|
سماسرة الاتصالات يجهزون على ما تبقى: قانون الطوارئ المالي في التلفزيون السوري
محمد منصور
الحوار المتمدن-العدد: 1242 - 2005 / 6 / 28 - 09:29
المحور:
الصحافة والاعلام
بدأ التلفزيون السوري منذ أسابيع قليلة ببث برنامج يومي اسمه (غنيلي) البرنامج المذكور ليس برنامجا على الإطلاق، إنه نسخة مجتزأة من بث المحطات الغنائية التافهة: أغاني فيديو كليب موصولة ببعضها بعضا، مع شريط إهداءات رسائل موبايل للمراهقين والمراهقات! التلفزيون السوري الذي كان يعمل ضمن منظومة شعارات تؤكد أنه ينتمي إلى فصيلة الإعلام الرصين والهادف... صار مضطرا لمجاراة أسوأ أشكال البث الفضائي وأكثرها سخفا وتفاهة... والسبب ليس الرغبة في كسب الجمهور بل كسب النقود وإيجاد مصدر دخل لتمويل برامج أخرى. إن مشكلة أي برنامج يجري التحضير له في التلفزيون السوري اليوم بقنواته الثلاث... هي في الأساس مشكلة مالية... فبعد أي موافقة على أية فكرة تجد المشكلة المالية قائمة في كل مجالات العمل.. والمسألة لا تنعكس على العاملين في البرنامج فقط بل تنعكس على الشاشة.. وعلى عناصر البرنامج البصرية من ديكور وإضاءة وغرافيك وسوى ذلك... وقد وصل الأمر بإدارة التلفزيون السابقة والحالية إلى تكليف معدي ومخرجي البرامج بالبحث عن راعي إعلاني ولو بشكل شخصي من أجل تمويل البرامج، وإلقاء عبء تكاليفها على الراعي الإعلاني الذي يدفع أجور العاملين وأجور التصنيع وأجور الإشراف لمدراء التلفزيون ليكتفي ببضعة دقائق إعلانية تطول أو تقصر! لكن الاندفاع الإعلاني نحو رعاية البرامج في أي محطة يرتبط عادة بمدى قوة مشاهدة تلك المحطة واتساع رقعة جمهورها، حتى تتسع رقعة انتشار الإعلان الذي سيبث في هذا البرنامج أو ذاك... ولهذا انصرف الكثير من المعلنين عن برامج التلفزيون السوري لأن التلفزيون السوري هو تلفزيون غير مشاهد ببساطة... وسبب تراجع جمهوره له علاقة بالعقلية الإعلامية الأمنية التي داست حرية الإعلام تحت أقدامها، وهجرت الإعلاميين البارزين فتوزعوا على المحطات العربية، وأفسحت المجال واسعا أمام البعثيين والمنافقين والمتزلفين الذين يعتقدون أن التلفزيون سلطة وأن المشاهد عبدا لشاشتهم وبالتالي لا يجرؤ على الاعتراض على كل ما يقدمونه على هذه الشاشة من كذب ونفاق وتزوير لآلام الناس وأوجاعهم.. باختصار خسر التلفزيون جمهوره وصار المعلن يعد للألف قبل أن يتورط في رعاية برنامج مقابل ترويج إعلاني.. لكن بالمقابل ظهرت أنواع أخرى من الرعاية... أنواع تعتمد على الاستثمار وعلى تحويل الشاشة إلى مصدر رزق مباشر لوسطاء وسماسرة معظمهم من أبناء المسؤولين في الدولة... وليسوا معلنين أو أصحاب مهن... وهؤلاء يعملون على الطريقة التالية: يأتي ابن مسؤول، فيؤسس شركة اتصالات... لا تعرف منها سوى مجموعة سماسرة صغار يجوبون أروقة التلفزيون بأطقم وربطات عنق، وبابتسامات لزجة، ويعقدون الاجتماعات مع المدراء لرعاية هذا البرنامج أو ذاك.. أما رأسمالهم فهو حجز رقم موبايل رباعي من شركتي الموبايل في سورية، ثم وضعه قيد الاستخدام في البرامج التي يجب أن تتضمن مسابقة أو تصويت حصري عبر أرقام الموبايل الرباعية تلك التي تتضاعف فيها قيمة دقيقة المتصل خمسة مرات... وعندما تأتي إيرادات المتصلين تسدد الشركة ما عليها لشركتي الموبايل، ثم تعطي التلفزيون نسبة من الأرباح وتأخذ نسبتها! هذا الشيء يمكن أن يفعله التلفزيون السوري بنفسه بدل أن يركب على ظهره أولاد المسؤولين عبر شركات خلبية تريد أن تحشر نفسها لتجني الأرباح من دون أي رأسمال تحتاجه أو تخشى أن تخسره.. ولكن لا أحد يريد أن يطرح السؤال لماذا يصر التلفزيون أن يكون تابعا لشركات أولاد المسؤولين... ولماذا يصبر التلفزيون عندما تتلكأ هذه الشركات في تسديد حصته المالية حتى بعد انتهاء بث تلك البرامج.. أو لماذا يسكت التلفزيون على تسديد تلك الشركات لحصته بالقطارة وبالتقسيط المريح.. دون أي غرامات تأريخ.. مع أن النظام المالي السوري المطبق على المواطن السوري من فاتورة المياه حتى فاتورة الهاتف.. لا يعفيه أبدا من غرامات التأخير! إذا غياب المعلن الذي يمكن أن يرعى البرامج مقابل دقائق إعلانية تروج لأسماء شركاته ومنتجاته، ودخول المعلن الذي يتسلل إلى جيوب المشاهدين عبر إغرائهم بالاتصال عبر الموبايل للمشاركة في مسابقة أو سوى ذلك.. وبالتالي الإضافة لرصيده المالي بدل أن يضيف هو لرصيد البرنامج.. غياب المعلن الحقيقي وحلول سمسار الاتصالات الذي لا يطلب أن تعلن اسم شركته عبر التلفزيون لأن ما يهمه هو استجرار المشاهد للاتصال.. كل هذا أدى إلى أن البرامج التي يمكن أن تحظى بالرعاية يجب أن تتضمن فقرة اتصالات عبر الموبايل حصرا.. وبالتالي أصبح على التلفزيون السوري أن يفصل برامجه لخدمة شركات السمسرة والاتصالات هذه، لا لتحسين أدائه البرامجي.. وقد بلغت الصفاقة بأصحاب هذا المنطق، أن عقدوا اجتماعا في إذاعة دمشق، لتحويل فقرة شكاوى المواطنين الهاتفية... إلى فقرة ترعاها شركة اتصال على أن يتم اتصال المواطن لبث شكواه عبر الموبايل حصرياً وأن تحسب الدقيقة بخمس أضعاف سعرها الأصلي.. إلا أن عددا من الإعلاميين الذين حضروا الاجتماع قد انتفضوا محتجين... وهم محقون في ذلك.. لأن هذا الاقتراح يعني أننا لا يجب أن نستغرب مستقبلا أن يصبح الاتصال بسيارات الإسعاف محصورا بأرقام موبايل رباعية ترعاها شركة اتصالات... تأخذ نسبتها من كل طالب استغاثة... فأي عار وصل إليه هذا الإعلام الرسمي السوري الرصين والجاد الذي كانت الدولة تمن على المواطنين طيلة الثلاثين سنة الماضية بأنه إعلام ثوري هدفه خدمة الجماهير! وليست هذه هي كل معطيات المشكلة المالية في التلفزيون.. فهناك آليات يصح أن يطلق عليها (قانون الطوارئ المالي) تجعل من المستحيل على التلفزيون أن ينهض برامجيا... وهذا القانون اخترعه بعض مستشاري السوء في الإدارة والمالية المختصة... حين سنوا قانون نصب واحتيال على العاملين في التلفزيون السوري وهم أكثر من خمسة آلاف موظف في مهن فنية وإدارية مختلفة... أسموه (السقف) فمن المعروف أن العاملين في المحطات التلفزيونية يتقاضوا أجورا على البرامج التي ينجزونها حتى لو كانوا موظفين... وذلك لأن آلية العمل التلفزيونية تستغرق وقتا طويلا لا يحده دوام رسمي.. وإذا قارنا أجور العاملين في التلفزيون السوري لوجدنا أنها لا تساوي عشر ما يدفع في محطات أخرى.. لكن بسبب كثافة العمل فقد تكبر تعويضات العمل البرامجي فتصبح قادرة على سد الاحتياجات المعيشية للموظف أو الفني التلفزيوني (القاعدة السائدة في سورية، أن راتب أي موظف وتعويضاته لا يجب أن تسد احتياجاته المعيشية) وللحد من ذلك سن بعض مستشاري السوء قانون (السقف) الذي يعني أن تعويضاتك يجب أن لا تتجاوزا الثلاثمائة أو الأربعمائة دولار أميركي.. وإذا ما كان هناك طلب على مخرج أو مونتير متميز في عدد من البرامج.. فقد يخصم خمسين من المائة من تعويضاته البرامجية زورا وبهتانا لأن السقف لا يسمح له أن يأخذ أجره كاملاُ، مع أنه يدفع الضرائب المستحقة عليه للدولة سواء بلغ السقف أم يبلغه! وهكذا ساوى (السقف المالي) بين البرامجي الجيد والبرامجي الرديء.. وأصبح ضريبة مضافة على العاملين في التلفزيون من قبل جهابذة النفاق ومستشاري قوانين تسويد عيشة المواطنين.. أما المحصلة الإعلامية فهي أن السقف صار سقفا للمهنية.. فأي صاحب اجتهادات سوف يصطدم بالسقف، وأي متحمس للعطاء بلا حدود سوف يصطدم بسقف يضع له وللعاملين معه كل الحدود... باعتبار هذه الحدود جزءا من قانون طوارئ مالي يضعك أما ثلاث خيارات: إما أن لا تعمل إلا بما يسمح به السقف.. أو أن تعمل بالمجان... أو أن تلجأ لشركات الرعاية الإعلانية لتدفع لك أجورا خاصة تتجاوز السقف بقليل... لكنها تندرج تحت سقف لعبة الاتصالات والسمسرة والضحك على ذقون الناس.. وتسفيه معارفهم من خلال اختراع مسابقات غاية في السخف ليس هدفها إثراء معلومات المتصل وإنما تشجيعه على الاتصال وكفى! إن هذه الصورة المضحكة المبكية للوضع المالي الذي يدفع التلفزيون السوري لإعلان حالة التسول فعلا... ليست مسألة إدارية أو مالية تهم مجموعة من المختصين بهذا الشأن أو العاملين في التلفزيون السوري كما قي يتصور بعضهم.. إنها في المحصلة تعكس الصورة الإعلامية التي تظهر على الشاشة أخيرا... وهي تعكس حقيقة أن الدولة الشمولية التي وضعت يدها على الإعلام طيلة ثلاثين عاما.. لم تنجح بتطويره لا إعلاميا ولا جعله رابح ماديا... فهذا الإعلام الذي انصرف عنه المشاهد، وانصرف عنه المعلنون هو خاسر ماديا ومعنويا... وهذا الإعلام الذي أصبح مضطرا أن يضع شعارات الرصانة جانبا لم يكن مقنعا في شعاراته يوما، ولا هو مقنع حين يبرر لنفسه أن يخون شعاراته.. وهو يؤكد أن دولة التقدم والاشتراكية التي كان يقودنا إليها حزب البعث العربي الإشتراكي تنتهي إلى مؤسسات خاسرة ماديا ومعنويا، لا تصلح لا لصنع دعاية مقنعة للنظام السياسي التي تنتمي إليه ولا للدفاع عنه من جهة، ولا لتحقيق الربح التجاري من جهة أخرى. إنها مؤسسات صالحة فقط لضخ جيوب أولاد المسؤولين عبر منافذ سمسرة تقتات على الانهيار الإعلامي والبرامجي.. إذ لولا هذا الانهيار هل تقبل محطة في العالم بتشجيع السمساسرة على نهبها ونهب العاملين فيها، ونهب مشاهديها بلا أي قيود أو شروط!
#محمد_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صحيفة رسمية سورية تتهم نشطاء حقوق الإنسان بالعمالة: لكنه ضحك
...
-
في مجابهة تطلعات التلفزيون السوري نحو المهنية: بثينة شعبان و
...
-
الحرية لحسين العودات ورفاقه... ولنا!
-
الحرية لعلي عبد الله: السيد رياض نعسان آغا هل كنت تضللنا؟
-
كيف أكتب تقريرا أمنياً بنفسي
-
الظواهر الجنسية عند العرب!
-
كيف يقرأ المسؤول العربي النقد بعقلية تآمرية!!
-
مهرجان لاينافسنا فيه أحد
-
الوطن: حقوق أم شعارات
-
رسالة مباشرة إلى مسؤول أمني
-
لماذا يشعر المواطن السوري بالقرف من الحياة؟!
المزيد.....
-
الأكثر ازدحاما..ماذا يعرقل حركة الطيران خلال عطلة عيد الشكر
...
-
لن تصدق ما حدث للسائق.. شاهد شجرة عملاقة تسقط على سيارة وتسح
...
-
مسؤول إسرائيلي يكشف عن آخر تطورات محادثات وقف إطلاق النار مع
...
-
-حامل- منذ 15 شهراً، ما هي تفاصيل عمليات احتيال -معجزة- للحم
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية مسؤولين في -حماس- شاركا في هجوم
...
-
هل سمحت مصر لشركة مراهنات كبرى بالعمل في البلاد؟
-
فيضانات تضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية ورجال الإنقاذ ينتشلون
...
-
ليتوانيا تبحث في فرضية -العمل الإرهابي- بعد تحطم طائرة الشحن
...
-
محللة استخبارات عسكرية أمريكية: نحن على سلم التصعيد نحو حرب
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|