|
العشق عند العرب
صاحب الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 1239 - 2005 / 6 / 25 - 01:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
معظم التراث الشعري العربي وجداني، ينهل من العاطفة والإحساس مفرداته لتعبير عن علاقة الحب أو هيام العاشق. واللغة العربية، لغة غنية بمفرداتها وصياغاتها مما جعلها تصلح للاستخدامات الشعرية أكثر منها في الاستخدامات الأخرى. إن الشعراء العرب أبدعوا في الوصف الجمالي وأطنبوا أكثر في الحديث عن الحب والعشق، ويلاحظ ذلك في خزينهم الهائل من الشعر العاطفي وما عبر عن إبداعاتهم اللغوية. ولم يقتصر الوصف الجمالي على الشعراء لوحدهم، وإنما طال العديد من العلماء والمتصوفة للتعبير عن الأحاسيس الكامنة في الوجدان سوءاً بصياغاتها العاطفية أو الصوفية وما تناجي بها الذات الإلهية على شكل صور إبداعية من الشعر والنثر الغارقة في بحر العاطفة والإحساس الوجداني. في أحدى مجالس الخلفية العباسي ((المأمون)) مع العلماء والمتصوفة، طلب من ((ثمامة بن أشرس)) تعريفاً للعشق فقال:" العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس وصاحب ملك، مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جائرة. ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها والعيون ونواظرها والعقول وآراءها. وأعطى عنان طاعها وقود تصوفها، توارى عن الأبصار مدخله، وعمى في القلوب مسلكه". إن العشق هو أحد أشكال جنون الحب وما يفيض عنه من عاطفة وأحاسيس، للتعبير عن مشاعر العاشق الذي فارق معشوقه لكنه لم يغادر وجدانه ويأسر ذاته ولم تزل صورته تحتل الذاكرة. فيبقى العاشق أسير عواطفه ويعاني من ثقل مشاعره وما يتسع ذاته لها، فيسكنه داء الجنون العاطفي وتسيطر عليه هواجس توسل اللقاء مع معشوقه الذي غادر المكان ولم يغادر ذاته وإنما اتخذ منها مسكناً دائماً. لا هو الساكن أصلاً، ولا هو المغادر أبداً فيبقى العاشق معلقاً بين هوى المحبوب وفراقه المكاني!. يرى ((أبي زهير المديني))" أن العشق، يعني الجنون والذل وهو داء أهل الظرف". العشق داء جنوني لايصيب منظومة التحكم العقلي بالاضطراب حسب، بل يصيب منظومة الروح بالعطالة الكلية. وبما أنها الآلية المتحكمة بمجمل أداء منظومة العاطفة والإحساس الكامنة في القلب، فإنها تشل وظائف الجسد والروح معا وتخل بمجمل وظائفهما وأدائهما فيصاب الجسد بداء الروح أسير العشق. ولا سبيل لمعالجة هذا الداء سوى عن طريقة معالجة الروح وما تسعى للقاء المعشوق لتسترد الروح عافيتها من ثم يسري مفعول الدواء نحو مساكن الجسد ليسترد عافيته. فالعشق هو علة الروح، وما من علة إلا ولها مسبب وما من مسبب إلا له نتيجة، فالعلاج لايدرك إلا من خلال معرفة السبب ومعرفته هو نصف العلاج ودواءه نصفه الثاني الذي يساهم في الشفاء والتعافي. يسلط ((ثمامة بن أشرس)) الضوء على علاقة العشق بالروح قائلاً:" إنه ينبعث من تجانس الأرواح، نور ساطع تهز لإشراقه طبائع الحياة، فيصير من ذلك اللمع نور خاص لاصق بالنفس متصل بجوهرها يسمى عشقاً". وهناك من يرى أن العاشق وما يكتم لعشقه، ليس بعاشق وإنما هو أسير هواجس عاطفية غير حقيقية وتنقصه الشجاعة للبوح عنها. فالعشق الحقيقي، يعبر عن نفسه ولايبالي بالقيم والأعراف الاجتماعية المتعارضة مع مساراته. إنه نسق متواصل من الأحاسيس والعواطف، تحفز الذات على طرحها إلى الخارج لتكون رسائل عاطفية متاحة ومتداوله على ألسن الجميع لتصل إلى المعشوق وإلا ما قيمتها حين تكون أسيرة الذات. وتثقلها فتصيب صاحبها بداء الجنون الذي لايبرره أحداً إلا عندما يكون جنوناً لعاشق أصابه الداء، فأعذر عما يعانيه من داء أمام المجتمع. وهذا ما دفع العديد من الشعراء العرب، لأن يعلن صراحةً عن عشقه ولايبالي بالأعراف والتقاليد الاجتماعية التي تتقاطع ومسار عاطفته وعشقه. لأجل أن يخفف من وطأة ثقلها على وجدانه، ويخاطب معشوقه علناً ويطالبه باللقاء وإنهاء معاناته!. كتب ((العباس بن الأحنف)) بهذا الإطار من إعلان العشق صراحةً بيت من الشعر قائلاً: "أني لأبغض عاشقاً متحفظاً.............لم تتهمه أعين وقلوب". وهناك من لايتفق ورؤية العشق باعتباره فائضاً للحب أو فراقاً للمعشوق، وإنما هو مرتبة من مراتب الحب ذاته. فالحب لايحصل دون أن يمر بتلك المراتب وما تساهم بها حواس الإنسان، وما تنقل من صور وكلمات لصورة المحبوب لتثمر عنها المودة الساعية لاشعورياً نحو المحبة ليكون المحبوب خليلاً ثم يصبح معشوقاً. ويتطور العشق ليصير تتيمم بالمعشوق، وتستعر الأحاسيس والعواطف لتصبح ولهاً. يصف ((محمد بن داود الظاهري)) مراتب الحب، وما يمر بها الحبيب ليصل لمرتبة العشق قائلاً:" يتولد الحب عن النظر والسماع والاستحسان، ثم يقوى فيصير مودة. والمودة سبب الإرادة، فمن ودّ إنساناً ودً أن يكون له خلاً. ومن ودّ عرضاً ودّ أن يكون له ملكاً، ثم تقوى المودة فتصير محبة، والمحبة سبب الطاعة. ثم تقوى الخلة فتصير عشقاً، والعاشق يمنعه من سرعة الانحطاط في هوى معشوقه إشفاقه عليه وضنه به، حتى إن إبقاءه عليه ليدعوه إلى مخالفته وترك الإقبال عليه. فمن الناس من يتوهم لهذه العلة أن الهوى أتم من العشق، وليس الأمر كذلك. ثم يزداد العشق فيصير تتيمناً، وهو أن تصير حال العشق مستولية للعاشق فلا يكون معها فضل لغيرها ولانريد بقياسه شيئاً إلا وجدته متكاملاً فيها. ثم يزداد التتيم فيصير ولهاً، والوله هو الخروج عن حد الترتيب والتعطل عن أحوال التمييز حتى تراه يطلب مالاً يرضاه ويتمنى مالاً يهواه. ثم لايحتذى مع ذلك مثالاً ولايستوطن حالاً. والشوق تابع لكل واحدة من هذه الأحوال والمستحسن يشتاق إلى ما يستحسنه على قدر محله من نفسه. ثم كلما قويت الحال قوى معها الاشتياق، فالحب وما أشبه يتهيأ كتمانه، فإذا بلغت الاشتياق بطل الكتمان". وبغض النظر عن مسببات العشق ومراتبه، فإنه تواتر عالي من الإحساس والعاطفة مصدره الروح وما تكتنز من مشاعر خارجة عن منظومة التحكم العقلي. وبذات الوقت فإنها مؤثره في مساكن الجسد الذي لاقدره له على تحمل هذا التواتر العالي من العاطفة، فيصاب بداء الروح أسيرة صور وخيال المعشوق دون أن يكون لها خياراً تتحاشى من خلاله هذا الأسر الطويل. ولايتم التحرر من هذا الأسر الاختياري إلا على يد المعشوق ذاته، لأنه السجن والسجان لمنظومة الروح!.
#صاحب_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العشق في الفلسفة
-
التشريعات القانونية والمبادئ الدستورية
-
الطاغية والسلطة
-
ممارسات الطاغية
-
شريعة الطاغية
-
حاشية الطاغية
-
الطاغية والاستبداد
-
الطاغية ووعاظ السلاطين
-
الطاغية والدين
-
الفلسفة وعلم المنطق
-
مفهوم الخير والشر في الفلسفة
-
الفرق بين العالم والجاهل
-
مفهوم الحب عند جلال الدين الرومي
-
*الصراع بين السياسي والمثقف: قيم أم مصالح؟
-
دولة القبيلة بين القيم والمصالح
-
أسلوب المقاومة السلمية ضد الأنظمة المستبدة
-
انماط السلوك غير السوي في المجتمعات المقهورة
-
الخطاب العلني للقوى المقهورة ضد القوى القاهرة
-
لقاء صحافي مع الباحث وخبير المياه في الشرق الأوسط السيد صاحب
...
-
سمات الخطاب المستور للقوى المقهورة
المزيد.....
-
رقمٌ قياسيّ لعملة فضية نادرة سُكَّت قبل الثورة الأمريكية بمز
...
-
أهمية صاروخ -MIRV- الروسي ورسالة بوتين من استخدامه.. عقيد أم
...
-
البرازيل.. اتهام الرئيس السابق جايير بولسونارو بالضلوع في مح
...
-
اكتشاف عمل موسيقي مفقود لشوبان في مكتبة بنيويورك
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة: اليوم ردت روسيا على استفزازات -
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان الحدث وحارة حريك في ال
...
-
أين اختفى دماغ الرئيس وكيف ذابت الرصاصة القاتلة في جسده كقطع
...
-
شركة -رايان- للطيران الإيرلندية تمدد تعليق الرحلات الجوية إل
...
-
-التايمز-: الغرب يقدم لأوكرانيا حقنة مهدئة قبل السقوط في اله
...
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|