ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1244 - 2005 / 6 / 30 - 14:23
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
عادة ما تجعل الثقافة المتجانسة في مكوناتها الراقية والنامية من قضية الاعتدال إحدى موضوعاتها المهمة. والقضية هنا ليس فقط في أن الاعتدال ينبع من إدراك قيمة التجانس في حياة المجتمعات والدول، بل ولان أي خروج عليه يواجه بالضرورة ردودا متنوعة ولكنها تصب في نهاية المطاف ضمن تقرير حدود الاعتدال وقيمته بالنسبة للفرد والجماعة والأمة والدولة. وهي حالة متميزة من حضارة لأخرى، كما أنها تختلف تاريخيا. كل ذلك يضع من جديد أهمية تحديد الموقف من قضية الاعتدال. وذلك لان الاهتمام بها يعكس في الواقع مستوى بلوغ الوعي النظري إدراك قيمة البدائل العقلانية والإصلاحية للدولة والمجتمع والقيم.
فالتجارب التاريخية للأمم والثقافات جميعا تبرهن على أن كل ارتقاء في مصاف المطلق يؤدي بالضرورة إلى إدراك وترسيخ قيم الاعتدال. وليس المقصود بالمطلق هنا سوى النماذج المثلى في وعي الثقافة عن الخير والجمال والحق. أي عن المكونات الضرورية لوجود الفرد والجماعة. إذ ليس الاعتدال من حيث الجوهر سوى النسبة المثلى لوجود النظام. وليس هناك أشياء اكثر نظاما وانتظاما من الخير والجمال والحق. فهو الثالوث الذي ترتكز علية قاعدة الدولة والمجتمع والروح. من هنا ليس مصادفة أن يكون الاعتدال مرافقا للحرية ومساعيها، كما إن التجارب التاريخية عموما تبرهن على أن كل ارتقاء في مصاف الحرية يؤدي بالضرورة إلى تجذير وتوسيع قيم الاعتدال في السياسة والحقوق وبنية الدولة والمجتمع والثقافة. وهي الحصيلة التي يمكن وضعها في الفكرة القائلة، بان الاعتدال هو فلسفة النظام الأمثل.
وحقيقة الاعتدال إشكالية كبرى تتآلف فيها مسائل التجديد والإصلاح والبحث عن الحقيقة وقضايا التسامح والانفتاح والقانون والعدل وغيرها من القضايا. وذلك لان الاعتدال هو جوهر الحقيقة وأسلوب وجود الأشياء ونموذج النظام الأفضل للبشر. ففي حالة إلقاء نظرة سريعة على واقع العالم العربي المعاصر، فان ضعف الاعتدال وضموره أحيانا في الدولة والمجتمع والحركات الاجتماعية والسياسية يشكل أحد الأسباب الجوهرية القائمة وراء الراديكالية والتطرف والغلو وانتشار اللاعقلانية بمختلف أصنافها ودرجاتها. وهو السبب القائم وراء ضعف الدولة والمجتمع المدني وانعدام الديمقراطية وشرعية المؤسسات.
وهنا تجر الإشارة إلى أن الأسباب الرئيسة وراء تطرف الأفراد والجماعات ينبغي البحث عنه لا في الأفراد والجماعات، مع انهم يتحملون مسئولية ذلك، بل في بنية الدولة ومؤسساتها والثقافة السائدة. فالحديث عن "اعتدال" في ظل قهر وهيمنة واحتقار للحريات الفردية والاجتماعية والعدالة هو عبودية وليس اعتدال. والتطرف والغلو الناتج عن ظروف القهر والاستعباد يحمل خميرة الحرية غير الناضجة. من هنا فان المهمة تقوم في توسيع وتجذير الفكرة العقلانية للاعتدال باعتبارها منظومة نافية للقهر والاستغلال والاستعباد أيا كان شكله ومضمونه والقوى القائمة وراءه. ذلك يعني أن غياب الحرية والنظام الاجتماعي الديمقراطي هو أحد الأسباب الجوهرية الكبرى للتطرف، كما أن التطرف يعكس في مرآته العوجاء تشوه بنية الدولة ومؤسساتها وضعف أو غياب المجتمع المدني.
ذلك يعني أن حقيقة الاعتدال المنشود لا تقوم في تقويم السلوك الفردي والجماعي، بل في إبداع منظومة النسب المثلى، القادرة على تمثل تاريخ المرجعيات الثقافية للامة عبر نقدها الدائم وتمثلها العقلي وتهذيبها الإصلاحي بالشكل الذي يستجيب لحل الإشكاليات الواقعية الكبرى القائمة أمامها على المستوى المحلي (القومي) والعالمي. فالاعتدال منظومة. لذا يفترض تأسيسه المنهجي رفعه إلى مصاف المرجعية الثقافية المتسامية. وشأن كل مرجعية ثقافية متسامية لا يمكنها الفعل بصورة ناجحة دون الاستناد إلى الواقع وإشكالياته الفعلية. إذ أن تأسيس الاعتدال في بنية الدولة والمجتمع والأخلاق لا يمكنه أن يكون واحدا في اليمن والعراق ومصر ودول الخليج العربية. فما بالك بين العالم العربي مثلا وبين أوربا أو الولايات المتحدة. ولا يعني ذلك أن هناك اختلاف جوهري في ماهية الاعتدال، بل الاختلاف في كيفيته التاريخية والثقافية.
ففي ظروف العراق الحالية يفترض ذلك أولا وقبل كل شئ ضرورة الفلسفة العقلانية في الموقف من بناء الدولة والمجتمع مع التركيز الأساسي في العقد الحالي على تطبيق نموذجها السياسي بشكل خاص. وهي ضرورة تحددها قيمة العقلانية بوصفها فلسفة الاعتدال من جهة، وكونها الصيغة الضرورية للتقدم والتطور الاجتماعيين من جهة أخرى. فهي الفلسفة التي تحتوي بحد ذاتها على إمكانية الرؤية الواقعية للإشكاليات الكبرى وآلية الحلول العملية لها.
إن تحويل العقلانية إلى فلسفة عملية تفترض تأسيس وتحقيق الشرط الضروري لذلك ألا وهو القضاء على أسلوب وذهنية الراديكالية والتطرف والغلوّ. وإذا كانت الصفات الجوهرية للراديكالية "المتكاملة في نظام" كما جسدها حزب البعث والطغمة الصدامية في العراق تقوم في سيادة وهيمنة العناصر الثلاث الأساسية وهي العصمة الأيديولوجية والعندية اللاتاريخية والإرادية المغامرة، فإن العقلانية السياسية المفترضة، أو على الأقل في حدودها العملية الأولى تفترض تذليل هذه الثلاثية المخربة للروح الاجتماعي ومؤسسات الدولة الشرعية.
كل ذلك يضع أمامنا مهمة تحديد ماهية الحدود السياسية للعقلانية السياسية. وفي اعتقادي أن هذه الحدود تقوم حاليا في ضرورة الإجماع على جوهرية النظام والحرية والحق (العدل). بعبارة أخرى، إن حدود العقلانية السياسية تفترض تنسيق الحرية والنظام بطريقة ترتقي إلى مصاف الثورة الاجتماعية الحقيقية. بمعنى بناء مؤسسات الدولة والمجتمع على أسس قانونية بما يخدم تجانسهما ووحدتهما الدائمة.
كما يفترض ذلك التركيز أولا على كيفية تنظيم الحرية (أي نظام الحرية) الشرعي، باعتباره الأسلوب الثقافي للثورة. وهو الأسلوب الوحيد القادر فعلا على تذليل مختلف أشكال وأصناف الراديكالية. وبالتالي المساهمة في استدراج الإرادة الاجتماعية للقوى السياسية صوب إدراك قيمة الفعل السياسي العقلاني، باعتباره تجسيدا للحق. وهو استدراج يمكن أن يشكل مقدمة ترسيخ سياسة القانون (حرية + نظام = عدالة)، باعتباره البديل الشامل على قانون السياسة (فوضى + قمع = استبداد). ولست هذه النتيجة الأخيرة سوى الحصيلة الحتمية لهيمنة الراديكالية. فالراديكالية السياسية هي أساسا نتاج الهامشية (الاجتماعية والثقافية والتاريخية) أو رد فعل على مركزة السلطة السياسية مع ما يترتب عليها من انتهاك الحق والحقوق وتهميش المجتمع واغترابه عن حقيقة الدولة.
وقد أدت تجربة البعث في العراق إلى تجسيد لا يحسد عليه بالنسبة لمركزة السلطة وأولوية السياسة، باعتبارها المظهرين المتلازمين لصنع سبيكة القمع والفوضى. فقد جسد هذا التمركز الأبعاد الهامشية للراديكالية البعثية من خلال تقليص مداها الاجتماعي والسياسي بحيث جعل من الدولة أداة بيد حزب البعث، وحزب البعث أداة بيد تكريت، وتكريت أداة بيد صدام وعائلته. وتحولت هذه "السياسة" إلى النموذج الوحيد والمقبول بالنسبة لها. وهي "سياسة" تهدف إلى إعادة إنتاج هذه الدورة ولكن بين أوساط "العائلة المالكة". مما يجعل من سلوكها تجسيد مستمر و"حيوي" للفوضى. بحيث يجعل منها قانون وجود السلطة. ويستتبع ذلك الفوضى الشاملة في الاقتصاد والقانون والثقافة، بحيث تجعل من المجتمع والدولة والوطن مستنقعا لا مكان فيه إلا للرخويات.
في حين نقف الآن بعد عامين من سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية على إعادة إنتاج لها فيما يتعلق بالموقف من الدولة والمجتمع والثقافة. بمعنى إعادة إنتاج الحكم العائلي والقبلي والجهوي والطائفي. وهي إعادة تشترك بها بصورة فعالة كل القوى السياسية التي جلست في مجلس الحكم الانتقالي، ثم الحكومة المؤقتة وأخيرا ما بعد الانتخابات. فعوضا عن التكريتي لم تعد تسمع بغير الحكيم والصدر والموسوي والطالباني والبرزاني وتوابعها الحزبية والجهوية واعتبارات القرابة والمعرفة الشخصية. وهي صيغة تعبر عن تماسك وتداخل مختلف نماذج البنية التقليدية التي لا يمكنها العيش بمعايير الكفاءة والمهارة والاختصاص. من هنا واقع الانحطاط المريع في إدارة شئون الدولة. وهو واقع ليس بإمكانه تأسيس رؤية عملية قادرة على صنع الإجماع الضروري على وحدة النظام الديمقراطي ودولة الحقوق والمجتمع المدني. لاسيما وأنها الأضلاع الثلاث الوحيدة القادرة على بناء مثلث الاقتصاد والسياسة والاجتماع بصورة عقلانية وواقعية. ومن ثم تأسيس الاعتدال السياسي الأمثل في العراق بوصفه أحد الشروط الضرورية لمعاصرة المستقبل فيه والقضاء التام على أصناف الغلو والتطرف.
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟