نور الدين بدران
الحوار المتمدن-العدد: 1241 - 2005 / 6 / 27 - 10:44
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تحية عاطرة
مرة أخرى أتمنى عودتك وعودة جميع المنفيين بسبب آرائهم من مختلف المذاهب والمشارب الفكرية والسياسية،من المنافي وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، مادام سلاحهم الفكر والحوار والاعتراف بالآخر ورفض بل إدانة العنف، وليس لدي أي موقف مسبق من أي إنسان وبالأخص من مواطنيّ، ولا أرى أفضلية لسوري على آخر إلا بخدمته وإخلاصه لسوريا حديثة عصرية ولها مكانتها بين الأمم.
قلت في رسالتي الأولى والآن أشدد على أنني أعتز بالحقبة الديمقراطية القصيرة والموءودة( المجهضة بالأصح)من تاريخ سوريا، والتي جمعت جميع الأطياف السياسية تحت قبة برلمانها من شيوعيين وبعثيين وإخوان مسلمين، وأتمنى عودتها بشكل أرقى وأحدث وفق متطلبات الوقت الحالي، وولوج الحالات الجديدة التي أفرزها التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي، ولكني أشدد على شرط أساسي ووحيد هو رفض العنف، وبعد ذلك فلتكن الأفكار ما كانت، فهذا (طبيعة الأفكار)لا يعدو أن يقربني منها أو يبعدني.
إن من قصدتهم في رسالتي السابقة هم الذين مارسوا الإرهاب والعنف، طليعة مقاتلة أو غيرهم من المسميات، وأتكلم هنا كشاهد عيان لمرحلة ولذلك لا تهمني المراجع عن تلك المرحلة، فقد حدث أني كنت رغم حداثة سني "ضيفاً" على فروع الأمن في حمص ودمشق، ورأيت كيف كان التعامل معي ومع الجميع في البداية بمن فيهم الإسلاميون، ولا أريد الآن أن أقوم بدعاية للأجهزة الأمنية في تلك المرحلة، إنما لم يكن التعامل عموماً قاسياً أو دموياً كما آل إليه بعد التحرك العنيف والمسلح الذي نهجه رفاق وتلامذة مروان حديد، حيث جروا على أنفسهم وعائلاتهم وفيما بعد على المجتمع السوري المسالم ويلات ومنحوا الساديين في الأجهزة الذريعة الذهبية(وكأن هؤلاء كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر) لإرواء غرائزهم وحيّدوا المسالمين في تلك الأجهزة إن وجدوا لفترة ثم ألهبوهم وجعلوهم كغيرهم، وهذا واقع أولاً.
وثانياً الحقيقة التي تقول :" أن العنف يولد العنف" وجدت ترجمتها الفعلية في سلوك الطرفين، وعلي هنا أن أؤكد أن النظام السوري،حتى بأقسى أجهزته في تلك المرحلة(قبل انفجار العنف) كان يتعامل مع المعارضة اليسارية بتضييق أشد ويتساهل عموماً مع الحالات الإسلامية،سواء في الفروع الأمنية أو في الشارع أو عبر وسائل الإعلام وفي الوقت الذي كانت مدارس تحفيظ القرآن وأشرطة الدعاة الإسلاميين والمساجد تنتشر بحرية تامة،منع النظام كتاب المرحوم بوعلي ياسين(الثالوث المحرم) سنوات طويلة، ولم يفرج عنه ويسمح بتداوله إلا بعد انفجار العنف، وهذا مثال فقط.
ليس دفاعاً عن النظام ولا انحيازاً ضد مروان حديد، وإنما كشهادة : ليس النظام الذي جر مروان حديد إلى العنف، بل مروان حديد هو الذي قام بذلك، وإلا لماذا لم ينجر البقية الباقية من المعارضة الاسلامية أو غير الإسلامية إلى مواقع العنف؟ وقد حدثني أحد الحمويين من معارف مروان حديد أنه حين بدأ يعد العدة لمشروعه الانتحاري المسلح، وصل الخبر إلى الشيخ الجليل والشاعر المرهف المرحوم بدر الدين الحامد، فحاول الشيخ ثنيه عن مشروعه بقوله:" يا مروان أنت ترمي بنفسك وإخوانك إلى التهلكة، وليس عن حق" ومع أن الشيخ ليس من مؤيدي النظام وله ماله من الموقع الأدبي والديني، فلم يستطع منع مروان حديد من غروره وجهله.
ولنفترض يا سيدي جدلاً أن النظام هو الذي جر حديداً إلى العنف، فهذا لا يبرر جرائم حديد وجماعته و لا حتى خطيئة الانجرار نفسها، حتى إذا حاكمنا المسألة على أساس المنطق والشرع الإسلاميين، فمن المفروض أن يكون لكل مسلم في نبي الإسلام أسوة حسنة، وقد تفضلت بردك وذكرت ما تعرض له الرسول من إساءات ولكنه لم ينجر إلى منطق وسلوك المسيئين، وهناك حديث ينسب للنبي نفسه:" الإساءة لا تمحى بالإساءة" وسواء كان هذا الحديث صحيحاً أو لا، فإنه في نظري حكمة ودرس وقاعدة أخلاقية، ولهذا بقدر ما لا أبرر للسلطة أفعالها حيث يتشدق المدافعون عن تلك الأفعال بأن مروان وجماعته جروها إلى تلك الأفعال، فإني لا أبرر للإرهابيين الإسلاميين أفعالهم، وإني أدين الطرفين ولا أكون بذلك أضع الضحية والجلاد في موقع واحد، لأني أدين الجلادَيْن فقط، أما الضحية المشتركة لهما فهي المجتمع ولاسيما الأبرياء.
إني أدين الجلاد الأول الذي أساء للإسلام وتعاليمه السمحاء، وأدين الجلاد الثاني الذي أساء لمنطق الدولة والقانون والدستور، وبتخلي الجلادَيْن عن المنطق والقانون وترك الأمور للرعناء واللجوء إلى الإرهاب والعنف ولا مبالاتهما بالوطن الذي يتمزق أو كاد يغوص في حرب أهلية من أقذر الحروب(الطائفية).
مرة أخرى ما لم نقف بجرأة وصدق مع الذات والآخر ونتفحص الوقائع فلن تمنعنا رغباتنا حتى لو كانت صادقة بعدم الوقوع مرة أخرى فيما هو أسوأ.
وأنا أقبل ما يقبل به الشعب، ولا شك بأن هذه ديمقراطية، ولكن ما قصدته بعمومية الجملة هو أن لا أحد يختلف عليها حتى الذين هم في جميع السلطات العربية، يعتبرون أنفسهم ممثلي سلسلة التسعات المشهورة كهتلر.
لكنك – وأشكرك – بينت لي شيئاً ملموساً وهاماً : أنك لا تصر على دولة إسلامية، وهذا بالنسبة لي مطمئن، ولا حاجة للقول أني أحترم جميع العقائد، بقدر ما أرفض جميع الدول العقائدية، حيث لا يسيء إلى العقيدة شيء كالدولة، والدولة الإسلامية لم تتكون في عهد النبي محمد الذي وضع حجر الأساس لبناء أمة على أساس العقيدة،ولكن المنية عاجلته قبل تكون الدولة التي بدأ الخليفة أبو بكر بتشكيل نواتها، وللأسف كان قوام تلك النواة حروب الردة،هذه الحروب التي شهدت أولى التعارضات بين العقيدة:" من شاء أن يؤمن فليؤمن ومن شاء أن يكفر فليكفر" وبين الدولة التي شرعت بل مارست القتل لمن شاء أن يكفر وهو الحق الذي منحه القرآن(العقيدة) للناس، وهنا يمكن أن ندخل في نقاش آخر وطويل جداً، ولكنك كباحث تعرف أن الدولة الإسلامية لم تبدأ بالتبلور كدولة إلا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ولم تأخذ شكلها ومضمونها كدولة مكتملة الأجهزة إلا في العصر الأموي، وفي جميع هذه المراحل، كانت العقيدة تتراجع والدولة تتقدم بوسائلها القمعية في جميع مناحي الحياة اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وهذا المنطق في تطور الدولة، لا يخص الدولة والعقيدة الإسلاميتين وحسب، وإنما جميع الدول العقائدية، فالدولة البلشفية كانت في البداية تسمح بالتكتلات ضمن الحزب البلشفي وخارجه، وسمحت لأحزاب أخرى (الاشتراكيين الثوريين وغيرهم) بالمشاركة في الحكم، ولكنها مع ستالين أصبحت أو بدأت تصبح أكبر دولة بوليسية قمعية في التاريخ الحديث، وأيضاً هذا يحتاج إلى نقاش مستفيض ليس هنا مكانه،لكن الجوهري في الأمر أن نترك الماضي للماضي، وألا نخلط بين العقيدة والدولة، وبين النبي والخلفاء بل أن نتجه إلى الحاضر والأفضل أن نكون أبناء اليوم وليبق الماضي ذكريات شخصية تلهم من تلهم وتنبه من تنبه، وتعظ من تعظ، ولكن ينبغي إخراجها من دائرة الحاضر، وأعتبر تصريحك ذلك ( عدم إصرارك على دولة إسلامية)كافياً.
أخيراً من وجهة نظري كلنا نحاول أن نكون ديمقراطيين،أو دعني أعترف بصراحة: أنه بما يخصني لا أستطيع الادعاء بأني في أكثر من طور المحاولة، فالديمقراطية تربية وثقافة وحياة، وأنا رضعت حليب الاستبداد ولعبت في شارع الاستبداد ودرست في مدارس الاستبداد وعارضت سلطة الاستبداد في صفوف الاستبداد، وحين قرأت تاريخ أجدادي من خليفة إلى خليفة لم أر سوى صحارى الاستبداد، وإن وجدت نخلة هنا أو واحة هناك فهي أحداث فردية ومنعزلة وليست سوى استثناء يؤكد القاعدة وبكل أسف.
إني أرى الديمقراطية بعيدة عنا بعد صندوق الفرجة( صندوق الدنيا) عن التلفزيون، وبعد البعير عن الطائرة وبعد الورّاقين عن الكومبيوتر، ومع ذلك أحاول وأحييك وأحيي جميع من يحاولون.
#نور_الدين_بدران (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟