الصيغة الفيدرالية للحكم ضمان لوحدة الدولة العراقية - كردستان العراق نموذجا
الدكتور منذر الفضل -أستاذ القانون المدني - جامعة بغداد
محاضر على طلبة الماجستير والدكتوراه وطلبة المعهد القضائي
رئيس قسمي القانون العام والخاص - جامعة الزيتونة الأردنية - ( سابقا )
http://home.bip.net/alfadhal
مقدمة
من المعلوم في فقه القانون الدولي أن الدول على أنواع متعددة ويتقرر نوع الدولة حسب ظروف وعوامل كثيرة , والاتحاد الفيدرالي أو نظام الدولة الفيدرالية Federalism هي واحدة من أنواع الدول في العالم ومثالها كندا و ماليزيا و الولايات المتحدة الأمريكية و سويسرا و الهند وغيرها.وللاتحاد الفيدرالي أسباب أو مبررات عديدة غايتها الأولى صنع التعددية و المشاركة الفاعلة الحقيقية في الحياة السياسية بصورة ديمقراطية و عادلة بعيدا عن التفرد في الحكم وحكر السلطات بيد شخص أو مجموعة تنتهك القانون وتهدر الحقوق .ذلك لان حكم الفرد يقود دائما إلى الأخطاء و المشاكل والظلم بينما تؤدي المؤسسات في ظل حكم الجماعة دورها بصورة افضل واكثر عدالة في ظل القانون والرقابة الدستورية .
ولاشك أن النقل الحرفي للتجارب أو لمؤسسات الحكم أو للقوانين هو غير سليم وهو من الأمور البديهية إلا انه لا يمكن للشعوب أو للدول أن لا تتأثر و تؤثر في الحياة , فالتفاعل ودراسة تجارب الآخرين ومعرفة الأخطاء تشكل مدخلا لنجاح أي تجربة أو فكرة قد تبدو جديدة أو غريبة نوعا ما . وفيما يخص الفيدرالية لابد من القول أن هناك فرقا بين الحكم الذاتي . الفيدرالية – الاتحاد الفيدرالي الاختياري للولايات داخل الدولة الواحدة. حق تقرير المصير والاستقلال السياسي في الانفصال بكيان مستقل .
فالحكم الذاتي هو تمتع قومية معينة بحقوق ثقافية و سياسية في إطار الدولة الواحدة حيث يكون للمناطق و الأقاليم الذي تسكنه أغلبية من تلك القومية هيئات أو مؤسسات محلية في إدارة هذه المناطق مع مراعاة خصوصية السكان القومية في اللغة و الحقوق الثقافية و السياسية . ومثال ذلك ما حصل في العراق مع الكرد في كردستان العراق في بدايات تطبيق بيان آذار عام 1970 طبقا لقانون الحكم الذاتي لعام 1970 وطبقا للدستور العراقي الصادر في العام ذاته.غير أن الواقع العملي كان مختلفا تماما عما كانت تنص علية القوانين والدستور .إذ لم تمض إلا سنوات معدودة حتى انهار الحكم الذاتي الذي كان متفقا علية بسبب نكث العهود بفعل إخلال السلطات العراقية آنذاك. بينما كان القانون المذكور قد شكل مدخلا صحيحا في تنظيم العلاقة بين الشعب الكردي والشعب العربي في إطار الوحدة الوطنية للشعب العراقي في الدولة الواحدة لولا أخطاء النظام .
أما الفيدراليةFederalism فهي استقلال داخلي ضمن الدولة الواحدة والسلطة المركزية الفيدرالية وعلى أساس المساواة .وطبقا للنظام الفيدرالي يكون لشعب الإقليم حق الاستقلال الذاتي و حق المشاركة في إدارة الشؤون المركزية ومثل هذا النظام موجود في أمريكا و سويسرا و المكسيك وماليزيا وغيرها من الدول . ولهذا يمكن القول في أن الفيدرالية هي صيغة متطورة للعلاقة بين الشعوب وهي تنظيم في إدارة الدولة . ولذلك فهي تختلف عن حق تقرير المصير لان
حق تقرير المصير هو مبدأ سياسي يقوم على أساس (( حق الشعوب المضطهدة في تقرير مصيرها أي التحرر من الاستعمار و السيطرة وتأسيس دولة مستقلة ذات كيان سياسي مستقل )) ذلك لان الشعوب متساوية في الحقوق وهو ما حصل مؤخرا في تيمور الشرقية طبقا للانتخابات التي جرت برعاية الأمم المتحدة وهو ما تسعى له الصحراء الغربية في المغرب العربي في الاستقلال عن المغرب .ومن الطبيعي إن يكون للشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره وفي إنشاء دولته المستقلة التي عاش فيها منذ آلاف السنين ووفقا لقرارات الشرعية الدولية.
وقد نص ميثاق الأمم المتحدة على وجوب احترام مبدأ حق تقرير المصير بشكل مباشر في المواد 1 و 55 وبصوره غير مباشرة في المواد 73 و 76 لذلك فان الشعوب الواقعة تحت الوصاية في إقليم معين تستطيع أن تحكم نفسها وتستقل سياسيا في كيان مستقل .كما جاء حق تقرير المصير في قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة إذ صدرت هذه القرارات الكثيرة في مناسبات متعددة من الجمعية العامة للأمم المتحدة في حق تقرير المصير و حرية تكوين الكيان السياسي المستقل لاسيما ما يخص حق الشعب الفلسطيني .وهو حق ثابت كذلك للشعب الكردي يقرره الأكراد في كردستان العراق بإرادتهم الحرة ويجب احترامها.
وحق تقرير المصير إنما يقرر للشعوب غير المتمتعة بالحكم الذاتي وتعاني من الاضطهاد أو هي خاضعة تحت الوصاية الدولية ودعما للأمن والسلم الدوليين تحصل الشعوب على حقها في تقرير المصير في إنشاء كيان مستقل حينما يستحيل العيش المشترك بين الشعوب . وغالبا تكون هناك حركة تحرر وطنية في الإقليم تطالب بالانفصال. كما جاء حق تقرير المصير في العهدين الدوليين لحقوق الإنسان أيضا .
ونضيف أن حق تقرير المصير ينطوي على جانبين هما
أولا - حق الاتحاد الاختياري الأخوي في كيان واحد ودولة واحدة أي حق العيش المشترك باتفاق رضائي تتحدد الحقوق و الواجبات في الدستور و القانون وهو ما اختاره الشعب الكردي في كردستان العراق مثلا في قرار المجلس الوطني لكردستان العراق في 4-10-92 حين اختار الفيدرالية في انتخابات حرة وديمقراطية نمطا لتنظيم العلاقة بين الكرد في إقليم كردستان والدولة العراقية المركزية .
ثانيا - الانفصال و تأسيس كيان مستقل أي دولة مستقلة مثل تيمور الشرقية وحق الشعب الفلسطيني في تأسيس دولته المستقلة .
المبحث الأول- الفيدرالية تجسيد للأسس الديمقراطية في الحكم و الإدارة لدولة القانون
أن النظام الفيدرالي يحقق التوازن بين السلطة المركزية والسلطات المحلية لكل ولاية فيكون للحكومات المحلية للأقاليم تمثيل في مركز القرار في السلطة المركزية كذلك إلى جانب الإدارة الذاتية للإقليم مما يحقق التوازن في العلاقة و يوسع المشاركة في إدارة الدولة ويلغي دور الفرد في الحكم بل أن الاتحاد الفيدرالي يفتت دور وسلطات حكم الفرد ويوسع المشاركة للمؤسسات الدستورية ويعزز حكم الجماعة كما يكشف عن أن المؤسسات هي التي تحكم و تدير وليس الحاكم أو الفرد ولذلك تقوض الفيدرالية سلطات الحكم الشمولي . ولهذا لا يمكن أن توجد شخصنه في الحكم مع النظام الفيدرالي لان النظامين نقيضان لا يجتمعان . ولهذا نؤيد خطوات حكومة إقليم كردستان في ترسيخ اسس التعددية والبناء الديمقراطي أملين تفعيل مقومات المجتمع المدني والتي بدأت تظهر مظاهرها في إنشاء وزارة حقوق الإنسان والفصل بين السلطات في حكومة الإقليم وتفعيل دور القانون والقضاء والمشاركة السياسية وغيرها من خطوات قيمة .
و الفيدرالية هي افضل وسيلة في إدارة الدولة التي فيها اكثر من قومية أو طوائف و مذاهب وأطياف متعددة خاصة إذا كانت الحريات والحقوق معطلة كليا في الدولة ففي الفيدرالية احترام ( للتعددية القومية ) و ( للتعددية الدينية ) و (للتعددية المذهبية ) و احترام ( للتعددية السياسية ) وفي تطبيق الفيدرالية في كردستان كنموذج تعطيل كلي لدور الحاكم الفرد ولا يخفى على الجميع ما يجلبه حكم الفرد من ويلات و كوارث على الشعوب ولان حكم المؤسسات الدستورية في دولة القانون تجنب الدولة أهواء و أخطاء الحاكم الفرد ولا تسمح لظهور الطغاة الذين يجلبون على شعوبهم الماسي و الحروب و الدمار من خلال عسكرة الدولة والمجتمع . هذا فضلا عن نضال الشعب الكردي لابد من أن يتوج باحترام حقوقه الدستورية والقانونية كشريك في العراق وفي إدارة مؤسساته الدستورية والقانونية في المركز ( الحكم المركزي ) وفي الإقليم الكردي.
وفي العراق مثلا فان خيار الشعب الكردي في كردستان العراق تحدد في اختيار الفيدرالية كما أشرت منذ عام 1992 ولهذا سيكون للكرد حق في إدارة إقليم كردستان إلى جانب حقهم في المشاركة في السلطة المركزية في الدولة . وسيكون مصير الشعب الكردي مقررا من الشعب ذاته وليس من غيرهم بسبب المشاركة في حكم الإقليم وفي السلطة المركزية وبذلك تدار الدولة وفقا للمؤسسات الدستورية و طبقا للقانون .
المبحث الثاني - لماذا ترفض الفيدرالية من بعض الحكام في المنطقة ؟
للجواب عن ذلك نقول لان بعض الحكام ورثوا قيما تجعلهم يتمسكون بالدور السلطوي المركزي وفي أن تكون لهم اليد العليا و المطلقة أي التفرد في الحكم و ممارسة القمع و الاضطهاد القومي و المذهبي و إهدار حقوق الإنسان وفي إشباع الرغبات فبي الحكم الشمولي من خلال السيطرة على مقدرات الدولة والمجتمع و على الأرض و الشعب وخصوصا في الأنظمة السياسية الدكتاتورية سواء أكانت في نمط عسكري أو ديني أو حزب واحد أو عائلة واحدة أو صنم واحد . وهي سياسة خاطئة والدليل وجود المشاكل وعدم الاستقرار في هذه البلدان فضلا عن أن سياسة الاضطهاد لن تدوم لاسيما وان المبدأ الجديد للألفية الثالثة هي أن قواعد حقوق الإنسان المنصوص عليها في الإعلانات و الدساتير المعروفة للجميع هي ملزمة للدول وان من حق الأمم المتحدة التدخل لغرض إلزام الدول التي تنتهك هذه الحقوق ووضع مراقبين لذلك ولا يعد هذا الأمر تدخلا في الشؤون الداخلية للدولة التي تهدر بقسوة حقوق مواطنيها وترتكب ابشع الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية . كما لم يعد مبدأ السيادة الوطنية درعا يتحصن فيه الطغاة و المستبدون .
هذا فضلا عن أن النظام الفيدرالي يعني السماح لكل المؤسسات الدستورية أن تقوم بدورها القانوني في بناء الدولة والمجتمع وفقا للأسس الدستورية و القانونية وهو وفي توزيع الثروات الوطنية توزيعا عادلا يصب في خدمة الإنسان وفي تأسيس وبناء قواعد المجتمع المدني مما يتعارض و سلطة الحكم الشمولي الذي تتركز بيده جميع السلطات و ينعدم الفصل بين السلطة التشريعية و السلطة القضائية و السلطة التنفيذية مما يسبب التفرد بالرأي و كثرة الأخطاء و انهيار القانون و الإهدار في الحقوق .
إذا الفيدرالية هي نظام حكم لغرض إدارة أقاليم الدولة الواحدة بصورة متوازنة بين السلطة المركزية و إدارة الأقاليم أو الإقليم وبمشاركة واسعة منظمة ديمقراطية وعادلة بهدف تحقيق التطوير وانفاق الموارد على الإنسان وفي تأسيس حكم المؤسسات وليس حكم الفرد أو الأفراد ومن خلال هذا النمط في إدارة الدولة تتحقق العدالة و العدل ولذل فان الفيدرالية هي
طريقة قانونية أو أسلوب للحكم قائم على تفعيل دور المؤسسات الدستورية وليست تقسيما للدولة التي تأخذ بهذا الأسلوب في الحكم .
ما هو الدليل على أن الفيدرالية ليست تقسيما للدولة ؟
أن الأدلة التي يمكن ذكرها على أن الفيدرالية هي ضمان لوحدة الوطن و هي ضد التجزئة للدولة كثيرة حيث يمكن القول أولا أن النظام الفيدرالي يقوم على الاتحاد الاختياري و وفقا للقانون و الدستور الدائم الذي يحدد الحقوق و الواجبات لكل طرف وإذا كانت الدولة التي تختار هذا الطريق للحكم يسود فيها القانون وتحترم قواعده فلماذا الخوف من التجزئة !
ثم أن الدولة التي تختار هذا الأسلوب لابد أن تقوم على نظام المؤسسات الدستورية وحكم الجماعة في إدارة الدولة و ليس على حكم الفرد أو الأقلية مما يجعل الضمانات موجودة في تطبيق وسريان القانون و شيوع الحكم المؤسسي مما يقلص فرص الاضطهاد أو الاستبداد و الظلم وهو السبب في المشاكل .كما سيجعل توظيف موارد الدولة لخدمة أبنائها دون إهدار أو إنفاق في اتجاهات تضر بأبناء الوطن الواحد أو في إهدار الثروات أو سرقتها . غير أن الفيدرالية تقوم على تقسيم سلطات الحاكم الفرد وعدم تركيزها بيده ولهذا يقاومها الحاكم الذي لا يؤمن بالديمقراطية ولا بدور الشعوب في التاريخ والفصل بين السلطات وتعزيز دور المؤسسات .
نضيف إلى كل ذلك أن الدولة التي تختار الفيدرالية كطريق لتنظيم العلاقة بين الشعب الواحد في الدولة الواحدة تقوم على مقومات الوحدة و الشراكة في الوطن وعلى مقومات تضمن هذه الوحدة وتقف ضد التقسيم وهي مثلا
وحدة الشعب في الدولة ضمن حقوق متساوية يحددها الدستور الدائم والقوانين المختصة التي ترسم حقوق وواجبات المواطنة.
وحدة إقليم الدولة
وحدة العملة وتكون بيد السلطة الاتحادية العليا
وحدة المؤسسات العسكرية وتكون بيد السلطة الاتحادية العليا
وحدة القوانين والقضاء وتكون بيد السلطة الاتحادية العليا ولا يمنع من أن تكون للحكومات المحلية في الأقاليم دساتير مناسبة تتناسق مع الدستور المركزي للدولة الاتحادية .. وهي تتوافق معه.
وحدة التمثيل الخارجي و السفارات وتكون بيد السلطة الاتحادية العليا
وحدة العلم ولا يمنع من وجود علم لكل إقليم .
وحدة الموازنة العامة و الثروات
المعاهدات الدولية و عقد الصلح تكون من صلاحيات الدولة الفيدرالية المركزية وبمشاركة من ممثلي حكومة الإقليم أو الأقاليم.
تكون باقي الأمور الإدارية للإقليم متروكة لشؤون الإقليم و الحكومة الفيدرالية المحلية .
إذا الفيدرالية هي نظام قانوني يقوم على أساس قواعد دستورية واضحة تضمن العيش المشترك لمختلف القوميات و الأديان و المذاهب والأطياف ضمن دولة واحدة تديرها المؤسسات الدستورية في دولة القانون . ))
ونعتقد أن الفيدرالية كنظام حكم ضرورة لممارسة التعددية السياسية و بناء أسس دولة المؤسسات الدستورية و في ترسيخ قواعد الديمقراطية وهي ضد نظام حكم الفرد أو الشخصنة . ولذلك توفر الفيدرالية فرص العيش المشترك المتكافئ العادل و القائم على العدل و العدالة في إطار دولة واحدة تكون قوية بهذه المؤسسات الدستورية . وهي ضمان اتحاد فيدرالي وليس انفصالا أو تجزئة للوطن وهي تضمن (( الحقوق المتساوية للجميع ))وفي إطار الدولة الواحدة و تكون عملية توزيع الموارد و الثروات وفقا لما تقرره مؤسسات الدولة الدستورية وليس وفقا لرغبة و أهواء الحاكم أو بعض الحكام لان موارد الدولة ليست ملكا للحاكم و إنما هي ملك الشعب في الحاضر وفي المستقبل من الأجيال .
ونشير هنا إلى أن الحكومات المحلية ليست لها صلاحيات إعلان الحرب أو عقد الصلح أو إبرام المعاهدات أو الأحلاف و إنما هي من اختصاص الدولة الاتحادية المركزية وحدها ذلك لان هذه الحكومات الإقليمية ليست دولا مستقلة و قائمة بذاتها من الناحية القانونية و إنما هي حكومات أقاليم في الدولة الواحدة المركزية وتنتظم العلاقات طبقا للدستور الدائم والقوانين النافذة التي يجب أن تتوافق مع الدستور المذكور .
أي لابد من أن يكون هناك تناسق داخلي بين القوانين وتوافق بينها وبين الإعلانات العالمية و المعاهدات الدولية و الالتزامات التي يفرضها المجتمع الدولي على الدول مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و معاهدة حظر التعذيب وحقوق الطفل و حقوق الأسرى وغيرها .ولا يجوز مطلقا أن تكون قوانين الأقاليم أو الدولة الاتحادية المركزية متناقضة أو مخالفة للالتزامات الدولية , وان صارت مخالفة وشكلت تهديدا خطيرا ضد الأمن والسلم الدوليين وجب على مجلس الأمن الدولي التدخل لصالح الشعوب والوقوف بوجه حكامها الظالمين.