أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني - سلسلة مادية فويرباخ الانثروبولوجية.















المزيد.....



سلسلة مادية فويرباخ الانثروبولوجية.


اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني

الحوار المتمدن-العدد: 4362 - 2014 / 2 / 11 - 00:30
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


1- الأوضاع في ألمانيا
لودفيغ فويرباخ كان آخر فيلسوف للكلاسيكية الألمانية, وقد كانت احد مآثر هذا الفيلسوف هو انه انتقد مثالية هيغل, وطور التقاليد التقدمية في مادية القرن الثامن عشر, ومن الصعب فهم مادية فويرباخ بدون أخذها مرتبطة بالتطور السالف للفلسفة الكلاسيكية الألمانية.
لقد أدى نضوج الحالة الثورية في ألمانيا من عام 1840-1850 إلى تفاقم الصراع بين الإقطاعيين والبرجوازية الصاعدة, ولم تكن البرجوازية الألمانية قادرة على توحيد صفوفها القومية.
لقد أدى تفاقم الصراع بين علاقات الإنتاج الإقطاعية البائدة, والرأسمالية الصاعدة إلى حفز قوى البرجوازية لمقاومة الاقطاع, وقد أثرت فرنسا الأكثر تطوراً سياسياً واقتصادياً, وحركة التنوير فيها, على ألمانيا.
ان التطور البرجوازي لألمانيا كان يقتضي إلغاء الملكيات والإمارات العديدة, وخلق ألمانيا موحدة, ولذا كان الأيديولوجيين البرجوازيين بدعوتهم لتوحيد ألمانيا, يعبرون عن المصلحة القومية للشعب الألماني ككل, ولكن كما هو معروف, لم يكن الأيديولوجيين البرجوازيين يتجرؤون على إعلان المعارضة المكشوفة والمباشرة للدولة الاقطاعية, وهذا بالضبط ما كان يسمى (تذبذب الفلسفة الألمانية), وقد واجه الفلاسفة الكلاسيكيين الألمانيين الاقطاع بطريقة غير مباشرة, على شكل نقد فلسفي للمسيحية الأرثوذكسية, ويعتبر هذا أيضا نقداً للرجعية السياسية باعتبار الدين الأيديولوجية السائدة آنذاك.

2- انحلال مدرسة هيغل الفلسفية
انعكس تفاقم التناقض بين البرجوازية وبين الفئات الاقطاعية المسيطرة في انحلال المدرسة الفلسفية الهيغلية. ان التناقض بين المنظومة, والمنهج, في فلسفة هيغل كان يعود الى جذور اجتماعية اقتصادية عميقة. ولذا لم يكن مستغرباً ذلك الصراع الذي سرعان ما نشب بعد وفاة هيغل, بين المحافظين والثوريين من أتباع فلسفته.
لقد تبنى جناح المحافظين, (غابلر, هوشل, هنريخ, داوب), المنظومة الهيغلية المحافظة, أما ممثلو الجناح اليساري (الشباب) (شتراوس, شتيرنر, باوير), تبنوا فلسلفة هيغل التي تحتوي على بذور دياليكتيكية.
عمل الهيغليون اليساريون على استخلاص نتائج الحادية وثورية من فلسفة هيغل, القائلة بأن الفلسفة –بخلاف الدين, تعبر عن الحقيقة على شكل مفهوم, اي علمياً, وتمثل بالتالي, الشكل الأعلى لوعي الروح المطلق لذاته, قام الهيغليون الشباب بشن هجوم عنيف ضد التعاليم المسيحية-. وبخلاف هيغل, دفع الهيغليون الشباب الى المقام الأول بموضوعة فيخته عن القدرة المطلقة لوعي الذات, الذي يحول الواقع. بهذا المعنى, أعلنوا فلسفتهم (فلسفة الفعل), بيد انه سرعان ما تبين ان هؤلاء الشباب لم يكن الفعل الذي كانوا يعنوه موجها الى الجماهير الشعبية, التي رأوا فيها عنصرا سلبيا للتاريخ, بل الى السلطة الحكومية, التي عليها عول الهيغليون لأخذ زمام المبادرة التاريخية في اجراء التحولات الديمقراطية البرجوازية.
أ- شتراوس:
وجاء كتاب شتراوس (حياة يسوع) ايذانا بتصدع المدرسة الهيجيلية, في هذا المؤلف يدرس شتراوس اصل الأساطير الإنجيلية, ويدحض الحجة القائلة بوجود (علة اولى خارقة). ان المعجزات الإنجيلية في نظر شتراوس ليست إلا أساطير وإبداع شعبي عفوي, ويؤكد شتراوس في تفسيره للنظرة الدينية في خلق العالم, من الفهم الهيغيلي للجوهر المتطور تاريخياً, والذي يتكشف في روح الشعب, فهذا الشكل او ذاك من أشكال الوعي الديني مرتبط بمرحلة معينة لتطور روح الشعب, بالتالي فهو مشروط موضوعيا.
ب- برونو باوير:
قطع برونو شوطاً أبعد في نقد الدين المسيحي, وسرعان ما أصبح زعيم الهيغليين الشباب, لم ينطلق باوير من الموضوعة الهيغيلية عن روح الشعب, بل من آراء هيغل في وعي الذات, فوعي الذات, عند باوير, كلي الجبروت, وليس تاريخ البشرية الا تجليا لنشاطه المبدع, والعوائق التي تقف في طريق تقدم البشرية, لا توجد بذاتها, بل لأن وعي الذات لم يدرك بعد قدرته اللامحدودة. ان وعي الذات يخلق الواقع الروحي, الذي يتناسب مع مستوى تطور هذا الوعي, ثم يهدمه ليرتفع الى مرحلة جديدة-, أرفع وأسمى. ان هذه الموضوعة المثالية الذاتية لفيخته, يستخدمها باوير في نقده للدين.
على غرار شتراوس يفترض باوير أن المسيحية و(الدين عموما) نتاج ضروري للتطور الروحي للبشرية, وقد رأى باوير في الأساطير المسيحية أساطير عفوية, بل اختلاقات واعية.
في الدين رأى باوير وزملائه القوة الرئيسية لاضطهاد الإنسان, ومن الاضطهاد الديني استنتجوا الاستعباد السياسي والاقتصادي, ولذا ارجع الهيغليون الشباب كافة التحولات الاجتماعية الى التحرر الديني, وفصل الكنيسة عن الدولة, ونقد الدين وأساطيره. لكن حركة الهيغيليين الشباب التي لعبت دوراً تقدميا في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر, بدأت في النصف الأول من الأربعينيات تفقد تدريجيا طابعها التقدمي.

3- ولد لودفيغ فويرباخ ( 1804-1872) في أسرة حقوقي, أراد في شبابه تكريس نفسه للاهوت, وانتسب الى كلية اللاهوت بجامعة هيدلبرغ في عام 1823, لكنه ترك بعد سنة واحدة ورحل الى برلين, حيث استمع هناك الى محاضرات هيغل, وفي عامي 1827-1828 بدأ فويرباخ يشك في الآراء الهيغيلية حول الأساس المنطقي للطبيعة.
بدأ عام 1828 بالتدريس في جامعة ارلانجين, لكنه طرد منها بعد عامين بسبب نشره ل (أفكار حول الموت والخلود), الذي يحاول فيه إنكار خلود الإنسان, ليؤكد على أن الخلود وقف على تطلعات الفكر الإنساني وحدها. ومنذ عام 1830, عاش فويرباخ حياة منعزلة في القرية, وعلى غرار شتراوس حدد فويرباخ هدف فلسفته ب(تحرير الإنسان من ربقة الوعي الديني).
في مؤلفه (في نقد فلسفة هيغل) يعطي فويرباخ حلاً مادياً للمسألة الأساسية للفلسفة, ويعتبر الطبيعة, أو المادة, واقعاً ينشأ عنه بالضرورة, العقل المفكر. وفي عام 1841 نشر مؤلفه الرئيسي (جوهر المسيحية) الذي لاقى رواجاً عظيماً, ثم (موضوعات أولية لإصلاح الفلسفة) و (أسس فلسفة المستقبل) سنة 1843.

لم يساهم فويرباخ في ثورة 1848, ورفض ترشيح نفسه للمجلس الوطني عن فرانكفورت.

وفي أيام المد الثوري, نشر فويرباخ عدداً من المؤلفات التي لم تلقى أي اهتمام, ذلك أن البرجوازية الألمانية كانت قد تحولت عن فيلسوفها الكبير, في حين بدأت فلسفة ماركس وانجلز تنتشر بشكل كبير.

توجه فويرباخ, في أواخر حياته نحو الاشتراكية العلمية, وقد درس (رأس المال) ل ماركس, وأصبح عام 1870 عضو في الحزب الديمقراطي الاشتراكي, لكنه مع ذلك, لم يرتفع الى مستوى المادية الدياليكتيكية والمادية التاريخية, وبقي حتى آخر حياته, الى يومنا هذا, واحداً من ابرز أعلام الإلحاد ولمادية ما قبل ماركس.

4- فويرباخ ومهام الفلسفة الجديدة:
اعتبر فويرباخ فلسفته استكمالاً وتجاوزاً لهيغل وأسلافه, فإذا كان هيغل يعزل العقل عن الإنسان, عن نشاطه الحسي ومتطلباته, فان (الفلسفة الجديدة), أو فلسفة المستقبل, كما يسمي فويرباخ فلسفته, تنطلق من الإنسان, فهو الذات الحقيقي للعقل, والإنسان بدوره نتاج للطبيعة.
ان الدين يعد الإنسان بالحياة بعد الموت’ بينما الفلسفة المدعوة لتحقق على الأرض ما يعد به الدين في عالم الغيب, الذي لا وجود له في الواقع. ان على الفلسفة أن تحل محل الدين لتعطي الإنسان- بدلاً من العزاء الوهمي- القدرة على معرفة إمكانياته الحقيقية في بلوغ السعادة.
وعارض فويرباخ الفهم المثالي للفكر على انه جوهر موجود خارج الإنسان والطبيعة, ليؤكد على ان مسألة علاقة الفكر بالوجود هي, في الوقت ذاته, مسألة ماهية الإنسان, لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفكر, ولذا فان على الفلسفة ان تجيب على مسألة علاقة الفكر بالوجود, يجب ان تكون فلسفة انثروبولوجية, أي مذهباً في الإنسان, الذي في وجوده ونشاطه تجد هذه الفلسفة حلها الفعلي, الواقعي.
فويرباخ يتحدث في فلسفته عن العلوم, فيقول بأن العلوم التي تدرس نشاط الإنسان, تدحض بصورة تامة زيف المزاعم المثالية عن الفكر والروحي عموماً, هذه العلوم وخاصة الفسيولوجيا, تظهر العلاقة العضوية التي تربط الفكر بالعمليات المادية التي تجري في جسم الإنسان.
وبما أن الإنسان هو جزء من الطبيعة, فلا يجوز معارضة الطبيعة بعالم الإنسان الروحي.

وهكذا يعمل فويرباخ على وضع نظرية مادية عن الإنسان, تستند الى علم فسيولوجيا وسيكولوجيا الإنسان.
بالطبع, يحمل مثل هذا الفهم لموضوع الفلسفة طابعاً أحادي الجانب, إلا انه لعب دوراً تقدمياً في النضال ضد آراء هيغل حول إلوهية الفكر.
في العقدين السابع من القرن التاسع عشر انتشرت في الفلسفة البرجوازية أفكار ما نسميها ب(المادية المبتذلة) ل (بيوشز, فوخت, موليشوت), التي تعتبر الفكر شكلاً خاصاً من المادة يفرزه الدماغ, ولكي يبرهن فويرباخ انه لا علاقة له بمثل تلك الفلسفة, رفض استعمال اصطلاح (المادية), وهذا يكشف عن تردده في صراعه من الفلسفة المثالية, ولكنه أكد على أن فلسفته تستند على الفلسفة المادية السابقة.

غير ان انثروبولوجية فويرباخ, لا تؤول الى طرح وحل معين للمسألة الأساسية في الفلسفة. ان المضمون والهدف الأساسي للمبدأ الانثروبولوجي يقوم, في رأي فويرباخ, في التفسير العلمي للوعي الاجتماعي, الذي يرى فيه انعكاساً لماهية الإنسان. لكن ما هي هذه الماهية؟ إنها حساسية, حياة العقل والقلب, ومختلف العواطف الإنسانية, انفعالات الفرد, الذي يحب, يكره, يتعذب ويتوق الى السعادة.
وهكذا, يدرس فويرباخ أشكال الوعي الاجتماعي المختلفة, ويدرس الدين في المقام الأول, بذلك يخطو فيلسوفنا خطوة كبيرة الى الأمام بالمقارنة مع كل الماديين السابقين, الذين زعموا أن الدين- باعتباره مجموعة من التصورات الخيالية- خالي من أي مضمون واقعي. هذا في حين يرجع فويرباخ الأمور الخارقة للطبيعة الى الطبيعة ذاتها, الخيالي- الى الواقع, فوق المحسوس- الى المحسوس, وفي هذا تكمن الميزة الأساسية لمنهجه الانثروبولوجي.

لقد انطوت انثروبولوجية فويرباخ على بذور للفهم المادي للتاريخ, ومحاولات لتفسير الدين تفسيراً مادياً, باعتباره انعكاساً للحياة الواقعية. ويفهم فويرباخ ماهية الإنسان فهماً مجرداً, خارج ارتباطها بعلاقات اجتماعية تاريخية معينة وخارج الصراع الطبقي الخ.. ولذا فانه يكتفي بالعادة, بالتدليل على الطبيعة الحسية للإنسان, على الوحدة الانثروبولوجية لجميع البشر.

5- فويرباخ, ونقد الفلسفة المثالية:
دحض لودفيغ فويرباخ بصورة مقنعة, الاتهام الموجه ضد الفلسفة المادية في كونها تتخذ موقفاً غير نقدياً من مؤشرات الحواس, ويبرهن فويرباخ على أن محاولة الفلاسفة المثاليين ليبرهنوا, على اشتقاق وجود العالم الخارجي, أو الطبيعة, من الفكر إنما تصدر عن التصور المثالي الديني غير النقدي حول وجود علة اولى خارقة.
يبرهن فويرباخ على أن الفلسفة المثالية لا تنطلق من الواقع, بل تصرف نظرها- دون أي اساس- عن المعطيات الحسية, وبالتالي, عن الواقع المدرك بواسطة الحس, هنا لا يقف فويرباخ ضد التجريد عموماً, بل ضد استخدامه المشوه فقط.
يخلص فويرباخ, من نقد المثالية الى القول بأن الفلسفة المثالية ليست إلا لاهوتاً "معقلناً". إن الفيلسوف, الذي يتحدث عن عقل مطلق, يشكل- على حد زعمه- الأساس الخفي لكل وجود, لا يفعل في حقيقة الأمر الا عرض الشعور المثالي عن الله وخلق العالم بشكل أكثر دقة.
غير إن فويرباخ لا يساوي بين الفلسفة التأملية وبين اللاهوت, وهو يشير بحق, الى ان التأويل العقلاني للدين من قبل المثالية سيؤدي إلى تناقض صريح مع العقائد الدينية, التي لا يمكن بحال من الأحوال, ان تتفق مع العقل والمنطق. إن التأليهية تفهم الله على انه كائن حسي, أو شخصية موجودة خارج العالم, اما الفلسفة التأملية فتحول الله الى روح لا شخصاني, هو الماهية الباطنية للواقع ذاته.

لقد قدر كلاسيكيو الماركسية اللينينية عالياً نقد فويرباخ للفلسفة المثالية, ولا سيما نقده للمثالية الكلاسيكية الألمانية, وأشاروا في ذات الوقت الى النقص الجدي في هذا النقد, فهذا النقد قد تم بصورة أساسية من مواقع المادية الميتافيزيقية, الأمر الذي جعل فويرباخ يطرح جانباً لا مثالية هيغل فحسب, بل ومعها منهجه الدياليكتيكي ايضاً, كذلك لم يستطع فويرباخ تمييز "النواة العقلية" في دياليكتيك هيغل, ولم يدرك ضرورة وضع دياليكتيك (مادي).
ولكن لا يجوز, أن ننكر أن هناك عناصر دياليكتيكية في فلسفة فويرباخ, فهو يعترف مثلاً, بالطابع الموضوعي للنفي, ويتحدث عن الصراع بين الجديد والقديم, وعن نفي النفي بنفس المعنى الذي فهم به هيغل هذه العملية, لكن هذا كله, لا يتعدى كونه ملاحظات منفردة, ذلك ان مسألة شمولية تطور الظواهر وارتباطها المعقد لم تسترعِ انتباه فيلسوفنا. يقول لودفيغ فويرباخ عن الدياليكتيك: (الدياليكتيك الحقيقي ليس مونولوجاً بين الفكر وذاته, بل هو حوار بين الأنا والأنت). هكذا يفهم فويرباخ الدياليكتيك.

وهكذا فضح فويرباخ سر الفلسفة المثالية- الدين, لكنه لم يتمكن من معارضة المثالية الدياليكتيكية بفهم جديد للعالم, يمثل ذروة تطور الفكر المادي والدياليكتيكي, بالمادية الدياليكتيكية. إن المهمة في وضع هذه الصيغة العليا للمادية لم تجد الحل إلا على يد كارل ماركس وفريدريك انجلز فقط.

6- فويرباخ, ونقد الدين
اعتبر فويرباخ نقد الدين أهم قضية يكرس لها حياته وفلسفته, وقد جاء فهمه الانثروبولوجي لجوهر الدين تطويراً للإلحاد البرجوازي. لم يكتفي فيلسوفنا بالاعتراف بما برهن عليه ماديو القرن السابع عشر والثامن عشر بأن الشعور الديني يعود الى الخوف من القوى الطبيعية العمياء فقط, بل أضاف إليها ايضاً بأنه ليس الخوف وحده, بل وكافة المصاعب والآلام, كذلك آمال الإنسان ومثله تجد التعبير عنها في الدين. ان الله في نظر فويرباخ لا يولد الا في الام البشرية, ويستعير هذا الله كامل صفاته من الإنسان: ان الله هو ما يريد الإنسان ان يكون, لهذا السبب نرى في الدين محتوى واقعي حي, وليس وهماً.
يربط فويرباخ الدين وظهوره بتلك المرحلة الأولى للتاريخ, عندما لم يكن باستطاعة الإنسان تكوين فكرة صحيحة عن الطبيعة, والتي عليها (الطبيعة) يتوقف مصيره (الإنسان). ان تقديس ظواهر الطبيعة قديماً والدين الحديث تبين ان الإنسان يؤله كل ما يتعلق به مصيره, سواءاً كان حقيقة أو مجرد وهم. غير أن الشعور الديني ليس شعوراً متأصلاً لدى الإنسان, ولو كان كذلك, لكان علينا أن نعتبر بأن الإنسان يولد ومعه أعضاء بيولوجية خاصة بالخرافة والوهم.
صحيح أن مصير الحيوانات مرتبطة بشكل اكبر بالوسط المحيط بها, لكن لا يوجد لدى الحيوانات حياة روحية وتخيل, في حين يتطلب ظهور الدين قدرة على التفكير المجرد, بالرغم من انه يأخذ محتواه من مشاعر وعواطف الإنسان. بهذه المناسبة, يؤكد فيلسوفنا بأن جوهر الدين قائم في القلب, فالقلب يتميز بأنه ينزع الى الإيمان.
ان المبدأ الأساسي لمذهب الإلحاد الانثروبولوجي يكمن في: ان الدين لا يمكن رده الى ملكة إنسانية واحدة: في الدين ينعكس الإنسان بصورة مشوهة, يقول فويرباخ: (ان الإنسان يؤمن بالإلهة لا لأنه يتمتع بخيال وشعور فقط, بل ولأنه ينزع بأن يكون سعيداً, انه يؤمن بكائن سعيد, لا لأن عنده تصوراً للسعادة, بل ولأنه يريد هو نفسه ان يكون سعيداً, انه يؤمن بكائن كامل لأنه هو نفسه يريد ان يكون كاملاً, انه يؤمن بالخلود لأنه يمقت الموت).
ان الثالوث المسيحي المقدس ليس إلا ثالوث الحياة العائلية العادية, وليس التصور الديني عن الأصل الإلهي إلا تصوراً غيبياً صوفياً عن امتياز الإنسان عن الحيوان, وعن الطبيعة بوجه عام. لكن فويرباخ يفهم الإنسان فهماً انثروبولوجياً مجرداً. فجوهر الإنسان في نظره هو العقل, القلب. إذن فالحديث يدور هنا عن طبيعة الفرد, التي تبقى هي نفسها في كافة مراحل التاريخ.
وقد ادى هذا الفهم المحدود, الميتافيزيقي والطبيعي, للإنسان الى فهم غير تاريخي للدين.
ان الشيء الرئيسي الذي غاب عن نظر فيلسوفنا, هو أن الدين يعكس التناقضات التناحرية للمجتمع الطبقي, واسترقاق الإنسان من قبل القوى العفوية للتطور الاجتماعي.
ان الفهم غير التاريخي للحياة الإنسانية قد حال دون رؤية فيلسوفنا للطابع التاريخي العابر للدين, ولطرق التخلص منه. وكثيراً ما يؤكد فويرباخ ان التصور الديني الخرافي سيزول لا محالة, وسيرفض الإنسان التصور عن ماهيته, وسيحقق الإنسان على الأرض ما يحلم به في عالم الغيب. ولكن بما أن الدين بنظر فويرباخ يعكس-ولو بشكل مشوه- شيئاً ملازماً للإنسان منذ الأزل, فهو يعتقد بأن الشعور به سيبقى للأبد.
ينظر فويرباخ الى الإلحاد, ديناً بلا اله بما ان الحب (الحب الجنسي) شعوراً دينيا, بما أن هذا الحب جوهر الدين.
ان هذا الفهم بالذات للدين, هو اضعف نقاط فلسفة لودفيغ فويرباخ, انه يسدل الستار على دور الدين كأداة لاستعباد الجماهير, ويؤدي الى تبرير الشعور الديني, والى المبالغة في الدور التاريخي للدين, الذي يكاد ان يشكل, عند فويرباخ, الشكل الأساسي لحياة البشر الروحية.
ان فويرباخ الملحد, ينصب نفسه مصلحاً للدين, فهو يرى في الانتقال من الوعي الخرافي الديني الى دين بدون آلهة, دين يؤله الفعاليات الإنسانية السامية, يرى فيه الطريق الى تجديد المجتمع والتخلص من عوز الجماهير وفاقتهم, وبالتالي, يكون فيلسوفنا قد اقترح ديناً جديداً!
إذا كان فويرباخ, في تحليله (للمضمون الواقعي) للدين قد سار خطوة الى الأمام بالمقارنة مع الماديين الفرنسيين, فانه قصر عن عنهم في تقويمه (للدور الاجتماعي للدين).

7- الفهم المادي للطبيعة عند فويرباخ:
إن فويرباخ, على النقيض من المزاعم المثالية واللاهوتية, يؤكد أن الطبيعة هي الواقع الوحيد وأن الإنسان هو نتاجها, وتمامها الأسمى.
في الإنسان, تحس الطبيعة ذاتها, تتأمل ذاتها, تعقل ذاتها, وفي مجابهة الآراء اللاهوتية التي تحط من قدر الطبيعة, يؤكد فويرباخ انه لا شيء فوق الطبيعة, تماماً كما انه لا شيء أدنى منها, يقول: (تأملوا الطبيعة, تأملوا الإنسان! هنا تتكشف لكم أسرار الفلسفة).
يرى فويرباخ أن الوجود, الطبيعة, الواقع, المادة, مفاهيم تمثل معناً واحداً, ويؤكد فويرباخ بأن تنوع الظواهر لا يمكن إرجاعه الى شيء واحد, الى مادة أولى.
إن المكان والزمان عند فويرباخ (هما الشرطان الأساسيان لكل وجود ولكل ماهية, لكل فكر ولكل نشاط, لكل ازدهار ولكل تقدم) وليس هناك من واقع خارج الزمان, كما انه لا يوجد زمان أو مكان خارج الطبيعة, ولذا فان المزاعم الدينية عن بداية العالم باطلة من أساسها.
ليس هناك من غيب, لأن التجربة تبين ان مظاهر الطبيعة لا يعيش وجوداً مزدوجاً. ان التصور العلمي عن المكان يفترض الإدراك الحسي للحيز الذي يشغله الجسم. وفصل المفاهيم منطقياً احدهما عن الآخر متعذر دون تحديد الأشياء في المكان, وهذا التحديد لا ينفصل عن تعاقب الأشياء في الزمان, وهذا كله يدحض رأي كانت في (قبلية apriorism) الزمان والمكان. يقول فويرباخ (ليس للطبيعة بداية ولا نهاية, كل ما فيها في تفاعل متبادل, كل ما فيها نسبياً, كل ما فيها يبدو سبباً ونتيجة في الوقت ذاته, كل ما فيها متعدد الجوانب ومترابط بغيره), ولكن هذه الموضوعة الدياليكتيكية العميقة لم تلقى التطوير اللاحق عند فيلسوفنا, فهو لم يدرس الأشكال المختلفة لترابط الظواهر وتبعيتها المتبادلة, ولم يتعرض للمقولات التي احتلت مكانة كبيرة في (علم المنطق) الهيغلي, ولذا ارتبط تصور فويرباخ عن الوحدة الكلية لظواهر الطبيعة طابعاً عاماً, ومجرداً للغاية.
بالاعتماد على منجزات المادية السابقة, يتبنى فويرباخ موضوعة (العلاقة التي لا تنفصم بين المادة والحركة), ولكن فويرباخ لم يكن له تصوراً واضحاً عن (التنوع الكيفي لأشكال الحركة, وانتقالها من شكل الى آخر), الأمر الذي جعل تبني هذه الموضوعة عند فويرباخ, إتباعا لخطى الماديين الفرنسيين, ومجرد نتيجة لنفي الخلق الإلهي للعالم. وإذا كان هذا الطرح مبرراً في القرن الثامن عشر, عندما لم تكن العلوم الطبيعية قد قدمت بعد المعطيات الضرورية عن الأشكال غير الميكانيكية لحركة المادة, فانه في أوساط القرن التاسع عشر, وفي تلك الصيغة التي طرحها فويرباخ فيها, لم يكن ليساهم في دفع المادية الى الأمام.
لم يعترف فويرباخ بالحركة وحسب, بل وبالتطور أيضا. يقول فويرباخ (لم تكن الأرض منذ القدم, على الشكل الذي نارها عليه اليوم, بل وصلت الى ما هي عليه الآن نتيجة لتطور طويل وثورات عديدة), ويرى فويرباخ ان الكائنات الحية, قد ظهرت من الكائنات غير الحية, وإذا كنا في الوقت الحاضر لا نشهد ظهور كائنات حية بسيطة, فان هذا يعود الى غياب تلك الظروف الموضوعية التي كانت قائمة قبل ملايين السنين. وبالرغم من هذا كله, بقي فويرباخ ميتافيزيقياً في فهمه لعملية التطور, لأنه ينفي موضوعية التناقضات الدياليكتيكية, ووحدة وصراع الأضداد, بوصفها المصدر الداخلي للتطور.
وبخلاف ماديي القرن الثامن عشر لم يعد فويرباخ يرضى بالفهم الميكانيكي للطبيعة, فقد وقف ضد رد الأشكال العليا لحركة المادة إلى الأشكال الدنيا. فالنظر والسمع, على سبيل المثال, لا يمكن إرجاعها للعمليات البصرية والصوتية وحدها, لأن الأفعال النفسية تختلف جذرياً عن أساسها الفسيولوجي. ان وحدة الذاتي والموضوعي, النفسي والفيزيائي, لا تلغي التمايز الداخلي بينهما. وبالرغم من أن الحي بشكله الأولي لا يمكن ان ينشأ من مصدر آخر, سوى غير لحي, فان هذا لا يعطي أي أساس لنفي الطابع الكيفي المتميز للحياة. وفويرباخ إذ يدحض الفهم الميكانيكي للحياة, يقف بحزم ضد الجبرية. ان فهم فويرباخ للحياة, كشكل أعلى لوجود الطبيعة, موجه بصورة رئيسية ضد المادية العامة المبتذلة, التي تنفي عملياً وجود الوعي. ان فيلسوفنا ينظر إلى الوعي, بكل أشكاله على انه تعبير مباشر عن وحدة الذات والموضوع.
يرى فويرباخ أن تنوع الأحاسيس البشرية يتفق مع تنوع كيفيان الطبيعة, ومشروطةً به, وغير ممكنة بدونه, ولذا كان من الخطأ إقامة تعارض بين محتوى الأحاسيس الإنسانية وبين التعيين الكيفي للظواهر المدركة حسياً.
ومع ذلك ارتدى فهم فويرباخ لوحدة الذات والموضوع, الإنسان والطبيعة, طابعاً طبيعانياً وانثروبولوجياً محدوداً, ذلك ان فويرباخ لا يرى الأساس الواقعي والشكل الأهم لهذه الوحدة, أي الإنتاج الاجتماعي.
وبالرغم من بعض النبؤات الدياليكتيكية المنفردة لمذهب فويرباخ في الطبيعة, وفهمه الأكثر عمقاً من فهم الماديين السابقين لوحدة الطبيعة وتنوعها, لم يخرج عموماً من إطار المادية الميتافيزيقية, وقد تجلى هذا على سبيل المثال في تعريف فويرباخ للطبيعة, يقول: (إنني افهم الطبيعة على إنها جملة القوى والأشياء والكائنات الحسية التي يميزها الإنسان عن ذاته باعتبارها غير إنسانية.... أو, من وجهة النظر العملية, الطبيعة هي كل ما يتجلى للإنسان - بشكل مستقل عن الايحائات الغيبية للإيمان ألتأليهي- مباشرة, حسياً, كأساس لحياته وموضوع لها, الطبيعة هي التراب, الضوء, الكهرباء, المغناطيسية, الهواء, الماء, النار, الحيوان, النبات والإنسان, باعتباره كائناً فعالاً بصورة عفوية, لا إرادية. إن كلمة (الطبيعة) لا تعني بالنسبة لي أي شيء آخر, لا شيء غيبياً مبهماً, لا شيء لاهوتياً).
ويورد لينين هذه الكلمات في تلخيصه ل(محاضرات حول جوهر الدين) ليقول: (وهكذا ينتج بأن الطبيعة هي كل ما ليس خارقاً للطبيعة. فويرباخ هنا واضح, بديع, لكنه غير عميق. إن انجلز يحدد بعمق اكبر الفرق بين المادية والمثالية)


8- فويرباخ ونظرية المعرفة, التطوير اللاحق للمذهب الحسي:
تابع فويرباخ تقاليد مادية القرن الثامن عشر ليساهم بقسط وافر في معالجة النظرية المادية- الحسية في المعرفة. أول ما قام به فويرباخ في هذا المجال كان وقوفه الحازم ضد الفهم المثالي للتأمل الحسي على انه شيء بدائي, سطحي بعيد عن الحقيقة.
ان العالم الواقعي, هو العالم المدرك حسياً, ولذا فانه بفضل الادراكات الحسية, وحدها, تمكن معرفة العالم.
وينفي فويرباخ بشكل قاطع وجود أشياء لا يمكن إدراكها ابداً. ان الإدراك الحسي, المباشر بطبيعته, يمكن ان يكون غير مباشر ايضاً, أي يمكن ان يعطي معلومات غير مباشرة عن أشياء لا نراها, ولا نسمعها, ولا نتذوقها.
يقول فويرباخ: (وهكذا فليس الخارجي فقط, بل والباطني ايضاً, ليس الجسم فقط, بل والروح ايضاً, ليس الشيء فقط, بل والأنا ايضاً, تشكل موضوعات للإحساس. ولذا فان الأشياء كلها متاهة للإدراك الحسي, ان لم يكن مباشرةً, فبصورة غير مباشرة, ان لم يكن بالحواس العادية, الفجة, فبصورة مهذبة, ان لم يكن بعيني البيولوجي او الكيميائي, فبعيني الفيلسوف, وبذا تكون التجريبية على حق, عندما ترى مصدر أفكارنا في الحواس).
كذلك وقف فويرباخ ضد الانتقادات الريبية واللاادرية للادراكات الحسية, ليؤكد ان هذه الأخيرة, بارتباطها المباشر بالأشياء, لا يمكن ان تخدعنا ابداً.
لقد قدر لينين عالياً موضوعة فويرباخ الشهيرة, القائلة بأن أركان الحس عند الإنسان تكفي تماماً لمعرفة الظواهر كلها. لكن فويرباخ لم يستطع إقامة البرهان على هذه الموضوعة, لأنه لم يكن يعرف ان قدرة أركان الحس على عكس الواقع بشكل صحيح ومتعدد الجوانب إنما هي نتيجة لتطورها على امتداد آلاف السنين. ولذا كانت هذه الموضوعة اقرب الى الفرضية العبقرية من ان تكون استنتاجاً من نظرية التطور- المطبقة على الإنسان. كما يكمن عيب فهم فويرباخ للانعكاس الحسي في انه لم يربط التصورات الحسية بالممارسة, بنشاط الناس العملي المادي, وبهذا الصدد, يقول ماركس: (ان فويرباخ, الذي لا يرضيه التفكير المجرد, يستنجد بالتأمل الحسي, لكنه لا يعتبر الحساسية نشاطاً عملياً للحواس الإنسانية).
لم يكتفي فويرباخ بالتدليل على دور السمع والبصر وأركان الحس الأخرى, في معرفة العالم الخارجي, بل وأشار الى القيمة المعرفية لمجمل حياة الإنسان العاطفية, ولكنه لم يدخل في عداد النشاط الحسي الشيء الأكثر أهمية- تحويل الإنسان للطبيعة, والإنتاج المادي.
ان أحاسيس الإنسان تختلف كيفياً عن أحاسيس الحيوان, وهي تتجاوز إطار احتياجات الإنسان الفسيولوجية المباشرة, وتتمتع بقيمة روحية مميزة, وجمالية على الأخص. صحيح ان بعض الحواس عند الحيوان عند الحيوان أكثر حدة من عند الإنسان, لكن هذا لا يناقض حقيقة شمولية الحواس الإنسانية, لأن هذه الحواس ذات تخصص ضيق عند الحيوان, بينما ترتفع عند الإنسان الى مستوى الروحي, الى مستوى الفعل العملي, على حد تعبير فويرباخ.
ويرى فويرباخ, ان من الخطأ رؤية سبب تمايز أركان الحس عند الإنسان عنها عند الحيوان في ان الإنسان كائن عاقل.
فلو لم يختلف الإنسان عن الحيوان في أحاسيسه لما اختلف في تفكيره. لكن تفسير فويرباخ هذا, لا يوضح التباين الكيفي بين الإدراك الحسي الإنساني والحيواني للعالم, لأن فويرباخ لم يفهم الأسباب الحقيقية لتطور الإنسان من عالم الحيوان, لم يفهم الأسباب البيولوجية ,والاجتماعية بالذات. ومع ذلك, كانت لإشارة فويرباخ هذه الى النوعية الخاصة للانعكاس الحسي للعالم من قبل الإنسان قيمة مبدئية كبيرة في دعم (المذهب الحسي) للمعرفة.

ان التقدير العالي لدور المعرفة الحسية ونقد الفهم التأملي, الذي لم يحط من قدر المعطيات الحسية, لا يعني ان فويرباخ لا يعترف بالوظيفة المعرفية الخاصة للتفكير النظري وقدرته على الوصول الى فهم أعمق للواقع. ان مهمة الفكر تقوم في جمع المعطيات الحسية ومقارنتها, والتمييز بينها, وتصنيفها, والكشف عن محتواها الخفي, الذي لا يظهر مباشرةً, يقول فويرباخ: (بالحواس نقرأ كتاب الطبيعة, لكننا نفهمه بغير الحواس). الفكر يحكم على المعطيات الحسية, ويقومها, ويحللها, ويفسرها.
وكان فويرباخ يعرف جيداً ان التفكير- بخلاف العكس الحسي للعالم الخارجي- يحمل طابعاً غير مباشر, لأنه ليس من الضروري ان يكون ما نفعله موضوعاً للإدراك المباشر. كيف إذن, يمكن ان نحكم على يقينية مفاهيمنا, على توافقها مع الواقع الموضوعي؟ يمكن ذلك بمقارنة المفاهيم والاستنتاجات النظرية مع المعطيات الحسية. وهكذا يشكل التأمل الحسي, عند فويرباخ, معياراً ليقينية تفكيرنا, وهذا يعني ان الفكر يجب ان يتوافق مع الادراكات الحسية. لكن هذا التوافق ليس ممكناً دوماً, لأن الإنسان يتعرف بواسطة الفكر على ما كان (الماضي) وما لم يكن بعد (المستقبل).
ان العلاقة بين الفكر وبين الانعكاس الحسي للعالم تحمل طابعاً دياليكتيكياً متناقضاً, الأمر الذي غاب عن ذهن فيلسوفنا. صحيح انه أكد على وحدة الأحاسيس والفكر في عملية المعرفة, إلا أنه لم يرى ان الانتقال من العكس الحسي للعالم ألخراجي الى عكس هذا العالم في الفكر النظري المجرد, في مفاهيم العلم ومقولاته, إنما يحمل طابعاً معقداً, ويتم على شكل قفزات.
لم يهم فويرباخ مسألة المقولات التي شغلت مكاناً كبيراً في فلسفة هيغل وكانت, كما انه نادراً ما اهتم بالمسائل المنطقية.
ان الفكرة الهيغيلية العميقة عن انتقال الفكر النظري من المجرد الى الملموس, وبالتالي, عن إمكانية الملموس في التفكير المجرد, بقيت غريبة عنه تماماً.
ان فويرباخ, الذي انتقد محاولات عزل الفكر عن أساسه الحسي, لم يرى ارتباط المعرفة النظرية بالممارسة. انه يتكلم أحيانا عن الممارسة, ويحاول إدخالها الى عملية المعرفة, اذ يؤكد مثلاُ, أن الممارسة تحل المسائل التي تعجز النظرية عن حلها, لكننا لا نفهم عنده الفهم العلمي للممارسة. ان الممارسة المادية بدت له امراً غريباً, حتى وعدائياً للفلسفة, وللفكر النظري عموماً. ومع ذلك تضمن طرح فويرباخ لمسألة الدور الحاسم للنشاط الحسي في عملية المعرفة بدايات جنينية لإمكانية إيجاد حل علمي صحيح لهذه المسألة الجنوسيولوجية الأساسية.


9- آراء فويرباخ الاجتماعية والأخلاقية:
تشكل الآراء الاجتماعية والأخلاقية الجزء الأقل معاجلة وأصالة في فلسفة فويرباخ, ان فويرباخ كغيره من ماديي ما قبل الماركسية, لم يستطع ان يفهم الحياة الاجتماعية والوعي الاجتماعي مادياً, وبالتالي الأخلاق.
لقد وقف فيلسوفنا ضد التفسير الديني- المثالي للحياة الاجتماعية, لكنه لم يرتفع الى مستوى الفهم المادي للتاريخ, لأنه يستعيض عن القوى الغيبية المحركة للتاريخ بالمشاعر والرغبات الإنسانية, اي بأشياء واقعية فعلاً, لكنها غير مادية. ويعارض فويرباخ الفهم الديني المثالي للتاريخ العالمي بالنظرة (الطبيعية), التي تنطلق من الفهم الانثروبولوجي للحساسية الإنسانية على إنها القوة الرئيسية والمحددة لسلوك كل فرد, ولسلوك المجتمع ككل.
ويدحض فويرباخ التصور الهيغلي للحرية دون ان يلاحظ المحتوى الايجابي في طرح هيغل لمسألة التطور التاريخي للحرية. الحرية, بالنسبة لفويرباخ, هي وحدة الإنسان مع الشروط, التي فيها تتكشف ماهيته. ان الطائر حر في الهواء, والسمكة في الماء, والإنسان حر حيث, وعندما تسمح له ظروف حياته بتلبية نزوعه الطبيعي الى السعادة, الى تحقيق قدراته. هذا الفهم (الطبيعي), الانثروبولوجي, المجرد للحرية الإنسانية شبيه بمطلب المنورين البرجوازيين في جعل ظروف الحياة الإنسانية تتفق مع الطبيعة الإنسانية, في جعل هذه الظروف إنسانية.
في السوسيولوجيا, تحمل النزعة الانثروبولوجية طابعاً ديمقراطياً- برجوازياً سافراً-. ان أهم ما في هذه النزعة هو اعترافها بالوحدة الانثروبولوجية لجميع الناس. وإذا كان الناس متساويين بطبيعتهم فان جميع المراتب الاجتماعية مناقضة للطبيعة الإنسانية, ولذا يجب إلغاؤها. هذا الفهم للمساواة, محدود ايضاً, تماماً كالفهم الديمقراطي- البرجوازي للحرية. ان فويرباخ لم يهتم تقريباً بالتركيب الاقتصادي-الاجتماعي للمجتمع, الذي تسيطر فيه طبقة على أخرى, ولم يرى العلاقة بين الاضطهاد والاستغلال, من جهة, وبيت الملكية الخاصة- من جهة ثانية.
ان فويرباخ, الذي ينظر الى الإنسان على انه كائن طبيعي, يحاول ان يجد في إطار المجتمع البرجوازي الظروف الطبيعية للوجود الإنساني, أي تلك الظروف التي تتيح للفرد, الى هذا الحد أو ذاك, تحقيق توقانه الى السعادة. هنا يخلص فويرباخ الى القول بأن (كافة الأشياء- باستثناء الحالات المناقضة للطبيعة- توجد, عن طيب خاطر, هناك حيث هي موجودة, وتتجلى عن طيبة خاطر, كما هي في الحقيقة). وقد أشار انجلز الى ان هذا الاستنتاج الفويرباخي يتضمن, بغض النظر عما قصده الفيلسوف, دفاعاً عن المجتمع البرجوازي.
بالطبع, كان فويرباخ ذاتياً, بعيداً عن تبرير عوز الكادحين واستغلالهم, لقد كان يؤمن ايماناً عميقاً بامكانية القضاء على البؤس والحرمان من الحقوق, حتى انه أطلق على نفسه اسم (الشيوعي), لكنه لم يضمن هذا المفهوم أي محتوى سياسي اجتماعي. ومع ذلك فان فويرباخ, لم يستطع موضوعياً, الارتفاع فوق التصورات الديمقراطية البرجوازية عن المجتمع. انه كما أشار ماركس وانجلز (لم يتعرض بالنقد للعلاقات الحياتية الراهنة, ولم يصل ابداً الى فهم العالم الحسي كنشاط حسي, حي إجمالي للأفراد الذين يتكون منهم هذا العالم. ولذا فانه مضطر, على سبيل المثال, إذ يرى بدلاً من الناس الأصحاء حشداً من الفقراء, الذين أضنى أجسادهم التعب, وفتك بها السل وداء الخنازير, انه مضطر للاستنجاد ب(التأمل الحسي), ب(مساواة الناس بطبيعتهم), أي يعود من جديد الى مواقع المثالية بالتحديد في ذلك المكان, الذي يرى فيه المادي الشيوعي ضرورة, وكذلك شرط تحويل الصناعة, والنظام الاجتماعي على حد سواء).

ان مثالية فويرباخ في فهم الحياة الاجتماعية تتجلى على أشدها في محاولته لإقامة آرائه السوسيولوجية الإنسانية على أساس أخلاقي محض, انه يفترض على غرار ماديي القرن الثامن عشر الفرنسيين, أن الأنانية Egoism المعقولة, أي المصلحة الفردية المفهومة بشكل صحيح, تتطابق في نهاية المطاف مع المصلحة الاجتماعية, فانه لا يمكن, ولا يجب أن يكون بينهما تعارض. ولكن إذا كانت الأنانية والإيثار, تشكلان وحدة انثروبولوجية (يقول فويرباخ: بدون أنانية فليس عندك من رأس, وبدون إيثار (غيرية), ليس عندك من قبل) فان الحب يغدو وسيلة لتحقيق الحياة الاجتماعية المنسجمة. ان الإنسان المحب لا يمكن ان يكون سعيداً بمفرده, فسعادته يرتبط بشكل وثيق بسعادة من يحب.)

وهكذا فان السعادة الحقيقية تنشد السعادة للجميع, ولا تتطلب أي تنازل من الواجب للشعور, ولا اي تعارض بينهما.
يقول انجلز (ان الحب يبقى في كل مكان وزمان, صانع المعجزات عند فويرباخ... وهذا في مجتمع منقسم الى طبقات ذات مصالح متناقضة تماماً! وعليه فان فلسفته هنا تفقد آخر ما تبقى لها من طابعها الثوري, ولا تبقى غير اللازمة القديمة: أحبوا بعضكم البعض, وتعانقوا دون تمييز في الجنس, أو المكانة – انه نشوان بالمصالح العامة!!)

وبما أن الحب يشكل جوهر الحياة الإنسانية وهدفها عند فويرباخ, فانه يراه بالضبط, القوة المحركة للتقدم الاجتماعي, والأخلاقي خاصة.
هذا التفاؤل الأخلاقي يصطدم لا محالة بوقائع التاريخ والحياة اليومية.

في فترة ثورة 1848 توجه فويرباخ مخاطباً مستمعيه من طلاب وعمال: (أين يبدأ عصر جديد في التاريخ؟ هناك, وهناك فقط, حيث تطرح الجماهير, أو الأغلبية المضطهدة أنانيتها المشروعة في مجابهة أنانية امة أو فئة, هناك حيث تتخلص طبقات من الناس, أو أمم بأكملها, بعد ان تحرز النصر على الغطرسة المتعالية للأقلية المسيطرة, تتخلص من وضع البروليتاريا البائي والجائر, لتظهر على مسرح النشاط التاريخي المجيد.
وهكذا فان أنانية الأغلبية العظمى من البشرية, التي تعاني الآن من الاضطهاد, يجب ان تمارس, وستمارس حقها, وسيبدأ عصر جديد في التاريخ).
وفي احد المواضع من تلخيص فلاديمير لينين ل(محاضرات حول جوهر الدين) يورد قول فيلسوفنا: (بالإضافة الى الأنانية الفردية, هناك أنانية اجتماعية, أنانية عائلية, طائفية, قبلية, وطنية ليصف بأنها بذور المادية التاريخية). لو فهم فويرباخ ان الوحدة الانثروبولوجية للجنس البشري لا تنفي الفوارق الاجتماعية التي ظهرت تاريخياً, لو وجه بحثه لهذه الفوارق, وبالتالي الى (الأنانية الاجتماعية) ومصالح الطبقات المتعارضة, لاستطاع تجاوز النظرة الانثروبولوجية. لكن فويرباخ, ببقائه في مواقع الانثروبولوجية والديمقراطية البرجوازية, لم يستطع تطوير تلك الأفكار المنفردة, التي يقترب فيها من الفهم المادي للتاريخ.
وما زاد من الوضع سوءاً, أن فويرباخ حاول البرهنة انثروبولوجياً على هذه الأفكار, الأمر الذي اعاق تطوير هذه الأفكار, وتعميقها. فهو يقول مثلاً: (في القصر يفكرون غير ما يفكرون في الأكواخ, فالسقف المنخفض يبدو وكأنه يضغط على الدماغ. الناس في الهواء الطلق يختلفون تماماً عنهم في الغرفة, فالازدحام يخنق, أما الرحابة فتشرح القلب والرأس), هذا التفسير الطبيعي الانثروبولوجي للتناقض الجذري بين الطبقات (العليا) والجماهير (الدنيا) المسحوقة, لا يؤدي في الحقيقة إلا الى إبهام هذا التناقض.


10- شرح “أطروحات حول فويرباخ” لكارل ماركس (1845):
كتبها ماركس عام 1845. نشرها إنغلز محررة لأول مرة عام 1888 بوصفها ملحقا لكتاب عن فويرباخ. نشر الأصل غير المحرر بالألمانية والروسية عام1924. نشر بالإنغليزية لأول مرة عام 1938.

الأطروحة (1): تتضمن نقداً للمادية السابقة، بما في ذلك مادية فويرباخ. ويرى ماركس أن النقيصة الرئيسية في تلك المادية أنها تنظر إلى الموضوع المباشر المحسوس على أنه موضوع بحت، موضوع للتأمل. إنها لا تنظر إليه على أنه نتاج ممارسة أو نشاط حسي إنساني، أي ليس ذاتياً، ليس من منظور الفاعلية الذاتية الإنسانية. ونجد ماركس ههنا يستوعب تماماً درس العلم الغاليلي المتمثل في اعتبار العالم المحسوس منتجا بشرياً (صناعة بشرية) له جانبه الموضوعي، لكن له أيضاً جانبه الذاتي. هنا نجد ماركس يطلق فكرة أن الإنسان هو في جوهره فاعلية خلاقة، فاعلية منتجة.

ويرى ماركس أن هذه النقيصة في المادية أتاحت المجال للمثالية تطوير هذا الجانب الفعال من الخبرة البشرية. لكنه يستدرك بالقول إن المثالية طورت هذا الجانب تجريدياً. فهي لا تعرف الممارسة الحسية الفعلية بحكم تركيبتها. وهنا نجد ماركس ينقد المادية السابقة والمثالية بنفس واحد. فالماركسية نبعت من نقد كليهما في آن واحد، كما سبق أن بينت في كتابي، ” نقد العقل الجدلي”.

ويقول ماركس إن فويرباخ يميز بين الموضوع المحسوس وموضوع الفكر والتأمل. لكنه لا يدرك النشاط الإنساني العياني بوصفه نشاطاً موضوعياً، أي قوة مادية اجتماعية قادرة على تغيير الطبيعة ومظاهرها الحسية. لذلك، فإن فويرباخ لا يعترف سوى بالنشاط النظري التأملي والموقف النظري. فهو يقصر إنسانية الإنسان عليه، ويزدري الجانب العملي، ولا يتصوره إلا بصورته التجارية اليهودية القذرة. لذلك فهو لا يقدر النشاط الثوري النقدي العملي. فهو يظن أنه يستطيع أن يحل المشكلات نظرياً وتأملياً، وليس ثورياً. فالثورة هي النقد العملي العياني الحسي. إنه لا يدرك أن الإنسان هو في جوهره فاعلية خلاقة ثورية منتجة فعلياً.

الأطروحة (2): هناك ميل في فلسفة الحداثة إلى اعتبار الحقيقة الموضوعية شأناً نظرياً متعلقاً بالفكر المجرد. فوفق ديكارت وليبنتس مثلاً، فإن الحقيقة الموضوعية مكتوبة بنيوياً وجوهرياً في قلب الفكر المجرد. أما ماركس فهو يرى أن الحقيقة الموضوعية شأن عملي، وليس شأناً نظرياً بحتاً. فقوة الفكرة، حقيقتها، عيانيتها، ماديتها لا يمكن برهانها إلا بالممارسة الحسية. وهنا أيضاً نجد ماركس يستوعب درس العلم الحديث. فإذا لم تكن الفكرة العلمية قابلة لأن تترجم استنتاجياً إلى فعل تجريبي عياني، فإنها لا تكون علمية وتفقد صلتها بالحقيقة الموضوعية. البرهان يكمن في الممارسة. والأفكار تختبر بالممارسة، سواء أكانت علمية أم اجتماعية. فالسؤال عن واقعية الفكر وعيانيته يغدو سؤالاً أكاديمياً غير مؤثر بمعزل عن الممارسة.

الأطروحة (3): ويتابع ماركس نقده ما أسماه إنغلز المادية الميتافيزيقية أو الميكانيكية بالقول إن هذه المادية تعتبر الناس نتاجاً لظروفهم وتنشئتهم، وتعتبر تغيرهم نتاجاً لتغير ظروفهم وتنشئتهم، لكنها تنسى أن الناس هم الذين يغيرون ظروفهم وأن المعلم يحتاج إلى من يعلمه. لذلك تلجأ هذه المادية إلى تقسيم المجتمع إلى فئتين تضع إحداهما فوق المجتمع. فلا يمكن تصور تطابق تغير الظروف مع النشاط الإنساني أو التغير الذاتي ولا يمكن فهمه عقلانياً إلا بوصفه ممارسة ثورية. ههنا يبرز ماركس العلاقة الجدلية بين الناس وبيئتهم. فالقدرة الذهنية الإنتاجية للناس تمكنهم من تحويل بيئتهم بما يستجيب لحاجاتهم. والبيئة المغيرة تعمل على تحويل الذات الصانعة أو المنتجة. وهذا الجدل من التحويل المتبادل هو محرك التاريخ وصانعه، وهذا ما يعنيه ماركس بالممارسة الثورية.

المقولة (4): إن فويرباخ ينطلق من الاغتراب الذاتي الديني ومن تقسيم العالم إلى عالمين: عالم ديني متخيل ووهمي، وعالم دنيوي عياني. ويتمثل عمله في اختزال العالم الدنيوي المتخيل إلى العالم الدنيوي العياني. لكنه يغفل حقيقة أن المهمة الرئيسية تبدأ حال الانتهاء من هذا العمل النظري. ذلك أن كون العالم الدنيوي يشطر نفسه إلى شطرين وينشئ عالما متخيلا وهميا في السماء ويعده حقيقته ومصدر وجوده لا يمكن فهمه إلا بفهم تناقضات هذا العالم الدنيوي ومثالبه ونواقصه وبؤسه. فالمهمة الكبرى الملقاة على عاتقنا هي فهم العالم الدنيوي، فهم تناقضاته الداخلة العيانية وتثويره بإزالة هذه التناقضات. وعلى سبيل المثال، فما إن ندرك أن العائلة الأرضية هي سر العائلة المقدسة، حتى تبرز لدينا مهمة تحطيم الأسرة نظرياً وعملياً.

وهذا يذكرنا بقول ماركس في ” نقد فلسفة الحق الهيغلية” (1843) إن نقد الدين هو أساس كل نقد، وإن نقد الدين قد اكتمل في ألمانيا، ومن ثم، فقد آن أوان نقد السياسة ونقد الاقتصاد السياسي. وهذا بالضبط ما كرس ماركس باقي حياته من أجله. كما تذكرنا هذه المقولة بمقولته اللاحقة ” في إسهام صوب نقد الاقتصاد السياسي” (1859) بأن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي، وليس العكس.


المقولة (5): يستمر ماركس في نقد تصور فويرباخ للحس. فالحس لدى فويرباخ تأملي في جوهره، وليس ممارسة بشرية عملية.

المقولة (6): إن فويرباخ يختزل الجوهر الديني إلى الجوهر الإنساني. لكن الجوهر الإنساني ليس مجرد تجريد كامن في كل فرد، وإنما هو مجمل علائقه الاجتماعية. ولأنه لا ينقد هذا الجوهر الحقيقي، فإن فويرباخ يلجأ إلى التجريد بعيداً عن الصيرورة التاريخية، ويعرف الشعور الديني بمعزل عن أرضيته الاجتماعية ويفترض الفرد البشري المعزول التجريدي. من ثم، فهو يعتبر الجوهر مجرد “نوع” وعمومية صماء توحد الأفراد على أساس طبيعي.

المقولة (7): من ثم، فإن فويرباخ لا يدرك أن الشعور الديني هو ناتج اجتماعي، وأن الفرد التجريدي الذي يحلله ينتمي إلى بنية اجتماعية معينة.


المقولة (8): ههنا يعيد ماركس تأكيد الطابع العملي الفاعل للمجتمع. فالحياة الاجتماعية هي في جوهرها ممارسة تحويلية. ويرى أن جميع الألغاز التي تقود النظرية إلى الغيبية تجد حلها العقلاني في الممارسة البشرية وتأمل هذه الممارسة.

المقولة (9): في هذه المقولة، يربط ماركس بين أشكال المادية وأسسها الاجتماعية الاقتصادية. وبصورة خاصة، فإنه يربط ما بين ما يسميه المادية التأملية، التي تكتفي بالتأمل ولا تستوعب الحس بوصفه نشاطاً عملياً، وما بين المجتمع المدني. فأقصى نقطة تصل إليها هذه المادية هي تأمل الأفراد المعزولين والمجتمع المدني. فهي لا تستوعب المجتمعات البشرية في تنوعها الإنتاجي وتاريخيتها، وإنما تعد الفرد المعزول والمجتمع المدني سدرة المنتهى. وبتعبير ماركسي لاحق، فإن المادية التأملية هي آيديولوجيا البرجوازية الثورية لا أكثر ولا اقل، وتعجز عن تخطي البرجوازية ومنظوراتها.

المقولة (10): يصل هنا إلى نتيجة تشكل انطلاقة الماركسية صوب نظرية ناضجة في الفكر والآيديولوجيا. إذ يصرح أن منظور المادية القديمة هو المجتمع المدني أي البرجوازي. أما المادية الجديدة، أي التاريخية والجدلية، فهو المجتمع الإنساني أو الإنسانية الجمعية Socialized، أي المجتمع الشيوعي.

المقولة (11): هنا يصل بنا ماركس إلى مبتغاه وخلاصة أطروحاته العشر. إذ يقول: حتى الآن، فإن الفلاسفة أولوا العالم بصور متنوعة. لكن النقطة هي تغييره.

وفي ضوء الأطروحات السابقة، فإن ماركس يؤكد هنا على وحدة النظرية والممارسة، وعلى أن حقيقة النظرية وعيانيتها ترتبط بالممارسة وتكتسب معناها من فاعليتها العملية ومن موقعها في عملية التغيير. فسر النظرية يكمن في هذا الموقع تحديداً. لكنها تفقد معناها وعيانيتها بمعزل عن هذا الموقع.


المصادر:
1- موجز تاريخ الفلسفة, لجماعة من الأساتذة السوفييت
2- الفلسفة الكلاسيكية الألمانية, نيكيتا غورييف
3- اللجنة الإعلامية للحزب الشيوعي الأردني
4- قدم المادة رقم (10) شرح “أطروحات حول فويرباخ” لكارل ماركس (1845), النظري الفيزيائي والمفكر الماركسي الدكتور هشام غصيب




#اللجنة_الاعلامية_للحزب_الشيوعي_الاردني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأخلاق عند ماركوس اوراليوس
- (البراغماتية) في الأخلاق
- الأخلاق عند جان بول سارتر
- (الصداقة), سويولوجياً, سيكولوجياً وأخلاقياً
- تجربة في ظل الاشتراكية الحية... بلغاريا آنذاك والآن
- الأمر القطعي (Categorical Imperative)
- الأمانة, كخصلة خلقية
- وجهة نظرنا في (الغاية تبرر الوسيلة), أخلاقياً (الأهداف والوس ...
- الأيديولوجيا في دول الطرف الرأسمالي
- التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الإقطاعية
- محاولة لقراءة ماركسية, للمملكة العربية السعودية.
- تربية الذات اخلاقياً:
- ما هي (البطولة), من وجهة نظرنا؟
- بعض جوانب النزعة اليسارية المغامرة
- التفاني Devotion
- التيوديسيا Theosdike
- الولايات المتحدة الأمريكية الاشتراكية
- الموقف من المرأة
- ماذا يعني مفهوم, الأخلاق البرجوازية؟
- ما هي رباطة الجأش عند الشيوعي؟


المزيد.....




- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...
- حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء ...
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...
- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...
- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
- متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
- نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني - سلسلة مادية فويرباخ الانثروبولوجية.