعنيون، والذين يتحملون هم انفسهم، لا العقيدة الاسلامية بحد ذاتها، مسؤولية اقوالهم وافعالهم الملموسة، مهما استشهدوا فيها بالنص الديني، الذي لا يعفيهم من هذه المسؤولية. تماما مثل القاضي، أو الحاكم، الذي يتحمل هو ـ لا القانون ـ مسؤولية احكامه وافعاله، والذي لا يعفيه القانون من الاستئناف والمراجعة والنقد والنقض. XXX وفيما يتعلق بالدولة العربية ـ الاسلامية، فإننا نجد ان القيمين اللاحقين عليها أوصلوا الامور الى درجة العبث. وعلى صعيد توحيد العرب، فقد ادى التمزق الديني الفئوي ليس فقط الى تمزيقهم، بل والى تغريبهم الى درجة ان العرب اصبحوا "منبوذين" في ارضهم. وعلى سبيل المثال لا الحصر اصبحت طغمة المماليك (وهم عبيد سابقون غير عرب) اسيادا، بينما اصبح الاقباط المصريون مواطنين منبوذين ومحتقرين في البلد الذي يحمل اسمهم. وبالمثل اصبح "المسيحيون السريان" اقلية مستضعفة في البلد الذي يحمل اسمهم. واصبح مغامرا بوسنيا شاذا، ومن اصل مسيحي، مثل احمد باشا الجزار، اغتصب زوجة شقيقه، وفر من وجه عائلته، ثم "أسلم" ووضع نفسه في خدمة بعض المستبدين باسم الدين، ـ اصبح هذا الوحش البشري سيدا مرهوبا يحكم اجزاء من فلسطين ولبنان بالحديد والنار، هو وانكشاريته (وهم الصبية المسيحيون من بلاد البلقان، الذين كانت السلطة العثمانية تنتزعهم من عوائلهم، باسم "ضريبة الدم"، و"تؤسلمهم" وتدربهم وتجندهم ليكونوا سيفا مسلطا على رعايا السلطنة، وبالاخص المسلمين!). وبذلك حل الانفصام في الشخصية التاريخية للمجتمع. فلم يعد هناك تطابق بين الشعب والوطن والدولة. فأصبحت الدولة هي السلطان وحاشيته وأدواته، وأصبح الوطن "محتلا" بكل معنى الكلمة، والشعب، مسلما وغير مسلم، "غريبا" و"معاديا" ومستعبدا في ارضه ووطنه. وقد انتهت الدولة الموحدة، التي كونها اساسا العرب، والتي توحدوا فيها فيما بينهم، كما توحدوا مع غيرهم من الاقوام، الى حد تسليم رقابهم لسيوف وأنيار بعض من توحدوا معهم وساووهم بأنفسهم، ـ انتهت الى التمزق والتفتت، بعد ان نخرها الاقطاع السياسي والعسكري والعشائري والاقليمي، وأصبحت "الخلافة" الدينية شكلية طقسية، و"الخليفة" ألعوبة وضحية بيد القادة العسكريين غير العرب. وكان كل شيء يتم باسم الدين طبعا. ووصلت الامور اخيرا الى حد الافتاء بجواز فتح مصر من قبل العثمانيين، بحجة أنها بلد نجس، لمجرد أنها تشرب وتغتسل من مياه النيل، الذي يتبول فيه "المشركون" من نصارى ويهود. وانتهى المطاف الى انتقال الخلافة الى الباب العالي العثماني، الذي كانت مفاتيحه، جلها او كلها، بيد المتمولين من اليهود الخزر، أبناء عم الطورانيين، والماسونية العالمية. وقد استنفد الطاعون العثماني نسغ الحياة من شرايين الامة العربية العريقة، وجعلها شبه جثة هامدة، وطعما سهلا للاستعمار الغربي. وليس بدون عبرة ان الغرب الاستعماري حافظ على استمرار "الرجل المريض" (أي الامبراطورية العثمانية) ضد أي محاولة تحرر من السلطنة، كمحاولة فخر الدين الثاني أمير جبل لبنان، او محاولة عبيدالله النهري في كردستان، او محاولة محمد علي باشا في مصر. XXX بالوقائع القائمة على الارض، هناك الان اطاران يتجاوزان الحدود القطرية العربية الراهنة، ويمكن اعتبارهما اطارين توحيديين: ـ1ـ اطار شعبي هو: الاطار الاسلامي ـ2ـ واطار رسمي هو: اطار جامعة الدول العربية وبناء على التجربة القديمة للدولة العربية ـ الاسلامية، وفي الاخير تجربة السلطنة العثمانية في اوج صعودها، وهما التجربتان اللتان كانت مختلف اجزاء البلاد العربية تتوحد ضمن اطارهما، يوجد تيار اسلامي ـ عربي واسع النطاق يدعو الى ان اعادة توحيد البلاد العربية تمر عبر اعادة بعث الدولة الاسلامية، التي يسميها البعض "الخلافة" ويطلق عليها البعض الاخر تسمية اكثر تواضعا وهي "الامارة". وبصرف النظر عن الجانب الايديولوجي ـ الديني ـ الايماني، الذي لا شأن لنا به، واخذا بالاعتبار الجانب السياسي ـ الاجتماعي ـ المدني وحسب، نطرح السؤال: هل ان اطار الدولة الاسلامية يصلح كإطار توحيدي للدول والشعوب العربية، التي كرست تجزئتها اتفاقية سايكس ـ بيكو، وهي تسير نحو المزيد من التجزئة والتفتيت في زمن مشروع "الشرق الاوسط الكبير" لاميركا؟ اذا اخذنا بالاعتبار التجربة التاريخية الطويلة للاسلام، فإننا نجد ان الاسلام السياسي، اي الاسلام السلطوي، الذي يستخدم الدين لاجل السلطة ومصالحها، قد أسس لتشظي وشرذمة الامة العربية الواحدة، وتجزئتها دينيا ومذهبيا، وساهم في تحكيم المستبدين والمستعمرين الاجانب بها. صحيح ان مختلف المذاهب (منظورا اليها من الجانب السياسي) ومختلف تيارات الاسلام السياسي (المعتمد كل منها على مذهب معين) توحد جماعات من اكثر من قطر عربي واحد، واحيانا عدة اقطار دفعة واحدة. وهذا ما نراه بشكل بارز في تجربة حركة "الاخوان المسلمين" التي انطلقت في مصر، ولكن انتشارها الان يشمل عددا من البلدان العربية. ولكن هذه التجربة، على اتساعها، لم تتوصل الى جمع شمل العرب، بل على العكس تماما، تحولت الى شكل جديد من اشكال التشظي والتجزئة العربيين، على اساس التفرقة الدينية، والمذهبية، والدينية ـ السياسية، وهو ما يظهر في مصر ذاتها، حيث ان حركة "الاخوان المسلمين" توصلت الى الحصول على اكثرية نيابية وعلى ايصال رئيس للجمهورية بواسطة الانتخابات، ولكن هذا لم يؤد الى توحيد الشعب المصري وراءها، بل ادى بالعكس الى زيادة حدة الانقسام في المجتمع المصري، على مستوى هيكليات السلطة وعلى مستوى الشارع والحراك الجماهيري. واذا لم تأخذ الان حركة "الاخوان المسلمين" بالاعتبار التعددية الدينية والثقافية والسياسية في مصر، وتتكيف مع هذه التعددية، فإنها ستسهم، من حيث تريد او لا تريد، في تعميق الانقسام الاجتماعي والسياسي، وفي التأسيس لحرب اهلية قاسية في مصر. وما يجري الان في سوريا يبين ان "الاطار الاسلامي" الذي استطاع تجميع عشرات، وربما مئات آلاف المقاتلين الاسلاميين من شتى البلدان، لم ينجح في ان يمثل خشبة خلاص لسوريا، بل على العكس تماما اعطى مثالا سيئا جدا، ومثل احد عناصر، ان لم يكن العنصر الرئيسي، لتدمير سوريا بشكل لا مثيل له ولا يمكن تشبيهه الا بغزوات المغول والتتار حينما استبيحت سوريا استباحة كاملة. مما تقدم نستنتج انه تاريخيا وفي المرحلة المعاصرة على السواء، فإن الاطار الاسلامي لا يمكن ان يكون اطارا توحيديا للعرب، بل هو اقرب لان يكون إطارا تفتيتيا وتدميريا اضافيا، تستغله القوى الخارجية الامبريالية والصهيونية والعثمانية الجديدة في تركيا أسوأ استغلال. يبقى الاطار الواقعي الثاني، اي اطار "جامعة الدول العربية". لا شك ان هذا الاطار ليس الاطار النموذجي لتوحيد البلدان العربية، بل انه يمكن القول انه اطار لتكريس التجزئة العربية القائمة، وتكريس حالة التفكك والضعف العربي، خصوصا في مواجهة اسرائيل. ولكن استمرار وجود الجامعة العربية، بالرغم من جميع الازمات والتحديات التي مرت ولا تزال تمر بها، يؤكد ليس فقط على اهليتها للحياة، بل يؤكد اساسا على ضرورة وجودها وحاجة المجتمع العربي لها. وهذا ما يدفعنا الى تقديم الملاحظة الاساسية التالية: حتى الان كان الجانب الغالب في النظر الى جامعة الدول العربية والتعامل معها هو الجانب السياسي. حيث ان الدول العربية القوية والكبيرة والغنية تنظر الى الجامعة كمدى حيوي لممارسة نفوذها في النطاق العربي ولاستقطاب دعم وتأييد الدول العربية الاخرى لها، بهدف توظيف هذا التأييد في داخلها بالذات، اي لاجل تدعيم نظامها وحكامها وحكوماتها. وهذا "التسييس" او التعامل السياسي مع جامعة الدول العربية ادى الى جعلها وعاء لاحتواء الاختلافات والنزاعات والاستقطابات العربية، وبالتالي الى اضعاف الجامعة، وعدم الاستفادة القصوى من وجودها في الجوانب الثقافية والعلمية والاجتماعية والحقوقية والانسانية، التي هي ليست موضع خلاف بين الدول العربية، كما هو الحال في المسائل السياسية. وهذا ما يدفعنا الى توجيه الدعوة لجميع الاوساط المتنورة في القوى السياسية، والبرلمانات، والحكومات والمؤسسات الحكومية، والجامعات، والجمعيات والنوادي الثقافية، ومراكز الدراسات والابحاث، والمتاحف، ونقابات الاطباء والمحامين والمهندسين، والجمعيات الخيرية، وغرف التجارة والصناعة، والجمعيات والاتحادات النقابية والنسائية والشبابية والطلابية والرياضية والسياحية، والمؤسسات والاتحادات الاعلامية والابداعية، وجميع الشخصيات المرموقة في مختلف الدول العربية، لتوجيه الاهتمام ومطالبة الحكومات واخذ المبادرات لتفعيل دور الجامعة العربية في الجوانب الثقافية والعلمية والاقتصادية والصحية والاجتماعية والانسانية التي لا تخضع للخلافات السياسية. من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر: ـ خلق ما يشبه يونيسكو عربية. ـ العمل على ايجاد مراكز ابحاث علمية وطبية عربية. ـ وضع سلسلة قواميس ومعاجم عربية. ـ تشجيع شتى انواع المعارض الصناعية والزراعية والحرفية والفنية والابداعية. ـ مكافحة التصحر والجفاف ودراسة سبل الافادة من مياه الانهار والينابيع والمياه الجوفية. ـ وضع الدراسات للثروات البحرية وطرق الاستفادة منها. ـ الدراسات التاريخية والاركيولوجية. ـ تطوير صناعة السينما والمسرح العربية. ـ المحافظة على البيئة. ـ توحيد الاوزان والمقاييس ومعايير الجودة الانتاجية. ـ توحيد اتحادات الكتاب والصحفيين والفنانين والمبدعين. ـ ايجاد مؤسسة عربية موحدة للهلال والصليب الاحمر. وغيرها وغيرها من النشاطات والفعاليات الانسانية المشتركة، التي تعزز العلاقات بين مختلف المكونات القطرية للمجتمع العربي، ولا تنتقص من سيادة وهيبة اي دولة، وتعزز مكانة وسمعة الدول العربية الكبيرة والقوية والغنية تبعا لمساهماتها الاكبر والافضل. بل انها تعطي الدول العربية الكبيرة والقوية والغنية فرصة لاشباع غرور حكامها و"البروز" والتباهي بخدمة الثقافة والمجتمع العربيين بدون الغرق في مستنقع النزاعات السياسية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ *كاتب لبناني مستقل
#جورج_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مع يبرود السورية... هزيمة جديدة للفاشية الاميركية في شبه جزي
...
-
الهزيمة المؤكدة للفاشية الاميركية في اوكرانيا والتغيرات الجي
...
-
اميركا تفتتح المعركة في اوكرانيا و-الشبح- الروسي ينتصر بدون
...
-
السقوط التاريخي لمنطق الهيمنة الدولية لاميركا
-
ملاحظات على هامش كتاب -كريم مروة يتذكر-...
-
حزّورة الوفاق الوطني اللبناني ...
-
التناقضات المستعصية للنظام الامبريالي العالمي
-
الحرب السرية -المقدسة- ضد الكاثوليكية
-
الجذور السوسيولوجية والاقتصادية لنشوء -شعب الله المختار-
-
لانكشارية العالمية المعاصرة
-
-الوعد الشيطاني- ليهوه والعداء الاستعماري الغربي للشرق العرب
...
-
النظام السوري ومسرحية المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق ال
...
-
من هو -العدو غير المرئي- لاميركا؟
-
نظرة عربية مسيحية شرقية في موضوعة صدام الحضارات لهنتنغتون
-
المأزق التاريخي ل-منطق- الهيمنة الامبريالية الاميركية
-
لمحة تاريخية مكثفة عن العلاقات الثقافية البلغارية اللبنانية
...
-
الجيش الاميركي حول افغانستان الى -مملكة سعودية- للخشخاش واله
...
-
الغطاء الديني للصوصية الاستعمارية
-
الحرب السورية: بداية النهاية!
-
بعض بنود -لائحة الشرف- للدمقراطية الاميركية المزعومة!
المزيد.....
-
إيطاليا: اجتماع لمجموعة السبع يخيم عليه الصراع بالشرق الأوسط
...
-
إيران ترد على ادعاءات ضلوعها بمقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
بغداد.. إحباط بيع طفلة من قبل والدتها مقابل 80 ألف دولار
-
حريق ضخم يلتهم مجمعاً سكنياً في مانيلا ويشرد أكثر من 2000 عا
...
-
جروح حواف الورق أكثر ألمًا من السكين.. والسبب؟
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 250 صاروخا على إسرائيل يوم
...
-
اللحظات الأولى بعد تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL قرب مطار ا
...
-
الشرطة الجورجية تغلق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في تبليسي
...
-
مسؤول طبي شمال غزة: مستشفى -كمال عدوان- محاصر منذ 40 يوم ونن
...
-
إسرائيل تستولي على 52 ألف دونم بالضفة منذ بدء حرب غزة
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|