|
مقتدى الصدر والعزلة المجيدة
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 4382 - 2014 / 3 / 3 - 19:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في خطوة “مفاجئة” وغير مسبوقة تاريخياً، أعلن زعيم الكتلة الصدرية الإسلامية الشيعية تخليّه عن العمل السياسي، وقرّر إغلاق مكاتبه كافة، وعدم السماح لأحد بتمثيل الكتلة الصدرية أو التحدث باسمها تحت أي عنوان، وقد عزا ذلك إلى ” الحفاظ على سمعة آل الصدر الكرام”، مؤكداً أن أي منصب (وزاري أو نيابي أو سياسي) لم يعد يمثّله، ثم أعقب ذلك بشن هجوم شديد ضد العملية السياسية برمتها بقوله: أن العراق “يحكمه ثلة جاءت من خلف الحدود”، وإن ” السياسة أصبحت باباً للظلم والاستهتار والتفرد والانتهاك…”وما إن شاع خبر اعتزال الصدر حتى بدأت الكتل والجماعات السياسية، ولاسيّما المعارضة للمالكي مناشدته للعدول عن موقفه هذا، بل أضفت عليه صفات من قبيل “الاعتدال” و”صوت الحق الناطق” و”روبن هود” العراق الذي يستطيع وحده تحطيم المالكي، وارتفعت بعض اليافطات في مدينة الصدر تقول ” نحن معك” وغير ذلك. أعرف تماماً أن عائلة آل الصدر لها رمزية خاصة في أوساط الإسلاميين الشيعة بشكل خاص، سواء في العهد الملكي، حيث ساهم العديد منهم في الدولة العراقية، ولاسيّما السيد محمد الصدر الذي أصبح رئيساً للوزراء العام 1952، وإن السيد محمد باقر الصدر المفكر الإسلامي اختفى قسرياً وأخته الكاتبة بنت الهدى العام 1980، واتضح انه تمت تصفيتهما، وقتل والد السيد مقتدى محمد صادق الصدر وأخاه في العام 1999، وكان من الشخصيات الإسلامية الشيعية التي سعت للتقارب مع أهل السنّة، معلياً من شأن المرجعية العربية، وإن العديد من آل الصدر تعرضوا للاعتقال والتعذيب وهجر بعضهم العراق إلى المنفى، ولكن هذا شيء وأن يتخذ السيد مقتدى الصدر قراراً باعتزاله العمل السياسي، فيلحقه آخرون، فهذا شيء آخر، وأمرٌ لم تألفه السياسة العراقية، بل السياسة بشكل عام. لعلّ الأمر يحتاج إلى عودة سريعة للخلفية التاريخية لنشوء حركة مقتدى الصدر بعد الاحتلال، حيث ارتبط اسمه بالاشكالات التي رافقت مقتل السيد عبد المجيد الخوئي، وأصدر بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق مذكرة اعتقال بحقه، وكاد أن يتحقق الأمر بالقبض عليه، لكن ثمة نصائح وردته وظروف حالت دون اعتقاله، دفعاً لاحتمالات تصاعد الموقف. ومنذ اللحظة الأولى إلتفّ حوله عدد كبير من المحرومين والكادحين، ولاسيّما من مدينة الثورة التي استبدل اسمها إلى مدينة صدام حسين في ظل النظام السابق، ليصبح اسمها لاحقاً بعد الاحتلال “مدينة الصدر”، وكانت المدينة معقلاً لليساريين، ولاسيّما لأنصار الحزب الشيوعي، ووقفت ضد الانقلاب البعثي الأول العام 1963، لكن حزب البعث اشتغل عليها جيداً، واستطاع أن يكسب فيها أنصاراً منذ عودته إلى السلطة العام 1968، وخصوصاً بعد تحسّن الوضع المعيشي إثر تأميم النفط العام 1972، ولكن الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 سحبت هذا الرصيد الايجابي وحوّلت المدينة إلى بؤرة معارضة ساخنة ضد النظام، وشهدت بعد مقتل والد مقتدى الصدر تظاهرات وصدامات راح ضحيتها العشرات. طرأت تغييرات جوهرية على سسيولوجية المدينة وسايكولوجية الناس فيها، وهي المدينة التي بناها عبد الكريم قاسم، لجبر خواطر الفقراء والكادحين من سكان الريف الذين جاءوا للسكن في بيوت الصفيح، فبنى لهم 60 ألف بيت، ليصبح عدد سكانها بعد سنوات يزيد على المليونين، وخلال الحرب العراقية- الإيرانية ارتدت المدنية: اللون الأسود حزناً على عشرات ومئات آلاف الضحايا، مثلما عرفت العوز الحقيقي، بل أصبحت حياة أعداد كبيرة من سكانها دون خط الفقر، في ظل الحصار الدولي الجائر، فاتجهت إلى الله، وكان طريقها إليه يمرّ عبر حركية إسلامية ديناميكية، استطاعت مخاطبة الشباب والتأثير فيهم، وكان ذلك بقيادة والد مقتدى الصدر، الذي دفع الثمن باهظاً جرّاء جرأته ورغبته في تقديم نموذج جديد باسم “المرجعية الناطقة” بعد نقده “للمرجعية الصامتة”، الأمر الذي أثار خصومة كبيرة ضده من جانب فرقاء إسلاميين شيعة آخرين، ولكن مقتله دفع الجميع لإعادة حساباتهم، ولاسيّما إزاء التوجهات والتكتيكات التي اتبعها في مواجهة النظام الحاكم في حينها.حين ابتدأ مقتدى الصدر خطوته الأولى في دروب السياسة الوعرة، كان شاباً يرغب في أن يسير على هدي أعلام العائلة، فاندفع وقاوم وعاد وانقلب، وتقدّم وتراجع وأصاب وأخطأ، لكنه في كل الأحوال كان عفوياً وتلقائياً وصريحاً، وربما هذا ما “حبّبه” للناس البسطاء قياساً بغيره من السياسيين، حتى وإن كانوا يخالفونه الموقف، وكان مقتدى الصدر بغض النظر عمّا يقوله يدخل مباشرة إلى صلب المشكلة دون لف أو دوران، فضلاًَ عن طريقته، الاقتحامية، التي هي قريبة من الحسّ الشعبي، فكان يلقى إصغاءً واهتماماً، سواء كنت تتفق معه أم تختلف عنه، فذلك أمرٌ آخر. أسسّ مقتدى الصدر جيش المهدي الذي أثارت تصرفاته الكثير من الالتباسات وردود الفعل الشعبية، ولاسيّما إزاء ما قام به أو نُسب إليه، من أعمال العنف والتطهير المذهبي، خصوصاً بُعيد تفجير مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري، في حين أراده وسيلة لمقاومة الاحتلال الأمريكي، الذي انفرد عن باقي أقرانه من الجماعات الإسلامية الشيعية، بإعلان موقفه الواضح منه، ومثله الشيخ جواد الخالصي والسيد أحمد البغدادي وكتائب حزب الله العراقي لاحقاً وآخرين، وفي الوقت نفسه كان موقفه متشدّداً ضد البعث والبعثيين، ولكنه كان يدعو إلى التقارب السني – الشيعي، في حين كان الاتجاه السائد يدفع نحو التباعد والاحتراب. تحالف مع حكومة المالكي، وانقلب عليها، وحاول سحب الثقة منها بالتعاون مع الكتلة الكردية والقائمة العراقية، لكنه عاد وغيّر موقفه، وقرر الابتعاد عن العمل السياسي باعلان صريح وواضح، وعدل عنه بعد أسابيع، وعاد إلى مواقعه وانتقد الفساد والفاسدين، ولعلّ تصويت عدد من نواب كتلته على قانون التقاعد بضم فقرات يحصل فيها النواب وأصحاب الدرجات الخاصة على الامتيازات، كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير. كان عمقه الستراتيجي إيران، وتحالفه معها كان وثيقاًً، لكن انشقاق كتلة قيس الخزعلي عنه وتشكيلها ” عصائب أهل الحق” دفعه لانتقادها وكرّر المسألة مراراً، خصوصاً وقد كانت وراء عدم استمراره بمشروع سحب الثقة عن المالكي. للصدر 40 نائباً و6 وزراء، قرر بعضهم الانسحاب بعد قرار اعتزاله العمل السياسي، وكنت قد سألت أحد أقطابه في وقت سابق، كيف تتخذون القرار؟ فقال نناقش ونتبادل الرأي ونحسم بالأغلبية، وعندما قلت له وماذا لو كان الصدر لا يوافق عليه؟ فأجابني بكل أريحية وشفافية سيُلغى أو يُبطل. ولعلّ جواباً من هذا القبيل يعني بالنسبة لي: أنه لا وجود لقواعد عمل تحتكم إلى معايير، فرأي الزعيم فوق رأي المجموع، بل أن المجموع ممثلاً بشخصه، الذي يمثل الكل، وتلك مشكلة قد لا توجد في مناطق أخرى من العالم، خصوصاً بتداخل الديني مع السياسي، واليومي بالمقدس، حتى أن “المركزية الديمقراطية”، التي غالباً ما كنّا ننتقدها، فإنها ستكون “مظلومة” قياساً لفكرة الزعيم ” رجل الدين” الذي يجمع الروحاني والسياسي والمقدس أحياناً، فكيف يمكن مناقشة مرجع أعلى؟ قلت لصاحبي ألا يخطأ ” الزعيم”؟ وهل يمكن مواجهته بالخطأ؟ فقال حتى لو أخطأ فمن يستطيع أن يواجهه، ثم ما هي المسطرة، لأن هناك من يقول أنه يمثل ” ضمير الأمة”!!. وقد بتُ منذ فترة وعلى خلاف كثيرين أعتقد أن انسحاب الصدر صحيح وربما ضروري له وللآخرين، فقد يوفّر غيابه الفصل بين الدين كعقيدة وبين السياسة كمساومة، وقد يمنح فرصة أفضل للمجموعة المتبقية التي يمكن أن “تتحرر” من ثقل التقديس والروحانية، لتتوجه إلى عالم السياسة الذي يقوم على ” فن الممكن”. أدرك تماماً إن ثقافة الاستقالة أو الاعتزال أو الانسحاب غير شائعة، لأن القاعدة هي التمسّك بالمواقع، والاستثناء المحدود جداً هو الاستقالة، وربما هي غير مقبولة، فستعتبر تراجعاً وانهزامية واستسلاماً، في حين يمكن أن تكون مناسبة للمراجعة والتأمل وإعطاء الفرصة للآخرين. بتجربتي أعرف أن كثيرين تمسكوا بمواقعهم بأسنانهم وأظافرهم، بل أجهزوا على رفاقهم بالتآمر والغدر والخديعة قتلاً واضطهاداً وتشريداً، في السلطة والمعارضة، ولعلّك لا تستطيع أحياناً أن تفرّق بين المسؤول وموقعه الذي تعتّق فيه، فهذا أمين عام منذ أربعين عاماً ونيّف، وذلك أمين عام منذ الولادة، وآخر يتشبث بموقع الدولة أو الحزب حتى الممات ورابع يختزل “الشرعية” بشخصه محاولاً بزبائنية وبونابارتية أن يلعب دور “البطل”. الصدر اختار العزلة المجيدة، لأنه لم يعد يتحمّل حجم الضغوط الداخلية والخارجية عليه، ولا يريد الانصياع لها، مثلما هو غير قادر على مواجهتها، ولربما يكون قد قرأ المشهد الانتخابي استباقاً، ولاسيّما بعد أحداث الأنبار المأساوية بكل المعايير، فقرر الاعتزال وإنْ كان لحين!!.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجنادرية والمواطنة الافتراضية
-
مصر تحتاج إلى مشاركة المهزوم لا الانتقام منه
-
استمرار الصراع في سوريا هو مصارعة على الطريقة الرومانية
-
نتنياهو وتصريحات كيري!
-
الحزين الذي لم تفارقه الإبتسامة
-
التباس مفهوم -الأقليات-
-
الأنبار . . الإرهاب والأسماك الخبيثة
-
دستور تونس والعقدة الدينية
-
من أين ظهر هذا التنين؟
-
المعايير الدولية للمحاكمة العادلة: قراءة في الفقه القانوني ا
...
-
رحل العروبي -الأبيض- !
-
“الوجه الآخر” لتركيا
-
جنيف 2 واستعصاء الحل!
-
النجف في الجامعة اليسوعية
-
مغارة -علي بابا- الأسوأ من ووترغيت!
-
دستور مصر: في الطريق إلى الاستفتاء !
-
جدليّة الكولونيالية !
-
العودة إلى ما قبل أوسلو
-
تركيا وبرزخ «الفساد»!
-
صفاء الحافظ وصباح الدرّة :ثلاثون عاماً على الإختفاء القسري
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|