نقد المثلث الأسود هو آخر كتب الأستاذ علاء اللامي.
من هو هذا المثلث الأسود؟ السلطة والمعارضة والعدوان.
كيف يمكن لكاتب عراقي أن يجرؤ على مواجهة كل هذه القوى منفردا ويظل عاقلا أو حيا أو صاحيا أو متماسكا وهو يواجه كل هذه الكوابيس والمؤسسات والقوى المتناقضة حينا والمنسجمة حينا آخر؟
هل يمكن أن يولد كاتب عراقي بعد قرن من التجربة السياسية العراقية الدموية والضحلة دون أن تنتج هذه التجربة الغزيرة والمريرة فكرا سياسيا أو إرثا فكريا يشكل بالتراكم ذاكرة ثقافية للأجيال اللاحقة، أي جيل علاء وغيره؟.
ما الذي أنتجته لنا سنوات الحريق منذ بدايات القرن الماضي وحتى بدايات القرن الحالي على مستوى الفكر السياسي، وعلى مستوى الثقافة السياسية، غير تلك الأطنان والركام الهائل من منشورات تافهة، وثقافة وصم، وتشهير، ومدح، بحيث وجد الجيل العراقي اليوم نفسه بين محنتين: فراغ ثقافي وفكري وسياسي أنتجته السلطة، وفضيحة فكرية وثقافية وسياسية أتنتجها معارضوها.
وهذا ما يفسر دهشة صديقي الشاعر الموهوب عباس خضر المقيم في ألمانيا والخارج من العراق منتصف التسعينات بعد سجن وتشرد، وهو يقرأ ما يكتبه بعض فرسان الطبقة السياسية والثقافية في الخارج من مقالات تتجاوز حدود البذاءة الى جنحة على الذوق والوعي والوقت.
وكلما دخلت بلدا عربيا من الدار البيضاء الى دمشق وعمان وحتى في عواصم أووربية، يسألني شباب عراقيون قدموا توا من الوطن السجن، أو السجن الوطن، هذا السؤال الذي تحول الى كابوس بالنسبة لي:
ـ ماذا انتج لنا الجيل السياسي العراقي الذي تجاوز عمره الآن السبعين عاما؟. أين هي النخب السياسية والفكرية التي نجدها في المغرب مثلا، نخب عبد الله العروي، وعلي أومليل، ومحمد عابد الجابري في النتاج الفكري، ومحمد شكري والطاهر بين جلون على مستوى الرواية ، أو النخب المصرية التي ربت أجيالا مصرية وعربية أمثال طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ، وأين هي السلطة الثقافية العراقية في الخارج التي تقف في موازاة أو فوق السلطة السياسية والعسكر الذين عادوا للمسرح السياسي، وأين هي النخب العراقية الثقافية والسياسية كما هو موجود في لبنان في الخمسينات أو السبعينات وحتى اليوم بحيث كان ولا يزال يشكل المثقف المنفرد والمختلف والأعزل والمستقل ظاهرة ثقافية وفكرية وأخلاقية تستحق الاحترام؟.
طبعا لا أنا ولا غيري سيكون قادرا على تقديم إجابات صادقة وحقيقة إلا إذا لجأنا الى لغة الأجيال السياسية العراقية التي خلفت لنا كل هذا التراث الحقير من ثقافة الوشاية والسطحية أو ثقافة الوصم التي فوجئ الجيل العراقي الخارج توا من الوطن بأنها تشكل جوهر الخطاب المعارض.
أتقول دائما" هذا جيد. دعوا هؤلاء يعرفون أننا كنا ننام على خدعة ضخمة في السياسة كما في الثقافة، وإننا كنا في العراء الهش".
لذلك اخترقت هذه السلطة المجتمع لأنه بلا ثقافة وقائية أو مصدات أو مرجعيات ناضجة ورصينة أو شبكة مفاهيم أخلاقية أو حقوقية أو حتى مجرد فهم عام عن قدر الإنسان وشرفه وسيادته على مصره حتى وهو جثة.
جيل عراقي آخر في عراء ثقافي وبلا مظلة أيضا. جيل هرب خلفنا فخيبنا أمله وحلمه.
جيل عراقي آخر تصدمه الحقارة التي زرعت في الثلاثينات يوم ولادة غالبية النخبة أو الطبقة الفراغية والتي عاصرت ظهور القطار أو السيارة أو الكهرباء أو الطائرة أو السترة الحديثة والمروحة وبقية مستلزمات التكنولوجيا.
يسألني صديقي الروائي النرويجي بيتر بريست الذي تحدثت عنه في روايتي" عزلة أورستا"، كيف ستتقبل الطبقة السياسية العراقية هذا رواياتك أو النوع من الأدب المكشوف سياسيا وليس جنسيا، أي أدب فضح الكذب والزيف والتلاعب بالقيم، وخيانات الضمير الخ. الخ.؟
وكان جوابي دائما وهو ما أقوله للشبيبة العراقية التي يغمرنا حبها ورسائل محبتها من داخل وخارج الوطن، هو أنني لا أستأذن أحدا عند الكتابة، ولا أطلب الرحمة ولا الفهم حتى، ولا أريد قارئا زق مبادئ السياسة في نسخها الرديئة زقا. أقول كلمتي واترك لغيري البيانات والصداع ووجع الفضيحة.
هذا هو ما يفعله الأستاذ علاء اللامي وابعد. وكثيرا ما تساءلت في هذه العزلة( حتى العزلة صارت تهمة أخرى!) أو الجحر كما يسميها كتاب الغرام والإنشاء والفراغ الثقافي، كيف يستطيع علاء اللامي أن يتوازن وهو يخوض كل هذه المعارك في آن واحد؟
ليس عندي ـ إذا كان عندي عند كما يقول الجاحظ ـ شك في شجاعة هذا الكاتب الاستثنائية، ولكني اشك في الوقت والقوة في مناخ عراقي غير مسموح به لولادة كاتب نقي أو رواية مبهرة أو صداقة حقيقية، خاصة وان أيادي طويلة تمتد لكل اعزل ونظيف تحاول إخراجه من عزلة البراءة وتدمجه في مناخ القبح العام؟
يحتفل الشعب الكولومبي عندما يسمع أن الروائي غابريل ماركيز قد انتهى من كتابة رواية. يتحول هذا اليوم الى عيد وطني. لكن كيف تحتفل الطبقة الفراغية في الخارج حين ينهي كاتب أو روائي عراقي كتابه الجديد؟
الصمت، أو الرجم، أو البيانات.
قالي لي روائي عراقي ضاحكا عن حقارة المناخ النقدي:
ـ" حمزة من أين لنا بسيقان حسناء لكي نجذب اهتمام النقاد حتى لو كتبنا عن فوائد الثوم؟!".
غير مسموح، داخل هذا المثلث الأسود، ولادة أية ظاهرة طبيعية أو فكر أصيل أو يوم جميل أو حلم نقي.
علاء اللامي، هذا الفارس الجنوبي، خريج الشريعة، وخريج مدرسة هادي العلوي الذي اقسم أن لا يأكل على مائدة مسؤول كما حدث في بيت الوزير مصطفى طلاس كما يذكر ذلك المفكر صادق جلال العظم، لم يتخرج من مدرسة ردح أو وصم، ولم يكن تابعا إلا الى ضوء سري داخلي يشع في روحه كنجمة الصباح.
هذا الكاتب يذكرني بما كتب عن الروائي اليوناني نيوكوس كازنتزاكي بأنه كان يحلم بتطهير الطبيعة في أدق عناصرها حتى لو كان الثمن هو الموت أو العزلة، لكنها عزلة الذهب، وعزلة الفهد في براري قاحلة إلا من السراب وجرح خفي يحمله معه حتى حافة مساء مشع وينام مسافرا نحو الأزرق المتوهج.
في " نقد المثلث الأسود" يدخل علاء اللامي معارك الحرية في نقد عقلاني للسلطة وتفكيك آلية عملها، وليس الى شتمها كما يلجأ الأميون والسطحيون كما لو كنا نعيش في الخمسينات وفي ثقافة المنشور وان الشعب يجهل حقيقة هذه السلطة ويجب شتمها أو تعريتها، مع أن هذه السلطة عارية، وتأسست على الفضيحة.
هؤلاء مازالوا يعتقدون أننا نعيش على افتتاحية الجريدة أو ثقافة المسؤول الحزبي، وان أحدنا ليس عنده جهاز راديو أو تلفاز أو حتى يحصل على كتاب، مع إنني مثلا أمتلك في بيتي أكثر من ستة آلاف محطة فضائية وعشرات الآلاف من الصحف على شبكة الانترنيت وغير ذلك الكثير.
وفي حزيران الماضي سألت عجوز عراقية تبيع السكائر في الساحة الهاشمية هذا السؤال:ـ من الذي أوصلك الى هذا المكان؟
قلبت يديها على طريقة المرأة الجنوبية وهي تلعن الزمان، فشممت رائحة عطر أمومي عراقي قادم براري جنوبية متوهجة ـ كانت ـ بالعشب والماء وزرقة السماء والفرح السومري، قالت وقد لعنت أنا الدنيا قبل الجواب:
ـ أوصلني الذي أوصلك الى هناك.
كيف يمكن أن تقول لبائعة سكائر كانت سيدة نفسها ومزرعتها وبيتها وقومها ومحيطها أن هذه هي بسبب السلطة وهي تعرف عند كل وجبة عشاء ماذا فعلت هذه السلطة أكثر من أي واحد من هؤلاء الخرفين الشتامين السطحيين والتافهين الذي علموا أجيالا عراقية على أن المقال السياسي هو فن الشتيمة وكفى الله المؤمنين شر القتال والسلام عليكم.
ولا نريد أن نتحدث أن الإعلام العالمي كله يشتم السلطة. هل نجلس ونشتم دون أن نفكك وندقق في طرق عمل واشتغال هذه السلطة المركبة التي انتقلت في مرحلتها الأخيرة من سلطة مؤسسة الى سلطة عقلية وأخلاقية وتداخلت مع قيم وأخلاق وثقافة الفرد العراقي على نحو يشكل خطرا على المستقبل؟.
من نقد الفكر السياسي والطائفي والانعزالي والتجمعات اليسارية ، الى نقد وتفكيك ،بدرجة مدهشة من الوضوح، طريقة عمل السلطة حين تتحول الى جسد ضحاياها. أي تصير السلطة جسدا متجولا، ويصير الجسد سلطة متجولة.
هنا يقرع هذا الكاتب جرس الخطر.
علينا أن نحترس من المباهج الكثيرة التي يوفرها التغيير القادم بطرق جماهيرية، لأن هذا التغيير سيكون خطوة على طريق وعر. ولماذا؟
تخريب المؤسسات سهل، لكن تم تخريب الإنسان.
وهذا الكاتب لا يطلب المغفرة، لأن لا مغفرة في الكتابة، فنحن لسنا حملة قنابل، أو قطاع طريق، فمن لا يخطأ في زمن عراقي لا يستطيع أي كاتب مهما كانت صلابته أو قوته أن يكتب إلا وهو ينتظر عشرات الفخاخ المرئية وغير المرئية من قوى تلبد في العتمة كالخفافيش لتطلق النار على حفنة بواسل كرسوا حياتهم منذ سنوات لمواجهة ثقافية وسياسية وفكرية مفتوحة وعلنية؟.
وعلاء اللامي سواء كتب عن ضلع المثلث الأسود السلطة( حتى العربية منها) أو ضلعها الثاني المعارضة أو الثالث العدوان فهو يكتب بجسد فلاح وجد حقله مخربا أو أن الطوفان قادم أو انه موسم الجراد.
وإذا عرفنا أن علاء شاعر ومسرحي نفهم عمق الجرح، ومعنى الصرخة التي تتردد في جنبات هذا الكتاب وكل الكتب الأخرى.
إنه نشيد حزين جريء مشاكس شرس عن حرية غائبة ولا يبدو انه ستطل علينا لا من هؤلاء ولا من أولئك. لكن هل يستطيع فعل الكتابة أن يستحلب الثورة ويعجل بها؟
هذا الكاتب ليس انقلابيا، إنه من عشاق ثورة العصيان الفكري والثقافي والروحي والأخلاقي. الثورة في الضمائر والنفوس والأرواح أولا.
بهذه الطريقة بنُيت الحداثة في أوروبا وفي اسكندنافيا التي تجاوزت الحداثة فيها كما يقول الروائي الروسي المنشق سابقا عن المؤسسة والحزب والقطيع سولجنستين" ان الحداثة الاسكندنافية أوغلت في التجريب" أي انها طرقت الأبواب المغلقة ووصلت الى أماكن السر.
لكن هل نظل نرنو عبر النوافذ الى الثلوج المتساقطة على هذا النهار القطبي المفتوح على البياض والوفر والمدفأة والعزلة وصوت الريح ونحن نتابع أخبار السلطة واخبار العدوان واخبار ضلع المثلث الأسود الاخر وهو يلعب بين الاثنين في السلوك أو في العقلية أو سقوط الضمير؟.
ماذا يجب أن نفعل لكي تعدل الريح أو الثلج في الأقل من مساره ويصحو هذا الليل العراقي الطويل والكثيف؟.
يقول لنا كتاب المثلث الأسود:
* لا خيار لنا غير التأسيس لفكر وثقافة عراقية تنفتح على الآخر الشريك، وليس الآخر الجلاد هنا أو هناك، وتؤمن بشرعية الاختلاف.
* لا خيار عن الأمل حتى في العتمة ودخان الحرب وأجراس الخيبة.
* لا خيار عن دولة الديمقراطية بصرف النظر عن العرق أو الدين أو القومية أو اللغة... وبدون هذا التجريد، بدون وضع الاسم كقيمة عليا بصرف النظر عن كل امتياز وتمذهب وتسيس، سيكون عذابنا طويلا.
كتاب علاء اللامي ينبغي أن يقرأ في إطار حرية الفكر، وحرية الضمير، وحرية المخيلة، رغم أن هذا الصوت منفرد ووحيد ونادر داخل هذه الجوقة المنفرة من كتابات التجهيل والشتم والسخف والسقوط الأخلاقي والسياسي من جيل ولد في أواخر الثلاثينات، جيل الطاغية، وما يزال ينشر عاهاته في كل حقبة ومكان.
سألني الروائي بيتر" حمزة ماذا يفعل السياسي العراقي عندما يدخل في عمر السبعين؟"، كان بيتر يتوقع مني إجابة مغايرة كأن أقول له يفتح مدرسة لتعليم الشباب على الحداثة، أو يتحول الى معلم للشبيبة، أو يصير محاضرا في المدارس لتعليم الشباب خلاصة تجربته في السياسة وفي الفكر وفي الحياة كما هو موجود في أوروبا.
قلت خجلا، لكني صادقا:
ـ بكل صدق، بيتر، السياسي عندنا في هذا العمر يصير شاذا جنسيا أو مدرسة للردح.
ـ ولماذا في هذا العمر؟
ـ للتعويض عما فاته في ساحات الوغى.
تذكروا جيدا أن علاء اللامي رجل واحد، لكنه كما قال بيترسون رجل واحد شجاع يشكل أغلبية.