جريدة الحياة (20/11/2002 )
التخطيط لمستقبل العراق ينال القدر الكبير من اهتمام مفكرين وسياسيين معروفين. ففي المؤتمر الذي نظمه معهد الشؤون الأميركية (American Enterprise Institute) في واشنطن في الثالث من الشهر الماضي تم طرح افكار اقل ما توصف به على المستوى العربي أنها ثورية. فمَنْ من العرب سمع قبل اليوم ان وصفة تحول العراق الى دولة ديموقراطية تشترط ان يتم إعلان الفيديرالية على اساس مناطقي (ديموغرافي), وخلع الدولة عن نفسها صفة العروبة, وإسقاط حق الحرب والقتال في معالجة الخلافات الإقليمية والعالمية (اختزال الجيش)?
واخبر المفكر العراقي البروفسور كنعان مكية (أستاذ في جامعة هارفرد) حضور المؤتمر ان لديه الوصفة التي ستجعل من العراق بلداً ديموقراطياً مزدهراً. وتستند هذه الوصفة الى خمسة شروط ينبغي توافرها أولاً إذا ما أُريد للعملية النجاح. والشروط هي:
- توافر الجدية والصدقية من جانب الحكومة الأميركية في سياسة إسقاط نظام صدام.
- عدم حصول تضحيات بأرواح مدنيين عراقيين خلال مرحلة إسقاط النظام.
- تبني المعارضة العراقية للفيديرالية المناطقية, وفصل الدين عن الدولة وتقليص الجيش.
- ان تتبنى الحكومة الأميركية مبدأ إعادة إعمار العراق وتشجيع الديموقراطية فيه.
- توقيع الحكومة الأميركية اتفاقاً مع الحكومة الجديدة للعراق ينص على إبقاء قوات عسكرية اميركية على الأراضي العراقية لسنوات عدة (وليس أشهراً) لضمان وحدة الأراضي العراقية.
الفيديرالية
وأوضح كنعان مكية ان أول من تكلم على الفيديرالية هم الأكراد عندما صوّت البرلمان الكردي في كردستان العراق 1992 على هذا المطلب الذي رأوا فيه عامل توحيد لدولة العراق لا العكس. بعدها قام المؤتمر الوطني العراقي (INC) بتبني مبدأ الفيديرالية في سنه 1992 في مؤتمره الذي عُقد في مدينة صلاح الدين (كردستان العراق). وأعاد المؤتمر الوطني العراقي تأكيد هذا التبني في مؤتمره عام 1999 في مدينة نيويورك. يقول مكية انه بتبني المعارضة العراقية للفيديرالية (من دون تحديد شكلها النهائي) تكون كسرت القالب السياسي التقليدي الذي أطّر الحياة السياسية العربية الرتيبة.
فمن دون تقسيم السلطات وتوزيعها على المناطق والأقاليم سيكون من المستحيل تحقيق اي قدر من الديموقراطية, بل سيكون مصير الدولة العراقية الى التقسيم نتيجة رد فعل الأكراد المتوقع في اعلان دولتهم المنفصلة في كردستان العراق, ولن يكون لأي أحد يدّعي إيمانه بمبادئ الديموقراطية الحق في ان يلومهم.
المشكلة ان العرب العراقيين قبلوا بالفيديرالية على اساس براغماتي بحت, إذ يعتقدون ان قبولهم في الوقت الراهن يساعد في تقوية صف المعارضة العراقية أمام نظام صدام. وفي المقابل فان الأكراد لا يقبلون بها لأنهم يريدونها فعلاً, بل لأنها حال بديلة لعدم إمكان تأسيس دولة كردية مستقلة في الوقت الراهن بسبب تعقيدات إقليمية معروفة. لذا فإن مكية يدعو العراقيين الى قبول الفيديرالية مبدئياً لا براغماتياً.
القبول بالفيديرالية حلاً لمشكلة العراق يجب ان ينبع من الإيمان بأن هذا الخيار سيوفر المساواة بين أفراد الشعب العراقي متجاوزاً الفروقات الإثنية وناقضاً فكرة ان للغالبية حق إدارة شؤون الأقلية في البلد الواحد, ويتم ذلك بنزع السلطات المناسبة من السلطة المركزية وتوزيعها على الوحدات الجغرافية التي تكوّن الدولة الفيديرالية.
والآن كيف سيتم تحديد مقومات الوحدات (الولايات) الفيديرالية التي ستكوّن الدولة الفيديرالية (العراق)?
الفكرة الأولى تحديدها على اساس اثني. والسائد في الساحة العراقية هو النظر الى العراق على انه يتألف من منطقتين فيديراليتين: عربية وكردية. ولكن, هناك ثلاث مشكلات مع هذا النوع من الاتجاه:
1- ستتحفز اثنيات أخرى موجودة في العراق لاعلان طلباتها بأن تكون لها وحدات جغرافية منفصلة داخل الاتحاد الفيديرالي.
2- ستكون هناك حال تمييز عنصري واضحة للإثنيات الأخرى في العراق اذا ما تم تعيين اثنيتين فقط (عربية وكردية) لتتمتعا باعتراف القانون لها بالتمثيل فيديرالياً.
3- لو تم تحديد كل الإثنيات الموجودة في العراق (وهي كثيرة) لتعذر تحديد مناطق جغرافية لها لتمييزها عن الإثنيات الأخرى, حيث ان الأكراد موجودون أيضاً في بغداد. وهناك عرب يعيشون في السليمانية وتركمان وأرمن وكلدانيون يعيشون في مناطق مختلفة من العراق.
لذا, فإن فهم الفيديرالية على اساس اثني والاعتراف بكل الإثنيات الموجودة في العراق امر غير عملي وفيه معوقات لا تقل حدتها عن فهم الفيديرالية على اساس الاعتراف بإثنيتين فقط (العربية والكردية).
الفيديرالية المناطقية (اللامركزية على أساس ديموغرافي) هي البديل المناسب للعراق, والتي فيها تتسلم كل منطقة (هناك ميل ابتدائي الى جعلها 18 منطقة فيديرالية) حصتها من المخصصات المالية وعلى اساس التعداد السكاني لكل منطقة او إقليم. وهذا ما هو قائم حالياً في كردستان العراق حيث تتسلم كل محافظة (السليمانية وأربيل ودهوك) مخصصاتها المالية من مكتب الغذاء في مقابل النفط العائد للأمم المتحدة. فإذا وضعنا الحكومة الفيديرالية المستقبلية محل مكتب الغذاء في مقابل النفط التابع للأمم المتحدة, وشملنا كل محافظات العراق بهذا الأسلوب من حيث توزيع العائدات المالية لثروات العراق, فإننا سنكون قد رسمنا أهم مقومات الدولة الفيديرالية الإقليمية في العراق.
يذكر ان نبذ كنعان مكية للفيديرالية الاثنية جاء مطابقاً للوثيقة التي صدرت أخيراً باسم (إعلان شيعة العراق) التي وقعها اكثر من 300 شخصية شيعية عراقية.
بناء على ما سبق سيكون من الطبيعي ان يكون تصنيف العـراق على انه دولة عربية هو حال مناقضة للفيديرالية المفترضة. وبالتالي فإن العراق الفيديرالي الجديد لا يمكن تعريفــه بأنه عربــي الهوية, لما لهذه التسمية من تأثير يُقوّض اساس الفيديرالية المناطقية التي نبذت التمييز بين الإثنيات في البلد الواحد.
وتفادى كنعان مكية ان يناقش المسألة الحساسة (الدين) بأسلوب تقليدي. فلم يشأ ان يسأل السؤال التقليدي المبهم الذي يقول: هل ترغب ان يكون العراق دولة علمانية?
المسألة اكثر تعقيداً من ذلك. وبدلاً من مناقشة الموضوع بالطريقة المعتادة, قام مكيـة بطـرح مجموعة من الأسئلة التي لو أجاب عنها المواطنون سيستنتج الباحث طبيعة العلاقة التي يريدها الشعب بين الدين والدولة.
أول الأسئلة هو: هل تقبل ان تضطلع الدولة بعملية إقناعك او إجبارك على اعتناق عقيدة دينية معينة?
الثاني: هل تقبل ان تقوم مؤسسات الدولة المختلفة بسؤالك عن معتقدك الديني كحال تعريفية لك, لكي يتم التعامل معك بالأسلوب المناسب من حيث الحقوق والواجبات?
الثالث: هل ترغب في ان ترى الدولة تقوم بواجب تنظيم الشؤون الدينية وتوجيهها وتطويرها في البلد, من خلال وزارة أوقاف مثلاً?
الرابع: هل تمتلك الثقة الكافية برجال السياسة العراقيين لتمنحهم قوة التأثير والسيطرة على شؤونك الدينية?
الخامس: هل تعتقد ان لرجال الدين المعرفة والخبرة الكافية لاتخاذ قرارات لها علاقة بترتيب شؤونك السياسية?
يعتقد مكية ان غالبية العراقيين سيكون جوابهم (كلا) عن كل الأسئلة المطروحة أعلاه. وبذلك يكون المواطن العراقي قرر ان من الأفضل فصل الشؤون الدينية عن الأمور السياسية.
والمقصود بالفصل هو منع الساسة من الإساءة الى الدين من خلال استغلاله وسيلة لتمرير أغراضهم. فنظام صدام مثلاً برع في استخدام الدين وسيلة لتحسين صورته البشعة في الإعلام, من خلال توظيف أموال الشعب العراقي الجائع نتيجة الحصار الداخلي الذي يفرضه عليه في بناء جوامع عملاقة. حتى ان صدام حسين أطلق أسماء لآيات قرآنية على حملات إبادة الأكراد في شمال العراق. كل هذه الممارسات أساءت الى الإسلام ولم تخدمه.
الوصفة الجديدة للديموقراطية في العراق ستحرر علماء الدين المنتمين الى الأديان المختلفة في العراق من سيطرة الدولة عليهم, ما سيمنحهم حق التعبير الحر وإدارة مدارسهم الدينية ذاتياً وتوسيع التعليم الديني في المدارس الدينية المتخصصة, وستعطي التلميذ في المدارس العراقية العامة الخيار بالاطلاع على كل الأديان والمذاهب المختلفة بأسلوب يعكس احتفال العراقيين بالتنوع الديني في بلدهم.
وفي صدد الجيش, يعتبر كنعان مكية إلغاء عسكرة الدولة الحديثة من أهم الأمور الواجب اتخاذها. برزت هذه الفكرة في سنة 1991 حيث قام اكثر من 400 عراقي مثّلوا جميع الإثنيات والأديان في العراق بتوقيع عقد سُمي في وقتها بـ(عقد 91). ويكشف هذا العقد حقيقة ان قوة الدولة تكمن في القوة الإبداعية للمواطن ومؤسسات الدولة المدنية المختلفة, عكس المعتقد السائد في المنطقة الذي يقول ان ضمان الدولة هو جيش قوي. ويذهب واضعو العقد الى ابعد من ذلك حين يقررون ان الجيش القوي يهدد البناء الديموقراطي للدولة, وهذا ما حدث فعلاً في العراق. ويشترط العقد ان يحتوي الدستور العراقي الجديد على ما يأتي:
1- إلغاء التجنيد الإجباري في الجيش وإعادة تنظيم الجيش كقوة دفاعية صغيرة احترافية يُمنع استخدامها لأغراض داخلية.
2- تحديد الإنفاق على الجيش فلا يتجاوز 2 في المئة من مجموع الدخل القومي.
3- ان يحتوي الدستور على الفقرة الآتية: (ان الدولة العراقية تتخلى عن حق شن الحرب, او التهديد باستخدام القوة لحل المشكلات العالمية).
ثم يشدد مكية على ان هذه العملية ليست سهلة, ولكن من الممكن ان يقبلها شعب العراق اذا ما ضمن سلامة أراضيه من اي اعتداء من خلال اتفاقات دولية وإقليمية بعدم الاعتداء, وتوافر ضمانات من قوى عظمى.
* كاتب عراقي مقيم في الولايات المتحدة.
http://www.daralhayat.com/alhayat/Data/2002/11/20/Art_64681.XML