اصبحت فضوليا على ما يكتب داود،وقد اذهلني اني لم اجد القسوة المتوقعة في حديثه عن رحلة المنتحرين سياسيا،الى بغداد،لان مسؤول وفدهم هو حقا احد اكبر الغرماء الشخصيين لداود ممن اذاقه الويل وغدر به وهو في ضيافة بلد كان من الحري ان يستخدم حظوته لحماية اهل بلده وتعويضهم حيف الغربة،اجل اشهد ان داود كان ضحية غدر ووقيعة تتشكل على المستوى النظري والعملي كمماثل طبيعي للنظام الحاكم في العراق،حيث لابد ان يكون مكان كل مظاهر الارهاب والقمع والغدر والفكر الشمولي التوتاليتاري هو المؤاخاة مع النظام،وهذا من الجهة البدائية ينبغي ان يحدث لكل من حمل هذا العقل الذي يلغي الاخر ولن يقيم لكرامته ومواطنته أي وزن،ولعله من غير المستغرب ان يكون الوفد للمبايعة وليس للمعارضة،مع اني تسرعت وكتبت زاويتي الاسبوعية في الوفاق بمنطق تحليل حسن النوايا،الا اني خلصت الى ان أي حوار مبني على مهازل الهمروجات المعروفة هو حوار عقيم يشجع النظام على المزيد من تقديم الذرائع للمتربصين لغزو البلاد،وبالتالي فان غلواء النظام ستزداد غرورا وتصعيدا في الهوجاء السياسية. وهنا نسترجع واخي داود البصري ذكريات اكثر من ربع قرن كنا في انتظار ان تحدث اللامفاجاة وتلتئم التوائم السياسية مع بعضها،وهكذا انتصرت يا داود واثبت من انت؟ انها شهادة انتظرناها اكثر من ربع قرن.
وانا اكتب بردي على شاب يبدو من اسئلته التي ترجمتها لغتي الانكليزية الابتدائية والبدائية،وهو يتسائل ك"هل باعتقادك هناك امل في التغيير من دون القوات الاميركية؟" اذهلني هذا السؤال وبين لي مدى الاحزان والياس والمرارة التي وصل اليها ابناء شعبنا،نحن الذين نلوذ بعيدا بتاملاتنا نبحث عن سر الالوان ومحاكات الموجة، واعزة لنا ذلتهم الماساة وأوهنت عزيمتهم الكروب،واخرين يئنون في الوطن جوعا وذلا وخوفا..كم تخجلني نفسي احيانا مع اني مشروع انتحار سابقا ولاحقا،لاسيما اذا ادعيت شيئا ولم انجح فيه،ولكن حمدا لله لم اكن مسؤولا كي انتحر! فهمت لماذا يتذلل احد اخوتي ممن عرف بابائه وشكيمته وشجاعته وهو يطالبني بمبلغ خمسة وعشرين دولارا لانه عاجز ان يشتري لابنه ازياء للجامعة..فهمت لماذا العراقيون "احرجوا فاخرجوا " لماذا كفروا بكل شيء،وتراني اعدد له افكاري وتصوراتي وضرورة ان نحفظ كرامة بلدنا التاريخية مع اعترافنا بكل هذه الوقائع.بينما انا هكذا وهو نفس الوضع الذي حدا بردي على السيد الكناني هذا العراقي الشبيه بقطفة الوجدان والضمير العراقيين،وقد أجلت اعادة مراقبة النص الذي ارد به على تساؤلاته لكي اتناول سؤال هذا الشاب الذي احنى ظهري حقا!واذ بي امام بكائية جديدة حقا بكائية ابكتني حينها وهي قصة الصديق والزميل داود البصري خلال وجوده في سوريا وانا احد اكبر الشهود على عمل لا اخلاقي ولا انساني حدث لهذا الشاب الذي يبدو لمن لا يعرفه يتصوره مدرعا بالمشاكل وباحثا عن المناكفات والعداواة،لكني شاهدت الطفل بعينيه يوم جاء الى غرفتي بدمشق وهي تدمع من غدر ذوي القربى وظلمهم وقسوتهم،وعلى ما يبدو انه منذ تلك اللحظة طلق داود أي يقين وتوجه الى ممالك الشك،وهذا من حقه،فان وجدته ذات يوم يقسو علي الكلام فلن الومنه بل سالوم نفسي ان كنت مسؤولا ولم اقدم له ما يشعره بالامان. ولعلي كتبت قصته مرارا في لبنان يوم هربت بعيد خروجه من فرع المخابرات في سوريا،لان قصة هروبي متعلقة بقصته! ومع ان ضميري كان الوحيد الذي املك من راسمال مخلفا مجموعة امتيازات مختارا التشرد والخوف، كالذي نعيشه في بغداد ،من قبل رجال المخابرات السورية وحلفائهم الذين حيث يتدربون على الرماية فثمة لحم بشري سيجدوه وذلك للرخص الفاحش بسعر الانسان انذاك في لبنان،حيث المليشيات المنفلتة في هناك كان رعبها اشد فتكا ووطئة من تلك الاجهزة..ولكن وباسلوب كما جرت العادة جرى تشويهي بحيث تحولت من المسيح الى يهوذا الاسخريوطي ومن قيصر الى بروتس..انها قصة ظريفة ومريرة عن العراقي الضائع بين متاهات المنافي وهي قصة كل العراقيين الذين يجدون ببلدان الضيافة ما يشبه الاجهزة في العراق،وهكذا لم اجد ناشرا شجاعا ينشر تلك القصة لانه يتذكر كيف تقتل الاجهزة السورية الرجال وتكنسهم كالجنادف الرخيصة.
في تلك الاعوام المكنوسة والمنكوسة بالاحباط والهزائم ،وفي حومة الامال التي خابت والعمر الذي جلس على كومة من الخسارات كنا سكارى احزان هائلة ومرارات متعددة،ونكاد نخسر المنفى بعد ان خسرنا الوطن،لان المنفى وضع لنا احلاما اخرى!وقلنا لم لا فليكن عمرنا قد انتهى على قصة شرف سياسي اخر ان لم نكن قد حققناه في بلادنا،حيث عليك ان تتخفى باخلاق الشارع وتدعي انهيار كل الحصانات كي تسلم من مؤسسة النوايا الغاشمة. ولكن كل الحسابات كانت خاطئة فلم نجد ما يشرفنا ان ننتحر من اجله،لذلك قررنا ومنذ امد بعيد ان نهرب قلوبنا بين الحواجز وهي تخفي نصوص السلام المطلق،حيث حملناه طويلا وخبأناه كثيرا هنا وهناك،مكرهين على انتحال أشياء أخر،هكذا بدأت قصة هجوعنا وتساكننا يوم مطر الرصاص والشضايا على جسمنا فاصبح محشوا بالحديد ومتسخا بنيران لم نريدها مجدا ولا ماثرة،بعد ان شاهدنا عورة ابينا وانهدم المنظر برمته،فاصبحت الحياة فريّة اب مخادع كنا نظنه ملاكا ساحرا ليس له ما للبشر!!!ومنذ ان فقدنا بعضا من وظائف جسمنا سكنت الروح والجسد مرة جديدة وتوقف ذلك الشاب الجامح،لينهي حياته من اجل مصالحات صعبة بين الشيطان والرحمن، وبهذا التوضع العام تعرفنا على الصديق داود فيما كنا نحمل قراب الدمع سرا،وكنت واياه في حرب ضوروس بالافكار والسياسة الا بشيء واحد هو الحب والوداد واحترام الانسانية،كما كنت اضع فوق مكتبي كلمات فولتير حول احترام راي الخصوم،لانني ايضا مثل داود لم اعرف المعارضة ولم اعمل معها بعد انقطاع واجتهادات خاصة طويلة واحلام برتقالية وازوردية هائلة.وكعادتنا نحن العراقيين نسقط المثال في كل عمل ننتمي اليه،ونتلبس الفكرة المسبقة،وهذا كلف تراثنا ومازال الكثير من المتاعب والعذابات،ولعله باق حتى المستقبل،حيث الصدمات المتكررة كل مرة. وهذا يدل على اننا ما زلنا شعبا مثاليا لم يستطع التخلي عن خياله وهذا سبب حروبنا وشكنا وظننا وقسوتنا على بعض. ذات يوم اتفق داود البصري والدكتور المرحوم حامد شعلان،وهو شيوعي سابق وروح تستحق الصلاة عليها والاصرار على ممارسة الكفر والمحضور في حضرتها وانت تقف امام بقايا جنة وربع ملاك ..رجل كبير اسكرته الاحزان حتى تطوطح من الامساك عن الوطن الذي سرعان ما يباغته الحنين اليه حتى يجهش كالاطفال!!شعب من نصف قديس ونصف شيطان،لا يتركب على معادلات البشر،ومن الصعب اخضاعه لمنطق رياضي او عقلي. كنا نعتقد انهما،أي داود وشعلان سافرا للاتحاد السوفيتي انذاك،وكنا حين ودعناهما نمازح داود هذا الشاب التقليدي الذي ترعرع في اجواء محافظة فجاء مليء بالممنوعات والمحرمات كما تربينا..فكان المزاح والجد يختلطان في لمعان عيونه البصراوية المتئدة والهانئة كعادات اهل البصرة المعروفين باللين وطيبة القلب. بعد فترة ما جاءني داود كي يخبرني بالحادث وهو يدمع على ما واجهه من ايام مفزعة مدمرة في زنزانة منفردة بذلك السجن الشهير الذي اين منه المعتقلات النازية واين منه العصور الحجرية حيث خارطة للمهانات والحط من الكرامة الانسانية ، ناهيك عن البخل والشحة في وجبات الطعام والماء وشتى فنون الاذلال التي يتقيء الانسان لذكرها،فانا نزيل هذه السجون السورية عام 1971 حيث سلمت للعراق وسوريا بعز خلافاتها معه،انا و 18 شابا عراقيا،وهناك استقبلوني ضيفا على قصر النهاية والامن العام والفضيلية.
وكان طلب قيادة قطر العراق التي يتراسها السيد حازم الكبيسي كما اعترف لي احد المسؤولين ان يسلم داود للعراق،واذا سلم داود فانه حتما سيعدم ،هذا بحد ذاته ينفي التهمة الموجهة اليه لان السوريين يعتبرون انفسهم في حرب خفية مع العراق،وهم يحتفظون بمن له علاقة بالنظام كاي رهينة او اسير وقد تتراوح مدد اعتقالهم الى العشرين عام وحتى الثلاثين عاما،ولعله منذ السبعينات هناك رهائن لدى الطرفين. على اية حال فانا متسرع وشرس على الحق وكما اسمي نفسي"دريع" اتصرف مع الاخر كما لو اني صاحب عقدا معه على اخلاقيات الملائكة،وابدا بمناقشته كما لو انه يمتلك نخوة وشرف سياسي وعدل وحق..فصرخت بقضية داود في كل مكان وبعدها كتبت قصة قصيرة بعنوان"لغم في شكل وردة" وهي تتحدث عن فدائي عربي كيف تلاحقه المخابرات في العواصم العربية لتستكمل الحساب الاسرائيلي الذي نجى منه،وبالتالي يسد دينه نيابة عن اسرائيل للعرب رافعي شعار تحرير فلسطين ،والاغرب انه يسجنوه ويشوهوه ويعذبوه باسمها وبفكرتها فيما جسمة محشوا بالحديد والندوب والجروح ويسير اعرجا فقد بعض اعضائه!!فالامم التي تحترم نفسها تحترم مقولاتها المتجسدة بافعال واشخاص،وبعضها ينصب التماثيل لابطاله ويكرمهم،اما نحن ننصب لابطالنا المشانق والزنزانات او ننصب لهم فخاخا اخلاقية،ولعلي شكوت الامن السوري عن فتاة كانت تحبني وتلاحقني مستبقا فخاخ الامن،لاني كنت اتصور انهم بعثوها ورائي لتشويه سمعتي،وتبين الامر انها فتاة بريئة كانت معجبة بي فيما ظننت انها وقيعة جديدة كلفتني خوفا وارقا وكميات من الحبوب المهدئة!!هكذا العرب جعلونا نشك حتى بالحب وبقيمه السامية بعد ان حولوها الى مصايد واستخدموا النبل في العلاقات الانسانية الى اقبح صورة.نفس هذه الحادثة حدثت في تونس معي وتصرفت بذات الشيء وقد فقدت فرصا حميمة بسبب ان فنون القبح والمخابرات دخلت في انظمة الحب وعاثت باسرة نومنا فسادا ورعبا،فثمة من ماتوا وقتلوا لهذا السبب،ولن ينتهي الامر بي الى هذا الشك حيث استفحل في ادق لحظاة الامان والرومانسية فرجال الاستخبارات والاجهزة دائما في الجوار يقطعون القبلة بشفرات السكين. مضت فترة وجيزة فاستدعيت من رجال المخابرات السورية واستدركت حينها انهم يريدون اهانتي وتجريدي من لباس الشهامة والشرف السياسي والنخوة ،ويحاولون تشويهي وذلك بتنسيق مع من وقفت بوجههم في قضية داود المغدور،اذ اصبحت فضيحة واصبحت مزعجا على بعضهم معتقدا نحن نريد اقامة البديل الامن ضد حكم غادر!!وكالعادة احدثت قيادة قطر العراق بعض التغييرات موحية انها تعاقب شخصا ما،لان العرب وراء كل فضيحة هناك كبش فداء،وهكذا كان كبش الفداء هذا قد برمج مع المخابرات قضية استدعائي،معتقدا باني ساقبل المهانة والذل.وكعادتي القديمة اذهب الى اقرب صيدلية لشراء ما يكفي من المنومات للانتحار واسرب للمعنيين بالامر.ولكن مع اني اضع هذا السلاح بجيبي ذهبت لمقر المنظمات الشعبية العراقية وصرخت هناك بان الذي سيذلني لم يخلق بعد،فانا فدائي وساذهب الى المكان الطبيعي حيث قدري ان اعيش اما ميتا او قرب سلاحي في امة لم تصان بها الكرامة ولم يصان بها السلام،ومن يدعي تحرير فلسطين ليتبعني وكانت نوبة عتاب وصراخ وكبرياء حول ان العراق لا ينحني للعلوج..تدخل بعض الاصدقاء ومنهم فريد الزبيدي وابو الهدى طالبين مني و مرددين وصية السيد حازم الكبيسي الذي اوصاهم ان الامر مجرد سؤال !!كذلك السيد فوزي الراوي الذي احترمه وانا مدان بحياتي له،يوم اخرجني من اعدام محقق في سجون احد المليشيات اللبنانية عن طريق الوزير والزميل الصحفي السابق عبد الله الامين..ولكن الحقائق تقال وان تكسرت العاطفة بها واندمل القلب الما على احبة في الضدين في المكانين المتخالفين،اذ تبقى الميول للعدل والحق،مع كل ما كنت اواجهه من حفاوة واحترام وتقدير من المذكورين،لكني اتخلى عن شرفي ولا اتخلى عن حق الاخ داود البصري الذي غدر به وأصبحت قضيته قضية كبيرة ربما تداعياتها اطاحت بقيادة السيد جبار الكبيسي ناهيك عن اعمال مشينة وفضيعة بحق العراقيين،فكم اخشى الطغاة ان كانوا صغارا احداث نعمة؟.
بعد ما يقارب على 27 عاما زرت غريمي لبيته منتصرا على احقادي وذاكرة المكائد وكالعادة سقطت دموعي وهو يستقبلني في منفاه الاوربي،فهناك ذكريات تستحق ان تغلب الغيوم السوداء،مودة محبة هي الاكثر لكن الشر اذا دخل،مع قلته سينسف كل شيء لكني اتذكر تلك الايام الخوالي السارة مع صديقي الذي لست متاكدا وحتى الان عن كونه لعب دورا في رحلة عذابي ام لا؟انا اتنازل عن حقي واقول لا.. فلا وقت عندي للكراهية لاني اريد ان اعيش ببيت بلا حراس وانام بلا ارق..فتلك اقراص المحبة.لكني احترم غضب الاخر واحترم اسلوبه في الحاد واتفهمه،ولا اريد ان اعمم اسلوبي لانه معبدي الشخصي واكره الدعوة والدعاة الى فكرة ما قبل ان تصبح ماثرة ملموسة حقيقية. اذ ما زلت بحاجة لدروس محو الغضب كي اتسامح حقا مع قاتلي وجلادي،ولن اعمم ذلك. جلست في بيت غريمي وحتى الان لم اساله لماذا سلمتني انت ورقة استدعاء المخابرات السورية التي احتفظ بها حتى الان،لاني لا اريد ان اراه منكسرا او اشاهد ذل او حياء رجلا أمامي،فهذا مشين في نفسي ولن اتقبله..وحتى الان بقي استدعائي لغزا،مع اني هرجت كثيرا وسط نظام حديدي،لكني سالته عن قضية داود فقط كانت الاجابة نفسها،وهي طريقة ربما تصلح في ازمنة قديمة جدا كي تكون مقنعة.
المهم لقد جاوز الالم مساحاته المناسبة وفاض الى حدود قصية في رحلة تيهنا،وعلى ما اعتقد انها حكاية لا تنتسب لاي لغة سياسية او فكرة منطقية،بل تنتسب الى مداميك توليدية لروح المثيولوجيا،واعاصير الغيب الغريبة وهي تعصف برياحها من مكان لاخر،وهذا ما علمني ان انتسب لتلك الصروح العالية من المنهج المثيولوجي وابحث في اي تفصيل عن حلول خارج المنطق وخارج المالوف،فيما انظر للوقائع نظرة الشافق على حالها،لانها ليست الملامح التي تشبه العراق،انما تشبه الغربة ،كما لو اننا ادوات تعذيب بعضنا!اليس هذا واقعا غير معقول؟ اذن سانتسب للمعقول ولن اكن اداة لتعذيب حتى اولئك الذين عذبوني.كم تدفع لي لاكرهك؟ انه سؤال صعب لطالبي الكراهية لانها اكثر كلفة من الحب!