|
قراءة في شكل الاستعباد الحديث.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4361 - 2014 / 2 / 10 - 10:33
المحور:
المجتمع المدني
قراءة في شكل الاستعباد الحديث.
تفيد معلومات منتشرة على شبكة الإنترنت أن 1% (سبعين مليون) من سكان العالم يمتلك أكثر من 65 ضعف ما يملكه النصف الأفقر (ستة مليارات و تسعمئة و ثلاثين مليون) من سكان العالم. و من هؤلاء ال 1% أي من السبعين مليونا ً هناك 85 شخصا ً يملكون بالضبط ما يملكه النصف الأفقر، و حتى يسهل فهم العبارة الأخيرة تخيل معي أيها القارئ الكريم السيناريو التالي:
- أمامك حافلتان كبيرتان (باص رحلة سياحية عدد 2)، صعد إليهما 85 شخص و جلسوا.
- فجأة انفتحت أمامك بوابة كونية كالتي تشاهدها في أفلام الخيال العلمي، و من داخل البوابة يظهر كوكب بحجم كوكب الأرض، و على هذا الكوكب حوالي ثلاث مليارات و نصف إنسان.
- ثم ظهر أمامك بحر ٌ عظيم جدا ً، خالي من الأسماك.
- و قرر الأشخاص الذين في الحافلتين، و الأشخاص الذين في الكوكب أن يساهموا في ملئ هذا البحر العظيم بالأسماك.
- و كلما رمى الناس الذين في الكوكب سمكة واحدة داخل البحر، يرمي الذين في الباصين سمكة مثلها.
- سمكة من الكوكب مقابل سمكة من الباصين.
هذا هو توزيع الثروة في كوكبنا الأرضي، مقابل كل دولار عند نصف العالم الأفقر هناك دولار مثله عند أغنى 85 شخص. و قد يعتقد بعض الأشخاص أن هذا التوزيع ناتج عن اجتهاد خارق لهؤلاء ال 85 يعتمد على عقليات فذة قادرة على استشراف المستقبل و تطويع الظروف و رؤية ما لا يراه غيرهم، و على الرغم من أن هذا الكلام صحيح جزئيا ً من جهة قدرتهم على فهم طبيعة التكوين البشري و التعامل مع مادية الطبيعة و ضغط الحاجة لدى الجموع و تزويدهم بما يسد الحاجات مقابل مردود مادي أو ولائي، إلا أن الحقيقة الأكبر و الأعظم هي في الطريقة التي ينظر فيها هؤلاء الأشخاص إلى بقية البشر.
تنظر هذه "النخبة" إلى العالم على أنه قائم على الطبقية كواقع لا يمكن تخطيه و لا يجب تخطيه، في هذا الواقع فئات راقية لكل منها قدرها و منزلتها و دورها، و ارقاها و أعظمها هي فئتهم و نخبتهم، و هي المختصة برسم توجهات الاقتصاد العالمي و العلاقات التجارية و التحكم في موارد الطاقة، وتتميز عن غيرها بنظرتها الشمولية للأمور بحيث تتعامل مع الواقع على شكل ارقام و سياسات و على مستوى الهدف و النتيجة و ماهية و شكل الواقع الموجود مقابل الماهية و الشكل المطلوبين لا على مستوى الإنسان الفردي أو العائلة.
و ينتج عن هذا بالضرورة أن يصبح إنسان الشارع، الموظف و العامل و المتقاعد و الطالب و العاطل عن العمل مجرد أدوات تنفيذ في يد رجال أعمال و سياسين صغار هم أنفسهم خدم ٌ على مستوى أعلى من مستوى إنسان الشارع بدرجات، يتمتعون بطريقة حياة "أرقى" نوعا ً ما و أكثر رفاهية ً، لكنهم في نفس الوقت ما يزالون خدما ً و بيادق تنفيذ في يد طبقة أعلى منهم، و هكذا حتى نصل إلى طبقة نخبة النخبة La Crème De La Crème هذه الطبقة التي لا تملا ً باصين سياحين لكن مقاليد العالم كله في يدها.
يرتبط إنسان الشارع بهذه المنظومة بتداخل نسيجي لا يمكن الفكاك منه لأنه يتغلغل في أبعاد وجوده كاملة ً، فبيته و سيارته و أملاكه البسيطة هي حاجات ٌ يلبيها تمويل ٌ بنكي هو في الحقيقة وجه النظام الإقطاعي و أداته "اللطيفة" "الحنونة" "مبسوطة اليد" "الجاهزة للعطاء"، بينما هي في حقيقة الأمر الأغلال التي تربط قدميه و تبقيه مغروسا ً في تلك التربة يضرب جذوره عميقا ً في الأرض التي يمتلكها أربابه ُ يغذيهم بطاقة الحياة مع كل نفس ٍ يستمده من سماء الحرية، في مشهد ٍ عجيب تـُعمـِّـق فيه حرية الفرد و إنسانيته عبوديته و تقويها و تجذرها، و ينقلب فيه الحر بطبيعته عبدا ً وسيما ً ببدلة ٍ أنيقة و سيارة جذابة و شقة ٍ لا بأس بها، يرتاد المطاعم و الأسواق و المولات و ينقر بأصابعه شاشة ً اللمس الخاصة بهاتفه الذكي الذي بواسطة تقنيات تحديد الموقع GPS يُقدم له برامج تواصل مجانية مع أقرانه لـ "يتصل" بهم كل الوقت.
هذا الخِدر ُ الساحر الخلاب الذي نعيش ُ فيه و يضرب بيننا و بين الحقيقة ِ حجابا ً حريريا ً ذا نقوش ٍ مزخرفة جميل براق ناعم الملمس، زكي ُّ الرائحة، هو مجرد الشكل الجديد الذي قُصد له أن يعطي "الأحرار" الجُدد، القطعان الجماهيرية، العبيد السابقين للإقطاعين السابقين، الثوار المتمدنين أحفاد الثورة الفرنسية و كل الثورات الحلمنتيشية البتنجانية الشعور بأنهم ما عادوا عبيدا ً كالسابق، لكنهم أحرار يتحكمون في حياتهم بأنفسهم و يتخذون خياراتهم بأنفسهم، و يسيرون شؤونهم بلا سادة و لا إقطاعين، لكن حسب أنظمة ديموقراطية تُقدس الإنسان و تجعل حقه فوق كل حق و أنظمة شرطة و قضاء تضمن العدالة و المساواة.
بينما تبقى الحقيقة ُ أن زريبة الحيوانات القديمة أصبحت شقة، و البغل و الحمار أصبحا سيارة، و فُتات الطعام الذي رماه السيد في عصر الإقطاع لعبده الكلب أو كلبه العبد لا فرق قد أصبح "المول" و الثوب البالي الُمرقع أصبح بدلة ً، و الجرس الذي كان في الساق يرن ُّ حيثما توجه العبد فلا يأبق من صاحبه أصبح ال GPS القادر على تحديد الموقع، بينما بقي السيد مُحتجبا ً كذلك الوقت ِ تماما ً يظهر ُ في مناسبات ٍ خاصة لا على حصان لكن في مؤتمرات ٍ و تصريحات ٍ خاصة، لكنه قد استبدل بتلك اللهجة َ القاسية و نظرة الاحتقار ابتسامة ً علمته وكالات الميديا و الإعلام أن يُتقنها، و لهجة ً ودودة ً حضارية ً مُستمدة ً من "قيم" العصر و ضروراته.
يغيب عن هذا العالم الكثير، يغيب الحب، تغيب الرحمة، يغيب العدل، يحتجب ُ المنطق، تتوارى الإنسانية، تُقتل ُ الطيبة، يُعلى من شأن ِ التنافس و يتقدم ُ الظلم ُ في موكب الألم ِ تحف ُّ بهم القسوة و تسهر ُ على ديمومتهم عفاريت ُ التسليم و التهميش ِ و اليأس ِ و العجز، و يرتفع الإنسان ُ على مذبح ِ الطبقية قُربانا ً و مُحرقة ً لنُخبة ٍ من العالم.
نحن الإنسان، من أنتم؟
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار؟ - 2
-
من سفر التطور – في النظام داخل العشوائية.
-
في الحب بين الذكر و الأنثى – نبؤات ٌ تتحقق
-
من سفر الإنسان – الوحدة الجمعية للبشر و كيف نغير المجتمعات.
-
من سفر الإنسان – الأخلاق و الدين
-
من سفر الإنسان - خاطرة قصيرة في معالجة مشاكل الحياة و صعوبات
...
-
الانعتاق من النص – إملاء الحاجة
-
بين داعش و النصرة و الفصائل الإسلامية المقاتلة
-
-ثُلاثيو القوائم- – حينما يخدم الخيال العلمي الواقع
-
الرسالة إلى الدكتور حسن محسن رمضان
-
دراما المشاعر – اللاوعي و ندوب نفسية
-
ما هي المسيحية – تأمل صباحي قصير
-
قراءة في بواعث الفعل عند السلفين التكفيرين
-
-ثُلاثيو القوائم- – نظرة إلى أدب الخيال العلمي الأول
-
من سفر التطوير الديني - إصلاح الكنيسة – الطلاق
-
هل المسلمون طيبون؟ هل المسيحيون أطيب؟
-
عن الله و الشيطان – وصف ُالمشهد
-
من سفر التطور – أين ذهب الشعر؟
-
من سفر الله - في مشكلة التسليم – إن شاء الله و ألف ألف مبروك
-
الفصح الميلادي – تأمل
المزيد.....
-
مصلحة السجون الإسرائيلية توزع -أساور تذكارية- على الأسرى الف
...
-
بريطانيا.. تشكيك في خطة ستارمر لمنع استقبال قوارب المهاجرين
...
-
المركز يدين سياسة القتل والتهجير القسري المستمرة في الضفة ال
...
-
44 يومًا من الحصار والجوع برفقة جثامين أفراد من أسرتي
-
مؤسسات الأسرى: 90 معتقلاً سيفرج عنهم يوم غدٍ ضمن صفقة تبادل
...
-
بيان مشترك للمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا بشأن الأونروا.. م
...
-
بيان مشترك -بريطاني فرنسي ألماني-: -الأونروا- لا يمكن استبدا
...
-
روسيا تكشف عن جرائم مروعة لقوات أوكرانيا في كورسك وتخطر الأم
...
-
رغم قطع إسرائيل العلاقات معها.. وكالة الأونروا تواصل عملها ف
...
-
الأونروا تواصل عملها في غزة والضفة رغم الحظر الإسرائيلي
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|