|
فلسفة الدين العقل الفعال 1 من 4
احسان طالب
الحوار المتمدن-العدد: 4375 - 2014 / 2 / 24 - 18:45
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قد يبدو للوهلة الأولى تعارض وتناقض في مصطلح "فلسفة الدين" ونحن هنا نسعى لإزالة التعارض وتفكيك التناقض، وسيكن بحثنا تلقائيا يجيب على التساؤلات واحداً تلو الآخر، وسنعرض لتعريفات أساسية ومضامين جدلية ونجول ضمن محاور رئيسة على رأسها : فلسفة الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد الإسلامية فلسفة الحلاج من فلسفة الدين المسيحية الفلسفة الإسلامية : مبتدأها عند الكندي 185 -252 هجرية وهو الفيلسوف الوحيد العربي الأصل من بين الفلاسفة المسلمين القدماء واجه إشكالية اللغة حيث لم تكن العربية لغة الفلسفة فوضع مصطلحات خاصة وجديدة ولعلة مؤسس علم السمياء العربي - في إشارة لكتابة رسالة في حدود الأشياء و رسومها نمت و تطورت الفلسفة العربية عند المعلم الثاني الفارابي الذي استوعب علوم اليونان و قرأ ترجماتهم وهو أول من درس علوم الدين و التصوف كنظرية فلسفية إلى جانب دراسته للمنطق والاعتماد على قوة العقل والبرهان وللفارابي أهمية كبرى كونه مؤسس وباني نظرية فلسفة الشريعة وأول من تكلم في علم السياسة في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة أخذت النظرية الفلسفية الإسلامية رونقها و أصالتها مع ابن سينا الذي تحدث في البراهين الطبيعية و النفسية على و جود النفس وخلودها وطبيعتها ، وجمد الفكر الفلسفي بعد الفارابي بل حورب و هوجم من بعد على يد الغزالي بكتابه تهافت الفلاسفة ولم يستمر الحال على ما هو علية بمجيء ابن رشد 520 – 595 هجرية. تعريف الفلسفة الكلاسيكية : ربما نستطيع تقسيم الموضوع إلى مستويين الأول الفلسفة بكل تصنيفاتها كمفهوم مجرد يندرج في عموم مباحث التي " ترصد جدلية الوعي في حركتها المتنامية من الإدراك الحسي إلى المعرفة العلمية" في مسيرة لا تتوقف يقودها العقل الإنساني سائحا في الوجود والموجود والظاهر والغائب، لا محطة نهائية توقف انطلاقتها، تفتح للنفس البشرية فضاءات التوق للإشراق والمكاشفة وشهود الغائب ومعرفة الحاضر، تخوض في الطبيعة وما ورائها، والنفس وبقائها والروح وانتقالها " إن الفلسفة دهشة ووعي بالجهل غاية ممارستها المعرفة من أجل المعرفة " يعنيها فتح الباب مشرعا لسلسة من الأسئلة المترابطة، سؤال الشك للوصول إلى اليقين، وسؤال القيم وتقويم الأعراف، الخوض في طبيعة الفضاء والوقت، في طبيعة الشخص والإنسان، جدل القيم بين النسبية والمطلق، علاقة الأخلاق بالدين وعلاقة الوجود بالموجد، أين تكمن الحقيقة، وماهية الجمال وما هو الفن، ما معنى أن تكون جميلا وكيف يختلف مفهوم الجمال مع اختلاف القيم والمفاهيم ، إنها غوص في الجمال والوجود في العدل والممكن، إنتاج للحكمة وحب للحكمة، هي المعرفة وطريق المعرفة والعلوم فروع للتحقيق الفلسفي. كليات المعرفة وأم العلوم. هي دهشة انفعال وهزة وجدانية متناغمة مع إيقاعات علمية وتأملات عقلية وجدانية تجمع بين الأضداد وتحلل النقيض ونقيضه، تتجلى ذهولا أمام الخارق للعادة غير المألوف، تتولد من نقيضين: الجهل بما أنه غياب للمعارف النظرية وفراغ للعلوم التطبيقية، والاندهاش كونه اعتراف بالجهل، وردة فعل واعية على الشعور بالجهل فتتولد الرغبة بالمعرفة متجاهلة الشهوة للحاجة أو المنفعة. المستوى الثاني هو الفلسفة الإسلامية كعنصر من أهم المختبرات الأساسية في الفهم والإدراك والتعرف على الحقيقة، كماهية منفصلة عن علوم الدين الأساسية، فالفضاء مختلف والغاية متباعدة قد تلتقي في مدارج السرد وفي قاع المعرفة إلا أنها صنف مختلف عن العلوم الدينية، بهذا يكون علم الكلام تصنيفا متمايزا عن الفلسفة، مهمته الأساسية التثبت والإثبات في حين مهمتها التحَقٌق والتعرف، متحركة في دائرة العقل والعرفان والإشراق غير منحازة لمذهب أو قواعد أصولية تقرر نتائجها وتحد مساراتها. أقرب ما تكون إلى الحياد في جانب الموضوع، مبتدئة بالذات إلى خارجها ثم عودة إلى الذات في أحضان المعرفة والحكمة، بعيدا عن الأسلوب التقليدي في الدراسة المنطلق من تقيم الفلسفة كمباحث غائية دينية بحتة، يعرفها الفارابي 185-252 هـ على الشكل التالي : هي العلم بالموجودات بما هي موجودة وفروعها تنقسم إلى حكمة إلهية وطبيعية ومنطقية ورياضية. أما الشيخ الرئيس ابن سينا 370 -427 هـجرية فيعرفها : بأنها استكمال النفس البشرية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه على قدر طاقة البشرية. لم يفرق فلاسفة الإسلام بين نوع وآخر من الفلسفة ولم يرد مصطلح الإسلامية كصفة إلا من باب التصنيف المكاني والزماني لا من حيث الانتماء والاعتقاد، بالرغم من القناعة، أو لعلها حقيقة ، أن الإنسان ليس مجردا عن وجدانه و ولاءاته النفسية والذهنية كسلطة داخلية كما أنه خاضع أو متأثر بسلطات خارجية لا تنتهي طبقا لتفنيد فوكو لحرية البحث الفلسفي كونه أي الباحث مراقب من الداخل بإمكان فلسفي ومن الخارج بأشكال و أنواع السلطة. فلسفة الدين: هي فرع من فروع الفلسفة مدار بحثه أسئلة حول الدين. كما هو حال جميع الفلسفات تبحث عن إجابات وتجترح أسئلة لتصل إلى الحقيقة والحكمة، ويشتمل هذا الفرع على جدل حول طبيعة وجود الله ، واللغة الدينية، والمعجزات وإشكالية الخير والشر، وعلاقة الدين وعقائده بالأخلاق. وتسعى للإجابة على أسئلة الخلق والوجود وما بعد الموت، فلسفة الدين لها ديدن رئيس: كيف يكون الدين محققا لخير الإنسان وملبيا لمصالحه ومطالبه من خلال الفكرة الدينية والمنطق الديني المتمحور حول منظومة من مبادئ وقيم تؤمن علاقة سلسة وايجابية بين الله والإنسان ، وتأخذ على عاتقها تفنيد مزاعم المعارضين وسوق الأدلة والبراهين على صحة أطروحات الدين ورؤيته الخاصة، لذلك تتعارض في أوجه شتى مع مجالات علمية أخرى كعلم الاجتماع في أطواره الحديثة، وبالرغم من ذلك ساهم مؤسس علم الاجتماع أو كما أسماه علم العمران ونقصد بدون شك ابن خلدون، ساهم بشكل ممنهج بتحقيق الترابط بين الفلسفة وعلم الاجتماع ، خاصة بالنظر إلى أنه ( يتحرك قبل كل شيء في أفق الإسلام، ألم يكن هو نفسه مسلما ومتشعبا بثقافة إسلامية بالمعنى التقليدي للكلمة؟ ألم يكن مغربيا أي ابن تلك الأرض التي شدد على خصوصيتها؟ وكيف سيدخل العناصر هذه في شمول تصوره، وما السبيل إلى التوفيق بين الأرثوذكسية[ السنة ] والهم العلمي، بين الفوقانية و التاريخية)( 1 ) ربما كان من مساعي ابن خلدون بعد تأسيس علم العمران الذي لم يسبقه إليه غيره هو تحديد شروط معالجة الظاهرات الدينية عبر الدراسة النقدية للتاريخ فيظهر لنا (الدين خاضعا خضوعا تاما للمفاهيم الأساسية التي تصف العمران، ويكشف الدين من جهة أخرى عن فاعلية خاصة في تأسيس المجتمعات التي تتوحد فيها السلطة الزمنية بالسلطة الروحية ) المصدر السابق صفحة 20 الله والإنسان قطبان رئيسان في حوارات الفلسفة الدينية، الفلسفة الإسلامية محاولة جادة لتفسير الوجود وصيرورة الإنسان، تسير في سياق مواز لتحقيق الانسجام بين العقل والإيمان الفلسفة في طبيعتها لا تعنى بمصدر الحقيقة أو من أي جهة وردت، كما لا يعنيها مناقضة النتائج التي تتوصل إليها للمبادئ التقليدية للأصولية الدينية، ويعتقد بعض الفلاسفة بفشل محاولة الجمع بين الإسلام والفلسفة لتباين البنية المنطقية لكل من الإسلام والفلسفة، فالأول لا يرمي إلى البحث عن الحقيقة كونها معروفة لديه منزلة من السماء، وجل اهتمامه العقلي إثبات تلك النتائج بالمنطق والبرهان وتفنيد مقولات المخالفين، في حين تجنح الأخيرة إلى نقد الحقائق وتحليلها وإقرار حقائق جديدة عن الكون والإنسان والأخلاق، فإذا كانت الحقيقة الدينية غير قابلة للطعن فإن كل الحقائق محل نقد ونقض في السرد الفلسفي، من هنا تأسست فكرة معاداة الدين للفلسفة. سعى فلاسفة الإسلام لإقرار حقيقة أصيلة هي وحدة الحقيقة داخل الدين وخارجه، ولم يكن همهم إثبات الرؤية التقليدية الدينية بقدر ما كانت طموحاتهم تذهب نحو تأسيس دين كوني وإنساني تذوب في جنباته الرؤية الإسلامية، فكانت نظرياتهم تقوم على أساس التطابق بين حقيقة الوجود الديني والوجود الكوني، من هذه الزاوية استعان أهم الفلاسفة الإسلاميين بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، كما أنهم استندوا في بعض المناسبات لأقوال منسوبة للنبي اشتهرت بينهم وغابت في مجالات علوم الأصوليين البيانية. وتجدر الإشارة إلى أن مصطلح الفلسفة الإسلامية ليس متعلق فقط بالقضايا الدينية ولا محصور بمن كتبها من المسلمين، لأن القضايا الدينية لا تغطي إلا جزء يسيرا من المواضيع مدار البحث، فمقام الأخلاق والجمال ليست قيما دينية بحتة بل أدرجت في ميدانها للدلالة على ضرورة اتساق الرؤية الدينية معها. ربما كانت بعض محاور علوم اللغة كالسميائيات وعلم المعاني أقرب إلى التصنيف الفلسفي من أي مبحث أخر ولكن لا يكمن اعتبار علوم اللغة أمرا دينيا بالأساس لكنه كذلك بالضرورة. الفيلسوف العربي الكندي (185 -252 هـ ) مؤسس علم السمياء العربي بدليل كتابه - رسالة في حدود الأشياء و رسومها - واجهته مشكلة افتقار العربية كلغة الدين الأصيلة لمصطلحات فلسفية كمادة علمية غير مدرجة بصورة مباشرة في اهتمامات الثقافة العربية قبل الإسلام وفي عهوده الأولى حيث لم تكن العربية لغة الفلسفة ، وابتدأ عهدها الصريح بالكندي خاصة عندما وضع مصطلحات خاصة و جديدة لم يسبق إليها ولم تعرف قبله. قلق الغزالي وعلم الكلام: ويميل كثير من الباحثين لاعتبار علم الكلام مبحثا في الفلسفة، إلا أننا نظن بأن ذلك العلم مختلف عنها، لكنه استعان بمفاهيمها واستخدم مستلزماتها لدحض الآراء المناقضة للدين ولم يكن مسعاه فلسفيا بقد ما كان بيانيا، همه الأول والأخير إسقاط النظريات الدينية السابقة على الإسلام واثبات الحقائق الدينية وبهذا افترق كثيرا عن المنهج الفلسفي، وما إدراج علم الكلام وأصول الفقه بالفلسفة إلا من قبل التشاركية الحاصلة، لا من باب الاختصاص، ولذلك التصنيف سبب مضمر هو محاولة فك الاشتباك التقليدي بين الفلسفة والدين الذي أسس له أبو حامد الغزالي الذي قال بحق الفلاسفة : (فاسمع الآن حكايتهم وحكاية حاصل علومهم ؛ فإني رأيتهم أصنافاً ، ورأيت علومهم أقساماً ؛ وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد ، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين ، وبين الأواخر منهم والأوائل ، تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه.) ( 2 ) أو جد الغزالي افتراقا معنويا بين عامة المتدينين والفلسفة باعتباره للفلاسفة كفار فقال تحت عنوان (فوجب تكفيرهم ، وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين ، كابن سينا والفارابي و غيرهم . على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين. وما نقله غيرهما ليس يخلو من تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم. وما لا يُفهم) ( 3 ) بذلك التصنيف المشين أقام الغزالي عداوة مستحكمة بين الدين والفلسفة وكان لشيوع أسمه واشتهار مؤلفاته ومكانته الرفيعة بين العامة أثر بالغ في الحذر من مباحث الفلسفة أو الخوض في علومها، ولم يكن لرد ابن رشد على الغزالي في كتابه تهافت التهافت ذلك الأثر الكبير على تبني الأكثرية من عامة المسلمين ومشايخهم لأفكار الغزالي، البعد المكاني لفكر ابن رشد المغربي الأندلسي ومحاربة الفقهاء له وإحراق كتبه ساعد إلى حد بعيد إلى اندثار الثقافة الرشيدية وازدهار الثقافة الغزالية المختلطة والمشوشة حيث سيطبع طابعها العوم الدينية. ساند الغزالي المتكلمين وعد علومهم نصرة للسنة وذوداً عنها أمام محاولات التشويه والابتداع لكنه في نهاية الأمر لم يكتفي بعلم الكلام لانه لم يشفي غليله ( وإنما المقصود منه حفظ عقيدة أهل السنة [ على مذهب أهل السنة ] وحراستها عن تشويش أهل البدعة. فقد ألقى الله ( تعالى ) إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق ، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار ، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أموراً مخالفة للسنة ، فلهجوا بـها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها. فأنشأ الله تعالى طائفة المتكلمين ، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب ، يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة ، على خلاف السنة المأثورة ؛ فمنه نشأ علم الكلام وأهله.) ( 4 ) لقد أظهر الغزالي مدى القلق الذي انتاب علماء المسلمين جراء انتشار المشائية في ديارهم - المشاءون أصحاب أرسطو (348 ق. م - 322 ق. م) الذي كان يعلم تلامذته ماشيا - مابين القرنيين الخامس و السادس الهجري، ومازال ذلك القلق من الفلسفة ساريا إلى عصرنا الراهن رغم المحاولات الكثيرة لإعادة إحياء الفلسفة الإسلامية إلا أن السائد هو اغترابها وعدم ثباتها وربما وجودها في المتخيل الجمعي لأكثرية المسلمين. رسالة الإسلام في بساطتها شبيهة بالبيئة التي تولدت فيها، واضحة جلية غير معقدة ركناها الأساسيان توحيد الله ونبوة محمد، ولم يجد المسلمون حاجة للبحث في طبيعة الله طبقا لتلك السجالات النظرية العقيمة التي سادت العصر الهليني – الفلسفة الهلنستية - فلا مشكلة لديهم في تحديد طبيعة المسيح ولا مبرر لبحث الإشكالات المتعلقة بالثالوث، فالله واحد والأنبياء كلهم بشر بما فيهم عيسى وأمة مريم، ولم تنشأ ضرورة لوجود محفل كنسي يعنى بتحديد مراد الله فالقرآن معروف محفوظ وكذلك ما رافقه من نص نبوي وتفسيري ، هكذا ببساطة لم تدعو الضرورة لسجالات عقلية حول إثبات الوجود ونفي شبهات المشركين؛ حيث اكتفى المسلمون بحجج القرآن وكفى الله المؤمنين شر القتال. ظهرت بوادر الأزمة مع انتقال أبناء المناطق المجاورة لبلاد المسلمين وتلك التي سيطروا عليها ونقلوا السلطة من أيدي أبنائها إلى القادة الفاتحين الغالبين دون توقف أو كلل، المسلمون الجدد من غير العرب ممن اطلعوا على علوم اليونان والديانات الشرقية التي كانت منتشرة في بلداهم قبل الإسلام وجدوا ضرورة في توضيح موقف الدين الجديد من الإشكالات التي تطرحها الثقافات الأخرى فكانت الحاجة للمتكلمين ليدافعوا عن دينهم كما بين شرح الغزالي لضرورة علم الكلام. يقول اميل برهييه: ( إن كتاب التنزيل - القرآن – المعني بالشؤون العلمية والقانونية أكثر منه بالأمور النظرية، لا يحتوي إلا على عقيدة واحدة موصولة النسب بالتوحيد اليهودي: عقيدة إله واحد أحد، من طبيعة بسيطة، ومشيئته كلية القدرة وعصي على احد من البشر أن يرجم بها، ويترتب على هذه العقيدة تصور للكون مضاد في جميع نقاطه لتصور الأفلاطونية المحدثة الذي كان سائدا في البلدان التي فتحها العرب: فمن جهة أولى مشيئة إلهية اعتسافية مطلقة، ومن الجهة المقابلة فكرة ذلك النظام العقلاني المنبسط في العالم بموجب الفكر اليوناني. هذا التضارب كان هو الموضوع الوحيد لعلم اللاهوت الإسلامي بحصر المعنى، أي علم المتكلمين الذين سعوا إلى إفحام خصومهم برسمهم صورة متلاحمة للكون وللعالم كما يمكن استخلاصها من القرآن. لقد تركز النظر العقلي حول مسألتين لاهوتيتين خالصتين: نفي التعدد في الله ونفي كل قدرة أخرى غير قدرة الله) ( 5 ) وكانت مهمة علم الكلام الرئيسة الأخرى تفنيد عقائد الديانات الغير إسلامية والتصدي لما اعتبروه بدعة في الدين وخاصة المتعلقة بالعقيدة فكان تصديهم للفرق المستحدثة كالقدرية والجبرية والدهرية المعتزلة والجهمية والخوارج والزنادقة والمجسمة، ومحاجتهم بالدليل النقلي والعقلي. وربما كنت التسمية الغالبة لهذا العلم ناتجة عن السجالات التي دارت في نهايات القرن الثاني الهجري وبدايات القرن الثالث حول القرآن كلام الله مخلوق أم غير مخلوق، كما كان للكلمة وقع جميل في أذهان المنافحين عن الدين فمدهم المتكلمون بالقدرة على الكلام في مقابل الأخر، خاصة وأن مباحثه عقلية ونقلية لا وجدانية نفسية، بمعنى أن لا علاقة لها بالروحانيات والزهد والصفاء والتأمل كما هو الحال عند الصوفية. وابتعد المسلمون عن تسمية مسميات اللاهوت وأطلقوا اسم علم التوحيد أو كما يسميه الكندي علم الأشياء بحقيقتها علم الربوبية، وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة، ودار البحث في إثبات وجود الله وخلقه للعالم ووحدانيته وتفرده في صفاته وذاته وانفصاله عن بقية المخلوقات، كما تكلموا في الصفات والقدم والقدرة والعلم ومن هذه الزاوية افترق السلفيون عن المتكلمين، خاصة في موضوع إثبات الصفات أو نفيها أو تفسيرها، لكن بدا في العصر الراهن تأكيد على القسم الخاص من علم الكلام المتعلق بالذود عن الدين ودحض مذاهب المخالفين واستمر الخلاف المتعلق بالصفات ومذاهب الإثبات والأصول. الفارابي والعقل الفعال : العقل كمفهوم مجرد هو الحقيقة المطلقة وكل ما سواه نسبي، وعلم المنطق هو العلم الذي يقوّم العقل ويبين الحق و يبصر الخطأ، وهو آلة العلوم أي منهاجها (الفارابي ) وبمنطق رياضي لا تتعارض هذه الفكرة الفسلفية مع الإيمان، كونه الوسيلة والأداة للتعرف على مرادات الإيمان وبدونه لا يصبح الإيمان حقيقة ذاتية. العقل في الفلسفة الإسلامية محدود بالطاقة والإمكان لذلك لا يدرك حقيقة وماهية الله، والفلسفة هي بالقوة الفضائل كلها جديرة بوسائلها الخاصة أن تظهر بالفعل ليبلغ الإنسان الجاد في طلبها إلى جميع الفضائل وحكمة الحكم، وصناعة الصناعات فمملكة الحكمة العظمى هي الفلسفة ومقتني الحكمة العظمى هو الفيلسوف ( الفارابي ) و كانت رؤيته نواة نظرية كاملة في الإلهيات العقل الفعال - مع بعد الفلاسفة المسلمين على استعمال هذا المصطلح مستعينين بأسماء أخرى كالتوحيد والإيمان- في مشكلة الوجود يقول الفارابي: الماهية المعلولة لا يمتنع وجودها في ذاتها وإلا لم توجد، ولا يجب وجودها بذاتها وإلا لم تكن معلولة، فهي في حد ذاتها ممكنة، وتجب بشرط مبدئها وتتمتع بشرط لا مبدئها، فهي في حد ذاتها هالكة ومن الجهة المنسوبة إلى مبدئها واجبة ضرورة ،( كل شيء هالك إلا وجهه) سورة القصص الآية 88 (فيختم الفارابي في هذا النص، حديثه عن الممكن في ذاته وأن وجوده إن وجد وبقاءه إن بقي بسبب واجب الوجود بذاته إذ من حيث ذاته غير قائم، بتعبير القرآن عن المخلوقات وهي موجودات هذا العالم بالآية القرآنية السابقة، إي كل شيء هو فان وغير قائم من حيث ذاته وأما الله فهو الباقي وحده، والفارابي بهذا الضم يوفق بين رأي أرسطو في واجب الوجود من جهة وبين الله خالق الوجود، والعوالم الأخرى المخلوقة) ( 6 ) بهذا المنهج المميز جمع الفارابي بين الفهم العميق لما سبقه مع علوم الفلاسفة وخاصة أفلاطون وأرسطو والأفلاطونية الحديثة أفلوطين، وبين مقاربة عقلية تاويلية لنصوص القرآن، فبرع في انجاز رؤية فلسفية إسلامية تقرر أن الله هو الحد الأول والنهائي في سلسلة من الفيوض يحتل العقل البشري مرتبة ومكانة محددة، وهو أيضا الوجود البسيط الخارج عن السلسلة، وفي ذات الوقت تؤكد على ارتباط النفس البشرية بالموجود الأعلى، هذه النظرية المعرفية العقلية آلفت بين قراءة محايثة للنص القرآني وبين التحليل الفلسفي للوجود، ومرادنا ليس هنا بحثا فلسفيا بل هو استعادة للطرقة التي عالج بها فلاسفة مسلمون الأدلة المنتخبة من النص المؤسس، كي نبي عليها بقياس واستصحاب مواضيع ومسائل أقرب وألصق بحياة الإنسان والمجتمعات، فهذا التركيب الفلسفي للفارابي تكون من ثلاثة عناصر : (أولا: العنصر الأرسطي وهو عنصر الواجب بذاته، والممكن بذاته، وصلة كل منهما بالآخر. الثاني : العنصر الأفلاطوني الحديث، وهو توجيه الاستدلال بكل منهما على الآخر: على أن يكون مرة من الأدنى إلى الأعلى ومرة أخرى بالعكس، من الأدنى إلى الأعلى مع تسمية وجه منهما بالجدل النازل واآخر الجدل الصاعد.. ثالثا: العنصر الإسلامي وهو ما جاء في الآية هنا.) ( 7 ) ونتساءل إلى أي مدى نجح ذلك المنهج الفارابي وتلك الطريقة في رسم مسار حركة فلسفية إسلامية قادرة على الصمود والوقوف في وجه النظرية الأصولية السلفية للدين عامة والإسلام بشكل خاص. الواقع أن الفارابي ساهم إلى درجة كبيرة في ارساء قواعد نظرية فلسفية يستطيع من بعده الانطلاق منها والعبور فوقها نحو آفاق أوسع وأرحب، حيث جاء بعده ابن سينا 370 – 428 – هجرية 980 – 1036 ميلادية- مستفيدا من مقولاته وشارحا لمفرداته، مبينا نظرية الفارابي عن العقل الفعال الذي يعني أخر العقول وأعلاها الذي يحتوي جميع الماهيات والمحسوسات وصورها (حيث كل موجود هو موجود مفارق للموجودات الأخرى، وانما بدءً من حالة التفارق هذه تبدأ المعرفة العقلية في النفس البشرية، فالمعرفة حركة اجتماع، هي بالضبط نقيض حركة الإنقسام، فالعقل الفعال إذ يتوق إلى أن يجمع إلى أقصى حد ممكن ما كان انقسم وتكثر، يخلق العقل المستفاد الذي تؤلف الطبيعة البشرية جزء منه) وعند ابن سينا (الإله عقل خالص يعرف جوهره فيعرف الأشياء قاطبة بما فيها الأشياء الفردية والجزئية في عللها الجوهرية وما هيتها الخالصة) ( 8 ) فمدار البحث والحقيقة منوط بالعقل ودرجاته وما الوجودات – الماهيات والمحسوسات والصور – سوى معرفة في علم الحقائق، وعندما تعي ذاتها أو تعي غيرها لحظة إدراك تفارقها عن بعضها البعض وانفصال علومها تبدأ المعرفة البشرية، فادراك الحقيقة في الوجود معرفة عقلية، هذه المعرفة الفياضة - الفائضة – عن العقل العلوي تُخلق في جزئياتها الطبيعة البشرية التواقه للحقائق بملكة العقل الموهوب بالخلق والقوة والذي سيتحول بالاستعمال والممارسة والفهم إلى عقل بالفعل. إنه سعي حثيث ودائب لرد العلم والمعرفة والحقائق للعقول وطبقاتها المتدرجة والمنبعثة عن بعضها البعض، وحال إدارك تلك الحقيقة لن يكون هناك إشكال أو صراع مع ما تنتجه العقول من حقائق، وكل ما عداها قابل للتفسير والتأويل، وسيكون من الخطأ الفادح ما يسعى إلية كتاب ومفكرون إسلاميون – أنظر مثلا كتاب الفلسفة الإسلامية بين الندية والتبعية الدكتور جمال المرزوقي الفصل الخامس أبو حامد الغزالي نموذجا لأصالة المفكر المسلم والفصل الثامن الإتجاه العقلي عند ابن رشد كذلك كتاب الفارابي الموفق والشارح للدكتور محمد البهي - من الالتفاف على ما أنجزه الفلاسفة المسلمون من إداراك لعلوم اليونان ثم شرحها وإدماجها بالتصورات الكلية الإسلامية كما فهموها، بمحاولة ردها إلى تفسير أصولي يعيد الهيمنة والفوقية للمرجع النقلي، وذلك بقيامهم باقتتطاع واجتزاء بعض مقولات الفلاسفة ليظهروا وكأنهم علماء دين وأصول، والواقع أن بعض المجتزءات والمنقولات كانت في سياق التقية والرغبة في عدم إثارة العامة والمتشديدن من أصحاب المناصب الشرعية، فلا يصح بأي حال الجمع بين الغزالي وابن رشد في مقام واحد وكأن مباحث الرجلين تسير بنسق واحد أو متوازي على الأقل. لقد أسس فلاسفة الأندلس – ابن باجة ، ابن طفيل ، ابن رشد وآخرين ، مدرسة فلسفية إسلامية عريقة تمتاز بصنعتها وسياقها عن مدارس الفقة وعلم الكلام، وإذا كانت رغبة ابن رشد في عدم نشر علوم البرهان على العامة لآنهم لا يملكون من الذكاء والعلم ما يجعلهم يتفهموا عمق الرسالة وأغوار باطن الكلام، فان الغزالي استغل أو لنقل استفاد من تلك النزعة النخبوية وأطاح بمكانة الفلسفة بين العامة وعلماء الشريعة، رغبة فيلسوف الأندلس في منع العامة من الاطلاع على علوم الحكمة أضر كثيراً بها وبرؤوسها، واعتماد الفلاسفة بدءً من الكندي إلى أخر الفلاسفة الإسلاميين الكبار على الدعم السلطوي في بادء الأمر، ثم تغيّر الأحول في الإتجاه المعاكس بسيناريو متكرر عبر التاريخ أثيت كون جانب السلطة السياسية لايؤتمن ومن جاور الحكام لابد وأن يكتوي بنارهم وهذا ما حصل مرارا وتكرارا. نهاية الجزء الأول ويليه الجزء الثاني
#احسان_طالب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الإشراق الصوفي فلسفة وحدة الوجود
-
في مسائل المعتزلة ، القانون الكلي ،الدلائل العقلية والأصول ا
...
-
العبد ومولاه
-
تعريف الثقافة وعلاقتها باللغة والهوية القومية، ملاحظات للنهض
...
-
كأس ملطخة
-
عالم بلا رأس أفضل للقاعدة، العصر الأوبامي الهزيل
-
في وداع 2013
-
أرحام تحترق
-
بناء نظرية معرفة للإصلاح والتجديد
-
مآلات السياسة الدولية في سوريا جرس الإنذار
-
ملاحظات عن المعارضة السورية ، شروط وقواعد التفاوض
-
استعراض الأحجية الروسية في سوريا
-
قبل أن يسرقكِ العمر
-
الهوس الجنسي والاستغلال السياسي بين جهاد المتعة وجهاد النكاح
-
لا تستسلم !
-
على ناصية أحزاني
-
الموقف الروسي حجر الزاوية في الحدث السوري
-
صراع الهوية وإشكالية الانتماء الكوردي العربي
-
انتظريني لا تغادري حتى أعود
-
الاستقطاب في مواجهة الأكثرية الشعبية
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|