أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - شاهر أحمد نصر - المآسي والسجون السياسية والحب في الرواية العربية ـ رواية كما ينبغي لنهر ـ لـ منهل السراج نموذجاً ـ 1/3















المزيد.....


المآسي والسجون السياسية والحب في الرواية العربية ـ رواية كما ينبغي لنهر ـ لـ منهل السراج نموذجاً ـ 1/3


شاهر أحمد نصر

الحوار المتمدن-العدد: 1244 - 2005 / 6 / 30 - 14:23
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


(1/3)
أصدر الأديب سمير روحي الفيصل كتاباً تحت عنوان "السجن السياسي في الرواية العربية" تضمن أهم الروايات العربية التي تتحدث عن السجون في البلاد العربية، وأرى مفيداً إضافة رواية "كما ينبغي لنهر" للمهندسة: منهل السراج إلى تلك الروايات. وقد اطلعت عليها مصادفة، وهي ـ النص الفائز بالجائزة الثالثة / الرواية/ جائزة الشارقة للإبداع العربي / الدورة السادسة 2002 ـ إصدارات دائرة الثقافة والإعلام ـ حكومة الشارقة ـ الإمارات العربية المتحدة / الطبعة الأولى 2003.
لم أتعرف مباشرة بعد على الكاتبة، مع الأسف، وقد ساعدتني شبكة الانترنت في الحصول على معلومات محدودة تفيد بأنّ: منهل السراج مهندسة وأديبة واثقة من امتلاكها لأدوات القص الفني الجاد والممتع. ولدت في مدينة حماة ـ سوريا، درست الهندسة الميكانيكية، وأصدرت مجموعة قصصية، ورواية "كما ينبغي لنهر"، ولها قصص منشورة في المجلات العربية، وفي شبكة الانترنت، وقد يكون لديها أعمال أخرى لم أنل حظ التعرف عليها بعد..
أرسلت قراءتي لرواية "كما ينبغي لنهر" إلى الأديبة الروائية منهل السراج، فوافتني مشكورة بتعليقها النقدي، وتدقيقها لقراءتي، ورأيت أن أنشر قراءتي، وتعقيبها في مقال واحد، بعد حصولي على موافقة الأديبة منهل، لعلّ ذلك يقدم بعض الفائدة والمتعة للقارئ.
تعالج منهل السراج في رواية "كما ينبغي لنهر" موضوعاً اجتماعياً وسياسياً حساساً، يصعب على الكثيرين الخوض فيه، وتجهد بأسلوبها الرشيق والشيق أن توقظ الضمير الحي، إن بقي هناك ضمير حي... وعلى الرغم من لغة التورية العميقة التي تستخدمها الكاتبة، وعدم ذكرها مكان حصول أحداث الرواية، فليس صعباً للقارئ أن يلاحظ أنّها تتحدث عن أحداث عاشتها مدينة عربية في ثمانينيات القرن العشرين. وهي تصلح لتأريخ تلك الفترة العصيبة، لولا أنّ الكاتبة، كما لاحظت، سطرت الأحداث من وجهة نظر، قد يلمس فيها بعض القراء، أحادية الجانب، كما لمست من قراءتي الأولية أنّها مع وصفها النقدي لتصرفات طرف أساسي محدد، وكان نقداً صحيحاً وضرورياً، إلاّ أنّها بالمقابل لم تقدم وصفاً نقدياً لتصرفات الطرف الأساسي الآخر في تلك المأساة، وإن ذكرت بعضها عرضاً، (وهذا ما سننوه عنه لاحقاً) فتسوقه في إطار تساؤل يحمل كافة التأويلات والتبريرات: "لا أحد يعرف لماذا أحرقت الفتيات علم بلادهن، أنزلنه من عليائه بجنون، بعصبية، بوجه محتقن فسقط فوق الماء الموحل الدائم التجمع أسفل درجات المنصة التي يحيين العلم منها ويرددن النشيد الوطني. أخذن يدسنه من جميع الجهات حتى تلوث بكامله، ثم هرعن إلى غرفة الصف نزعن وعاء المازوت عن المدفأة، ورجعن وسكبن المازوت فوق العلم الموحل، وأشعلنه. رحن يرددن بحناجر زرق، بوجوه محتقنة وقبضات غاضبة "يلا بره أبو شامة".ص96 ولعل هذا الأمر يفقد العمل بعض الموضوعية من حيث القيمة التأريخية، فالرواية مع صدق المشاعر، والعاطفة الصادقة التي تمتاز بها، لم تغطِ كامل اللوحة، لأنّ تعاطفها مع جهة معينة، ـ وهي الضحية، في المحصلة ضحية ذاتها والقوى التي ألبتها ضدها، وضحية الآخر والحالة غير السليمة السائدة ـ جعلها ترى، أو تقدم هذه الجهة مثالية، لم تقترف ذنباً، ولا خطأ...
أما النظرة الفنية إلى الرواية فتبين أنّ الكاتبة بارعة في استخدام تقنيات الكتابة الروائية الحديثة، وخاصة إجادتها استخدام تقنيات الزمن، وحسن استثمارها لما أطلق عليه النقاد: التناوب، التناوب المتزامن، الارتجاع، التضمين، الاستباق.. فها هي بطلة القصة فطمة في الصفحات الأولى من الرواية تتذكر كيف: "هدرت الطائرات الحربية فوقها، وهي مختبئة بين الأغصان العليا لشجرة الليمون الموجودة في أرض الدار.."ص14 وهي "لا تملك إلا أن تتذكر أكف أعمامها، وأصابعهم المنفرجة على آخرها مغطاة بدمائهم، حين قتلهم رجال أبي شامة، وأخذ أولادهم، فصاروا غائبين مع الغائبين، تفكر بأبي شامة: تراه يعلق صورته في قصره، كما هي معلقة حول النهر بتالوته الساقطة والباقية؟ لا تملك إلاّ أن تتذكر فارس النحات القادر، رغم كل الظروف، على أن ينحت أدق التفاصيل وأصعبها بصبر غير محدود، دونما انتظار لشهرة أو مال.."ص17 وتلاحقها صورة اعتقال الأطفال والأحداث: "تهاجمها ذكرى أحمد أصغر الشباب الذين غابوا، أحرق قلب أمه عليه، أمسكوا به: أنأخذه أم نتركه؟ بال الصبي على نفسه بانتظار جواب المعلم الذي كان يقود رجال أبي شامة، لكنهم دفعوه أمامهم طفلاً. يتردد بكاؤه وارتجافه، فكرت: تراه يعود؟"ص18 وتعرفنا الكاتبة على طقوس الصلاة.. المؤذن أبو رحمون.. "ساعتين على الأقل يرافقهم على سحورهم بأناشيده الخاشعة".ص26
التبرير الأيديولوجي عند بعض أتباع الجماعة للأحداث:
وفقت الكاتبة في تعريفنا، في الرواية، بشكل غير مباشر، على الأساس الأيديولوجي الذي اعتمد عليه بعض أتباع الجماعة لحشد الطاقات وخاصة الشباب والأحداث وراءها: "...أصوات الداعين للجهاد من أجل إخراج أبي شامة ورجاله من الحارة تنفيذاً لوصية نذير الهارب، كانت أصواتاً حارّة. أصوات أطفال رقيقة ضعيفة، تناثرت في كل البيوت، أيقظت النائمين المتآلفين مع صوت أبي رحمون، أيقظتها وأخذتها مثلما أخذتهم". إذاً هو الجهاد من أجل إخراج أبي شامة ورجاله من الحارة، وهنا ينتصب سؤال موضوعي حارٌ أيضاً، هل هذه المسألة تتطلب الجهاد؟! وأي نوع من أنواع الجهاد؟! هل تطلب سفك الدماء؟! وكيف تم إقناع أولئك الشباب بالذهاب إلى الموت على طريق ذلك الجهاد؟! تقدم الرواية الجواب بشكل لا لبس فيه: "تدافعت فطمة مع النساء إلى النوافذ كالعادة، لمراقبة خروج الصبيان من بيوتهم صافقين الأبواب الحديدية، مندفعين بثياب النوم الخفيفة، وبالأخفاف المنزلية ملبين النداء، يحكّون أصابع أقدامهم بعضها ببعض بتأثير "الشمطلس" (الشملاص) والقشب اللعين، فيما تسيل أنوفهم الحمراء ليختلط مخاطهم وعرقهم بقطرات المطر الخفيفة. كانوا يبغون الوسيلة، وسيلة العم نذير، إلى نيل الجزاء المرتجى "فالمبطون والمطعون وصاحب الهدم والشهيد في الجنة"، في الجنة حيث الأسرة المتقابلة وصحاف الفضة والذهب ولباس السندس، الوجوه نضرة والفضلات تخرج من الأبدان بالتجشؤ كرشح المسك".(ص98) فثمن ذلك الجهاد هو الجنة كما وعدهم قادتهم... دون أن يسال (الصبيان) أنفسهم من نصب هؤلاء القادة مستشارين لفتح أبواب الجنة لمن يشاءون؟!
نتعرف في الرواية على بعض مجريات الأحداث ودخول القوات للمدينة، فقائد الجماعة (نذير) يستعد للجهاد منذ مدة، وقد خزن الأسلحة لهذه الغابة: " كانت فطمة نائمة بين الفرش المتلاصقة، عندما فتح باب الغرفة في الثالثة ليلاً واقترب العم نذير من أذن الأخ الكبير هامساً أنّ الأسلحة مطمورة تحت شجرة النخيل في حديقة قبو القبو". "رأت المآذن زرقاء من شدة البرد، أصوات الداعين للجهاد من أجل إخراج أبي شامة ورجاله من الحارة... كانت أصواتاً حارّة". وعندما خرج الصبيان إلى الجهاد كانت النساء اللائي يراقبن خروجهم "تحمل كل منهن، بمن فيهن فطمة، هويات الشباب بصور وجوههم الفتية وأعمارهم القصيرة حيث تنبه الخارجون إلى ضرورة ترك هوياتهم في أيدي أمهاتهم كيلا يورطون غيرهم (ذويهم) فيما أقدموا عليه، فقد كانوا متوقعين القتل".ص98 مما يدل على استعداد عام مسبق (للجهاد)... وتقدم الكاتبة لوحات فنية صادقة، حول تلك الأحداث تجعل القارئ يعيشها وكأنّها تحصل معه، ويتعاطف مع أبناء المدينة الذين يكتوون بنارها، فيرسم مصيرهم البائس تلك اللوحات المأساوية لحرب المدن: "كان الرجال يتركون رزقهم "داشراً" ويعدون خوفاً من رصاصة طائشة أو غير طائشة، يقول عبد الحكيم: كانت أغلب رصاصات أبي شامة طائشة. أصبحوا يؤرخون كثيراً من الأحداث من تاريخ الركضة كذا، أما الرجل صاحب دكان صابون الغار وترابة الحمام وزيت الخروع لتقوية الرموش، فيرجوها ألا تتحدث عن تلك الفترة كي لا توقظ ذكريات موجعة وذلاً شربه مع الجميع وصار في دمهم، عدا عن أنّه خائف مثل الجميع، يريدها أن تسكت كما يسكت ويسكتون، كي لا يدعوه رجال أبي شامة إلى فنجان قهوة، فيغيب ويتوه ذكره، مثل الغائبين".ص56
وتنوه الكاتبة إلى وجود بعض الأصوات العقلانية التي نصحت الجماعة بعدم خوض معركة غير متكافئة، دون جدوى: "في الفجر البارد الذي خرج فيه الصبيان لمواجهة أبي شامة، كانت أم الحب تركض من زاوية إلى زاوية في البيت، تجر الأطفال صارخة بالفتيات كي يختبئن، تنهر الصبيان، تأمرهم أن يرتدوا الفروات وتنهاهم عما هم قادمون عليه: أنتم لستم قدّ أبي شامة، عودوا، سوف يذبحكم ويقبركم".ص92 "ربما كان أبو فطمة محقاً في قلقه واضطرابه، فالجميع كان مرتبكاً بعد هجوم أبي شامة على الحارة... عاد أبو شامة برجاله وأسلحته الحديثة يلاحقونهم وهم يتراكضون من حارة إلى أخرى.. محتمين بجدرانها الضيقة التي تعينهم على الهروب والاختباء".ص99 "كانت الأماكن غامضة ومخيفة لرجال أبي شامة... غابوا في متاهاتها.. انحناءاتها وأسرارها العتيقة، كل هذا أغضب أبا شامة غضباً شديداً فأمر بتدميرها من الأرض ومن الجو".ص99 "أما حارة فطمة، الضفة الأولى والجسر الصغير بينهما، بما فيه الطاحونة وحارسها وحارة اللاجئين، حارة القلعة، وحاملي سلاح نذير ببيجاماتهم الرقيقة، فقد اكتفى بقتل معظم رجالها وهدم واجهات بيوتها ومئذنة جامع أبي رحمون".ص99
وكثيراً ما تستخدم الكاتبة كلمة (الصبيان) لدلالة على (المجاهدين) وتدل هذه الكلمة على عدم نضج حاملها فكرياً، وربما تريد الكاتبة انتقاد تلك الحالة، ومن ورط أولئك (الصبيان) في معركة غير محسوبة جيداً وغير متكافئة، وفرّ ناجياً بجلده... "من لم ينل من الصبيان الذين خرجوا للقاء أبي شامة، الجزاء المرتجى من الجهاد، عاد ناقماً هارباً خائفاً. كان الحلم هو الجنة أو النصر والسيادة بمسح أبي شامة وأهله (وليس جنوده) من الحارة. رددت أم الحب جملة لم ينسوها: هل يمكن لبيجاماتكم الرقيقة مواجهة بدلاتهم الثقيلة، وعمكم نذير ترككم وغادر بعيداً؟"ص99 " صدقوها بعد أن حدث الذي حدث، لم يخرج كل الصبيان، لكن من عاد منهم، عاد باكياً على موت أخيه أو رفيقه. لجؤوا إلى أحضان أمهاتهم قانطين من رحمة السماء التي أرسلت كل ما بوسعها من البرد كي يساهم مع الخوف في تيههم".ص100
ما بعد المأساة:
تصف الكاتبة ببراعة في لوحات فنية مؤثرة حال المدينة وأهلها بعد المأساة التي حلت بها "كانت الأماكن التي ملئت بالجثث ثم أفرغت: مستودعات دكاكين أقبية.. صامتة مدماة تستقبل صف النساء المنتظرات دورهن للتعرف على حذاء الزوج أو قميص الابن أو "بيجامة" الأخ.. فإن لم يجدن أثراً لهم يتفاءلن بعودة الزوج أو الابن أو الأخ، لكن بعد أن يشممن الدماء المتجلطة على الأرض أو الجدران خشية أن تكون دماء الأحبة. أم غالب التي دفنت ابنها لم ترفض إعطاء رجال أبي شامة أساورها، لكنهم قطعوا ذراعها، مثلما فعلوا مع النساء اللواتي رفضن إعطاءهن الذهب، لم يتمهلوا أن تشرح لهم كيف أنّ أساورها كانت مهر عرسها حين كانت عروساً نحيلة وصارت بصحة جيدة للسعادة التي عاشتها مع أبي غالب.. وقفت بذراع مقطوعة وهي تشكر الله أن لم يغتصبوها كما فعلوا بغيرها. كان رجال أبي شامة يدخلون إلى النساء في الظلام فيسلطون ضوء بطارية على الوجوه المتلاصقة وحين يعثرون على ضالتهم: وجوه فتيات صغيرات جميلات يسحبونهن من أمهاتهم ليغتصبونهن ويقتلوهن. ولم يفد الأمهات تمريغ وجوه بناتهن بالطين والشحار فقد كان جمال العين البريئة الخائفة يطغى".ص115
وبعد انتهاء الصدامات المباشرة بدأت حملة الاعتقالات والتصفيات بالاعتماد على نزوات الوشاة والمخبرين "... سرعان ما جاء الملثم أبو الكوفية، الذي كان يرافق رجال أبي شامة، وأشار بإصبع حيادية باردة إلى أبواب من خرجوا، قبض أجره من رجال أبي شامة وولى هارباً من انتقام محتمل في يوم ما. إشارة إصبع الملثم، كانت سبباً لكوارث لا تنسى في الحارة، عشر آلاف؟ لا، بين عشرة آلاف ضحية والأربعين ألف ضحية، مجال كبير والله أعلم".ص100 "نجا منهم العم جميل النسونجي، عبد الحكيم، كشاش الحمام، العم أبو سليم الجربوع، المختار.. أبو فطمة، فارس النحات الذي ستقابله فطمة في هروبها وهي تغسل قدميها مرتجفة من الخوف: أهذا دمي أم دم أعمامي؟ كان يحمل لوحاته المطعونة بحرابهم ويبكي، فتؤنبه: لماذا تبكي اللوحات؟ ابك الأرواح. نجا العاص، صاحب أهم مكتبة في الحارة: "شو مكتبة المركز الثقافي؟" الحاج عمر الذي سيبدأ كابوسه: لن تبعث يا حاج عمر. الأستاذ عاصم الذي نجا لأنّه صادف يوم حصته في مدرسة المدينة القريبة.ص100
اقتاد رجال أبي شامة معظم من تبقى من الرجال. "كان اليوم الأخير من الهجوم. ظن الجميع أنّ الأمر قد انتهى هنا، لم يحسب أحد أن البيت سوف يفرغ إلاّ من النساء وبعض الرجال الذين لن يستطيعوا حلاً أو ربطاً.."ص114 بعد كل ما فعلوا.. غادروا تاركين شتيمة ... مكتوبة على الجدار الغربي للجامع بكل الألوان، بحبر ثابت لم يمحه ماء المطر، لم يتجرأ أحد منهم على مسحها، بل على العكس كانوا يقرؤونها خمس مرات في اليوم حتى باتت قدراً مقدراً عليهم.ص115
وبعد استتباب الوضع لم تعد هناك حاجة ليختفي الواشون أو يتلثموا "من يعمل مع رجال أبي شامة صار يمشي مزهواً يا لميا. لم يبق مطرح لأبي الكوفية أم الملثم بينهم، صاروا يتباهون برؤوس عارية ووجوه صريحة".ص105
آلام ومآسي:
تصف الكاتبة معاناة أهالي المدينة بشكل واقعي وموضوعي مجرد، بل يمكن القول إنّ الكاتبة تصور بعبقرية وذكاء، وبأدوات فنانة حساسة بارعة تلك المآسي وتجعلنا نعيشها ونعاني مع أصحابها: "نفذت المؤونة على كثرتها من البيوت، قلّ الزيت بعد أن استخدم للإنارة، اشتدت معارك النساء حول قبضة من البرغل، حول سكين ضائعة أو غطاء صوفي لطفل مريض، بينما كان شك الرجال بعضهم ببعض على أشده، نسوا مبدأ أولاد العشرين والستين. مضوا يفتشون عن طريقة ينجون فيها من هذا الحصار. كان عزرائيل ينام في فراشهم، يخطف ملعقة الطعام منهم، ألفوا وجوده، باتوا يبحثون عن طريقة يدفنون فيها موتاهم، دون أن يبرحوا أماكنهم، حتى لا يصابوا برصاصة طائشة أو غير طائشة.ص106 الحياة أقوى من الموت، وسيبقى نبع الحياة يتدفق بكل الألوان والنغمات والتداعيات: "شبت خلافات استمرت أعواماً بسبب قطعة من الخبز. لم يكن نصيب الواحد أكثر من لقيمات مغروزة بأظافر مدماة. رغم الرعب من الموت، أو من اغتصاب النساء، كانوا يخترعون النكات عن أبي شامة، ورجال أبي شامة، مؤخرة أخت أبي شامة. قد يدعم أحدهم معنوياتهم فيقول: يا جماعة، أبو شامة بالبراد".ص107
لميا:
من المآسي الإنسانية الفظيعة التي خلفتها تلك الأحداث المأساوية مأساة لميا: لميا بعد ساعات ستصبح لميا المجنونة، تماماً عند الفجر.ص100 "كانت لميا نائمة نصف مغلقة، ثديها مع طفلها، دفن زوجها رأسه وتنهيدته بين كتفيها خلف ظهرها، طفلتها ابنة السنوات الثلاث نائمة نوماً عجيباً غريباً عند قدميها.
نامت من تعبها، لميا اليقظة دائماً، كذلك فعل زوجها المريض. لكن الطرق الشديد جعله يقفز من شدة الخوف عن فراشه ليفتح الباب. ركلوا قامته النحيلة، داسوا أرض الدار الإسمنتية السوداء، خطوتان، وجدتهم بشعارهم المعروف "تالوتة على صدر كل منهم". سحبت ملاءتها وشدتها عليها وعلى ابنها المتشبث بثدييها. غضبت من الرضيع فرمته فوق ظهرها، لكنه ظل متشبثاً بكتفيها اللتين تحولتا شرفة لمراقبة الغرباء. نخروا بالحراب الثياب المعلقة، دفعوها بأحذيتهم القاسية خف الطفلة البلاستيكي الأحمر والمقصوصة مقدمته، رفعوا الوسادة التي تحمل رأس الطفلة وفتشوا تحتها، لم يجدوا شيئاً، تركوها، هوى رأس سحورة، لكنها لم تستيقظ. كانت عينا أنس ترقبان كل شيء من شرفته التي هي كتفا أمه المتنقلة، تصعد وتهبط وتلملم وتسوي ما خربه المقتحمون في بيتها الصغير. في غفلة منها، بسرعة كالحقد، أمسك أحدم تنكة المازوت المتبقي من خلف باب بيتها وسكبها على كل شيء. أما لميا المأخوذة فقد سحبت وسادة زواجها، بدل سحورة التي لم تستيقظ رغم كل الصخب، من غفوتها المطمئنة عند قدمي أمها، ولن تسمح لأي سبب بسحب السكينة منها، لكنها تفحمت. أما لميا التي فوجئت في ركضها بحملها الوسادة على صدرها بدل الطفلة. الطفل الصامت أنس في يد والوسادة في اليد الأخرى، فقد وقفت على الجسر، وقررت أن ترمي الوسادة التي خدعتها، لكنها بدل أن تفعل ذلك رمت الطفل في النهر تحت القناطر.
هكذا وجدت لميا نفسها بدون أعباء، بدون طفليها، بدون زوجها، ثم بدون عقل".ص102
أم تفقد ابنها أملها الوحيد طالب الطب تقبل الأحذية وتحفر له قبراً
"في الرف العلوي من الخزانة ما قبل الأخيرة، كتب ابن مطيعة للسنة السادسة طب، مازالت تحمل "مسكته" لها، رغم الغبار والزمن الطويل، غاب مع من غابوا، قبل أن ينهي العام، لكن أمه مطيعة أعدت قبراً تزوره كل خميس، وترسم مستقبله المبتور مبكراً، جاء من جامعته ليلة واحدة، كي تغسل أمه ثيابه وجواربه وتطعمه غذاء دسماً، كان مشتهياً "الباطرش" يقبر أمه، ليعود بعد ذلك ويكمل امتحانه، باقي مادتان".ص95
"صباحاً هزّ الأركان صوت مطيعة تسقط على الأرض وتمسح وجهها بقميص ابنها المفقود، تبكي وتركض إلى المصطبة التي تصطف عليها الأحذية تقبلّها وتصرخ بعويل مرعب، تلصق وجهها في الجدار وتقبله: يا حبيب أمك، اشتهيتك تمرض يا قلبي لأخدمك، "اشتهيت جبلك كاسة ماء"، "كان مشتهي الباطرش وأنا أجلته ليوم تاني، ما في يوم تاني يا عين أمك.
ثم هربت إلى برية القبور.
عندما وصلت برية القبور، كان الحارس مازال نائماً، فأكثر زوار القبور يأتون عصر الخميس، أما فجر الاثنين فلم يتوقع أن تأتي هذه المرأة تحفر بأظافرها قبراً.
ملأت حضنها وفمها بالتراب، ابتلعته أيضاً، كوّنت تجويفاً بأصابعها قدر ما استطاعت، فتحت حقيبة ابنها الذي جاء ليلة واحدة يأكل الباطرش، أخرجت منها نوتة المادة التي كان ينوي قراءتها في يوم الإجازة الذي منحه لنفسه. أخرجت جوارب ومريول الطب، وأشياء كانت تحتاج لمساتها الضرورية جداً، غسيل وكي ورتي.. وجرعة حنان، صفتها بعناية بالغة في القبر، ثم غيرت ترتيبها عدة مرات وعندما اعتمدت الترتيب الأخير أخذت تبكي بجنون، وهي تنثر قبضة التراب الأولى، كما يفعلون عادة بعد إنزال الميت الغالي. كومت التراب كي يرتفع قليلاً عن الأرض، سقته، قرأت الفاتحة مستغفرة ربها مائة مرة.
صار لديها قبر تزوره عصر الخميس تغرز عيدان الآس الخضراء تربط على كل عود شريطة حمراء وصفراء وخضراء.
عاش طالب الطب الغائب في قبره، بعمر أمه وأحلامها وعيدان آسها وشرائطها الملونة الجديدة كل خميس. ليست أمه فقط من رصد مستقبله في غيابه الذي لم يعد منه بل لقد شاركها الكثيرون من أهل الحارة، لم ينفكوا ينادونها أم الدكتور، وهم متيقنون من موته مع من قتل عند جدار المقبرة العتيقة".ص145



#شاهر_أحمد_نصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة أولية في مشروع الوثيقة التأسيسية لتحالف الوطنيين الأحر ...
- أعيدوا الاعتبار إلى الفكر الاشتراكي الحضاري الديموقراطي المت ...
- نشطاء ومثقفون في طرطوس يناقشون مسائل الدولة ـ الديموقراطية و ...
- في مفهوم السلطة وبؤس التفكير الطائفي
- عيد العمال العالمي منارة النضال في سبيل الديموقراطية
- حالة الطوارئ والأحكام العرفية والاستثنائية تضعف البلاد وتخدم ...
- ملامح التغيير الذي ينشده السوريون
- الرواية التجريبية ، والخطاب القصصي النسوي ـ أدب نجلا علي نمو ...
- دور الترجمة في نشر الفكر التنويري في عصر النهضة
- لن ينقذ الوطن إلاّ صوت العقل
- كيف أصبح شيخ الأدب في البلاد شيوعياً؟
- سحر السحر
- إنهم يخافون المصطلحات، إنّهم يخافون المستقبل
- رفيق بهاء الدين الحريري، يا من سرت على درب المسيح، سلام عليك
- نهاية الصهيونية
- تحية وتهنئة إلى الشعب العراقي
- رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سورية خطوة إلى الأمام ونظرة ف ...
- أحلام التغيير بعقلية وأدوات قديمة ـ قراءة نقدية في مشروع برن ...
- لأسباب مبدئية
- عشر وصايا إلى فقراء سوريا


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - شاهر أحمد نصر - المآسي والسجون السياسية والحب في الرواية العربية ـ رواية كما ينبغي لنهر ـ لـ منهل السراج نموذجاً ـ 1/3