|
الغراب والفراشة على بوابة جهنم
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 4377 - 2014 / 2 / 26 - 01:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
طبيعي أن نجد امرأةً جميلة يستلهمُها الرسامون كموديل فنيّ. فالجمالُ كان ويظلُّ مطمحَ الفنِّ وقِبلتَه. تتفق في هذا الفنون كافة من رسم ونحت وشِعر وباليه وموسيقى وغيرها. الحسناوات والورود والغيمات والأشجار ووجوه الأطفال والفراشات والقمر والنجوم والنهر، جميعها مفردات أصيلة في معجم الجمال. حسناءُ تجلس أمام لوحة التشكيل فتحاول ريشةٌ أن تقلّد الخطوط الخارجية لجسدها وملامح وجهها ونحتة الضوء والظلال ولون البشرة فتصوغ لوحةً تكاد تنطق: "سُرَّ من رآكِ". لكن ماذا عن دواخل الحسناء تلك؟ مهلا، لم يأخذني التفلسّفُ ولستُ بصدد الكلام عن جمال الروح ورجاحة العقل وفرادة الشخصية، .... مقصدي أبسط من ذلك. أتكلم عن داخل الإنسان من أحشاء ودماء وأوردة وكبد وبنكرياس، .... هل يمكن أن تكون تلك الحشايا "موديلات" لرسّام؟ هيلين تشيدويك فنانة تشكيلية إنجليزية (1953-1996) فعلت هذا. رسمت لوحة حب بين رجل وامرأة عبارة عن مخّ بشريّ يعانق مخًّا آخر تحملهما كفُّ آدمية! موديلات لوحاتها دائمًا أعضاءٌ داخلية غير مرئية من الجسم البشري، وفلسفتها في هذا جدْلُ علاقة بين المُشاهد وبين "الداخل" الإنسانيّ الغامض، عوضًا عن "الخارج" المرئيّ. ربما نزعتها النسوية جعلتها ترفض أن تجعل من جسدها موديلا للرسم، بوصفها امرأة فاتنة. فراحت تستلهم الخلايا والأمعاء وقرنيات العيون أهدافا للوحاتها. بل تجاوزت في استجلاب الفن من أشياء قبيحة في لوحتها الأشهر التي صنعتها بين عامي 91-92 وأعطتها عنوان "زهرات البَوْل"Piss Flowers. وفيها قامت هي وصديقها ديفيد نوتريس بالتبوّل على أقراص من الجليد، مما أنتج تجاويفَ وتعاريجَ ونتوءاتٍ صنعتها المادة القلوية للبول فوق صفحة الثلج. ثم التمييز بين بول المرأة وبول الرجل عبر اختلاف أشكال "الزهرات" التي صنعاها من الجليد، وللعجب، صنعت بالفعل وردات فائقة الجمال بوسعكم مشاهدتها هنا: http://contemporaryartsem.files.wordpress.com/2008/12/chadwick_6.jpg?w=418
وسواء أحببنا تلك الوردات البيضاء أم رفضناها، أضحكتنا وأثارت تأملاتنا أم أثارت تقززنا، تضعنا هذه التجربة أمام سؤال إشكالي ضخم. هل الجمالُ معياريّ؟ وإن نعم، فما معاييره؟ لماذا صنعنا قائمةً صارمة للقبح من: الصرصور، الغراب، الأفعى، البومة، الحذاء، الدماء، الأحشاء الخ، في مقابل قائمة الجمال الشهيرة الذي أهلكها الشعراء واستهلكوها؟ هل الصرصور حقا كائن قبيح الشكل بالمقاييس البصرية الفنية؟ لو نحيّنا جانبًا ميراثَنا العدائيّ المتراكم مع الصرصور ونظرنا إليه بحياد نظرة فنية، لوجدنا أجنحةً نصف شفافة بلون مراوغ يقف بين الأحمر والبنيّ، وعيونًا براقة بها عدسات مركّبة، ونجد رشاقة حركة وحبًّا للحياة لا مثيل له. ولعلنا نتذكر رواية "مصير صرصار" لتوفيق الحكيم. في الأخير سنجد اتزانا جماليًّا بصريًّا يشي بعبقرية تشكيلية وراء صُنعه. هذا ما قد يقوله رجل في منتصف العمر لا يعلم شيئًا عن محنة الإنسان التاريخية مع الصرصور والنظافة. مثل زائر من كوكب آخر ليس به حشرات هبط إلى الأرض فجأة. هذا المثال الفانتازي الجدلي ألعبه أحيانًا مع نفسي لكي أصنع علاقاتٍ طازجة مع الموجودات من حولي حين أكتب القصيدة. الغراب مثلا أراه كائنًا فاتنًا. كأنه رجل وسيم يلبس اسموكنج رمادية أنيقة مطعّمة بالأسود والأبيض. صوته لا يجلب الشؤم كما ألصقنا به، بل أجده أجمل من هديل الحمام المخيف الذي كأنما يتسلّل من تحت الأرض. هكذا، ليتنا نبني علاقات جديدة مع الموجودات والكائنات التي ظلمناها كثيرًا. الذي زار "الشارع الأحمر" في أمستردام، سوف يدهش من فتارين الزجاج التي تعرض النساء كبضائع استهلاكية. وبعدما يفيق من صدمته الوجودية والأخلاقية حيث الإنسان سلعة تُعرَض، سوف يدخل في صدمة فلسفية أخرى تضرب مفهومه الجاهز عن الجمال. حين امرأة جميلة (بالمفهوم الشائع عن الجمال: جسد رشيق وبشرة بيضاء وشعر ناعم وملامح مليحة) تُعرَض جوار امرأة سوداء بدينة جعدة الشعر غليظة الملامح، سواء بسواء. لكلٍّ سوقُها ومريدُها. والسعر موحد! ذكرني هذا بأستاذ العمارة الذي طلب منّا في الفرقة الثانية بكلية الهندسة أن نصمم بوابة "جهنم". ثم مرّ بقلمه الغليظ الأسود ليشطب التصميمات التي خرجت جميلةً متزنةً متناسقة فنيًّا ومعماريًّا. ثم راح يشرح لنا "استاطيقا القبح" كأحد تيمات الخطاب ما بعد الحداثي في العمارة. وهو بالضبط ما فعله بودلير شعرًا حين مجّد الشيطان في "أزهار الشر". وما فعله قبله فيكتور هيجو، حين أجبرنا أن نرى كوازيمودو، في "أحدب نوتردام" جميلا وسيمًا، رغم ظهره المحدودب وعينه العوراء وأذنه الصمّاء وجسده المشوّه. القبحُ قد يكون أداةً عبقريةً لاستدعاء الجمال. حين يكون الفنانُ، فنانًا، وحين نتخلص من معلّباتنا الجاهزة عن فكرة الجمال والقبح.
فاطمة ناعوت Twitter: @FatimaNaoot
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيها النحيلُ، سلامٌ عليك!
-
أول لص فى التاريخ
-
مَن يخافُ فيلم-حين ميسرة- ؟
-
الفرح يليق بك يا فينسنت
-
زنقة الرجالة
-
صانعُ الفرح، وصُنّاع الهلاك
-
ليلةٌ تضيئُها النجوم - فان جوخ
-
إخناتون والعياط
-
رأس نفرتيتي، أسرقُها؟!
-
العوار والعماء
-
كنْ صوت من لا صوتَ له
-
العياط وأمهات مصر
-
لغة أجدادِنا
-
لماذا خدع يعقوب بسطاءنا؟
-
ابتسامة جورج سيدهم
-
موعدنا في كاتدرائية المسجد
-
الدستور والسلفيون
-
مصريةٌ رغم أنف مَن يكره!
-
أطفالُ السماء
-
الفارس -إبراهيم عيسى-
المزيد.....
-
إطلالة مدهشة لـ -ملكة الهالوين- وتفاعل مع رسالة حنان ترك لجي
...
-
10 أسباب قد ترجح كفة ترامب أو هاريس للفوز بالرئاسة
-
برشلونة تعاني من أمطار تعيق حركة المواطنين.. وفالنسيا لم تصح
...
-
DW تتحقق - إيلون ماسك يستغل منصة إكس لنشر أخبار كاذبة حول ال
...
-
روسيا تحتفل بعيد الوحدة الوطنية
-
مصر تدين تطورا إسرائيليا -خطيرا- يستهدف تصفية القضية الفلسطي
...
-
-ABC News-: مسؤولو الانتخابات الأمريكية يتعرضون للتهديدات
-
ما مصير نتنياهو بعد تسريب -وثائق غزة-؟
-
إعلام عبري: الغارة على دمشق استهدفت قياديا بارزا في -حزب الل
...
-
الأردن.. لا تفاؤل بالرئاسيات
المزيد.....
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
المزيد.....
|