هيثم الحلي الحسيني
الحوار المتمدن-العدد: 4388 - 2014 / 3 / 9 - 09:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أوكرانيا بين خيار التقسيم والتوازن الإستراتيجي الدولي,
مقاربة تأريخية وجيوسياسية
الحلقة الأولى
دهيثم الحلي الحسيني
باحث في الدراسات الإستراتيجية
متخصص في التراث العلمي, والعلاقات العربية السوفيتية
"أوكرايينيا", أو كما درج عليها في الأدبيات العربية وسواها بلفظها "أوكرانيا", هي مفردة قد تغّيرت زمنيا, عن كلمة "أكراينا", في اللغة الروسية والسلافية القديمة, ومعناها "الطرفي أو الأطراف", بالإشارة الى موقعها من البلد الأم, وهي روسيا الكبرى, وهذه اللفظة كانت تطلق على سائر الأقاليم البعيدة, شرقا أو غربا في روسيا, لكنها استقرت في الماضي القريب, وتحديدا في القرن التاسع عشر, عنوانا لهذا البلد بالتحديد.
وكانت أوكرايينيا, أحد أهم أضلاع المثلث السلافي, الذي شكّل الكيان السوفيتي, بعيد الحرب الكونية الأولى, أو ما يطلق عليها في الأدبيات الروسية والسوفيتية, بالحرب الأهلية, الى جانب جمهوريتي روسيا وروسيا البيضاء "بيلاروسيا", ضمن الجمهوريات السوفيتية الخمس عشر, وقبلها كانت من أهم مكونات روسيا القيصرية الكبرى, إذ تشكل لروسيا, امتداد طبيعيا وتأريخيا وثقافيا وسكانيا, وبالتالي مرتكزا رئيسا في إسترتيجيتها, ومجالها الحيوي, ومنطقة إهتمامها, وأمنها الوطني والإقليمي, وهي تعد اليوم أكبر دولة, تقع في أوروبا بالكامل, من حيث المساحة.
تعرضت أوكرايينيا, في تأريخها القديم والوسيط والحديث, وحتى المعاصر, الى سلسلة من التقلبات الجيوسياسية والجيوستراتيجية, وقد انعكس ذلك في تغيرات سياسية وسكانية "ديموغرافية", وثقافية ومجتمعية, حرمها وشعبها, فرصة الإستقرار السياسي, والوحدة الوطنية والسكانية, وتعرضت كثيرا, الى مظاهر التبعية الأجنبية, وخيارات الإنقسام العرقي والثقافي, مع إستثناءات أيجابية مهمة في تأريخها, أثبتت أن المصلحة الوطنية فيها, تكمن في وحدة أرضها وشعبها, وبخلافه تكون أراضيها عرضة للتشظي, وشعبها للضياع, وفقدانه لفرص الإنماء والحياة, وهويته الثقافية.
وتعتبر الأزمة الحالية في أوكرايينا, بواجهاتها السياسية والأمنية, وكذا الثقافية والمجتمعية, من أخطر ما واجهتها المنطقة, إذ تكمن مقدماتها في التأريخ, ومخرجاتها في الجغرافية والسياسة والأمن والإقتصاد, ولنتائجها تأثير بائن, في التوازن الإستراتيجي الدولي, والأمن الأوربي, ودور الفاعل الروسي فيه, إذ تنفتح الأزمة على سائر الخيارات, ومن بينها التقسيم أو الصراع الداخلي والإقليمي, مما استوجب القراءة, لمساراتها وجذورها, , فضلا عن أهمية العلاقة التأريخية لأوكراينيا وشعبها, بالوطن العربي عموما, وبالعراق وشعبه تحديدا , ضمن روسيا الكبرى1, وانعكاسات مسارات الأزمة فيها, وتأثيراتها المستقبلية في المنطقة.
وستنصرف هذه الحلقة, الى المقاربة التأريخية, لمقدمات الحالة الأوكراينية, والبحث عن مسبباتها في الماضي, وارتداداتها في الحاضر, من حيث تأريخ القضية وجغرافيتها, بينما ستنصرف الحلقة الثانية من هذه الورقة, الى المقاربة الجيوسياسية, وبالتحديد خيار التقسيم, وأثره في التوازن الإستراتيجي الدولي, في منطقتي وسط أوروبا وحوض البحر الأسود, والدور المستقبلي الروسي المحتمل, وذراع نفوذه فيهما.
لقد شهد تأريخ هذه المنطقة, ولادة أقدم الدول الروسية الكبرى, التي سميت "كييفسكايا روس", في القرن الثامن الميلادي, ولغاية العام 1134, والتي اتخذت من مدينة كييف, عاصمة أوكرايينيا اليوم, مركزا لها, التي يطلق عليها "أم المدن الروسية", إذ شيّدها الروس القدماء نهاية القرن السادس الميلادي, وهذا يمثل أقدم الشواهد التأريخية, لموقع أوكرايينيا ضمن البلاد الروسية, أو السلافية القديمة, فهي بالنسبة لروسيا, تعد منطقة للإهتمام والتأثير, وفق المدركات الإستراتيجية, وفيها جرى إعتناق الديانة المسيحية الأرثدوكسية, في العام 988م, أو ما يطلق عليها بالروسية "الديانة البرافا سلافنايا", إشارة لتعضيدها وتمجيدها.
وقد احتفظت الدولة الروسية الكييفية, "كييفسكايا روس", بعلاقات متميزة, مع الدولة العربية الإسلامية, وكان الرحالة العرب, يجوبون أصقاعها, ويصنّفون الكتب عن مشاهداتهم, وتوصيفاتهم الدقيقة لشعبها, إذ تعد من نفائس التراث العلمي العربي, فضلا عن حركة التجار العرب فيها وبالعكس, في النشاط التجاري والتبادل الثقافي بين الطرفين, وقد كانت ذروة العلاقة, في إعتماد سفير لبغداد في هذه البلاد, في العام 921م, وهو "بن فضلان", الذي إحتفى القيصر الروسي "الموش التابار" بوصوله, بإعلانه عطلة رسمية في البلاد.
وبعد سقوط هذه الدولة على يد قبائل السهوب, نشأت على أنقاضها الدولة الروسية شمالا, متمثلة بإمارة مدينة "نوفكورود" الروسية العريقة, وإنشاء المدن الروسية الشمالية, مثل موسكو وفلاديمير وغيرها, فتوحدت الدولة الروسية وأعيدت كييف الى كنفها, قبل أن يهاجمها المغول التتار في العام 1237, إذ استمرت سيطرتهم عليها, لعدة قرون, بينما ألحقت "نوفكورود", أو ما عرف بالجمهورية فيها, ذات المركز الديني والسياسي والثقافي, الى إمارة موسكو الكبرى, في العام 1478, ضمن الدولة الروسية الحديثة.
وخلال تلك الفترة, ظهرت المكونات السلافية الثلاث, وهي المالايا روس "روسيا الصغرى", وهي أوكراينيا, كما صار يطلق عليها لاحقا, بدءا من القرن التاسع عشر, والبيلوروس "روسيا البيضاء", وفيليكايا روس "روسيا الكبرى", والتي تشكل اليوم, الكتلة السلافية القومية الشرقية, في كل من أقطارها, في أوكراينيا وبيلاروسيا وروسيا.
وبعد الضعف الذي دبّ في أركان الدولة الروسية, جرى إحتلال غرب أوكراينيا "أطلق عليها إقليم غالسيا ولفوف أو لفيف في التعبير الأوربي", وبيلوروسيا, من قبل ليتوانيا "ليتفا في الروسية", في الفترة بين 1316 – 1341, ومن ثم بولندا, في العام 1344, مما ترك تباينا في اللغات والمعتقدات الدينية والمتبنيات المجتمعية, بين المنطقة المحتلة, وسواها من الأراضي الأوكراينية, الخاضعة للسلطة الروسية ونفوذها.
وقد شهدت المرحلة, الكثير من الثورات والإنتفاضات, التي كان محرّكها, سكان ضفاف البحر الأسود وجزيرة القرم, من المكونين الكازاكي, بقيادة الأمير أو الأتامان "خميلينسكي", والتتري بقيادة الأمير أو الخان "إسلام الثالث", خاصة في خانية القرم, وكلاهما من الشعوب النازحة الى المنطقة, من أواسط روسيا وشمال بحر قزوين, وفق دراسات الأنسنة "الأنثروبولوجية", إذ تميّز الكازاكيون, بصلابة قادتهم, الذين يطلق عليهم بالأتامان, والذين لازال شعب روسيا, يتندر في حكاياتهم, بينما يعتنق الشعب التتري المثابر, الديانة الإسلامية, وهو غير المغول, إذ تربطه الأدبيات العربية فيهم, نتيجة دعمه لهم, في حملاتهم العسكرية تجاه المشرق العربي وآسيا الوسطى وشرق أوروبا.
وبالنتيجة لهذين الجهدين, التتري والكازاكي, تم تحرير مدينة كييف في العام 1648, والتصالح مع الملك البولندي "يان الثاني كازيمير", لكنّه تمكن من إعادة إحتلال كييف, في العام 1651, مما أدى الى نشوب الحرب البولندية الروسية, التي انتهت في العام 1667 في اتفاقية "اندرواس", ونصّت على ضمّ الأراضي الأوكراينية غرب نهر "الدنيبر" الى بولندا, فيما احتفظت روسيا, بالمنطقة شرق نهر الدنبير, وقبلها معاهدة "يارسلاف" في العام 1654, التي ضمنت النفوذ الروسي في أوكرايينيا والقرم.
وهنا بدأ ما يعرف في الأدبيات المعاصرة, بالشعب الأوكرايني الغربي, أو شعب اوكريينيا الغربية "غالسيا ولفوف", المتأثّر بالثقافة واللغات والعقائد الدينية "الكاثوليكية", البولندية والليتوانية, وعمقها الأوربي, وشعب أوكرايينيا الشرقية والجنوبية, المتأثر بامتداده في روسيا, ولغتها وثقافاتها ومعتقداتها الدينية "الأرثدوكسية", فضلا عن إستيطان الكثير من سكان الطرفين, في المدن الخاضعة لنفوذهما, والتي أثرت بشكل واضع, في التغيير السكاني "الديموغرافي", بين الأقاليم الغربية والشرقية, حتى اصبح ما يطلق عيها باللهجة أو اللغة الأوكراينية الغربية, التي تشكل خليطا من السلافية الأوكراينية والبولندية, فضلا عن المفدردات الليتوانية والرومانية, مقابل الأوكراينية الشرقية, المنتمية الى جذرها السلافي القديم, وشقيقيتها الروسية.
وفي نتيجة الحرب البولندية العثمانية, بين الأعوام 1672 – 1676, سيطرت الدولة العثمانية على كييف وجنوب أوكراينيا، وبموجب اتفاقية "بقجة أو بخش سراي", التي عقدتها روسيا القيصرية مع الدولة العثمانية, تم وضع شبه جزيرة القرم و"زاباروجي", شمالي بحر الأزوف, تحت السيطرة العثمانية، والتي لم تكن إبتداءً, تحت نفوذ دولة "كييفسكايا روس", وأعيدت مدينة كييف والمناطق الجنوبية, الى السيطرة الروسية, ثم تعززت هذه السيطرة, بعد إندحار السويد في الحرب الشمالية العظمى, مع روسيا, في العام 1700_1721, التي عززت النفوذ الروسي في حوض البلطيق.
ووفقا لهذه الإتفاقات, فقد استسلمت خانية القرم التترية, وتم ضم شبه الجزيرة كاملة الى روسيا, في العام 1774, واعلن ذاك رسميا في العام 1783, في عهد الإمبراطورة الروسية "كاترين أو إكاترينا الثانية", وقد اتخذت مدينة "سيفاستوبل", في حوالي العام 1814, قاعدة لسفن أسطول البحر الأسود الروسي, بعد السيطرة التترية والعثمانية عليها لأربعة قرون, غير أن الدولة العثمانية, حاولت إعادتها خلال حرب القرم في العام 1853, التي انتهت بمعاهدة باريس في العام 1856, بدعم الدول الأوربية, مثل بريطانيا وفرنسا, حيث أعيدت الجزيرة الى روسيا, دون تمكينها من إستخدام سفنها في القاعدة, بما عرف بحياد البحر الأسود, واستمر الحال حتى العام 1870, إذ أعاد الأسطول الروسي, سيطرته على البحر والقاعدة, إثر إنشغال فرنسا, في حربها مع بروسيا.
وقد تميزت هذه المرحلة, بتنامي الإنتماء القومي الأوكراييني, ونزوع شعبها الى تأسيس دولة مستقلة له, في إعتماده على دعم الدول الأوبية المحتلة, مثل ثورة "مازيبو" بدعم الجيش السويدي, لكنه لم يفلح في ذلك.
وفي المقابل فقد عمدت روسيا, الى تأصيل الطابع الروسي في المنطقة الخاضعة لنفوذها, فشيدت المدن التي سكنها, ما يطلق عليهم بالأوكراينين الناطقين بالروسية, مثل اوديسا وخيرسون ونيكولايف وسيفاستوبل وسيمفيروبل وماريوبل, والتي لازالت قائمة بهذا الوصف, الى جانب المدن الشرقية القديمة, مثل خاركوف ومينسك ودنيبروبيتروفسك.
بينما طبعت مدن الغرب, وأهمها لفوف وكريفوي روك وكالج وكوروستن وروفنو, بطابع الدولة الأوربية المحتلة لها, وخاصة امبراطورية النمسا والمجر, ودولة بروسيا "المانيا لاحقا", التي قاومت النزعة السلافية القومية فيها, الداعية الى وحدة مكوناتها, الروسية والأوكراينية والبيلاروسية, أو ما يعرف بشعوب روسيا الكبرى, وقد استمر هذا الإحتلال حتى نهاية الحرب الكونية الثانية.
وقد إحتفظت العاصمة كييف, بطابع وسطي جامع, برغم خضوعها لمنطقة النفوذ الروسي, لكن القراءة الجغرافية والسياسية, المقارنة للطرفين, تؤشر بدايات التفوق الجيوستراتيجي, للجانب الشرقي والجنوبي, والذي استمر قائما, كما عمد لاحقا الى إقامة قاعدة بحرية متقدمة, في مدينة "سيفاستوبل", في شبه جزيرة القرم, المطلة على البحر الأسود, والمتصلة بجنوب أوكرايينيا, بممر برّي ضيق, والممتدة بلسانها الشرقي, الى العمق الروسي, من جهة بحر أزوف, عند حافات نهر الدون, واعتبرت هذه القاعدة, مركز إيواء وارتكاز, لسفن أسطول البحر الأسود, ورمز الحضور والنفوذ الروسي في حوضه, ولازال الوضع فيها قائما.
وكان القيصر بطرس الكبير "أو بيوتر ثم بيتر في الروسية المعاصرة", قد قاد حملات كبيرة للسيطرة على شبه جزيرة القرم, في العام 1678, لموقعها في المدركات الجيوستراتيجية الروسية, إذ تبنى بناء وتطوير السطول البحري, من خلال انفتاحه على الخبرة الألمانية, كما قام ببناء مدينة "سانكت بيتربورك", أو "بتروكراد", كما دعيت لاحقا, ثم "لينينكراد" في الحقبة السوفيتية, قبل أن يعاد اليها اسمها القديم, تيمّنا بالقديس "بطرس أو بيوتر", الذي يرتبط به اسم القيصر نفسه, بهدف إنشاء ميناء روسي رئيس, مطل على الخليج الفلندي, لينفتح على عمق أوروبا, من خلال بحر البلطيق المتصل بالخليج.
وبعد نهاية الحرب الأهلية الروسية, التي اندلعت إثر قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى, في العام 1917، والتي انتهت الى تشكيل الإتحاد السوفيتي, وفق مبدأ حق تقرير المصير, لشعوب روسيا القيصرية السابقة, تشكلت جمهورية أوكرايينيا الشعبية, على الأقاليم الخاضعة لنفوذ روسيا القيصرية سابقا, وحظيت باعتراف دولي, بحصولها على مقعد في هيئة الامم المتحدة, أسوة بجمهورية بيلاروسيا, ثم كعضوين مؤسسين في تشكيل الاتحاد السوفيتي, في العام 1922, لتكوّنا فيه, جمهوريتي أوكرايينيا السوفيتية الإشتراكية, وبيلاروسيا السوفيتية الإشتراكية, فيما بقيت شبه جزيرة القرم, التي تقطنها أغلبية روسية وتترية, ضمن أراضي جمهورية روسيا السوفيتية الإتحادية الإشتراكية "”RSFSR, كبرى جمهوريات الإتحاد السوفيتي.
أما أقاليم أوكراينيا الغربية, فقد خضعت للإحتلال الألماني ضمن بولندا, بعد انهيار إمبراطورية النمسا والمجر, في العام 1918, ثم تأسست فيها, ما عرف بدولة "اوكرانسكا ديرجافا", أو غرب أوكراينيا الشعبية, ذات الحكم الذاتي, وفي العام 1919, أعادتها بولندا الى حاضنتها, إثر استقلالها, فيما ضمّتها رسمياً اليها, بموجب اتفاقية "ريغا", التي عقدت في العاصمة اللاتفية, في العام 1920, واستمر ذلك الى العام 1944, خلال الحرب العالمية الثانية, "أو الحرب الوطنية العظمى وفق الأدبيات السوفيتية", حيث قامت المانيا النازية, باحتلال بولندا, وبضمنها أراضي اوكراينيا الغربية.
لقد تميزت هذه المرحلة, بنمو كبير للشعور القومي الأوكراييني, في كل من الأقاليم الغربية والشرقية, وخاصة إثر تنامى هذا العامل, في أوروبا عموما, والذي سرى تأثيره في سائر شعوب العالم, إذ بدأت مطالبات بالدراسة في اللغة الأوكراينية, والإهتمام بثقافاتها, وقد تجاوبت السلطة السوفيتية مع هذه المطالب, باستثناء المرحلة الستالينية, إذ ظهرت الثقافة السوفيتية الشمولية, التي دعت الى إعتماد الروسية, لغة وطنية, في سائر أراضي الدولة السوفيتية.
غير أن الأمر قد اختلف في الجانب الغربي, الذي تعرض الى حملات القمع وطمس الهوية الأوكراينية, رغم الإستنكار الدولي له, وقد استمر هذا الحال من قبل القوات الألمانية النازية, خلال الحرب العالمية الثانية, وحتى العام 1944, حيث جرى تحرير الجيش السوفيتي, لكامل أراضي أوكرايينيا الغربية, وضمّها الى جمهورية أوكرايينيا السوفيتية, التي توحدت لأول مرة في تأريخها, ضمن سيادة الدولة السوفيتية "إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية", إذ اصبحت مكونا رئيسا فيه.
وقد ساهم الشعب الأوكراييني الموحد, بفعالية متميزة, في بناء الدولة وتطويرها, بكافة جوانب الحياة السوفيتية, وخاصة السياسية والعلمية والثقافية, فضلا عن تضحياتهم في الدفاع عنها, خاصة خلال الحرب العظمى, ومقاومة الإحتلال الألماني النازي, وقد شغل الأوكراينيون, مواقع متقدمة في الدولة والحزب, من بينهم الزعيم نيكيتا خروشوف, الذي قاد الإتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة, ثم تبعه ليونيد بريجنيف, القائد المتميز, الذي شغل منصب الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي, والرئيس نيكولاي بودغورني, رئيس هيئة رئاسة مجلس السوفيت الأعلى, فيما يبرز اسم عالم الفضاء السوفيتي, سيرغي موروليوف, في الجوانب العلمية, إضافة سائر جوانب الثقافة والإبداع.
وفي العام 1954, ولمناسبة الذكرى الثلاثمائة, لمعاهدة يارسلاف, التي ضمنت وحدة واستقلال, شرق أوكراسنيا وجنوبها, أعلن الرئيس نيكيتا خروشوف, ضم شبه جزيرة القرم, الى سيادة جمهورية أوكراينيا السوفيتية الإشتراكية, أو كما يعرف بهدية خروشوف, من روسيا الى أوكرينيا, بما إشتهر به الشعب الروسي, من حب التندّر والأريحية "اليومر الروسي".
ولقد اثبت تلك التجربة التأريخية, بأن سلامة الشعب الأوكريني وأمنه وإزدهاره, تكمن في وحدته الوطنية, بما يضمن علاقاته المتوازنة, بشعوب الإقليم, وخاصة عمقه الإستراتيجي الروسي, وما يرتبط به, بوشائج الثقافة والعرق والتاريخ والجغرافية, والأمن الإقليمي والمصالح المشتركة.
ونتيجة لمخرجات سياسة الشفافية "الكلاسنست", وإعادة البناء والإعمار "البيريسترويكا", التي تبناها آخر الزعماء السوفيت, الرئيس كورباتشوف, ومارافقتها من تداعيات في جنبات السياسة, الداخلية والخارجية, والإقتصاد والأمن ومستوى المعيشة, جرت محاولات تفكيك الإتحاد السوفيتي, التي قادها رؤساء الجمهوريات السوفيتية الرئيسة الثلاث, وهي روسيا الإتحادية السوفيتية, وأوكرانيا السوفيتية, وبيلوروسيا السوفيتية.
وفي المقابل عمد المدافعون عن ديمومة الإتحاد, الى تنفيذ إنقلاب برلماني, في شهر آب من العام 1991, من خلال الدعوة الى إتحاد كونفدرالي, بين الجمهوريات السوفيتية, فجرى إفشال الإنقلاب, باستخدام القوات المسلحة, والجوية منها تحديدا, ونتج عنه الإجتماع الثلاثي للرؤساء الثلاث, ليعلنوا إنتهاء الحقبة السوفيتية, وقيام جمهورياتهم المستقلة, الوريثة للجمهوريات السوفيتية الإشتراكية, في شهر ك1, ومن بينها جمهورية أوكراينيا.
وقد عمد الرؤساء, الى إبقاء اللحمة بين الجمهوريات السوفيتية السابقة, بإعلان تأسيس رابطة أو تضامن الدول المستقلة "SNG", عدا جمهوريات البلطيق الثلاث, وهي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا "أو ليتفا في الروسية", التي استقلت عن الإتحاد السوفيتي سابقا, ولأن هذا التجمع, يعاني الضعف واختلاف الرؤى, بدأت دعوات تبناها الرئيس الكازاخستاني, نور سلطان نازاربايف, بتأييد روسي, وهو من القادة المبرزين في الإتحاد السوفيتي السابق, بهدف تشكيل "الإتحاد الأوراسي2, بديلا عن الرابطة, ويسعى الى تنفيذه معهد البحوث الإسترتيجية في الرابطة, الذي يرأسه الأكاديمي الروسي "فلاديمير كالاخين".
وبذلك فقد ظهرت الى الوجود, ولأول مرة, جمهورية أوكراينيا, الموحدة والمستقلة, وذات السيادة على كامل التراب الوطني الأوكراني الموحد, وكان من بين مخرجات الإتفاق الثنائي, تعهد الدولة الأوكراينية, بالحقوق الكاملة, للمواطنين الروس في أوكراينيا, ونفوسهم يفوق العشرة ملايين نسمة, والذين تحظىون بتقارب ومودة, من قبل سكان الأقاليم الناطقين بالروسية, في شرق أوكراينيا وجنوبها, فضلا عن الوديعة التأريخية, التي تضمن لروسيا, بقاء أسطولها البحري, في قاعدته في "سيفاستوبل", بعد تقاسم سفنه, مع البحرية الأوكراينية, وهي وديعة ضامنة, للحضور الروسي في البحر السود, ونفوذ أسطوله في حوضه.
وبنتيجة التداعيات السياسية, الداخلية والإقليمية, وإرتدادات المؤثر التأريخي, فقد بدأ التباين بين شعبها, في الرؤى والتطلعات والأهداف, وبخاصة في العلاقة مع الشقيقة الكبرى روسيا, فكانت أوكراينيا, الدولة الأولى التي لم تصادق على العضوية, في رابطة الدول المستقلة, فضلا عن جورجيا "أو كروزيا بالروسية", التي انسحبت بنتيجة الأزمة في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا مع روسيا, مع استمرار عقودها واتفاقاتها فيها.
وباتت أوكراينيا, ساحة لصراع المصالح, والنفوذ الإستراتيجي, خاصة في حوض البحر الأسود, ووسط أوروبا, بين روسيا وحلفائها من جهة, ودول الإتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلسي "الناتو", بقيادة الولايات المتحدة, من جهة أخرى, فانقسم الشعب الأوكرايني, وفق جذوره التأريخية, وتباين رؤاه الفكرية والثقافية, وتطلعاته لشكل المستقبل, بين طرفي النزاع, حتى آلت أزمته المعاصرة, مفتوحة على كافة الإحتمالات القاسية, ومنها خيار التقسيم, أو النزاع المسلح الإقليمي, أو الصراع الأهلي الداخلي.
حيث تعتبر الساحة الأوكرانية, منطقة المجال الحيوي الإستراتيجي بالنسبة لروسيا, وعمق أمنها الوطني والإقليمي, وبما تختزنه من تطلعات وأدوار إقليمية ودولية, تعيدها الى مواقعها الطبيعية, التي كانت عليها إستحقاقا, في الحقبتين القيصرية والسوفيتية, وبما تمثله كأكبر دولة حجما في العالم, تمتد على معظم القارة الأوراسية, ضمن تفوقها في الموارد البشرية والمادية, وقدراتها التسليحية المتقدمة, وتطورها التقاني والعلمي, فضلا عن تأريخها وجغرافيتها, وعلاقاتها المتميزة والتأريخية, بالشعوب الحية الواعدة3.
وستنصرف الحلقة الثانية من هذه الورقة, الى إستقراء الخيارات المفتوحة في الأزمة, وتأثيراتها على الداخل الأوكرايني, ومستقبل البلاد ووحدتها, وبالتالي على ميزان القوى الإقليمي والدولي, خاصة في صراع النفوذ, في حوض البحر الأسود ووسط أوروبا, وأثرها في نقاط القوة الإستراتيجية, ومقارنة نتائجها في ميزان السباق, بين اللاعبين الرئيسين فيه, أوروبا الغربية و"الناتو" من جهة, وروسيا من جهة أخرى.
الهوامش:
1. هيثم طالب الحلي الحسيني, الباحث, التعاون التسليحي في العلاقات السوفيتية العربية, بين العامين, 1955_1970, العراق نموذجا, أطروحة دكتوراة, معهد التأريخ والتراث العلمي العربي للدراسات العليا, بغداد.
2. فلاديمير كالاخين, الأكاديمي, معهد الدراسات الإستراتيجية في رابطة الدول المستقلة, مستقبل الرابطة ومشروع الإتحاد الأوراسي.
3. هيثم طالب الحلي الحسيني, الباحث, نظم الإتصالات في سفن مقاومة الغواصات, المقدمة السياسية والجيوستراتيجية, رسالة ماجستير, كلية كيروف الهندسية البحرية العليا, الإتحاد السوفيتي, باكو.
#هيثم_الحلي_الحسيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟