أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - احمد عبدول - قبور ومعاجز















المزيد.....

قبور ومعاجز


احمد عبدول

الحوار المتمدن-العدد: 4380 - 2014 / 3 / 1 - 22:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ذات يوم من ربيع العام 1984 وقد كنت حينها في الصف السادس الابتدائي انتشرت في محيط مدينتنا رواية مفادها ان احد الآليات الثقيلة (بلدوزر) أرادت ان تزيل قبرا عند الخط السريع الذي يفصل بين مدينة الغزالية والحرية وكان ان تتوقف تلك الآلية عن العمل كلما اقتربت من القبر لتزيله وهكذا تكررت المحاولات ولكن دونما جدوى , فما كان من صاحب الآلية إلا ان يولي هاربا وهو يستغيث بالله من غضبه , فمما لا شك فيه ان صاحب القبر ولي من أولياء الله أو حبيب من أحبائه.
بعد مدة وجيزة اتضح ان القبر لطفلة يعود نسبها وحسبها إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقد توفيت في سن السادسة من العمر ودفنت في تلك المساحة الجرداء , وما هي إلا أيام قلائل حتى هرعت جموع الزائرين والحاجين والقاصدين من كل فج عميق , حيث قدم الزوار من سائر ضواحي بغداد ونواحيها إضافة الى محافظات البلاد لا سيما الجنوبية منها , ليغدو قبر الطفلة (العلوية )محط الرحال ومناخ الركاب وموطن الإعجاز .
تولّد لدي حينها شعور جامح بضرورة زيارة ذلك القبر المعجزة عن قرب لا سيما وان معاجز العلوية وكراماتها أخذت تتضاعف يوما بعد اخر فقد نطق الخرس واستعاد الصم أسماعهم والعمي أبصارهم والمعتوهون عقولهم وكامل إدراكهم .
(أبو فلاح ) جارنا صاحب السيارة (البيكب) والتي كنا نقفز إلى حوضها لنلهو ونلعب دون علمه كان قد اتفق مع نساء (الدربونة )بأن يذهب بهن الى زيارة قبر العلوية صاحبة الكرامات والمعاجز ,مما حدا بي ان اهرع إلى إليه متوسلا بأن ينتظرني حتى أعود من مدرستي فتعاطف معي ووعدني خيرا ، كانت الساعة تشير الى الرابعة عصرا عندما رجعت من المدرسة لكني تفاجأت بعدم وجود السيارة (البيكب ) داخل الدربونة عندها علمت ان أبا فلاح قد غادر بالنسوة الى حيث قبر العلوية التي سحرت معاجزها القلوب وأخذت بتلابيب النفوس , فما كان مني الا ان اذهب بمفردي الى حيث القبر, دون ان اخبر أحدا من إخوتي من غير ان أتناول شيئا من الطعام المعد لي وهكذا أخذت اقطع الطريق إلى حيث المشهد المقدس وهو عبارة عن طريق زراعي ضيق ومتعرج تتخلله الاشجار وتحيط به السواقي , بعد نصف ساعة من السير المتواصل لاحت لي جموع غفيرة وقد علتها غمامة كثيفة من الغبار , لم اصدق عيني وأنا أشاهد تلك المساحة الجرداء وقد تحولت إلى أسواق ومحال (أكشاك حديدية ) وكراجات لنقل الزائرين من مختلف محافظات القطر .
لقد رأيت الناس تضطرب كما تضطرب أمواج البحر في يوم مطير , كانت تلك الجموع تركض بين آونة واخرى وسط صيحات التهليل والتكبير والدعاء والصلاة والحوقلة والبسملة والتي تنتهي بمفردة (نطق فلان ، أبصر فلان ) حينها تتعالى الأصوات وتبلغ القلوب الحناجر , كانت جموع الصم والخرس والعمي والمعاقين موثوقة الأيدي حول قضبان ذلك القفص الحديدي ذو اللون الأخضر والموضوع على القبر , وكانت جموع الناس تلتف حول المرضى الذين كثيرا ما يضيقون ذرعا بصراخ وصخب تلك الجموع الهادرة فيفرون من وثاقهم فرار العبيد بينما تتراكض الجموع من خلفهم وهي تعتقد بحدوث أمر خارق للعادة ,لم يمر وقت طويل حتى وجدت والدتي وهي تبحث عن باقي النسوة من شدة الزحام فكان ان أخذت توبخني إلا إنني كنت مأخوذا بما يترامى إلى سمعي من أنباء المعاجز التي تجترحها العلوية ولَكم وددت ان أرى شيئا مما اسمعه، لكن تراكض الجموع وصخبهم وصراخهم وتدافعهم كان يحول بيني وبين ما يترامى اليّ ما أود سماعه .
لم يمر سوى شهر على تاريخ ظهور القبر المعجزة حتى حضر الرفاق البعثيون ببزاتهم ذات اللون الزيتوني وهم بكامل أسلحتهم وهرواتهم وقد استقدموا معهم آلياتهم الثقيلة لغرض تجريف القبر الذي أصبح ضريحا يحج إليه الزائرون من كل فج عميق وما هي إلا ساعات حتى أصبح القبر أثرا بعد عين حيث لم تتوقف آلية ولم تتعطل جرافة ولم تظهر أي معجزة اتجاه ما قام به الرفاق .
الحقيقة ان مثل تلك الواقعة التي عشت تفاصيلها كما عاشها غيري تكشف لنا عن عدة حقائق اجتماعية مهمة ورئيسية ولعل أهم تلك الحقائق ان منزلة الكثير من الأولياء والصالحين إنما تشترك في صياغتها إضافة الى ما يتبوءونه من منازل عدة عوامل يأتي في مقدمتها المجتمع ذاته , فإذا ما كان أفراد ذلك المجتمع يتمتعون بقدر عال من الثقافة فأن الصورة التي تسوق لهذا الولي أو المقرب تكون على قدر رفيع من التوازن والمعقولية من حيث صورة ومنزلة وآثار ذلك الولي ,أما إذا كان أفراد ذلك المجتمع لا يتمتعون إلا بمستويات متدنية من الوعي الديني والمعرفي فان صورة ذلك الولي أو المقرب سوف تكون على شكل معاجز وكرامات وأساطير بالجملة كما حصل مع حاله العلوية .
إذن فالمجتمع شريك أصلي وفاعل في صناعة صور الكثير من أولياء الله الصالحين .أما الأمر الثاني والذي يدخل في كثير من الأحيان في صناعة صور الأولياء أو القادة الدينين فهو العامل السياسي ولتقريب الصورة أكثر فأن ما قام به الرفاق بخصوص قبر العلوية وقد كانت هنالك حرب ضروس تستعرعلى الحدود العراقية والإيرانية , حيث كانت الأجواء العامة تتطلب المزيد من الحشد والتأييد والالتفاف حول القيادة السياسية في حربها وهي تذود عن الأمة العربية والإسلامية كما كان الإعلام الرسمي يروج, في مثل هكذا أجواء ما كان للرفاق إلا ان يقوموا بما قاموا به لكننا إذا ما تصورنا ذلك القبر وقد ظهر في تسعينيات القرن الفائت عندما كان النظام الحاكم يشعر برغبة ملحة لعودة المجتمع إلى دائرة الدين والتدين وذلك لغرض التنفيس الشعبي ,وامتصاص جانب النقمة والتذمر مما آلت اليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والنفسية , لو ان قبر العلوية ظهر في ذلك الوقت لوجدنا ان ذات الرفاق الذين جرفوا القبر , قد بنوا لها بنيانا وشيدوا لها صرحا ولدعوا القاصي والداني لزيارتها والتبرك بآثارها ولشهدنا في العراق ولادة ضريح يوازي بعض الأضرحة المنتشرة هنا وهنالك .
لا شك ان القبر الذي استعرضنا حكايته كان قبرا حقيقيا لطفلة صغيرة توفيت بسبب عارض ما , إلا ان الخيال الجامح والمشحون والذي لا يريد ان يغادر مربع الخوارق والمعاجز والتي كانت تتحقق على أيدي أنبياء الله وأوليائه في موارد معينة هذا بالإضافة إلى تلك الأجواء السياسية والنفسية الضاغطة إبان الحرب العراقية الإيرانية هو الذي دفع بالأمور لان تنتهي إلى خلق هكذا أسطورة لو كتب لها البقاء لكانت أسطورة القرن بلا منازع .
ان توفر مقدار يعتد به من الوعي المجتمعي إضافة إلى تلك الأجواء النفسية المتوازنة مع وجود نظام سياسي حاكم لا يسعى إلى اختراق الخط الديني والعقائدي , كل ذلك إنما يؤدي إلى ان تكون الأفكار والممارسات والعقائد على مستوى متقدم من الاتزان والمعقولية ,أما خلاف ذلك فأننا سوف نشهد غلوا وتطرفا في ما نتبناه من أفكار وممارسات وطقوس وعقائد كما حل في حادثة العلوية (رحمها الله ) .



#احمد_عبدول (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عجبي لهؤلاء المتشيخون
- البهلول العليل
- هل أنا حقا علماني ؟
- هكذا تكلم اليعسوب
- في ذكرى غزوة 1991 -المباركة - !
- تاملات في الخطاب السياسي للسيد عمار الحكيم
- اصوات مهاجرة
- كل عام وانتم بخير سادتي القراء
- هل يكفي ان يكون الطرح صحيحا ؟
- ليس دفاعا عن العمامة
- رسالة الى جريدة المدى
- هل فشل الساسة الشيعة في ادارة حكم العراق ؟
- قضية الشيعة والسنة
- حكاية من سالف العصر والزمان
- ثنائية الثورة والانقلاب
- الله ليس رغيفا
- المترحمون على الطغاة
- عقدة الهلال
- رسالة عاجلة الى السيد رئيس الوزراء
- شيوخ الظل


المزيد.....




- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - احمد عبدول - قبور ومعاجز