|
تونس بدون حركة إسلامية؟
خالد شوكات
الحوار المتمدن-العدد: 1237 - 2005 / 6 / 23 - 12:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يعتبر البعض تقييم مسيرة حركة سياسية إبان محنتها، عملا لا أخلاقيا يتراوح بين شماتة الحساد والأعداء والمنافسين، وبين استغلال موقف ضعف لتصفية حسابات يتداخل فيها الشخصي مع الفكري والسياسي.. واعتبر شخصيا أن التجارب الايديولوجية والسياسية، حالات عامة تتجاوز أشخاص قادتها والمنتمين إليها والمتعاطفين معها، إلى كونها ملك شعب و أمة و وطن، من الضروري وضعها تحت المجهر وتمحيصها واستنتاج الدروس والعبر منها، ساعات القوة والضعف، وأوقات الفوز والهزيمة، ذلك أن الصعود والنزول من سنن التاريخ وحدوده، ومن دواعي البحث والنظر والتحقيق. أسباب نشوء الحركة الإسلامية في تونس أواخر الستينيات متداخلة، بين دواعي داخلية متمثلة بالأساس في رد فعل مجتمع مسلم محافظ على مشروع بورقيبي متهم بتوجهات غربية وعلمانية، ودواعي خارجية مردها تأثر البلاد بمحيطها العربي الإسلامي، حيث كان من الطبيعي أن لا تشكل تونس استثناء يجعلها بلدا بدون حركة إسلامية، خلافا لما هو موجود في سائر البلدان العربية والإسلامية، التي لا تخلو أي واحدة منها من حركة ذات مرجعية دينية، أكانت واحدة أو متعددة. وثمة احتجاج جديد، الكاتب واحد من القائلين به، مفاده أن التونسيين كانوا طيلة أربعة عشرة قرنا شعبا مسلما، وأن نشأة حركة إسلامية لم تزد من إيمان هذا الشعب شيئا ولم تنقص، ولم تقربه أكثر من الله ولم تبعد، وأنه حتى لو لم تنشأ هذه الحركة لبقي الشعب التونسي مسلما متشبثا في عمومه بأصول الاعتقاد الإسلامي وقواعده وتعاليمه، منتجا للدعاة الدينيين والعلماء المجتهدين غير المسيسين، وبانيا للمساجد وعامرا لها. ولعل من أبرز الأدلة المعاصرة على هذا الاحتجاج، ما واجهه الزعيم الحبيب بورقيبة مؤسس الجمهورية التونسية، عندما رغب في جعل العلمانية طبيعة للنظام السياسي في أول دستور للدولة المستقلة سنة 1959، وواجه اعتراضا شديدا من أعضاء المجلس التأسيسي (البرلمان التونسي)، واضطر في النهاية إلى القبول بالتنصيص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد. هذا إلى أن الزمن البورقيبي لم يخلو يوما من علماء ودعاة ومجتهدين بارزين، من قبيل العلامة محمد الطاهر بن عاشور وابنه العلامة محمد الفاضل بن عاشور والعلامة محمد الحبيب بلخوجة وغيرهم ممن تبوأ منصب الإفتاء أو لم يتبوأ، في مقابل ظاهرة لا مفر من لفت الانتباه إليها، وهي أن مؤسسي الحركة الإسلامية التونسية لم يكن من بينهم واحد معروف بكونه من علماء الشريعة أو من رجال الفقه والاجتهاد والافتاء، وهو ما يدلل على الطبيعة السياسية الصرفة لهذه الحركة. وبشكل عام فإن العصر البورقيبي لم يشهد مواجهة مفتوحة بين الدين والدولة حتى ساعة الإعلان عن تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي في شهر يونيو 1981، على الرغم من كل ما قيل عن عداء الزعيم الحبيب بورقيبة للدين والمتدينين، فقد بقيت حركة بناء المساجد مستمرة طيلة عهده، تماما كما كانت الجامعة التونسية تضم كلية للشريعة وأصول الدين، فضلا عن وجود معاهد دينية متخصصة في تخريج الأئمة والوعاظ، كانت موضوعة تحت إدارة وإشراف وزارة الشؤون الدينية. وقد كان للزعيم بورقيبة سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، وجهات نظر اجتهادية في كثير من المسائل الدينية، حيث كان بنزوعه العقلي وفطرته النقدية صاحب مواقف جريئة إزاء الكثير من القضايا الخلافية في الفقه الإسلامي، وفي مقدمتها الموقف من مكانة المرأة ونظرة المسلمين إلى الحداثة، ولم يكن بورقيبة غريبا في جرأته الدينية، حيث كان على دأبه مختلفا مثيرا للجدل، مثلما كان دوما كذلك في المسائل السياسية. من الناحية السياسية، كانت مسيرة الحركة الإسلامية بإيجاز حلقات فشل متصلة، فقد استغلت في بداياتها – بوعي من قادتها أو بدون وعي-، تماما كما في دول عربية أخرى، في تصفية النظام السياسي الحاكم لحساباته مع التيارات السياسية اليسارية التي كانت مسيطرة على النخب الثقافية والسياسية والجامعية طيلة عقدي الستينيات والسبعينيات، والحد من طموحات هذه التيارات شعبيا وسلطويا. أما في عقد الثمانينيات، فقد ساهمت الحركة الإسلامية التونسية في إضعاف التيار الليبرالي الداعي للإصلاح والتجديد والديمقراطية داخل النظام، ممثلا في الاتجاه الذي كان يتزعمه الوزير الأول محمد مزالي، في مقابل توفيرها المبررات والذرائع الكافية للتيار الأمني، الذي كان يصعد درجة في سلم الحكم، كلما صعد قادة الاتجاه الإسلامي مواقفهم نحو التشنج والتشدد والمواجهة. لقد أثبت قادة الحركة الإسلامية التونسية طيلة ما يقارب الأربعة عقود من الوجود والنشاط، أنهم أفشل السياسيين فيما يتعلق بقراءة حقيقة الشخصيات الحاكمة وطبيعة المراحل السياسية القائمة، تماما كما هم الأفشل في استشراف المستقبل وتقدير العواقب، فقد عارضوا شخصيات حاكمة كان من واجبهم مساندتها، وساندوا شخصيات كان من واجبهم معارضتها، وقرروا المواجهة في وقت كان يتوجب التهدئة، وهادنوا في زمن كان يقتضي المواجهة، وأخضعوا الشؤون السياسية المتحولة إلى قوالب جامدة ومعايير متجاوزة، وأدخلوا الحياة السياسية التونسية في غالب الأحيان في مناقشة قضايا هامشية لا فائدة من ورائها، وساهموا بالمقابل في تهميش قضايا ملحة وعاجلة. وإذا ما اعتمد التاريخ الرسمي لحالة التأسيس المعلن، أي سنة 1981، فإن عضوا في حركة الاتجاه الإسلامي التي تحولت لاحقا إلى الإسم المعروف اليوم "حركة النهضة"، ربما يكون قد قضى ما يزيد عن نصف عمره أو أكثر في السجن إذا كان سنه لحظة النشأة ثمانية عشرة عاما، فقد سجن بعض الإسلاميين من سنة 1981 إلى أواخر سنة 1987، ومن 1991 إلى يوم الناس هذا. و سجن أعضاء حركة سياسية ليس دليلا على عافيتها أو قوتها، ذلك أن المحن يمكن أن تشكل جزءا من مسيرة هذه الحركة لا كل مسيرتها، فإذا ما تحولت المحن إلى أصل والحياة الطبيعية إلى استثناء، يصبح التأمل في التوجهات واجبا أكيدا، مثلما تضحي المراجعة الجذرية على صعيد الأطروحات والشخصيات المسؤولة ضرورة ملحة. وإذا كان التنظير منطلقا من تصوير الإسلام دين موت لا دين حياة، فإن هذا التنظير في غاية التشوه والخطورة والانحراف، إذ لا يمكن تصور دين أرسل للبشر رحمة وعدلا، يجعل حياة أتباعه ضيقا وضنكا وسوادا قاتما في غالبيتها، إنما هو مسلك قيادة الحركة الإسلامية التونسية – وسائر حركات الإسلام السياسي- في البحث عن مشجب لتعليق أخطائهم السياسية والفرار من مسؤولية تحمل قراراتهم الخاطئة وتأويلاتهم المنحرفة. ومن المفارقات التي أحدثتها الحركة الإسلامية التونسية، أنها قد تخلت على مبدأ المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، الذي عرفت به سائر الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن دواعي وجودها في الساحة السياسية بعد تخليها عن المبدأ الوحيد الذي يميزها عن سواها من الحركات والأحزاب السياسية، فهي بدون هذا المبدأ لن تعدو أن تكون حركة ليبرالية أو يسارية أو وسطية عادية، ذلك أن الإسلاميين قد عجزوا باستمرار عن طرح مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي مختلف عما هو معروف لدى التيارات اليسارية والليبرالية والوسطية. لقد اتخذت الحركة الإسلامية في تونس منذ الإعلان رسميا عن نشأتها، فزاعة لإخافة الزعيم الحبيب بورقيبة، مما دفعه إلى اتخاذ الكثير من القرارات السياسية الخاطئة التي دفعت البلاد ثمنا غاليا لها، فيما تتخذ منذ عقد ونصف فزاعة لإخافة الغرب وذريعة لتعزيز الطبيعة الأمنية للنظام السياسي القائم، وتشديد الخناق على القوى الوطنية والديمقراطية الداعية للإصلاح والتغيير والديمقراطية. وعلى الصعيد الديني، دفع وجود حركة إسلامية خلطت بين الدين والسياسة، وبين مقراتها والمساجد التي هي لله وحده، إلى دخول الدولة في مواجهة مع التدين والمتدينين عامة لأول مرة منذ الاستقلال، بل لقد تعدت هذه المواجهة حدود الجوامع إلى البرامج المدرسية الخاصة بالتربية الإسلامية، وإلى كل ما يتعلق بالمؤسسات التربوية والدعوية ذات المرجعية الدينية. وإذا ما وضع معيار النتائج العملية في تقييم ما جنته الحركة الإسلامية التونسية من خلال توجهاتها السياسية الخاطئة على التدين، سيخلص إلى أن النتيجة كانت كارثية، وأنه لو كان تحقيق مصلحة الدين هو الضابط والمحدد في توجهات قادة الإسلاميين التونسيين، وليس طموحاتهم ومصالحهم السياسية، لكانت اختيارات مختلفة مائة وثمانين درجة عن تلك التي اتخذوها طيلة عقود من ممارستهم السياسية البائسة. ومن اعتقادات الإسلاميين التونسيين، أنهم متفوقون أخلاقيا على بقية التونسيين، سواء أكانوا من النخب السياسية والفكرية أو من عامة الناس، وقد بينت التجربة أن هذه الاعتقادات لا تعدو أن تكون وهما، فالاسلاميون يحملون الصفات ذاتها التي يتصف بها أفراد المجتمع الذي نشأوا فيه، مثلما يحمل قادتهم نفس الأمراض التي تحملها النخب في بلادهم، فهم يفترون على معارضيهم ومنافسيهم، ولا يجدون حرجا في جعل الغاية تبرر الوسيلة، ويتشبثون كغيرهم إلى آخر أعمارهم بمواقع المسؤولية، ويتكبرون ويكذبون ويحبون كسواهم المال والبنون حبا جما. ومن الأمور التي تدلل عليها الممارسة أيضا، أن كثيرا من الدعاة والمتدينين التونسيين قد اختاروا على ورعهم وتقواهم عدم الانخراط في الحياة السياسية، وأن كثيرا من الذين ضمتهم الحركة الإسلامية لا علاقة لسلوكهم بالمبادئ الدينية أو مكارم الأخلاق التي حثت على اتباعها الرسالة المحمدية، وأن الأمر لم يكن بالنسبة لهؤلاء أكثر من وسيلة لتحقيق أغراض سياسية أو تجارية، وما كان ذلك ليثير اعتراضا أو امتعاضا لو كان المسلك واضحا وشفافا ومباشرا، فالوصول إلى الحكم وتحقيق الربح يجب أن يتم من خلال الاحتكام إلى الكفاءة الدنيوية، لا التوسل بذرائع أخروية، الله وحده أعلم بحقيقتها. وإن هذه الانتقادات الفكرية والسياسية، ليست أبدا تبريرا للتجاوزات القانونية والأخلاقية الشنيعة التي حدثت في حق الإسلاميين التونسيين، ولا إجازة لحرمانهم من حق العمل السياسي في ظل الشرعية، الذي يظل برأيي الطريقة الأمثل للتعامل مع الحالة الإسلامية، لكنها ورقة نقدية لتجربة دينية وفكرية وسياسية ما تزال تشكل ظاهرة بارزة لا يمكن تهميشها أو تحييدها، ولا مناص أمام القوى المطالبة بالإصلاح والتغيير والديمقراطية في العالم العربي من تحديد الموقف منها والكيفية المثلى للتعاطي معها. وما أود الخلاص إليه تونسيا، أن وجود الحركة الإسلامية في تاريخ تونس المعاصر كان الجانب السلبي في تأثيره أكثر طغيانا، سواء تعلق الأمر بالدين أو بالسياسة، وأن التدين في تونس كان سيكون أفضل لو لم ينقسم التونسيون إلى إسلاميين ومسلمين، مثلما كانت الحياة السياسية ستكون أفضل لو جرى التركيز على قضايا الحرية والديمقراطية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، غير أن ذلك لا يجب أن يحجب ضرورة إدانة الطابع الأمني الذي اصطبغت به توجهات النظام السياسية، وما انجر عن ذلك من مصادرة للحريات وانتهاك لحقوق الإنسان، كما لا يجب أن يحجب حتمية الدعوة إلى استيعاب الإسلاميين المعتدلين في الحياة السياسية وتشجيعهم على المساهمة في بناء أنظمة ديمقراطية تعددية. __________________ * كاتب تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي - لاهاي
#خالد_شوكات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
استكمال الاستقلال..من تحرير الأرض إلى تحرير الانسان
-
شهادة يابانية في الديمقراطية العربية
-
إعـــــلان تأسيس قناة -العفــو- الفضائية
-
الليبراليون الجدد.. أو الليبرالية كما أفهمها
-
لبنـان..حيث -الاستثناء الفاسد- يطرد -الاستثناء الصالح-
-
أليست الدولة العلمانية ضرورة دينية؟
-
الدولة العلمانية
المزيد.....
-
الأكثر ازدحاما..ماذا يعرقل حركة الطيران خلال عطلة عيد الشكر
...
-
لن تصدق ما حدث للسائق.. شاهد شجرة عملاقة تسقط على سيارة وتسح
...
-
مسؤول إسرائيلي يكشف عن آخر تطورات محادثات وقف إطلاق النار مع
...
-
-حامل- منذ 15 شهراً، ما هي تفاصيل عمليات احتيال -معجزة- للحم
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية مسؤولين في -حماس- شاركا في هجوم
...
-
هل سمحت مصر لشركة مراهنات كبرى بالعمل في البلاد؟
-
فيضانات تضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية ورجال الإنقاذ ينتشلون
...
-
ليتوانيا تبحث في فرضية -العمل الإرهابي- بعد تحطم طائرة الشحن
...
-
محللة استخبارات عسكرية أمريكية: نحن على سلم التصعيد نحو حرب
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|