|
تزوير مسيحية يسوع – 18 – الجزء الثاني
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4344 - 2014 / 1 / 24 - 16:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ملاحظة: هذه المقالة تُعتبر كتكملة لسلسلة المقالات السابقة تحت عنوان (تزوير مسيحية يسوع – 1 إلى 18 الجزء الأول)، ويجب أن تُقرأ المقالات السابقة كمقدمة أساسية وضرورية لهذه المقالة.
(اختار الله جهال العالم ليُخزي الحكماء) العهد الجديد: (بولس) مخاطباً المسيحيين من أهل كورنثوس واصفاً إياهم بـ "الجهال"، رسالة بولس الأولى لهم، 1: 27 (قد هلكَ شعبي من عدم المعرفة. لأنكَ أنتَ رفضتَ المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لي) العهد القديم: (يهوه) إله اليهود مخاطباً شعبه ويدين فيه "الجاهل" بأنه هالك مرفوض لا يكهن له، سفر هوشع، 4: 6
تطرقت في الجزء الأول من هذا المقال إلى قضية تشابه طقوس المسيحية في القرن الأول، الطقوس التي روّج لها بولس بالتحديد، مع الطقوس الوثنية في المحيط الثقافي العقائدي الروماني. وأشرت هناك إلى أن الدراسات المسيحية ميّزت بين خمسة أشكال على الأقل من الطقوس العامة دون التفاصيل، متواجدة في نصوص العهد الجديد، عند أتباع الكنيسة المبكرة في القرن الأول الميلادي إلى حوالي منتصف القرن الثاني. ويبدو أن المسيحيين الأوائل ضمن محيط فلسطين كانوا يختلفون جذرياً في طقوسهم، وبالتالي عقائدهم في يسوع، عن المسيحيين الذين كانوا يتبعون دعوة بولس خارج فلسطين وذلك بدليل تبني مسيحيي فلسطين الطقوس التعبدية اليهودية مثل طقس العبادة داخل الهيكل اليهودي بشكل تراتبي واضح: (وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة) [أعمال الرسل 2: 46] وثانياً طقس العبادة في المعابد والمناسبات اليهودية مع اليهود: (وفي يوم السبت خرجنا إلى خارج المدينة عند نهر، حيث جرت العادة أن تكون صلاة [...] وحدث بينما كنا ذاهبين إلى الصلاة، أن جارية بها روح عرافة استقبلتنا) [أعمال الرسل 16: 13 و 16]. وهذه الطقوس قد تلاشت تماماً من الفضاء الطقسي المسيحي بسبب هيمنة رؤية بولس العقائدية في الناموس اليهودي ويسوع، وبالتالي اختفى التأثير اليهودي البارز فيها. إلا أن بولس (تبنى) طقوساً (لم تكن معروفة إطلاقاً ضمن الطقوس اليهودية) وإنما هي ذات صلة واضحة (بالطقوس الوثنية) التي كانت (تألفها) المجموعات الأممية التي كان يدعو لها خارج فلسطين. إذ الصفة المشتركة للمجموعات التي كان بولس يتولى الدعوة فيها لإلهه الجديد (يسوع)، كما كتب لهم في رسائله ليشملهم جميعاً من دون استثناء، هي: (جهال العالم) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 1: 27]. وهي صفة تدعو للتأمل خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار الطقوس التي تولى بولس الترويج لها بينهم. فقد روّج لطقس (القبلة المقدسة) كما رأينا في المقالة السابقة، وهي غير معروفة إطلاقاً ضمن الطقوس اليهودية وإنما هي اختراع بحت من جانب بولس. هذا (الاختراع الطقسي) بدوره، كما هو الحال مع كل اختراع سلوكي اجتماعي، أدى إلى إشكاليات أخلاقية متعددة ضمن المجموعات المسيحية المتأثرة بدعوة بولس ونتج عنها أولاً تقنين هذا الطقس بين الجنس الواحد في حوالي منتصف القرن الثاني ومن ثم إلى تلاشيه تماماً كما أوضحت ذلك في الجزء الأول من المقالة. إلا أن هناك طقوس أشد غرابة بسبب تأثرها الواضح بطقوس المعابد الوثنية الرومانية، منها طقس يدور حول الدخول في "غيبوبة" (Trance) من نوع ما، وبطريقة تسكت عنها النصوص المسيحية المقدسة وكتابات الآباء الأوائل، مما يؤدي بالشخص معها لأن يتكلم [يهذي] بلغات غير مفهومة لمن حوله ويسميها المسيحيون الأوائل بـ (التنبؤ – التكلم بألسنة) [انظر الأصحاح 14 من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس لتفاصيل هذا الطقس، مع ملاحظة أن المترجم العربي قد تلاعب بالترجمة كما سنتعرض له أدناه]. كما أن طقس التعميد قد جرى اقتباسه وتحويره من الديانات الوثنية المتعددة المتواجدة ضمن الإمبراطورية الرومانية إلا أن الفِرَق العقائدية اليهودية التي كانت تؤمن بقرب نهاية الزمان [يوحنا المعمدان كمثال، ومِن ثم يسوع التاريخي الذي تأثر بدعوة يوحنا وتعمّد منه ومِن ثم تبنى دعوة يوحنا] قد مارسته أيضاً ولكن على معنى مختلف تماماً لِما كان يدعو له بولس. إذن، قضية تشابه الطقوس الوثنية مع الطقوس المسيحية، بنوعيها المبكر والحديث، هي (قضية ثابتة ذات دلائل تاريخية متعددة حتى في كتابات الآباء الأوائل للمسيحية كما سنرى في مقالات قادمة)، وهي إشكالية خفتت نبرتها اليوم بسبب تلاشي تأثير تلك الديانات الوثنية على المناخ الثقافي المعاصر، ولكنها كانت حاضرة جداً في القرون الأربعة الأولى على الأقل مِن تاريخ المسيحية.
استعرضت في الجزء الأول من هذه المقالة أحد هذه الطقوس، (القبلة المقدسة)، وسوف أكمل في هذا الجزء الثاني من المقالة عرض طقس آخر وأخير بشكل مختصر. إذ كنت أود أن أتطرق لطقسي التعميد والأفخارستيا بالتحليل، ولكن تناولهما في مقالة واحدة أو مقالتين سوف يؤدي إلى اختصار مُخل جداً لهذين الطقسين المهمين في المسيحية وقد يُخرج هذه المقالات من الغرض المحدد لها وهو (تزوير مسيحية يسوع). ولهذا السبب سوف يكون طقسي التعميد والأفخارستيا ضمن الكتاب التي أُعدّه الآن للصدور في نقد النص المقدس وأكتفي هنا بالتطرق لطقس التكلم بالألسنة.
ب - التنبؤ – التكلم بألسنة
يُعتبر طقس (التنبؤ – التكلم بألسنة) من أغرب الطقوس المسيحية التي روّج لها بولس في رسائله وتأثر بها كتبة الأناجيل من بعده. ووجه غرابتها لا ينبع من أصلها الوثني، فهذا مما لا شك فيه، فالتنبؤ، سواء على معنى الإخبار بمُراد الآلهة أو لكشف أحداث المستقبل، كانت ممارسة يومية في المعابد الوثنية الإغريقية واليونانية كما تُوجد عليها إشارات في نصوص العهد القديم [انظر: صموئيل الأول 10: 5-6 و 10 و 13 و 19: 20-21 و 24]، ولكن وجه غرابتها أنها بخلاف الأصل الوثني لها وبِخلاف إشارات نصوص العهد القديم فإن مَنْ يتكلم بـ (ألسنة ويتنبأ) في الطقس المسيحي (لا يُشترط فيه أنه يتكلم بُلغة مفهومة، بل لا يُشترط فيه أن يتكلم حتى بما يُمكن اعتباره لغة أصلاً)، وإنما نوع من أنواع الرطانة (Gibberish) بحيث يُخرج الشخص أصواتاً مكررة لا معنى لها إطلاقاً. ويَرى هذا الطقس المسيحي الذي روّج له بولس في رسائله أن مصدر هذه الأصوات أو التنبؤ والتكلم بألسنة هو (الروح القدس) ذاته، وأن اللغة التي يُتَكلم بها هي (لغة سماوية غير معروفة على الأرض). إلا أن (الفوضوية المطلقة الكامنة في هذا الطقس وصعوبة السيطرة على ممارسيه مع ما يُضاف إليه من استحالة إثبات أن ما يتم الرطانة به يُعتبر فعلاً "تنبؤ" فضلاً عن أن يكون مصدره إلهي) أدى إلى اختفاء هذا الطقس من الممارسات الدينية المسيحية بمجرد تحول الكنيسة إلى مؤسسة رسمية وذلك مع تبني الإمبراطورية الرومانية للمسيحية كدين رسمي لها، إلا أن هناك محاولات غربية معاصرة حثيثية، خصوصاً ضمن كنائس اليمين المسيحي الأمريكي وانتشرت منها إلى الكنائس الأفريقية والآسيوية وبعض الأوروبية، لإحياء هذا الطقس المسيحي المبكر مرة أخرى وخصوصاً أن نصوص العهد الجديد، ورسائل بولس بالتحديد، تذكره وتُنظمه وتُشجع عليه. ويُسمى هذا الطقس في العقيدة المسيحية "غلوسُّولاليا (Glossolalia)، وأصلها كلمة يونانية مكوّنة من مقطعين: "غلوسّا" (glō-;-ssa)، أي "اللسان"، و "لاليا" (lalia) أي "الكلام". وحتى يأخذ القارئ الكريم فكرة عامة عن هذا الطقس المسيحي وكيفية ممارسته مع ما يحتويه من فوضوية كامنة، (أحيله لرابط الفلم الموجود في هامش هذه المقالة)، إذ هذا ما كان يحدث بالضبط في كنائس بولس في القرن الأول.
يأتي ذكر نصوص (التنبؤ – التكلم بألسنة) في أقدم النصوص المسيحية على الإطلاق، أي قبل كتابة الأناجيل ذاتها، وذلك في رسائل بولس إلى أتباعه. فبولس كان يُعطي لهذا الطقس أهمية بالغة جداً إلى الحد أنه كتب إلى أهل أفسس قائلاً لهم بأن بيت الله والقديسين (مبنيين على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية) [رسالة بولس إلى أهل أفسس 2: 20]، والرسل هنا هم بالتحديد وحصراً رسل المسيحية (apostles)، والأنبياء هم مَنْ ينخرطون في تلك الطقوس التي ينتج عنها التنبؤ والتكلم بالألسنة. فهو يقول لأهل كورنثوس صراحة: (إني أريد أن جميعكم تتكلمون بألسنة، ولكن بالأولى أن تتنبأوا. لأن من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 14: 5]، ويقول لهم (أيها الإخوة جدوا للتنبؤ، ولا تمنعوا التكلم بألسنة) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 14: 39].
إلا أن بولس قد (مارس الخديعة وتغيير حرفية نصوص العهد القديم) حتى يُبرر أهمية هذا الطقس وسبب ممارسته في رسالته لأهل كونثوس، ولا عجب، ألم يكتب لهم في نفس تلك الرسالة: (اختار الله جهال العالم) [1: 27]؟! فبولس كتب في رسالته لهم مُبرراً طقس التكلم بالألسنة: (مكتوب في الناموس: "إني بذوي ألسنة أخرى وبشفاه أخرى سأكلم هذا الشعب، ولا هكذا يسمعون لي، يقول الرب") [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 14: 21]. وباختصار شديد، (بولس كان يكذب عليهم من دون أدنى شك)، بل هو (كان يشتمهم من دون أن يعوا ذلك)، ولكنهم صدقوه بسبب (جهلهم) بنصوص العهد القديم، وبولس كان يعرف تماماً جهلهم هذا ولذلك هو استهدفهم بدعوته الجديدة لإلهه الجديد (يسوع). هذا النص الذي اقتبسه بولس لهم في رسالته مأخوذ [مركب] من مكانين في العهد القديم: الأول هو في سفر إشعياء، وهو ضمن هذا السياق: (ولكن هؤلاء أيضاً ضلوا بالخمر وتاهوا بالمسكر. الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر. ابتلعتهما الخمر. تاها من المسكر، ضلا في الرؤيا، قلقا في القضاء. فإن جميع الموائد امتلأت قيئاً وقذراً. ليس مكان لمن يعلم معرفة، ولمن يفهم تعليما؟ أللمفطومين عن اللبن، للمفصولين عن الثدي. لأنه أمر على أمر. أمر على أمر. فرض على فرض. فرض على فرض. هنا قليل هناك قليل. إنه بشفة لكناء وبلسان آخر يكلم هذا الشعب) [إشعياء 28: 7-11]. أما المكان الثاني الذي (ركّبَ بولس منه اقتباسه للعهد القديم) فهو في سفر التثنية، وهذا ضمن هذا السياق: (يجلب الرب عليك أمة من بعيد، من أقصاء الأرض كما يطير النسر، أمة لا تفهم لسانها. أمة جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد. فتأكل ثمرة بهائمك وثمرة أرضك حتى تهلك، ولا تُبقي لك قمحاً ولا خمراً ولا زيتاً، ولا نتاج بقرك ولا إناث غنمك، حتى تفنيك) [تثنية 28: 49-51]. ففي الاقتباس الأول (تعمد بولس تغيير ضمير المخاطب مع المعنى وإلغاء السياق). فقد تعمد التغيير مِن حرفية النص في العهد القديم: (إنه بشفة لكناء وبلسان آخر يكلم هذا الشعب) إلى: (إني بذوي ألسنة أخرى وبشفاه أخرى سأكلم هذا الشعب)، فحوّل ضمير المخاطب في الكلمة من (إنه) إلى (إني)، فحوّل بذلك ضمير المخاطب إلى (الله – الرب)، كما استبدل كلمة (شفة لكناء) بالمفرد بكلمة (شفاه أخرى) بالجمع، وبدّل كلمة (بلسان آخر) إلى (ألسنة أخرى)، بينما النص العبري لم يكن يتكلم عن الرب إطلاقاً، والضمير هناك عائد لمن سيُكلم هذا الشعب للعودة للناموس ولكن (بسبب فسقهم يتظاهرون وكأنهم يسمعون كلاماً غير مفهوم) أي يتظاهرون بعدم الفهم حتى لا يعودوا لطريق الناموس [انظر: Rashi s Commentary]. أما ما كتبه بولس لهم في نهاية الاقتباس: (ولا هكذا يسمعون لي، يقول الرب)، فهو تحوير واضح لِما هو مكتوب في سفر التثنية أعلاه، والطريف أن الشروح المسيحية ذاتها تشير لهذا النص في سفر التثنية على أنه موضع محتمل للاقتباس مع ما يحويه هذا النص من (شتيمة مبطنة لأهل كورنثوس) فيما لو صح أن بولس قد استوحى هذا النص في رسالته. ثم بعد ذلك تعمد بولس في نهاية اقتباسه المزعوم إضافة كلمتي: (يقول الرب)، وهو اقتباس وهمي غير موجود في كِلا النصين في سفري إشعياء والتثنية وذلك إيهاماً لقرائه بأنه اقتباس متصل السياق من العهد القديم. اقتباس بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس هو، وببساطة شديدة، خديعة وشتيمة في آن واحد.
خصص بولس لطقس (التنبؤ – التكلم بألسنة) ولتنظيمه ثلاثة فصول كاملة في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس [12-14]. بل هو يقول لهم عن نفسه في رسالته تلك: (أشكر إلهي أني أتكلم بألسنة أكثر من جميعكم) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 14: 18]. وعندما أتى كتبة الأناجيل من بعد بولس بعقود متعددة، وابتدأوا كتابة أناجيلهم، فإننا نلاحظ خلو أول إنجيلين من حيث تاريخ الكتابة، مرقس أولاً ومن ثم متّى، من الإشارة لهذه الممارسة الطقسية. لاحظ أن ما ورد في نهاية إنجيل مرقس على لسان يسوع: (هذه الآيات تتبع المؤمنين: يخرجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة جديدة) [مرقس 16: 17]، هذه الإشارة بالإضافة إلى العبارات من أول [مرقس 16: 9] إلى نهاية [مرقس 16: 20] هذه كلها (تزوير مسيحي بامتياز) ولا تُوجد إطلاقاً في (جميع الأناجيل القديمة) وإنما هي إضافة مسيحية متعمدة لاحقة بقرون. وهذا التزوير هو من الوضوح الشديد بحيث اضطرت الترجمات الغربية الحديثة إلى (إضافة هامش في إنجيل مرقس) لتُشير إلى حقيقة أن تلك العبارات لا توجد في جميع الأناجيل القديمة وإنما توجد (فقط) في الأناجيل الأحدث عهداً. ولكن، وكما هو متوقع، فإن كاتب إنجيل لوقا، الذي هو نفس الشخص الذي كتب سفر (أعمال الرسل) في العهد الجديد، قد أشار بصورة مكررة لتلك الممارسة الطقسية في فصول (أعمال الرسل). إذ كاتب إنجيل لوقا، مِن بين كتبة الأناجيل الثلاثة الأولى، هو الأكثر تأثراً بعقائد ورسائل بولس وبطقوسه. فنحن نجد إشارة إلى التكلم بالألسنة في [أعمال الرسل: 2: 3-11 و 4: 31 و 10: 46 و 19: 6] وفي غيرها أيضاً. كما أننا نجد شرحاً تنظيمياً لممارسة هذا الطقس داخل الكنائس في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس: (إن كان أحد يتكلم بلسان، فاثنين اثنين، أو على الأكثر ثلاثة ثلاثة، وبترتيب، وليترجم واحد. ولكن إن لم يكن مترجم فليصمت في الكنيسة، وليكلم نفسه والله. أما الأنبياء فليتكلم اثنان أو ثلاثة، وليحكم الآخرون. ولكن إن أعلن لآخر جالس فليسكت الأول) [14: 27-31]. وسوف أؤجل تحليل هذا النص حتى لا تطول المقالة أكثر.
وعلى عكس ما يعتقده عامة المسيحيين بسبب بعض النصوص المذكورة ضمن العهد الجديد والتي تتكلم عن (الترجمة)، مع العلم أن هذه النصوص أصلاً في ذاتها مدار شك تاريخي، فإن طقس (التكلم بالألسنة) يعني ببساطة أن (يتم التفوه بكلمات لا تُمثل في ذاته أية لغة ومن المستحيل إطلاقاً ترجمتها إلى لغة مفهومة). أي أن طقس التكلم بالألسنة المسيحي هو ليس أكثر من الرطانة بكلمات لا معنى لها مع حالة نقصان للوعي، لا أكثر من هذا ولا أقل. هذه الحقيقة كانت (موضع حرج) للكتبة والمترجمين المسيحيين إلى درجة أنهم (تعمدوا في بعض المواضع التلاعب في نصوص رسائل بولس لتمويه هذه الحقيقة) حتى بروز النقد الأكاديمي واضطرار الترجمات الحديثة إلى التراجع عن هذا (التزوير) المتعمد في نصوصهم "المقدسة"(!). ولكن، وكما هو متوقع بالطبع، لم يُصر على هذا (التزوير المتعمد) إلا الترجمات المسيحية العربية. فمثلاً، نقرأ في رسائل بولس في ترجمته العربية هذا النص: (لأن من يتكلم بلسان لا يكلم الناس بل الله، لأن ليس أحد يسمع، ولكنه بالروح يتكلم بأسرار) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 14: 2]. هذا النص (ترجمته مزورة وبجدارة من جانب المترجمين المسيحيين العرب) وذلك للتمويه على حقيقة أن طقس (التكلم بلسان) هو نوع من أنواع (الرطانة غير المفهومة). الترجمة الحرفية للنص السابق في رسالة بولس هو كالآتي كما في الترجمة الجديدة للملك جيمس [New King James Version]: (لأن من يتكلم بلسان لا يكلم الناس بل الله، ولذلك لا أحد يفهمه، ولكن بالروح هو يتكلم بالأسرار) [انظر أي ترجمة حديثة أنت تختارها أو ارجع للنصوص اليونانية]. والحقيقة هي أنه مع هذا (التمويه المتعمد) في الترجمات إلا أننا يمكننا الاستنتاج أن هذا الطقس هو (برطانة غير مفهومة) من النصوص الأخرى في رسائل بولس. فهو قد كتب قائلاً عن (المواهب الروحية) التي يمكن للفرد مشاهدتها في كنائسه التي تتبعه، وليعدد منها: (ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز الأرواح، ولآخر أنواع ألسنة، ولآخر ترجمة ألسنة) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 12: 10]. فبولس هنا يشير إلى أن التكلم بألسنة يستدعي (الترجمة)، أي أنها مغلقة على أفهام البشر ولغاتهم المعروفة وذلك بدليل إنه فقط مَنْ أُعطيَ (المواهب الروحية) [12: 1] هو الذي يستطيع ترجمة هذه الألسن التي مصدرها (الروح القدس) [12: 3]. بل إن بولس نفسه يشير صراحة إلى أنها ليست لغة بشرية ولكنها (ألسن الملائكة) في تلك الرسالة ذاتها: (إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة، فقد صرت نُحاساً يَطن أو صنجاً يرن) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 12: 10]. وتولت الأبحاث الحديثة منذ بداية القرن العشرين دراسة هذه الظاهرة في الكنائس المسيحية ولتخرج بنتائج مثيرة عنها. فقد تولت الدكتورة لورين داي (Lorraine Day) استعراض أهم نتائج هذه الأبحاث [انظر: Speaking in Tongues – Glossolalia, Lorraine Day ]. ففي دراسة قام بها عالم اللسانيات الشهير وليام ساماريان، جامعة تورينتو، لهذه الظاهرة في الكنائس المسيحية التي تمارس هذا الطقس خلص فيها إلى أنها "لغة مزيفة أو وهمية (pseudo-language)"، وأنها "هذيان غير مفهوم ولكنها تظهر صوتياً بصورة مصطنعة وكأنها تشابة لغة محكية". وأيضاً دراسة بها الدكتور وولفرام (W.A. Wolfram) والتي استنتج من خلالها أن هذا الطقس المسيحي "يفتقد للعناصر الأساسية لأي لغة محكية ويفتقد أيضاً لأي نظام متماسك لإيصال المعلومات". وبعد استعراض الدكتورة داي لأهم هذه الأبحاث، تستنتج أن "طقس (التكلم بلسان)، كما هو يُمارس في الكنائس المسيحية، هو مماثل تماماً (identical) للغة الترديد عند مَنْ يمارسون الفودو (voodoo) [نوع من أنواع السحر الأسود اشتهرت به قارة أفريقيا وبعض دول أمريكا الوسطى والجنوبية]". وأشارت أيضاً إلى أن مَن يمارسون هذا الطقس المسيحي قد لوحظ عليهم بعض الأعراض خلال الطقس منها الضحك خارج السيطرة، السقوط على الأرض، التقلب على الأرض، وبعض أعراض التشنجات وما ينتج عنها من سلوكيات.
وأيضاً، على عكس مما يعتقده البعض من قراءة تعاليم بولس فيما يخص كلام المرأة في الكنائس وأنَ عليها الصمت التام فيها: (لتصمت نساؤكم في الكنائس، لأنه ليس مأذونا لهن أن يتكلمن، بل يخضعن كما يقول الناموس أيضاً) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 14: 34]، فإن بولس لم يكن يقصد إطلاقاً أن يكنّ مشمولين بهذه الأمر في (طقس التنبؤ – التكلم بألسنة)، ولكن كان مأذوناً لهن بالمشاركة فيه والكلام بتلك الألسن، أما فيما سوى ذلك فإنهن مأمورون بالصمت. فهذا الطقس كان (مختلطاً بين الجنسين) بدون أدنى شك في الطقوس المسيحية في القرن الأول والثاني. فنحن نجد تأكيداً لهذا ضمن نصوص العهد الجديد ذاته. إذ بولس نفسه في تلك الرسالة يقول الآتي لأهل كورنثوس: (كل رجل يصلي أو يتنبأ وله على رأسه شيء، يشين رأسه. وأما كل امرأة تصلي أو تتنبأ ورأسها غير مغطى، فتشين رأسها، لأنها والمحلوقة شيء واحد بعينه) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 11: 4-5]. كما أننا نقرأ في سفر أعمال الرسل: (خرجنا في الغد نحن رفقاء بولس وجئنا إلى قيصرية، فدخلنا بيت فيلبس المبشر، إذ كان واحداً من السبعة وأقمنا عنده. وكان لهذا أربع بنات عذارى كن يتنبأن) [أعمال الرسل 21: 8-9]. وأيضاً في إنجيل لوقا إشارة إلى نبية يهودية كانت في القدس (وكانت نبية، حنة بنت فنوئيل، من سبط أشير) [لوقا 2: 36]، إلا أن ما يهمنا هنا هو ما كتبه كاتب إنجيل لوقا بعد ذلك عنها، فهي: (لا تفارق الهيكل) [لوقا 2: 37]، وهذا إسقاط مسيحي من جانب كاتب إنجيل لوقا بدون شك. إذ على الرغم من ورود أسماء لنبيات يهوديات ضمن نصوص العهد القديم مثل دبورة [قضاة 4: 4]، وخلدة [الملوك الثاني 22: 14]، ونوعدية [نحميا 6: 14]، إلا أن نشاطهن قد اقتصر على خارج حدود المعابد اليهودية. فمن الثابت أن المرأة اليهودية لا تباشر بنفسها إطلاقاً طقوس المعبد اليهودي فضلاً عن أن تتنبأ داخله، كما أن الرجال والنساء يتم فصلهم بحاجز سميك، وأحياناً كثيرة بحائط، حتى في الصلاة عند حضورهن، وهذا الحاجز يمنع حتى رؤيتهن أو سماعهن بوضوح لِما يجري في الجزء المخصص للرجال حيث تجري تلك الطقوس، والعقيدة اليهودية لا تتطلب من النساء أن يحضرن الصلوات، بل إن هناك طقوساً يهودية لا يستطعن حضورها حتى لو أردن ذلك. فكاتب إنجيل لوقا كان يُسقط ما كان يراه من مشاركة المرأة في التنبؤ والتكلم بالألسن في الطقس المسيحي داخل الكنائس على العقيدة اليهودية عند (اختراعه) لتلك القصة في إنجيله. فلا مجال للشك إذن بأن طقس (التنبؤ – التكلم بألسنة) كان مختلطاً داخل الكنائس المسيحية للقرن الأول من أتباع بولس بالتحديد. ويبدو أن النبيات النساء كن ذوي تأثير كبير جداً على مسيحيي القرن الأول، هذا التأثير كان من الشدة بحيث اضطرت النصوص المسيحية المقدسة أن تذكر اسم إحداهن. فنحن نقرأ في رؤيا يوحنا اللاهوتي هذا الكلام الشديد الموجه لإحداهن، وتدعى إزابيل، على لسان يسوع: (لكن عندي عليك قليل : أنك تسيب المرأة إيزابل التي تقول إنها نبية، حتى تعلم وتغوي عبيدي أن يزنوا ويأكلوا ما ذبح للأوثان. وأعطيتها زماناً لكي تتوب عن زناها ولم تتب. ها أنا ألقيها في فراش، والذين يزنون معها في ضيقة عظيمة، إن كانوا لا يتوبون عن أعمالهم. وأولادها أقتلهم بالموت) [رؤيا يوحنا اللاهوتي 2: 20-23]. يشرح (قاموس الكتاب المقدس) حال إيزابيل النبية: "اسم امرأة في ثياتيرا، كانت تدعو نفسها نبية، وقد أغوت المسيحيين هناك أن يرتكبوا فاحشة وأن يأكلوا مما ذبح للأوثان ". فهذا الطقس كان مختلطاً بدون أدنى شك ويُذكّر بالكاهنات (النبيات) الوثنيات في معابد الإغريق والرومان تحديداً.
الخلاصة هي أن الطقوس المسيحية المبكرة، وخصوصاً القبلة المقدسة والتكلم باللسان اللذان تعرضنا لهما في هذه المقالة بجزءيها، وطقسي الأفخارستيا والتعميد كما طوره بولس، هذه كلها طقوس ذات أصول وثنية بدون أدنى شك، ولا شأن للطقوس اليهودية بها إطلاقاً. هي الطقوس نشأت بسبب رغبة بولس في استمالة المجتمعات الوثنية خارج فلسطين وتندرج كلها تحت (تزوير مسيحية يسوع) كعقيدة روّج لها بولس.
...يتبع
هـــــــــامـــــــــــش:
1- فلم لطقس التكلم بالألسنة (Glossolalia) يشارك فيه الأطفال داخل إحدى الكنائس الأمريكية:
http://www.youtube.com/watch?v=cQ4114XO-Xo
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تزوير مسيحية يسوع – 18 – الجزء الأول
-
تزوير مسيحية يسوع – 17 – الجزء الثاني
-
تزوير مسيحية يسوع – 17 – الجزء الأول
-
تزوير مسيحية يسوع - 16
-
تزوير مسيحية يسوع - 15
-
تزوير مسيحية يسوع - 14
-
تزوير مسيحية يسوع - 13
-
تزوير مسيحية يسوع - 12
-
تزوير مسيحية يسوع - 11
-
تزوير مسيحية يسوع - 10
-
تزوير مسيحية يسوع - 9
-
تزوير مسيحية يسوع - 8
-
تزوير مسيحية يسوع - 7
-
تزوير مسيحية يسوع - 6
-
تزوير مسيحية يسوع - 5
-
تزوير مسيحية يسوع - 4
-
تزوير مسيحية يسوع - 3
-
تزوير مسيحية يسوع - 2
-
تزوير مسيحية يسوع -1
-
العلم الطاهر
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|