|
فيثاغور والفيثاغورية من سحر الرياضيات الى لغز الوجود ([1])
الطيب بوعزة
الحوار المتمدن-العدد: 4373 - 2014 / 2 / 22 - 13:36
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فيثاغور والفيثاغورية من سحر الرياضيات الى لغز الوجود ([1]) -1- يتطلب فهمُ الفيثاغورية إدراكَ معطيات النقلة من مناخ الفلسفة الملطية إلى مناخ ثقافي جديد، تبلور في الضفة الغربية الإيطالية ، بعيدا عن تلك الضفة الشرقية لليونان، حيث نشأ التفلسف الملطي/الأيوني. وهي نقلة لا يجب اختصارها بحركة في سياق المكان، بل لابد من الوعي بخصوصيتها كحركة في سياقات معرفية مغايرة ، نقلت اللوغوس اليوناني إلى نمط فلسفي جديد أكثر اقترابا من الروح الدينية، من اقتراب النمط الملطي/الأيوني. فقد برزت في الجغرافيا اليونانية، خلال زمن الفيثاغورية ، أي خلال القرن السادس قبل الميلاد ، ظاهرة جديدة تمثلت في شدة الانشغال بالدين ، إلى درجة جعلت بعض المؤرخين ، مثل جون برنت ، ينعتون تلك الفترة بلحظة "اليقظة الدينية" the religious revival([2]) ، أو حالة الانبعاث (revival) الديني ؛ وإن كنا نلاحظ أن برنت نفسه لم يستفد من الوصل بين حالة اليقظة تلك، وبين طبيعة الرؤية الفلسفية الجديدة التي نشأت مزامنة لها. فما هي ملامح تلك "اليقظة" التي تبدت في الثقافة الإغريقية خلال القرن السادس قبل الميلاد؟ وما هو الشرط الثقافي والمجتمعي الذي ساهم في انبثاقها ؟ وما هو أثرها في التفكير الفلسفي ؟ لقد لاحظنا خلال بحثنا في الميثولوجيا الإغريقية- في كتابنا"الفلسفة الملطية، أو لحظة التأسيس"- أن اليونان لم يكن لها نص ديني مقدس ، بل كانت لديها سرديات أسطورية (ميثولوجية) مغرقة في التعدد الوثني. ومما زاد في تعميق هذا التعدد أن كل مدينة - بل وأحيانا كل أسرة - كانت تمتلك معبودات خاصة بها، فصار الوجدان الإغريقي موزعا على شتات من المحكيات الميثولوجية المثقلة بعدد من الآلهة ، إلى درجة جعلت هزيود - صاحب "التيوغونيا"، أي صاحب المرجع اليوناني الأول الذي اختص في تصنيف وترتيب الآلهة - يعترف بصعوبة تذكر اسم كل إله، لأن "الآلهة كثيرة جدا" حسب قوله([3])! ولم يتم البدء في جمع شتات المرويات الميثولوجية إلا في أواخر القرن التاسع و بداية الثامن مع هوميروس ، ثم لاحقا مع هيزيود في أواخر الثامن وبداية السابع قبل الميلاد. ولم يكن هذا الجمع تقليلا من التعدد الوثني ، بقدر ما كان مقاربة تحاول تنظيم هذا التعدد بتخيل الصلات الناظمة بين مكوناته، وفق منطق التناسل والصراع. وابتداء من القرن الثامن قبل الميلاد، سيبدأ تطوير الملاحة التجارية، التي نقلت الإنسان اليوناني إلى خارج مداره الثقافي، وأوصلته بالحضارات الشرقية ، فأدرك بسبب ذلك نمطا جديدا في التدين مغايرا لنمطه. ومع استمرار هذا التواصل كان لابد له أن يتأثر بالفكر الديني الشرقي ؛ فتحدث فيه النقلة التصورية الدالة على الانتقال من التعرف إلى التأثر. ونعتقد أن القرن السادس قبل الميلاد، هو لحظة استواء نتائج هذا التأثر، إذ فيه نلحظ لأول مرة مع العقيدة الأورفية شيوع الحديث عن وجود "وحي ديني" ، و"كتاب مقدس".صحيح أن هذين الفكرتين لم تكونا مبرأتين من الغبش ، ولكن ظهورهما في تلك اللحظة ، دليل على حدوث انتقال من مجرد التواصل مع الشرق، إلى التأثر ببعض ملامح نمطه في الاعتقاد. ومن نافل القول الإشارة إلى أننا لا نعني بهذا التأثر، التماهي أو التماثل بين نمطي التفكير الشرقي واليوناني ، بل لا نشك أن للخصوصية أثرَها ومنطقَها ، حتى في لحظة التأثر والإتباع. وتقدير الخصوصية ، يدفعنا إلى تقدير أمر آخر هو أن الانتقال من التعرف على الديانات والحضارات الشرقية إلى التأثر بها لا يحتاج فقط إلى التواصل ، بل لابد من حاجات واقعية نابعة من الشرط الثقافي والمجتمعي الإغريقي ذاته، يستلزم حدوث تلك النقلة في طريقة التفاعل مع المعطى الثقافي الشرقي. فما هي تلك الحاجات الحافزة لتغيير طريقة التفكير الديني اليوناني؟ من الملحوظ أن المجال الجغرافي لتداول الفكرين الأورفي والفيثاغوري لم يكن هو ملطية ، ولا أيونيا ، إنما كان صقلية وإيطاليا ، وكما أسلفنا القول، لم تكن هجرة العقل الفلسفي من أيونيا إلى إيطاليا مجرد حركة جسدية في المكان، بل كانت انتقالا إلى مجال ثقافي جديد سيؤثر في طريقة التفكير ذاتها . فَلِمَ ارتحل الفكر الفلسفي اليوناني إلى ذلك الموقع الجغرافي الجديد ؟ وما ماهية التأثير الذي مارسه ذاك الموقع في تشكل الفكرين الديني والفلسفي؟ شهد منتصف القرن السادس قبل الميلاد، حدثا سياسيا كارثيا بالنسبة لليونانيين. حيث اضطر الغزو الفارسي العديد منهم إلى الهجرة نحو صقلية وإيطاليا. ولم تكن الهزيمة حدثا عابرا بل كانت رجة مؤثرة ، ومن ثم كان لابد للوجدان الإغريقي من عزاء وسلوى! ومعلوم أن الدين كان دوما من أكثر المثابات التي يلجأ إليها الوجدان في لحظات اشتداد الأزمات. ومن هنا ندرك سبب شيوع اليقظة الدينية في القرن السادس قبل الميلاد ، وتعاظم وشمول تأثيرها، إلى درجة التأثير حتى في الفكر الفلسفي؛ فكانت الأسماء الفلسفية، التي ظهرت متزامنة مع هذا الشرط الجغرافي والثقافي الجديد،مغايرة للنماذج الملطية. حيث إذا قارنا طاليس وأنكسيمندر بفيثاغور وكزينوفان الكولوفوني ، سنلحظ بوضوح أن ثمة نزعة دينية قوية عند هذين الأخيرين لا تبدو عند فيلسوفي ملطية . فلماذا هذا التغير في ملامح الشخصية الفلسفية ؟ أثار التميز الذي تبدى به نمط التفلسف، في إيطاليا، استفهام العديد من الباحثين؛ فنهج بعضهم منهجا خاصا في تعليله؛ حيث أرجعوه إلى العرق الدوري (أي الشعب الذي كان يستوطن إيطاليا وقتئذ ). وقد أسهبنا من قبل ([4]) في إيضاح اختلال القراءة العرقية لتاريخ الفكر ، وأكدنا أن تعليل نوعية نمط التفكير بنوعية الدم الذي يجري في العروق، هو اختلال كبير في المنظور المنهجي المقارب لماهية الفكر. ولذا نقتصر هنا لرد هذا التفسير العرقي على القول بأن تأسيس المدرسة الفلسفية الإيطالية ، لم يكن أصلا صادرا من داخل العرق الدوري الإيطالي، بل من المهاجرين اليونان الأيونيين، وأعني بهم على وجه خاص فيثاغور وكزينوفان. بمعنى أن إرجاع اختلاف نمط التفلسف الإيطالي عن نمط التفلسف الأيوني ينبغي أن يلتمس في غير العرق ، مادام أن مؤسسي هذا النمط الجديد هم أيونيون في الأصل. ومن ثم نرى أن تفسير خصوصية التفلسف في إيطاليا، يجب أن يتم بالإحالة على ما كان يجري في سياق الشروط المجتمعية والتاريخية التي اكتنفت فعل التفلسف، وليس بالإحالة على ما كان يجري في العروق من دماء! ولا تعليل لذلك التميز الفلسفي ، إلا باستحضار ذاك التحول السياسي والمجتمعي الذي حدث في اليونان بهزيمتها العسكرية ، وما نتج عنها من ارتحال إلى مجال جغرافي جديد، وحدوث يقظة دينية قوية في ربوع اليونان الكبرى . إنها تحولات مست البنية السياسية كما مست بنى الوجدان والتفكير، و"الرؤية الى العالم" بمدلول أشمل.ولم يكن العقل الفلسفي في منأى عن الانخراط في هذه التحولات والاستجابة لها. يقول جون برنت واصفا هذه اللحظة التاريخية :"وصلت الصحوة الدينية في هذه الفترة أوجها إلى درجة أثرت في الممارسة الفلسفية ذاتها ."([5]) أجل إذا ما نحن تأملنا بلحاظ المقارنة صورة الفيلسوف كما تجسد في فيثاغور بصورته التي كانت متجسدة قبل أزيد من نصف قرن في شخص طاليس ، مثلا، سنرى أن الفيلسوف الإغريقي الجديد يكاد يتحول إلى مصلح ديني . فإذا تتبعنا سيرة فيثاغور سنلاحظه يسارع إلى تأسيس مدرسة لتربية جيل يوناني قادر على تجاوز المحنة الإغريقية . وهو في هذا التأسيس كان يعطي قيمة كبيرة للبناء التربوي للوعي والسلوك. وبهذا يمكن أن نفهم سر تلك القواعد المعرفية والأخلاقية الصارمة التي سَيَّجَ بها فيثاغور مدرسته وأتباعه الخلص. كما يمكن بهذا أن نفهم سر حرص كزينوفان على التنقل الدائم في ربوع اليونان ناقدا المعتقد الديني الإغريقي مناديا بإله واحد، ورافضا ما لاحظه في ميثولوجية هوميروس وهيزيود من تعدد وثني ،وأنسنة لصورة الإله، ونسب المثالب الأخلاقية إليه. كما شهد زمن فيثاغور بروز أسماء فيريسيد ، الذي كان معاصرا للفلاسفة الملطييين ، وأباريس وأرسطياس... وغيرهم من المهتمين بالممارسات الدينية والروحية. ولذا ليس من المستغرب أن يحدث في هذه اللحظة التاريخية أول صدام جدلي بين المعتقدات الدينية اليونانية والفكر الديني الجديد الذي أخذ اللوغوس الفلسفي يعلن عنه . صحيح أن التاريخ لا يسجل لنا صداما بين المعتقدات الدينية السائدة والفلسفة الفيثاغورية، ولكن في سيرة معاصر فيثاغور ، أعني كزينوفان، دليل واضح على هذه المفارقة التي أعلنها اللوغوس الفلسفي مع المعتقدات التعددية الوثنية. كما نجد مختلف المؤرخين لما تستوقفهم خصوصية تلك اللحظة؛ يؤكدون على أن الفلسفة صارت لأول مرة طريقة في العيش، وليس فقط مجرد جواب عن سؤال كوسمولوجي! وإن كان في قولهم هذا، ما يمكن أن يستدرك عليه، بفعل كون الفلسفة الملطية نفسها لم يكن جوابها الكوسمولوجي مقطوع الصلة عن المعتقدات الدينية، ونظام الرؤية إلى العالم . وفي لحظة فيثاغور أيضا، نلحظ لأول مرة في تاريخ الفكر اليوناني، ظهور فكرة جديدة عن النفس ، تجعل منها مكونا مغايرا للجسد ، مكونا خالدا يجب العمل على خلاصه الروحي من أوهاق الحس، وتتالي التناسخ فيه. ولعل في ذلك سلوى وجدانية ، منحها العقل الفلسفي للإنسان اليوناني القلق من تلك التحولات الحاصلة في واقعه. وشيوع هذه السلوى يجد دليله أيضا، في انتشار تلك الجمعيات الأورفية المشتغلة بتطهير النفس ، التي كانت متقاربة ([6]) – إلى حد ما - مع المدرسة الفيثاغورية في نشاطها الروحي. وبناء عليه، يصح أن نستنتج أن زمن فيثاغور كان زمنا مثقلا بالنزوع الروحي الديني، ومن ثم لا ينبغي مقاربة الفكر الفلسفي الناشئ وقتئذ، في معزل عن التحولات الثقافية الحاصلة في المجال اليوناني. ولا ينبغي عزل الرؤية الفلسفية الفيثاغورية عن النزعة الدينية المحركة والمتفاعلة معها. وبهذا اللحاظ الواصل بين التفلسف والتدين، سندرس في هذا المتن النسق الفلسفي الفيثاغوري، باحثين في دقائقه وتفاصيله ؛ مفترضين أن كثيرا من المشكلات التي تعترض فهم جزئيات ذاك النسق وخياراته المعرفية لا يمكن حلها وتجاوزها إلا باستحضار الخلفية الدينية ، إذ نزعم أن في هذه الخلفية تكمن مفاتيح فهم كثير من مستغلقات الفكر الفيثاغوري. -2- بيد أن الحديث عن فلسفة فيثاغور ليس بالمهمة اليسيرة . إذ ثمة تاريخ ملتبس يحيط بها أدركه أرسطو منذ القديم ، فتراه لم يتحدث قط عن فيثاغور، بل حرص على استعمال لفظ الجمع، معبرا بنعت"الإيطاليين" حينا وبلفظ "الفيثاغوريين" أحيانا، ولم يستعمل اسم فيثاغور قط ، في مورد عرض الفكرة الفلسفية([7])،وكأنه يريد أن يقول : لا يمكن الكلام عن فيثاغور بل كل ما في الإمكان هو الحديث عن الفيثاغورية. بل حتى عند استعماله نعت الجمع نلاحظه أحيانا يقول "أولئك المسمون بالفيثاغوريين"، وكأنه كان يُضَمِّنُ تحت هذا التعبير ، شَكّاً حتى في هوية الفلسفة الفيثاغورية المتداولة في زمنه ، هل هي بالفعل أمينة من حيث الانتساب إلى فيثاغور، أم أنها تحويل وتغيير في فلسفته؟! كما أنه استعمل تعبير "بعض الفيثاغوريين" ، مما يؤكد أنه لاحظ اختلافا بينهم، أو على الأقل لاحظ انفراد بعضهم ببعض الرؤى والفِكَرِ. كما يمكن أن نستنتج من هذا الحرص على الاحتراس من ذكر فيثاغور عند أرسطو ، أنه لم يكن بين يديه أي نص موثوق النسبة إلى هذا الفيلسوف ؛ فقد ضاع كل ما كتبه - إن كان قد كتب ([8]) -، كما أن المدرسة الفلسفية التي أنشأها لم يتبق منها شيء، إنما الذي تبقى هو ما كُتب من قبل الفيثاغوريين – أو زاعمي الانتساب إلى الفيثاغورية- بعد نكبة المدرسة ودمارها. ومن ثم يصعب تحديد التمظهر الفلسفي الأول للفيثاغورية الأصلية خالصا من كل إضافة من قبل الفيثاغوريين اللاحقين للنكبة، وأعني بشكل خاص ما ينسب إلى ألكميون Alcméon (6/5 قبل الميلاد) و فيلولاوس Philolaos ( أواخر القرن الخامس – القرن الرابع ق م ) وأرخيتاس Archytas (القرن الرابع ق م). ولا شيء يمنع قول القائل بأن هذا الظهور الجديد للفيثاغورية يحتمل أن يكون إنشاءً لنمط في التفلسف مستقل في بعض أو كثير من مواصفاته عن التفلسف الفيثاغوري الأصلي. إذ ليس ثمة ضمانة تؤكد أن فيثاغورية القرن الرابع( ق م) استمرارية لفيثاغورية القرن السادس (ق م). ونعتقد أن هذه الهوة الزمنية التي تخترق تاريخية الفيثاغورية لا حل لها. ولذا فمدخلنا ومدخل أي مؤرخ هو استجماع الشذرات والأقاويل والتأويلات والاشتغال عليها بالموازنة والمقارنة، بقصد تحديد صورة معرفية تقريبية، لا ينبغي أن نزعم أنها لفيثاغور بل يجب أن نقدمها تحت نعت جمعي ، أي ننسبها للفيثاغورية، وهذا احتراس منهجي لازم لوجود ذاك الفراغ الزمني السابق ذكره من جهة ، وكذا لوجود نقص في التوثيق التاريخي اللاحق له من جهة ثانية. وإذا تجاوزنا ذاك السياج الزمني الفاصل بين فيثاغور والمنتسبين له من فلاسفة القرن الرابع قبل الميلاد، سنجد المنقول عن هذه اللحظة وكذا عما سبقها و لحقها مخترقا بثقوب واسعة تستعصي على فعل السد دون خوض مغامرة الاجتهاد التأويلي. وأصل التباس التاريخ الفيثاغوري في نظرنا راجع إلى الهوة الزمنية الفارقة بين نكبة المدرسة الفيثاغورية في كروطونا ولحظة فيلولاوس/أرخيتاس (القرن الرابع قبل الميلاد)، التي تشكل لحظة الظهور الثاني للفيثاغورية. إذ ليس بين يدي الباحث والمؤرخ ما يمكنه من تحديد مقدار أصالة هذا الظهور الثاني، والتوكيد على أنه كان بالفعل استمرارا للتفلسف الفيثاغوري الأول. ولا ينبغي أن يعنينا كثيرا قول جامبليك "إن الدقة التي حفظ لنا بها المذهب الفيثاغوري دقة مدهشة؛ إذ رغم أنه خلال أجيال عديدة، لم يكن لأحد القدرة على أن يصل إلى أرشيف فيثاغور، فإنه لما جاء فيلولاوس قام بنشر الكتب الثلاثة المعروفة. "([9]) ؛ لأن أبسط ما يمكن أن ينعت به قول جامبليك هذا، أنه أبعد ما يكون عن الدقة؛ لأنه ليس بين يديه أرشيف فيثاغور حتى تصح المقارنة بينه وبين مقولات فيلولاوس ! هذا فضلا عن أن جامبليك ليس بالمؤرخ الثقة لا في إيراد السيرة ولا في توثيق الفكر. ولنا في ما أوروده فورفوريوس ، معاصر جامبليك ، مقال أفضل وأصوب من مقالة هذا الأخير، حين قال بأننا لا نعرف أي شيء عما كان يعلمه فيثاغور لتلامذته، باستثناء مذهب التناسخ ، والعود الأبدي والقرابة بين الكائنات الحية.([10]) كما لا ينبغي أن نأخذ بقول المؤرخ الفرنسي إيميل برهيه، في المجلد الأول من موسوعته "تاريخ الفلسفة"، عندما أشار إلى أن :"تاريخ الفيثاغورية ... يتألف من مرحلتين متمايزتين تماما، دامت أولاهما منذ تأسيس المدرسة في كروطونا (نحو 530 ق م ) إلى وفاة أفلاطون (350 ق م )، بينما ابتدأت ثانيتهما ، التي تعرف باسم الفيثاغورية الجديدة في حوالي القرن الأول للميلاد."([11])؛حيث لا نرى تحديد الجسم الزمني للمرحلة الأولى من بدء تأسيس المدرسة في كروطونا حتى وفاة أفلاطون؛ لأن ثمة فترة انقطاع تاريخي ،بين لحظة دمار المدرسة ولحظة فيلولاوس/أرخيتاس المزامنة للحظة الأفلاطونية، لابد من التنصيص عليها بوضوح، لا جعل كل ذلك مرحلة واحدة موصولة اللحظات ومتماسكتها. بل أكثر من هذا وذاك، ليس بين يدي المؤرخ من المعطيات ما يسمح له بتوثيق الفكر الفيثاغوري الذي تبدى في القرنين الخامس و الرابع (ق م ) ونسبه إلى فيثاغور (ق 6 ق م ). لذا لابد من الفصل المنهجي بين الأصل الفيثاغوري وما نسميه بلحظة الظهور الثاني. ولا يكفي الاستدراك الذي قال به برهيه : إن "المذاهب التي تعزى جملة واحدة إلى فيثاغوريي الحقبة الأولى تنطوي على تناقضات واضحة إلى حد يتعذر معه عزوها إلى فيثاغورس وحده، مما يضطرنا إلى الاكتفاء بتصنيفها ، دون أن نتمكن من تحديد أمكنتها أو تعيين صانعيها."([12])؛ بل إن قوله هذا هو ما يزيد في التشكيك في ذلك التقديم الأحادي الذي نحا نحوه في نصه الأسبق عند تنصيبه للسياجات الزمنية المحددة للمرحلة الأولى. ثم إذا انتقلنا إلى بحث هذا الظهور الثاني، سنلحظ أنه هو أيضا، ليس في منأى عن إشكال التوثيق : إذ من المعلوم أن النصوص الشذرية المنسوبة إلى فثاغوريي القرنين الخامس و الرابع (ق م ) وما بعدهما ، أي ألكميون Alcméon و فيلولاوس Philolaos و أرخيتاس Archytas ، و ديوطوجين Diotogène، وأوريطوس Eurytos ... مدخولة بالنحل، بل يبلغ الشك في بعضها ليس إلى حد نفي نسبتها إلى هؤلاء فقط، بل ثمة ما يدفع إلى القول باستحالة تحديد المؤلفين الأصليين، وكذا توقيت التأليف ! وتلك الهوة الزمنية التي تفقدنا ملامح العقل الفيثاغوري الأصلي، وتلك الشكوك التي تطال الكثير من النصوص والأقوال المنسوبة إلى فيثاغوريي القرنين الخامس والرابع (ق م ) وما تلاهما، تجعل سؤال الهوية المعرفية للفيثاغورية سؤالا عصيا على التحديد. ثم إذا أضفنا إلى هذا ما حدث في القرن الأول الميلادي ، من ظهور نمط جديد للتفلسف الفيثاغوري بفعل امتزاجه مع الأفلاطونية، فإن جواب سؤال الهوية يزداد استعصاء . -3- ومن ثم نرى أن كل محاولة لبلورة معالم الملمح الفلسفي للفكر الفيثاغوري ينبغي أن تكون مسيجة بكثير من الاحتراسات والضوابط المنهجية . وأول احتراس هو التمييز بين ثلاث فيثاغوريات: - الأولى، نعني بها لحظة التأسيس مع فيثاغور ومدرسة كروطونا، - والثانية نشير بها إلى لحظة فيلولاوس وأرخيتاس، - والثالثة هي تلك الفيثاغورية الممزوجة بالأفلاطونية، التي تمظهرت بدءا من القرن الأول الميلادي. وللتمييز بين هذه الفيثاغوريات الثلاث نصطلح على تسميتها بثلاثة نعوت هي: "الأصلية"، و"القديمة"، و"الجديدة". ونعني بالفيثاغورية الأصلية الفلسفة التي أسسها فيثاغور وسادت مدرسة كروطونا خلال القرن السادس قبل الميلاد. والتي – كما سنبين في مبحث الشذرات – لم يتبق منها سوى ما ضمنته قصيدة "الأبيات الذهبية". أما ما نسب إلى بيطرون الهيميري Pétron d Himère ، وهيباس الميطابونطي Hippase de Métaponte، و ثيانو Théano ، فهو مدخول بالشك . ولن نورده إلا محاطا بسياج الاحتراس. وبهذا فإن الإشكالية الكبرى للفلسفة الفيثاغورية هو غياب المعطى المعرفي للفيثاغورية الأصلية. وهذا ما سنؤكده حتى بالنسبة لمحتوى "الأبيات الذهبية" ، حيث سنثبت نسبتها – بناء على توثيق أرموند دولاط ([13]) – لكننا مع هذا الإثبات سنبين فراغها من المعطى المعرفي البحت، بحصر مدلولاتها ضمن المقولات القيمية الأخلاقية تحديدا. ونعني بـ"الفيثاغورية القديمة" ، تلك التي سادت القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. وبتمييزها عن الفيثاغورية الأصلية نختلف مع الكتابات التاريخية ، في إضافتها لفلسفة فيثاغور إليها، وذلك للسبب الذي أوضحناه من قبل ، خلال نقدنا لتحقيب إيميل برهيه، أي: وجود ذلك الفاصل الزمني الذي يشكك في مدى استمرارية التعليم الفيثاغوري محفوظا من كل إضافة جديدة مغايرة للأصل. ولكي لا نوغل في تغيير التسميات فإننا أبقينا على اسم الفيثاغورية الجديدة لوسم التيار الفلسفي الفيثاغوري الذي ساد بدءا من القرن الأول الميلادي، أي التيار الذي مزج بين الفيثاغورية والأفلاطونية . وهذا وإن كنا سنؤكد خلال بحثنا في تشكيل الفكر الفيثاغوري أن عملية المزج بدأت منذ أواخر القرن الرابع (ق م). وسؤال الهوية المعرفية للفيثاغورية في ضوء هذه الثلاثية ، هو في تقديرنا جوهر الإشكال الذي نستشعر ثقل معالجته؛ أما مشكلة السيرة الفيثاغورية فليست بذات الخطورة ولا بذات القيمة الكبيرة لعملية البناء المعرفي التي نقصدها في بحثنا هذا؛ إذ نعلم أن ما كتبه فورفوريوس و جامبليك عن سيرة فيثاغور فيه إسهاب غير مبرر ولا مؤسس على سند موثوق. حيث نرى أغلب ما كتبه هذان الكاتبان مجرد نتاج إسهال في المخيال السردي ليس غير! بيد أن الانتقال من سرد السيرة إلى سرد الفكر هو ارتحال إلى إشكالية أعقد بكثير، يتداخل في بنائها غياب متن الفيثاغورية الأصلية، وندرة ما تبقى من الفيثاغورية القديمة، والتباس الفيثاغورية الجديدة بالأفلاطونية. وقولنا ب"الغياب" و"الندرة" و"الالتباس" نوجز به ثلاثة أحكام نصف بها الوضعيات الإشكالية للتاريخ الفيثاغوري. حيث إذا تتبعنا صيرورة تكوين الفلسفة الفيثاغورية، سنلحظ أن كل مرحلة يخترقها مشكل نوعي ، ويسودها نمط خاص من الإسقاط والانتحال ينبغي الوعي بخصائص وآليات اشتغاله، قصد الاحتراس من الاغتراف منه، والامتثال لرؤيته في الفهم والتأويل. وبما أن الصورة المعرفية لفيثاغور مفقودة، وبما أن الرسم المتداول عن الفيثاغورية كان مبتدؤه من القرن الرابع قبل الميلاد، فإننا لم نعنون كتابنا هذا ب"فيثاغور" فقط، بل حرصنا على جعله مقترنا بلفظ المذهب (أي"الفيثاغورية")، حتى نتمكن من توسيع النظر إلى المحصول المعرفي المنسوب إلى الفكر الفيثاغوري واستحضاره في شموله وتنوعه ؛ ذلك لأنه ليس مقبولا - بالنظر إلى الوضع الشذري والدوكسوغرافي - الحديث عن فيثاغور، بل لابد من الاحتراس في النسبة ؛ لأن أكثر ما ينسب إلى الفلسفة الفيثاغورية هو لفيلولاوس وأرخيتاس وألكميون. ولذا ينبغي التمييز بين لحظات تطور الفكر الفيثاغوري ، وتعيين المدارس التي تشكلت خلال صيرورته . ومعلوم أن حديثنا عن الفيثاغوريات الثلاث تلزمنا بتوسيع المدى الزمني لهذه الدراسة، حيث لابد من أن نمدده من القرن السادس قبل الميلاد (أي لحظة فيثاغور) ، حتى القرن الأول الميلادي، مرورا بالقرن الرابع (لحظة فيلولاوس /أرخيتاس) . لأن الفيثاغورية شهدت خلال القرن الأول الميلادي – كما ألمحنا سابقا - عملية إعادة بناء دلالي استُعمل فيها خليط من الأدوات والمواد الفلسفية، ينتسب بعضها إلى فيثاغوري القرن الرابع (ق م ) ، وينتسب آخر إلى الفلسفة الأفلاطونية. ومن ثم فالحديث عن الصورة الفيثاغورية في هذه اللحظة ينبغي أن يراعي حدود هذا الامتزاج ، ويتجه نحو تفكيك خيوط نسجه. بمعنى أنه لابد من الوعي بأن الفيثاغورية ذات قوام معرفي منغرس في صيرورة التاريخ، ومتقلب معها و بها ، مما يستلزم منا لَحْظَ الإضافات والتحولات، وضبط توقيتها بما أمكن من دقة في التزمين . - 4 - ثم إذا مَايَزْنَا بين الفيثاغوريات الثلاث ، وَتَخَلَّصَ لنا ، في الباب الأول من هذا الكتاب، من المحصول الشذري مقدار نراه أكثر صدقية وموثوقية من غيره، فإن الصعوبة لا تكون قد انتهت، بل تكون قد بدأت من زاوية أخرى، هي زاوية الفهم والتأويل؛ وهي المهمة التي سننتقل إلى إنجازها في الباب الثاني ، مع استشعار وتقدير صعوبتها . ذلك لأن النظر في الركام الشذري الفيثاغوري يكشف تعدد أوجه وأبعاد المنظومة المعرفية الفيثاغورية: فهي نسق فلسفي جعل من الفلسفة فكرة معاشة وأسلوبا في الحياة ، وهي أيضا مدرسة كان لها تأثير في السائد السياسي، وكيفية انتظام الحكم وتسيير المدينة ([14]). ولم يبق موقفها ذاك محصورا في المستوى النظري، بل جاوزه إلى الممارسة الفعلية بفعل تطور المدرسة واتساع عدد أعضائها وعلو مكانتهم، حتى وصل الأمر بالفيثاغورية إلى الدخول في صراع سياسي جَرَّ عليها كارثة ماحقة ، عندما هجم سيلون Cylon على المدرسة ودمرها وأحرقها ، فكان ذلك من بين أسباب ضياع الأصل الفيثاغوري الأول. ونظرا لتعدد أوجه النسق الفلسفي الفيثاغوري ، ينبغي أن تتعدد المداخل المنهجية الواجب انتهاجها لمقاربته، مع وجوب ضبط الصلات والروابط بين تلك الأوجه والاختصاصات؛ لِما نلحظه بينها من تناغم وانبناء نسقي، دون إغفال تتبع عملية بنائها وتحولها خلال الصيرورة الزمنية، كما أسلفنا القول. وعليه ، فإن كتابنا هذا سينتظم على بابين، نتناول في أولهما السيرة والمتن الفيثاغوري، حيث سنفصل القول في فصل الهوامش في استحضار المتن السيري الفيثاغوري، ولا نعني به حصرا سيرة فيثاغور وحده، بل سيرة المدرسة أيضا، بتخصيص النظر في رموزها الثلاثة الكبرى، أي ألكميون و فيلولاوس و أرخيتاس. ثم سننتقل من الهوامش إلى المتن الفلسفي و الدوكسوغرافي لالتقاط المقول الفلسفي الفيثاغوري، لحصر شذراته، وبيان الإشكالات التي تخترقها، وضبط مصادر تاريخ الفكر الفيثاغوري، والأنماط والمواقف المنهجية التي استعملت في بناء تلك المصادر، لكي نستمد منها ونحن على وعي بدرجة موثوقيتها، وطبيعة اللحظة التاريخية التي ينتمي إليها كل مصدر، ونوعية التأثير الذي خضع له. وبعد أن نحقق المتن الشذري، ومصادر التأْريخ للفكر الفيثاغوري يكون المهاد قد استوى للانتقال إلى الباب الثاني الذي سنخصصه لبحث الفلسفة الفيثاغورية . وبما أنها فلسفة متعددة الأوجه والأبعاد، فقد فصلنا الباب الثاني على أربعة فصول : خصصنا أولها لبحث الموسيقى الفيثاغورية، التي نراها حقيقة بأن تبحث في باب مخصص للمبحث الفلسفي؛ ذلك لأن النغم من منظور التفلسف الفيثاغوري ليس مجرد إيقاع مسموع، بل هو جزء مؤسس للأنطولوجيا أيضا، فضلا عن أن اشتغال الفيثاغوري بالموسيقى ، نراه الميدان الذي مكنه من حدس العلاقة بين الرياضيات، وفيزياء الوجود. وهو ما سنؤكده بتحليل رواية كزينوقراط فيما يخص حدس فيثاغور لإمكان تكميم الصوت خلال سماعه لأصوات مطارق الحدادة. ورغم أن حكاية كزينوقراط تحمل خطأ حسابيا، فإننا سنتخذها مرتكزا للتوسيع الدلالي للفكرة بربط اكتشاف القدرة الإجرائية للعدد بظاهرة الصوت. وهي الظاهرة التي نرى في اشتغال الفيثاغوري بالموسيقى مناسبة لإدراكها والانبهار بالمقدرة المنهجية للرياضيات. وبهذا فإن الفصل الأول المخصص للموسيقى يدلف بنا مباشرة إلى المبحث الرياضي الفيثاغوري، وهو ما سنخصص له الفصل الثاني "في ماهية الرياضيات الفيثاغورية"، الذي نقدر أنه مبحث على قدر بالغ من الأهمية، يستلزم إعادة التفكير في الإسهام الرياضي الفيثاغوري من مداخل ومنظورات غير رياضية، حيث نزعم أن القراءة الميتودولوجية والإبستيمولوجية لرياضيات فيثاغور، لن تؤدي إلى إدراك " ماهيتها" ؛ لأن مفتاح فهم الفكر الرياضي الفيثاغوري لا يكمن في الرياضيات، بل في الفكر الديني. وعلى ضوء هذه الفرضية سنبحث إشكالية العدد الأصم، لنفسر لماذا لم تستطع الفيثاغورية استدخاله في بنيتها الرياضية. ثم إن الفيثاغورية نظرت نظرة خاصة إلى مسألة العدد، حيث أسست عليه رؤيتها الأنطولوجية؛ فجعلت منه الشفرة الرمزية لبنية الوجود؛ فشرطت من ثم فعل إدراك الوجود بالارتكاز على المنظور الرياضي. وهي النظرة التي لن تكون لها خلال تاريخ الفلسفة القديم أي حظوة، لكن مع بداية الحداثة وتأسيس الفيزياء نلقاها حاضرة عند جاليليو الذي انتهى، بنزوع مقارب للرؤية الفيثاغورية، إلى القول بأن الطبيعة مكتوبة بلغة رياضية. وبذلك فالفكر الفيثاغوري أول منظومة فكرية أسست رؤيتها إلى العالم على الرياضيات. ففي شذرة فيلولاوس - التي يرويها بلوتارك([15]) - نلحظ تعبيرا صريحا يجعل من "الهندسة أم العلوم". وفي الإختزال الفيثاغوري للوجود في العدد والنغم نزوع رقمي يستوجب الاستفهام : كيف استطاع العقل الفيثاغوري في هذه اللحظة المبكرة من تاريخ الفكر أن يحدس هذه العلاقة التأسيسية التي ستتملكها الرياضيات في تاريخ العلم ؟ كيف تمكنت الفيثاغورية من جعل العدد أداة إجرائية لفهم الوجود، مع أنه لم يكن قد تجرد من فكرة المساحة؟ كيف أمكن للفيثاغوري أن يحول الأعداد إلى أدوات تكميمية مع أنها كانت لا تزال مشخصة في أشكال هندسية ، فكان الواحد يمثل ب"نقطة" والاثنين ب"نقطتين"، والثلاثة ب"ثلاث نقط" والأربعة ب"أربع نقط"...؟! هذا ما سنحاول أن نجيب عنه - في الفصل الثالث من الباب الثاني – حيث سنقارب الكوسمولوجيا الفيثاغورية بقصد تحديد مساحة حضور الرؤية الرياضية فيها ، ومكامن إشكالاتها. وما أكثرها ! إذ كما كانت المرتبة التأسيسية التي أعطتها الفلسفة الفيثاغورية للعدد أمرا مفاجئا، نظرا للمستوى الأولي البدائي الذي بلغه الفكر الرياضي وقتئذ، فإن النظر في تفاصيل النظرية الكوسمولوجية يبرز مفاجئات أخرى ، حيث بلور العقل الفيثاغوري رؤية كوسمولوجية متميزة، خرقت النسق التصوري المتمركز حول الأرض. كما أنه لم يتصور الشكل الهندسي للأرض قرصا مسطحا ، كما تصورها طاليس، و لا قال بأنها أسطوانية الشكل ، كما زعم أنكسيمندر ، بل قال بكرويتها. فكيف تمكن العقل الفيثاغوري من بلورة هذه التصورات المتميزة، التي ستكون المرجع الفلسفي الذي سيلهم الثورة الكوبرنيكية ([16]) ؟! ما هي الحوافز التي دفعت هذا العقل إلى أن يتخطى فكرة ثبات الأرض ومركزيتها في هذه اللحظة المبكرة من تطور المعرفة الفلكية ؟ وبما أن الفلسفة الفيثاغورية نسق متكامل الأبعاد، فإن لها، فضلا عن رؤيتها الرياضية والكوسمولوجية، قولا في شأن المسألة النفسية والأخلاقية . الأمر الذي يستوجب الدراسة أيضا.وهذا هو ما سيكون موضوع بحثنا في الفصل الرابع من الباب الثاني . كما سنتناول فيه، نظرية المعرفة ، وسيكون معتمدنا الشذري هو ما تبقى من شذرات أرخيتاس... -5- وكتابنا هذا (فيثاغور والفيثاغورية، بين سحر الرياضيات ولغز الوجود) ، جزء موصول بأجزاء سلسلة "تاريخ الفكر الفلسفي الغربي، قراءة نقدية"، التي أصدرنا منها عبر مركز نماء للبحوث والدارسات - كتابين هما : - "في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة"(2012) - و"الفلسفة الملطية، أو لحظة التأسيس"(2013). وترتيب تناولنا للفيثاغورية تالية للفلسفة الملطية ، آت من الالتزام بالترتيب الزمني . أما عن النهج الذي سنعتمده في المقاربة ، فهو ذات النهج المعتمد في قراءتنا للنتاج الفكري لفلاسفة ملطية، أي تناول الفلسفة في صلتها بالثقافة الدينية، مع استحضار اللحاظ النقدي في تقويم الأفكار والتأويلات. ولذا سيلاحظ القارئ خلال الباب الثاني الذي خصصناه لبحث النسق الفلسفي الفيثاغوري ، كيف يمكن لهذا الوصل بين اللوغوس والدين أن يفكك الكثير من الألغاز والإشكالات التي تعترض فهم دقائق التفكير الفلسفي؛ ونقد كثير من التأويلات المتداولة في كتب تاريخ الفلسفة. وقبل كتابة هذا البحث حرصت خلال شهرين كاملين على تأجيل قراءة أي دراسة أو بحث تأويلي تناول الفلسفة الفيثاغورية - مهما كانت شهرته أو قيمته - حيث عكفت على قراءة شذراتها ([17]) فقط، والتأمل في دلالاتها لفهم معمارها الفكري الفريد. وقد أبرزت لي هذه التجربة التأملية قيمة أن ينصت الباحث الراغب في دراسة فلسفة ما ، إلى ما قالته ، لا إلى ما قيل عنها .
[1] - هذا نص مدخل كتاب، الطيب بوعزة، تاريخ الفكر الفلسفي الغربي ج3،"فيثاغور والفيثاغورية بين سحر الرياضيات و لغز الوجود"، مركز نماء للبحوث والدراسات،الطبعة 1، بيروت 2014 [2] - John Burnet, Early Greek Philosophy,A & C Black Ltd. 2d edition London 1908. p86 [3] - يقول هيزيود متحدثا عن كثرة الآلهة الأغريقية: أما عن "أسمائها جميعاً فمما يشق على الإنسان ذكرها" انظر ول ديورانت، قصة الحضارة، ص 1943. [4] - أنظر الفصل الثاني من كتابنا "في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة، نقد التمركز الأوربي" ، الطبعة1،مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت ، لبنان 2012 [5] - John Burnet, Early Greek Philosophy,ibidem. [6] - لا نعني بهذا أنه لم يكن بين الأورفية والفكر الفيثاغوري اختلاف، بل ثمة كثير من التباينات الفاصلة بينهما، ليس هذا مقام التفصيل فيها ؛ لأن مطلبنا هنا هو التوكيد على المشترك الماثل في النشاط الروحي ، الذي فرضته تلك اللحظة التاريخية. [7] - استعمل أرسطو اسم فيثاغور مرتين اثنتين فقط : واحدة في متن الميتافيزيقا والثانية في متن الخطابة. وكما سنبين في فقرة الشذرات فإن الاستعمالين معا لم يردا في سياق معرفي؛ لذا يصح قولنا السابق من عدم ورود اسم فيثاغور قط في المتن الأرسطي في مورد عرض الفكرة الفلسفية. [8] - رغم أن بعض الفلاسفة والدوكسوغرافيين القدماء، مثل فيلوديم Philodème و هيراقليط، وألكسندر العلامة (Polyhistor) - بحسب شهادة ديوجين اللايرسي - يقولون بأن فيثاغور قد كتب، فإن ذلك أمر مشكوك فيه ، حسب عديد من الدوكسوغرافيين الآخرين، وسنناقش هذا الرأي في فقرة الشذرات. حيث سنؤكد وجود مقولات موثوقة النسبة إلى فيثاغور ؛ الأمر الذي يستفاد منه أنه كان ثمة نص منسوب له ، متداول بين أتباعه. [9] - Jamblique,Vie pythagorique,199. [10] - Porphyre,Vie de Pythagore,6. [11] - إيميل برهيه، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة2، دار الطليعة ، بيروت 1987م ، ص 67. [12] - برهييه، م س ، ص 67-68. [13] - يعد عمل أرموند دولاط : Armand Delatte,Etudes sur la littérature pythagoricienne,Paris,Champion,1915,rééd.Genève, Slatkine,1974,45-79 من أهم الأعمال التي حققت متن "الأبيات الذهبية"، وسنأتي إلى بيان محصول هذا العمل في الباب الأول من هذا الكتاب .لأبيات الذهبيةغوريلسني وانسنة لصورة الإله، ونسب المثالب الأخلاقية إليه.الت [14] - الحديث عن الممارسة السياسية للفيثاغورية في كتب التاريخ لا يخلو من تسرع . إذ أخذت كثير من الكتابات بما ورد عند ديوجين اللايرسي من أن فيثاغور وضع قوانين للإيطاليين، وأن "تلامذته الثلاث مئة كانوا يسيرون الشؤون الإدارية " (Diogène Laerce,VIII,6)؛ فاستنتجت بناء على هذا الوارد أن فيثاغور كان له قصدية انقلابية لتغيير أنظمة الحكم في المدن الايطالية. بينما يبدو من شواهد أخرى أن النفوذ والتأثير السياسي للفيثاغورية كان تلقائيا من خلال نوعية التلامذة الذين أثر فيهم فيثاغور؛ الذي يظهر أنه لم يكن لديه طموح سياسي. وفي هذا السياق يمكن الاستئناس مثلا بـ"فالير مكسيم" Valère Maxime الذي يشير إلى أن فيثاغور عُرض عليه "منصب استشاري سياسي" () ورفض. كما يستحضر شيشرون من هيراقليد البونطي رفض فيثاغور لكثير من المناصب بدعوى "الاقتصار على البحث العلمي". Ivan Gobry, Pythagore,éd Seghers,Paris 1973 p21. ولذا نميل إلى الرأي بأن التأثير السياسي للفيثاغورية كان تلقائيا ، ولم يكن مشروعا انقلابيا لتغيير الحكم في المدن الإيطالية. [15] - يقول فيلولاوس : " الهندسة هي المبدأ، والأرض الأم لكل العلوم" Plutarque,Props de table,VIII,11,1,718 E. [16] - سنوضح لاحقا كيف أن الفيثاغورية كانت ملهمة لكوبرنيك في انقلابه على فلك أرسطو وبطليموس. [17] - اعتدمت على الترجمة الفرنسية لمجموع الشذرات ما قبل السقراطية ، لجون بول دومون: Jean – Paul Dumont,Les écoles présocratiques,Gallimard,Paris 1991.
#الطيب_بوعزة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الحاجة إلى قراءة نقدية لتاريخ الفكر الفلسفي الغربي°
-
خواطر في نقد الالحاد 1
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|