خالد الصلعي
الحوار المتمدن-العدد: 4389 - 2014 / 3 / 10 - 19:08
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
في فهم منظومة الثورة المضادة
*************************
يتحدث أستاذ المحاضرات في الجامعات الفرنسية " جيرارد جنجمبر " عن توظيف المحكمة والقضاء في تصفية حساباتها مع رموز الثورة الأم وتصفية الثورة نفسها قائلا : " تشكل المحكمة المطرقة الأولى للثورة المضادة بتلفيقها التهم وتدبيرها للمآمرات بالتخابر مع الخارج . انها مجتمع مصغر ، تشتغل وكأنها مجتمع نقيض ، مهمته اعادة تأسيس النظام . تفشي بسرعة الكراهيات والأحقاد .....الثورة المضادة انطلقت بطريقة خاطئة " -1- .
كتاب جيرارد جنجمبر يأتي كتتويج لليوبيل المأوي للثورة الفرنسية ، ولم يكن قراءة في مجمل تحولات الثورات والانتفاضات العربية . وهو كتاب اعتمد على كم هائل من المراجع التي تناولت الثورة الفرنسية منذ بداياتها الأولى . ويعتبر عصارة أستاذ محاضر له باع كبير في مجال التنظير والكتابة الدقيقة العلمية .
وقد اعتمدته كمرآة صقيلة لقراءة الثورة المصرية تحديدا ، وانتقام الثورة المضادة منها . فما هو المعنى الأدبي والتاريخي للثورة المضادة ؟ . انها - الثورة المضادة - " ثورة ثانية في اتجاه مغاير للأولى ، وعادة ما تعمل على توطين نفس الأشياء القديمة في حالتها الأولى " -2- والثائر المضاد هو عدو الثورة الأم ، الذي يعمل على الاطاحة بها وتدميرها .
فكل ثورة مضادة تكون بواعثها ونشأتها قادمة من نزعة محافظة ، تقليدية وسكونية ، وهي تكره الحركة والتغيير ، اذ أنها لا تقوم الا لاعادة نفس الهياكل ونفس المؤسسات بطريقة أكثر تشوها وانحرافا . تعمل على ترسيخ نفس قواعد اللعب السياسي القديم ، ونفس أساليب الحكم الذي قامت ضدها الثورة الأم . ومن أجل ذلك فهي قد تنهج منحى اكثر راديكالية ، منحى يعتمد على استئصال المعارضة من جذورها بتلفيق كل التهم الممكنة وان كانت تهما خيالية وسوريالية بالمعنى العبثي لمفهوم السوريالية الواقعية .
ان أي ثورة مضادة لايمكن أن تنشأ عن عاملي السلم والسلام ، فهي أولا ناشئة عن اجواء ثورية مضطربة ، وان كانت اهدافها واضحة . موظفة هذا الاضطراب الى فوضى لاتؤمن بالحوار أو التفاوض ، بل هي تعتمد على حد السيف والقوة الغاشمة لتركيز وفرض تصورها للحياة السياسية والاجتماعية والدينية . والوقوف ضد التيار ، مسارها المدمر . انها عودة فجائعية للوراء ، واعادة كارثية لكل مظاهر الحياة التي ثار ضدها الشعب والجمهور . وقلب للأوضاع التي تكون في طور التهدئة والاستقرار . مما يجعل أي ثورة مضادة تشتغل على التبرير وتتلمس كل سمات الفكر الذرائعي ؛ وهو ما يفقدها أي مرتكز حول نظرية ما .
واذا كانت الثورة الأم تتوجه أساسا الى بتر العضو او الأعضاء الفاسدة . فان الثورة المضادة تتوجه نحو أي عضو معارض وان كان سالما معافى ؛ سواء كان في الاعلام أو في السياسة ، أو في الهيآت المدنية أو في الوسط الديني . انها قصف شامل لكل عقل او فعل يناقض رغبتها المجنونة لاعادة الحال على ما كان عليه . لا صوت يعلو على صوتها ، وأي صوت يحاول ارباك ترتيباتها الهشة مآله الموت أو السجن او النفي ان استطاع اليه سبيلا .
الثورة المضادة لا تعترف الا بمنطقها الشمولي الذي يرتكز على الاستبداد والطغيان ، وكل منطق سوي تعتبره خارجا عن سياقها ، بل انها لاتملك آليات تفهمه ومعرفة نواياه وأهدافه ، لأنها تدرك مسبقا أنها قائمة على خطأ تاريخي مدمر ، والدمار لا يمكن بناؤه أثناء عملية التدمير ، بل يجب انتظار توقف آلات التدمير عن الاشتغال ، لكي تبدأ من جديد .
وهذا الهوس المرضي للقضاء على أي نوع من انواع المعارضة ناتج أساسا عن عامل نفسي . فالمجرم يعمل جاهدا على محو آثار جريمته ، هذا في حالات الاجرام العادي ، اما في مثل الجريمة الاجتماعية والسياسية ، فالمعادلة العقلية التي يثبتها التاريخ هي أنه لم يثبت أن تمت جريمة انسانية كاملة الأركان .
قد توظف الثورة المضادة جميع الامكانات وتتوسل بجميع الوسائل ، ومن أخطر وسائلها البعد الديني . الذي تنتقي منه كل حالات السكون والثبات ، بانتداب مفوهين حافظين لمجموعة من النصوص الدينية مروضين لتحويلها وتفسيرها حسب هوى أسياد الثورة المضادة . الى درجة تشبيه السيسي ومحمد ابراهيم بالرسول موسى وأخيه هارون ، وهو منزلق لا يؤدي اليه الا ذلك العمى الشديد نحو تركيز الحكم في ايدي أسياد الثورة المضادة . وهو تشبيه لاداعي الى تفصيل عناصر بطلانه واسفافه . بل يكفي النظر الى محاولة اعادة عجلة التاريخي قرونا طويلة وتوطينه في حقبة لاتشبه هذه الحقبة بتاتا . انها عملية من عمليات سلب الدينامية التفاعلية للدين ، وهي كثيرة .
لكن التاريخ المعاصر يعلمنا أن بقاء أو ترسيخ نظم الثورة المضادة واستمرارها ضرب من الخيال المرضي الذي يعمل على تقويض أسس الدولة ومؤسساتها ، والنموذج المصري خير مثال .
فهي وان عمرت لعقد أو عقدين لأسباب سيكوسوسيولوجية ، وأخرى تاريخية وسياسية وثقافية ، فان سيرورة التصحيح تعود من أجل وضع قطار الثورة الأم على سكته الصحيحة ، ففي النهاية فعلا ، لا يصح الا الصحيح . اذ لا يمكن تبشيع العالم باستدامة التزوير والكذب والتلفيق ، فكما يقول المثل الشعبي " حبل الكذب ضيق " . وحتى وان وظف المحافظون السكونيون والرجعيون كل طاقاتهم ، فانهم في النهاية يكونون عرضة المحو والاستئصال . وهو امر ناتج عن طبيعة الثورة المضادة نفسها ، فهي حركة تولد ميتة ، منهجيتها منهجية تدميرية ، وتعجز عن البناء عجزا تاما . وهي حركة ضيقة لا شعبية لها ، وان استطاعت استمالة مجموعات كبيرة من أفراد الشعب الى جانبها ، فسرعان ما يتم اكتشاف ضيق أفقها ، لا لشيئ الا لأنها بطبيعتها تعجز عن تلبية طموحات من آمن بخطابها الضخم الذي يرتكز على نفس لغة الثورة ، غير ان سلوكها وأفعلها تناقض جميع خطاباتها .
ورود الثورة عصية على الذبول ، وان غطتها جبال من الثلوج ، وحجبتها سماوات من النيران . انها ورود الروح الجماعية ، ضد شوك الروح الفئوية او الفردية .
ان الثورة المضادة تقف من حيث لا تدري في وجه التاريخ ، تعاكسه ، وهي عن وعي تجهل أن التاريخ لا يمكن له الا أن يسير أماما . نعم التاريخ يمر في طريقه بحالات رجعية تقليدانية ، لكنه لا يأبه بها . فالتاريخ في الأساس هو تاريخ الانسانية وليس تاريخ أفراد او فئات أو منطقة معينة . والتاريخ لايسمح لأحد بالوقوف في طريقه . كل الثورات المضادة فشلت ، والثورة المصرية المضادة مآلها الى الفشل الحتمي .
الثورة تعمل على بناء نظام اجتماعي جديد ، وتأسيس علاقات انسانية جديدة بين الفرقاء الاجتماعيين . بينما منتهى أهداف الثورة المضادة أن تحافظ على نفس هرمية النظام السياسي القديم . كل شيئ يأتي من فوق . انها تتماهى مع الميتافيزيقا الدينية . وهي ليست دينية .
الهامش
********
-1-La contre-revolution ou l histoire désespérante . Gerard Gengembre / Edition IMAGO1989 p :22
-2- ibid/p 23
#خالد_الصلعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟