/ باريس
22/11/2002
دخل العالم في لعبة التكهنات والافتراضات والاحتمالات حول ما سيفعله صدام حسين ونظامه وماسيفعله جورج بوش وإدارته وما سيفعله مجلس الأمن الدولي وأعضائه الدائمين والمتغييرين فيما لو ...
يبقى السؤال يتردد: ماذا سيفعل هذا الطرف أو ذاك إذا قبل أو لم يقبل صدام حسين كافة بنود وشروط وتفسيرات قرار مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 1441 وكيف سيتم تنفيذه بحذافيره ومن ستكون له صلاحية تقدير وتقويم وقبول أو عدم قبول ما تم تنفيذه واعتبار إن صدام حسين قد أذعن كلياً لمحتوياته؟
يقول المراقبون إن صدام سيقبل قواعد اللعبة المفروضة عليه بشأن عمل المفتشين الدوليين المكلفين بالتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية وتدميرها ومراقبة العراق على الأمد الطويل لمنعه من استئناف عمليات التصنيع العسكري الممنوعة والمحرمة عليه منذ عام 1990 إثر غزوه للكويت، ولكن لا أحد يعرف على وجه اليقين ما إذا كانت الولايات المتحدة ستكتفي بذلك وتتخلى عن مشروع إطاحة نظام صدام حسين وضرب العراق عسكرياً.
الشيء المؤكد اليوم هو أن الولايات المتحدة الأمريكية إذا تدخلت عسكرياً فسوف تقلب المعادلات والمسلمات وتخلق واقعاً جديداً شديد التعقيد يتطلب منها أن تتخذ مواقف خطيرة تترتب عليها تداعيات خطيرة وكثيرة، فعليها أن تقرر هل ستبقى طويلاً في العراق، وهل ستحكم البلد بصورة مباشرة عن طريق تعيين حاكم عسكري أمريكي أم أنها ستظل هناك متوارية خلف حكومة عراقية كارتونية تحركها كما تشاء؟ وإذا ظلت متمركزة في العراق بحجة إعادة الإعمار وتكريس الاستقرار السياسي وتوفير سبل السلام والازدهار الاقتصادي في العراق فهل ستفعل ذلك حقاً؟ أم أنها ستكون عازمة على إعادة ترتيب وتشكيل المنطقة؟ وإذا فشلت في ذلك أو خرج الأمر عن سيطرتها وحساباتها فهل من شأن ذلك أن يخلق حالة من الفوضى تؤثر تأثيراً مباشراً وخطيراً على أسواق أوروبا الأقرب إلى المنطقة العربية وأكثرها إعتماداً عليها بتزودها بالنفط وتصريف بضائعها فيها؟.
بعبارة أخرى ستدخل أمريكا العالم في منطقة المجهول. لو إنصاع صدام للتهديدات ولم يعرقل بأي شكل من ألأشكال عمل اللجنة الدولية أنموفيك في تفتيشها عن أسلحة الدمار الشامل، فهل سيمكنه أن يخرج منتصراً من جولة الصراع هذه ؟ فهو قد ينجح مؤقتاً في إنقاذ نظامه ، وستتاح له الفرصة عندئذ لمطالبة المجموعة الدولية أن تتحرك لرفع العقوبات عن نظامه وهذه هي الورقة التي تحثه فرنسا على لعبها في وجه المناورات الأمريكية ولكن بحذاقة وحذر شديدين وبأكبر قدر من الدقة. لكن الولايات المتحدة الأمريكية تعرف أنه كان لدى صدام حسين الوقت الكافي منذ بدء الحملة الإعلامية والنفسية ضده، أن يخفي أسلحته المحظورة ويخلي مواقعه العسكرية من أية آثار تدينه وإغلاق مختبرات الموت لأنه يعرف تمام المعرفة أنه لايملك أي مجال للمناورة أو التسويف أو التملص من التزاماته لأن الولايات المتحدة الأمريكية تقف له بالمرصاد وعازمة علة معاقبته ومحاكمته وسوف تتدخل عسكرياً في أول فرصة متاحة لها دون أن تهتم لردة فعل المجموعة الدولية. وفي حالة تقصير صدام حسين في واجباته فإن من شأن ذلك أن يجعل بعض المدافعين عنه في المحافل الدولية كالصين وروسيا وفرنسا في موقف حرج وسيقفون ضده ويؤيدون ويدعمون أمريكا في حملتها العسكرية، ومن المؤكد إن الرئيس الفرنسي جاك شيراك سيشارك عسكرياً في تلك الحملة بحجة أنها ستتم في إطار تنفيذ قرار دولي تم التصويت عليه بالإجماع وعندها سيصبح صدام حسين ونظامه مجرد ذكرى مصيرها النسيان والاندثار.
فعلى الصعيد النظري وعلى ضوء ما يجري اليوم من تحضيرات واستعدادات دولية ظاهرية لتنفيذ قرار الأمم المتحدة الأخير 1441 ، اصبحت الحرب غير حتمية ويمكن تفاديها. لكن فرص عدم شنها مازالت ضئيلة وشبه معدومة نظراً لتجارب الماضي وإمكانية وقوع صدام حسين في شرك حساباته الخاطئة ـ أو جره إليها رغماً عنه ـ مما سيقدم الذريعة للبنتاغون وصقور الإدارة الأمريكية لإطاحته وقطع رأسه.
وزارة الخارجية الأمريكية ووزيرها كولن بول قد يكتفون بعملية نزع السلاح العراقي المحرم دولياً وتدميره مثلما هي رغبة الفرنسيين والروس والصينيين، الذين يرضون بإضعاف صدام حسين إلى درجة كبيرة ومنعه من تشكيل أية خطورة تذكر على جيرانه . لكن دونالد رامسفيلد ومستشاريه العسكريين والمدنيين وكونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي ، يريدون إطاحة نظام صدام حسين ، ليس من أجل سواد عيون الشعب العراقي ، بل من أجل تنفيذ مخطط جهنمي أكبر وأوسع يتجاوز حدود إسقاط نظام واستبداله بنظام آخر أكثر طواعية ومولاة للولايات المتحدة الأمريكية .
فطموحات البنتاغون هائلة ولدى وزارة الدفاع وصقور الإدارة الأمريكية الحالية مشروع استراتيجي متكامل للمنطقة برمتها يتمثل بخلق واقع جديد في المنطقة وتبديل الأدوار وإعادة توزيع الأوراق فيها . تبدأ الخطة في تغيير النظام العراقي بطريقة من الطرق مثل تخويفه ودفعه للإستسلام والتخلي عن السلطة سلمياً دون إطلاق رصاصة واحدة ، أو إطاحته بالقوة العسكرية . ثم خلق فيدرالية عراقية تقوم بتوزيع عائدات النفط بطريقة عادلة ومتساوية بين كافة مكونات الشعب العراقي وقومياته وأطيافه كالعرب والأكراد والشيعة والسنة والآشوريون والتركمان والمسيحيين والمسلمين الخ .. وتشييد نموذج أو نمط جديد للدولة الحديثة المتطورة في المنطقة التي ستؤثر من خلال فرادتها ونموذجها الفريد في الديموقراطية والازدهار على باقي دول المنطقة التي ستصبح في نظر مواطنيها دولاً وأنظمة متخلفة وهذا سينطبق على النموذجين الإيراني والسعودي على حد سواء ناهيك عن النماذج الأخرى من الأنظمة القائمة في مصر وسوريا والأردن والمغرب العربي والخليج .
العقول المخططة والمفكرة في الإدارة الأمريكية والبنتاغون تريد تأمين الاستقرار في الشرق الأوسط على طريقتها الخاصة من خلال تغيير المعطيات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية . فهي تريد حل العقدة الفلسطينية الاسرائيلية نهائياً بما يضمن سلامة وأمن واستقرار وازدهار اسرائيل بالطبع ومنح شبه دويلة للفلسطينيين بعد الانتخابات التشريعية الاسرائيلية القادمة التي يتوقع أن يفوز فيها حزب العمال الإسرائيليبزعامته الجديدة متمثلة بشخص الجنرال مارام ماتزا محافظ حيفا، أو حتى في حالة فوز شارون مرة أخرى، وعودة الروح إلى مفاوضات السلام من النقطة التي توقفت عندها في زمن اسحق رابين. وبعد ذلك تشكيل مثلث استراتيجي جديد يمثل القاعدة المتنية للمصالح الأمريكية في المنطقة والذي يتكون من تركيا وإسرائيل والعراق الجديد. وبعد ذلك المباشرة في تصدير الثورة الليبرالية لمهاجمة المنابع والمصادر الحقيقية بنظرهم التي أدت إلى تشوء التطرف والتشدد والإرهاب الإسلاموي وساعدة في نجاح الإسلامويين في مساعيهم ونشاطاتهم وتجنيدهم للأنصار والموالين ، وتكمن هذه العناصر في اللاعدالة والفقر والاستبداد الذي تمارسه أنظمة فاسدة محسوبة على الولايات المتحدة ومتماهية معها في نظر جماهير الشرق الأوسط بمختلف فئاتهم وطبقاتهم.
هذه هي الرؤية الأمريكية للوضع السائد حالياً في أكثر المناطق حساسية وخطورة في العالم بالرغم من كونها رؤية واضحة . وهي رؤية سياسية إلى جانب كونها عسكرية من ناحية أن تنفيذها يتطلب من القوات المسلحة الأمريكية أن تزج بكل ثقلها وتتمركز بكل قوتها في المنطقة لعدة عقود على الأقل ولكن لاشيء يؤكد إمكانية تطبيقها بدون عقبات أو مآسي بشرية ونفسية ومعاناة ومقاومة شرسة من قبل المناوئين لها.
فإذا أراد جورج دبليو بوش إسقاط صدام حسين كتعويض عن عدم نجاحه في القبض على أسامة بن لادن ، وإذا كان يؤيد مشاريع المحافظين الجدد المتطرفين في إدارته والمتجمعين في البنتاغون أساساً حول شخص رامسفيلد ، فمن غير المحتمل في الوقت الحاضر أن يذهب بعيداً في تأييده المطلق وضربه عرض الحائط المحاولات الديبلوماسية الدولية والأمريكية على السواء والمتثملة بمساعي وزير الخارجية كولن باول . وفي نفس الوقت إن التخلص من صدام حسين والانسحاب فوراً من العراق وتركه نهباً للصراعات الداخلية وتصفية الحسابات ، بعيداً عن الحدود الأمريكية لكن بالقرب من الحدود الأوروبية ، يجعل من هذا البلد بؤرة للإنفجار الشامل في الشرق الأوسط وإشاعة الفوضى والاضطرابات وهو الاحتمال الممكن الذي تخشاه أوروبا وتحاول منعه بكل السبل مما يفسر مواقف الدول المؤثر في الاتحاد الأوروبي تجاه المسألة العراقية كفرنسا . وإن عدم السماح لتركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي سيكون أحد العوامل المساعدة في حدوث مثل هذا الانفجار المحتمل خاصة إذا لم ننس إنها إحدى أضلاع المثلث الاستراتيجي المرسوم أمريكياً للمنطقة.