|
في ظلال قلم ناصر السّعيد
طاها يحيا
الحوار المتمدن-العدد: 4344 - 2014 / 1 / 24 - 15:24
المحور:
سيرة ذاتية
ضيّع آل سعود التسلّط ثالثة، كما ضيّعوه ثانية في العقد الأخير من القرن 19م، الذي بالكاد تم لهم أن يستخلصوه. يكاد التاريخ الرّسمي السّعودي الذي يُمجّد كل ما يتعلق بعبدالعزيز آل سعود، أن يُغفل حقبة هامة أساس من سيرة حياة مؤسس المملكة؛ المرحلة الكويتية في شبابه.
ولا عَجب في ذلك، فلقد كان عبدالعزيز نفسه يتحاشى تذكّر ذلك العهد البائس الذي عاشه في باكر حياته، رغم ما عُرف عنه في مجالسه من حُبّ لاستعراض أيامه وأمجاده و«سوالفه»، لكن الباحث في ظلال قلم ناصر السعيد، يجد في بعض المصادر الغربية، سيما منها التي تعتمد على الوثائق الرّسمية البريطانية، معلومات مفيدة يمكن الاستعانة بها لإضاءة جوانب من هذه الفترة المنبوذة المعتمة في سيرة ابن سعود، التي لا شكّ في أنها تركت آثاراً غائرة في شخصيته، ليس بمقدور النسيان ولا التناسي أن يمحوها! كما أن هذه الحقبة علّمت عبدالعزيز صروفاً قاسية من الحياة ما كان بوسعه أن يَخبرها لو أن الأقدار مضت به في مسارات سلسة أخرى. كذلك فإنّ ظروف «المرحلة الكويتية» قد ربطت عبدالعزيز برجل قُدِّر له أن يلعب دوراً بارزاً في علوّ حظوظه الأولى، وفي نموّ تكوينه وتفكيره؛ ذلك هو الشيخ مبارك الصّباح حاكم الكويت (1896–1915م). وكان آل سعود، في العقد الأخير من القرن 19م، قد ضيّعوا ثانية السّلطة التي بالكاد تم لهم أن يستخلصوها - قبل سنين - على جزء من أرض نجد. ولم تكن دولتهم الثانية تلك بخطورة الدّولة الأولى، فاقتصر تأثيرها على زعامة عشائرية ذات صبغة دينية، تمركزت في بلدة الرياض، وهيمنت على ما جاورها من القرى المحيطة. ثمّ ما لبث الشقاق العائلي أن استفحل بين فروع الأسرة السعودية حول من يجدر به أن يحكم منهم. وسريعاً ما باد مُلك السعوديين الثاني بعدما شتتت شملهم الخلافات والمنافسات، فسهّل كل ذلك على ابن رشيد، حاكم حائل الموالي للأتراك، أن يطرد آل سعود من مقرّ حكمهم بالرياض، بعد معركة سريعة في حريملاء سنة 1891م.
وكان الأمير عبدالرحمن بن فيصل آل سعود (والد عبدالعزيز) آخر حكام تلك الإمارة السّعودية الثانية. وقد هرب من عاصمة حكمه الرياض، بعدما استولى عليها حكام حائل. ولجأ مع أسرته إلى مشيخة الكويت في عام 1894م، بعدما قضى أكثر من عامين ضيفاً في مضارب قبيلة المرّة البدوية القاطنة على مشارف شبه جزيرة قطر.
كانت الكويت، التي وصلها الفتى عبدالعزيز، أرض شقاء! ولقد عاش عبد الرحمن آل سعود مع نسائه الأربع، ومعهنّ بعض من إمائه، وأكثر من عشرين من أولاده وبناته وأحفاده، سبعة أعوام كاملة في ثلاث حجرات، في بيت طيني واطئ السقف، في زقاق قريب من ميناء المدينة. ولم يكُ في ذلك المكان مظهراً من مظاهر الجمال سوى روائح السّمك والبراز الأخّاذة فيه. ولم يكن هنالك نظام للمجاري في الكويت آنذاك، ولم يكن الكويتيون يعرفون حتى المراحيض الخاصة في بيوتهم.
وكان شاطئ البحر يقضي حاجة الجميع؛ فأمّا الميسورون من أهل الكويت فقد صنعوا لأنفسهم ولنسائهم أكواخاً من الخشب لها أبواب متداعية على حافة البحر، واتخذوها مراحيض لهم. وأمّا فقراء الناس - ومنهم يومذاك آل سعود أنفسهم - فلم يكن لهم من خيار ولا ساتر يقي من عيون الملأ. وكان الرجل أو المرأة من أولئك البؤساء يقرفص فيقضي حاجته على الشاطئ، ثمّ يقوم، تاركاً أمر تنظيف مخلفاته لمياه المدّ والجزر. وقد عاش آل سعود في الكويت عيشة ضنك،
فهم يومَ خسروا ملكهم في نجد، خسروا معه كل ما لهم، وخرجوا منه خالي الوفاض. ولم يولِ محمد بن صباح (شيخ الكويت التي هاجروا إليها) اهتماماً بتلك العائلة الذليلة بعد عزّ التي التجأت إلى حماه. وما كان الشيخ يصرف لعبدالرحمن وعياله معونة إلا بعد توسّل يطول. ولعلّ ابن صباح كان في قرارة نفسه شامتاً بآل سعود الذين سبق لهم أن هدّدوا مشيخة الكويت من قبل، يوم كان لهم في الجزيرة سطوة وبأس.
ولقد اضطر عيال عبدالرحمن إلى أن يعملوا في الميناء أشق الأعمال ليكسبوا قوتهم، بل اضطرت النسوة أيضاً إلى الخدمة في البيوت، علّهن يحصّلن شيئاً من لوازم الحياة لعائلة فقيرة وفيرة العدد. وكان لذلك العهد الذي تدحرجت فيه الأسرة فجأة من عزّ السّلطان إلى ذل الهوان، أثر مرير في شخصية الفتى عبدالعزيز، وفي نفسيته. إلّا أن شيئاً من هذا الضنك قد تغيّر أخيراً، بعد أن استولى الشيخ مبارك الصّباح على مقاليد السلطة في الكويت عام 1896م.
وقد كان لهذا الشيخ غاية ومأرب، من وراء إحسانه للعائلة السعودية، ومبادرته إلى تقريب عائلتها منه. كان للشيخ مبارك نظرية آمن بها -مثلما آمن بها أبناؤه وأحفاده من بعده - ومفادها أن الكويت ما هي إلا لقمة بين ثلاثة أفواه: فم من الشمال، عراقي. وفم من الشرق فارسي. وفم من الجنوب، نجدي. وأنّ الكويت لا تقوم لها قائمة إلا بأمرين: فأحدهما هو محاولة إشغال هذه الأفواه بنهش بعضها بعضاً. وثانيهما الاحتماء بسلطة أقوى من نفوذ كل أولئك الجيران جميعاً.
وعلى هذا الأساس، فقد كان من أوّل ما فعله ابن صباح عندما تولى الحكم، توقيعه في كانون الثاني 1899م على معاهدة، تحميه بموجبها بريطانيا من أيّ خطر خارجي، على أن «يلتزم الشيخ مبارك، وورثته من بعده، وكل من يخلفه، بأن لا يقطعوا أمراً، في جميع ما يتعلق بالسياسة الكويتية الخارجية أو الداخلية، من دون الرجوع إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج المقدّم Malcolm Med».
وكان سبب تدثر الشيخ مبارك بالحماية البريطانية إحساسُه بخطرَيْ فمَيْن من تلك الأفواه الثلاثة قد عكّرا عليه سلطته الحديثة. فمن جهة، كان والي البصرة العثماني (الذي كانت الكويت تابعة له سياسياً) ساخطاً على مبارك بسبب الطريقة الإجرامية التي سطا بها على المشيخة. ومن جهة ثانية، فقد انفتح الفم النجدي بأكثر مما ينبغي له. وقويت شوكة آل رشيد المسيطرين على نجد، فصاروا يتعرّضون بالنهب للقوافل البرية التجارية التي تزوّد الكويت بالمؤن، أو لتلك التي تخرج محمّلة من مينائها. فكان لزاماً على شيخ الكويت حينئذ أن يشغل أعداءه الجدد بأعدائهم القدامى الذين ما برحوا يتشوّقون للانتقام. ولم يكن أفضل من آل سعود لهذه المهمة،
ولم يكن أحد أحرص منهم عليها. وهكذا جهّز مبارك عصابة السعوديين بإبل ومؤن وبنادق وذخيرة كي يلعبوا دورهم الجديد كمخلب قطّ يراد له أن يناوش الأعداء، ويكدّر صفوهم وينال منهم. واختير الشاب عبد العزيز ذو القامة المديدة، والقلب الصلب، والرغبة الجامحة للثأر، حتى يتزعّم تلك العصابة. وباشر عبدالعزيز فوراً مهمته، فجمع من حوله عدداً من أقاربه، واتجه بهم إلى الجنوب مغيراً على خيام بعض البدو، فغنم قطعاناً من إبلهم وماشيتهم، ونهب ما وجده في تلك الخيام، ثمّ عاد بما جمعه إلى الكويت. وسُرّ مبارك بصنيع الشاب أيّما سرور، فقرّبه منه، وطفق يشجّعه على مزيد من هذه الغارات والغزوات.
ولا شكّ في أنّ عبدالعزيز أحبّ، بدوره، ما لقيه من حظوة عند الشيخ مبارك. ولا شكّ في أنّ الشاب أفاد كثيراً من خطط ودروس معلّمه. ولعلّ من أوكد المعاني التي أوحت بها شخصية ابن صباح للشاب عبدالعزيز: أنّ الدنيا إنّما تفتك ولا توهب.. وأنك في سعيك إلى الزعامة، يجدر بك أن لا تهاب أمراً خطيراً جللاً وأنّه لا يجب أن يقف في سبيلك نحو المجد أحد: ابناً كان، أو أباً، أو أخاً! بل إنّ الطريقة التي سلكها الشيخ مبارك للوصول إلى سدّة الحكم في الكويت، كانت - بنفسها - درساً موحياً وعملياً لعبدالعزيز. درس في «كيف تكون الجرأة والإقدام وشدّة البأس في الأمير!». لكنّ الحق أنّ ما اقترفه الشيخ مبارك الصباح في سبيل جلوسه بعدئذ على كرسي الحكم في «قصر السّيف»، وما بُهِر به الشاب عبدالعزيز، لم يكن يليق به أن يُسمّى جرأة وإقداماً، وإنما كان يليق به أكثر أن يسمّى باسم آخر مختلف.
الغدر إنّ مبارك الصّباح المسمّى بـ«الكبير!» (1840-1915م) جدّ الأسرة الحالية الحاكمة في الكويت، بفرعيها آل الجابر وآل السالم؛ فكلا هذين ابن له. وكان مبارك هذا ولداً أصغر للشيخ صباح، القائم مقام الذي توليه الآستانة في الكويت. وتوفي الشيخ صباح عام 1866م، فتولى نفس مهمته من بعده ابنه الأكبر عبدالله، ثمّ خلف هذا من بعد موته أخوه محمد عام 1891م. وقرّب الشيخ محمد أخاه جرّاح بن صباح فجعله شريكاً له في إدارة شؤون المدينة، وهمّش دور أخيه مبارك، فحزّ ذلك في نفس الأخير. ولم يكن لمبارك عمل يعتاش منه سوى ما يخصصه له أخواه. فكان ذلك لا يكفيه. وصار يستدين من التجار بما له من وجاهة في المدينة، على أن يستردّ هؤلاء ديونهم عليه من ديوان المشيخة.
وضجّ الشيخ محمد من ديون مبارك. وطفح الكيل بأخيه جرّاح حتى خرج بنفسه، في يوم في أيار 1896م، ليُعلم التجار في سوق الجزارين بأن الدّيوان ما عاد ملتزماً بتسديد ديون مبارك. وكانت تلك القشة التي قصمت ظهر الاخوة، وأغرقت سلالة آل صّباح في لعنة الدم. فلقد قرّر مبارك أن يقتل أخويه بيديه! وقد أشرك في ما اعتزمه من الإجرام ابنيه جابر (جدّ أمير الكويت الحالي صباح الأحمد الجابر)، وسالم (جدّ أمير الكويت السّابق سعد العبدالله السالم) فوافق الابنان أباهما على ذبح عمّيهما! وكان الناس في الكويت ينامون في بداية الصّيف، فوق أسطح منازلهم، لحرارة الجو. وكان الشيخان محمد وجرّاح يقيمان معاً في قصر الحكم. فعزم مبارك على أن يباغتهما عند نومهما، مستفيداً من غفلتهما، ومن كونه وابنيه محل ثقة الحرس. وزاد مبارك فاصطحب معه جماعة من أصحابه الخُلص. وادّعى عند وصوله إلى بوابة القصر، في منتصف ليلة 17 أيار 1896م، بأنه يحمل أخباراً هامة للشيخ.
وهكذا مرّ ورفاقه، دون أن يدور في خلد الحرّاس شك. يروى الشيخ عبدالعزيز الرشيد في كتابه «تاريخ الكويت» تفاصيل وافية عن هذه الجريمة التي هزت صميم وجدان المدينة الوادعة. ومعظم شهود تلك الواقعة هم ممن شاركوا فيها، ثم رووا ما وقع بعد ذلك بسنين. وقد اتجه مبارك إلى سطح القصر مع رفيقيه (سيف بن كمعي الرشيدي، وأخوه قرينيس) ثمّ اقترب من أخيه النائم بحذر، وانتهره: «قوم». فاستيقظ الشيخ محمد مذعوراً، ليفاجأ ببندقية مصوّبة إلى صدره. ولم يمهل القاتل قتيله طويلاً، فأطلق النار عليه.
ولم تكن الطلقة الأولى قاتلة، فهتف المغدور متوسلاً بالأخوة: «أخوي.. أخوي!». وكان جواب الأخوّة طلقة ثانية في الرّأس! وكانت مهمة الابن جابر ومرافقيه (شلاش بن حجرف، وابن أخيه فلاح بن هيف بن حجرف، وباتل بن شعف) أن يجتازوا طرفاً ثانياً من السّطح حيث يبيت جرّاح، فوجدوه مستيقظاً مع زوجته. وصوّب جابر بندقيته تجاهه فلم يصبه. ووثب جرّاح تؤازره زوجته على جابر، فتغلبا عليه. وسرعان ما أنجدَ جابراً مرافقُه شلاش، فطعن جرّاحاً بالسيف في ظهره،
وأكمل الشيخ جابر فأجهز على عمّه، وذبحه! وكانت مهمة سالم، مع أربعة من الرجال، هي إرعاب عبيد القصر لمنعهم من نجدة مولاهم. وأن يسيطروا على البوابة أثناء المذبحة، ويقتلوا العسس القليلين، ويحرسوا المدخل، وقد تمّ. وبعدما اطمأنّ الشيخ مبارك إلى نجاح مخططه، استحمّ وتوضأ وصلى وأكل ثم توجه إلى قاعة المشيخة الكبيرة في القصر، وجلس هناك بانتظار طلوع النهار. وكان من عادة الأعيان وكبار التجار في الكويت أن يتوجهوا كل صباح إلى مجلس المشيخة، فرادى أو زمراً، لتحية الشيخ ابن الصباح. لكن ذلك الصّباح كان غريباً! فلم يروا أحداً من الحرس المعتادين في الباب، بل وجدوا بدلاً منهم جماعة من البدو مدججين بسيوف وبنادق. وزاد قلقهم لمّا دخلوا،
فرأوا في صدر الديوان مبارك، بوجهه المتجهم، جالساً وسيفه مسلول في حجره، وابنه جابر واقف بجانبه! كانت تحية الكويتيين المعتادة هي: «السلام عليكم يا محفوظ!»، لكن لا أحد سمع جواباً على السلام! وعندما امتلأ المجلس، أشهر مبارك سيفه ورفعه ببطء. وقال بلهجة حازمة: «يا أهل الكويت، يا أبناء العمومة: يكون معلوم ليكم أنه أخوي محمد وأخوي جرّاح قضى الله أن يموتوا الليلة الفايتة. وأني اللي راح أحكم البلاد بدل منهم. وإن كان عند واحد فيكم ما يقوله، يتقدم ويقوله». وساد صمت رهيب، فلم يكن يسمح لمن يدخل بالمغادرة. ولم يكن أمام زوّار المجلس من خيار إلا السّيف المسلول أو المبايعة! كان عبدالعزيز في الكويت يومها، ولم يكن قد أكمل من العمر عشرين عاماً، لمّا تمّت هذه الفتكة التي طالما ألهمته كيف تكون الجرأة والإقدام وشدّة البأس في الأمير. وبعد ستّ سنين، كان عليه أن يفتِك وأن يفتَكَّ حكماً لا يوهب،
لكنه يُنتزع بالسّيف أو بشيء آخر. المكر لقد ملكت على عبدالعزيز، في سنواته الكويتية، غاية واحدة طالما سكنت ذهنه؛ كيف يسترجع ملك آبائه؟ وكانت له خطة شجّعه على المضيّ فيها عدد وافر من البدو كانوا يلتحقون بعصابته كل مرّة، طمعاً في الغنائم، من بعد أن علا صيته في السطو. ولقد فكّر عبدالعزيز في أن يجعل من البدو السرّاق جنوداً مقاتلين، فيحاول أن يستعيد بهم بلدته الرياض. ثمّ إن الشاب استساغ فكرته تلك حتى صدّقها، ثمّ إنّه قدّر في نفسه أنّ موعد مغامرته الكبرى قد أزف. ولقد استأذن أباه والشيخ مبارك في أن يجرّب حظه في الإغارة على حامية الرياض القليلة البعيدة المعزولة عن قوات آل رشيد في حائل، فوافقاه. وغادر عبدالعزيز الكويت في أواخر أيلول عام 1901م، وهو يقود نحو 40 من رجاله، على أمل أن يلتحق به البدو في الطريق.
وكان من أبرز من خرج معه: أخوه محمد، وأفراد من أولاد عمومته. وكان مقدّراً لأحدهم، هو عبدالله بن جلوي بن تركي آل سعود، أن يلعب دوراً كبيراً في نجاح حظ تلك العصابة السّعودية. وكانت خطة عبدالعزيز لتمويل هجومه، وتكثيف عدد أصحابه، التربص كالعادة بالقوافل، وقطع الطريق عليها، ونهبها، ثمّ توزيع الغنائم على من يلتحق به من البدو. وبتكرر الغزوات، ارتفع عدد العصابة من 40 إلى مائتي لص. لكن الخطة سرعان ما انتكست حين حلّ شهر رمضان في كانون الأول 1901م. فذاب لصوص عبدالعزيز بعد أن قرّر أولئك البدو العودة إلى مضاربهم في شهر الصيام. وهكذا عادت الجماعة إلى حجمها الأول: 40 يزيدون قليلاً.
وكانت هذه خيبة مريرة، لكن عبدالعزيز صمّم على أن لا يستسلم، فلم يكن قادراً على تحمل هوان التقهقر خاوي الوفاض إلى الكويت. تحتّم على عبد العزيز الآن أن يغيّر من تكتيكاته الماكرة. فجمّد سياسة النهب (في رمضان)، وسعى إلى نشر شائعات عن اختفائه مع عصابة الأربعين، بعيداً قرب واحة يبرين (موطن حلفائه من قبيلة المرّة)، علّه بذلك «ينوّم» حامية ابن رشيد في الرّياض، فتشعر بالطمأنينة وتخفف من يقظتها. ولمّا انقضى النصف من رمضان، مطلع عام 1902م، أمر عبدالعزيز بشدّ الرحال إلى الرياض. كان يقدّر بأنهم سيصلون إليها ليلة العيد حين يُعدَمُ الهلال، والجميع يكون متلهّياً، فيتآمر عيد الفطر والظلام، لتسهيل مهمته! لكن المسير تأخر، فوصل السّعوديون إلى مشارف الرّياض بعد يوم عيد الفطر. ومكث أفراد تلك العصابة ينتظرون مختبئين حتى غروب شمس يوم 15 كانون الثاني 1902م.
وقد بدا لابن سعود، وهو ينظر من بعيد إلى سور بلدته، أنّ حلمه يوشك أن يتحقق! وفي تلك الليلة، انتخب عبدالعزيز من رجاله 40 لـ«فتح الرّياض». وأمر من بقوا بحراسة الإبل بعيداً، وبالعودة إلى الكويت إن كانت نتائج الغزوة سيئة. وتستّر الرجال بجنح الظلام، وتقدّموا في منتصف ذلك الليل الشتوي، متسلحين بخناجر وسيوف وبنادق، حتى وصلوا إلى سور المدينة، فتسلقوه بواسطة جذع نخلة مقطوع، ثمّ سرعان ما وجدوا أنفسهم في الأزقة المظلمة والنائمة. كانت خطة عبدالعزيز بسيطة لكنها عمليّة، فهو إن تمكّن من اغتيال حاكم الرياض عجلان، فستنهار مقاومة جنوده فوراً، بل إنهم سيستسلمون له («اقطع راس الحيّة، تنشف عروقها»). ثمّ إنّ خطته اعتمدت على ولاء أحد السكان لعائلته، وكانت دار هذا الرجل قريبة من دار الحاكم، المقابلة لبوّابة قلعة المصمك في وسط الرياض. فتسلق عبدالعزيز ومن معه، من خلال سطح دار الرجل الموالي حتى بلغوا سطح دار عجلان، وهنالك وجدوا زوجته وأختها، لكنهم لم يجدوه هو، فلقد كان من عادته أن ينام داخل قلعة المصمك، ثمّ يعود إلى بيته في الصّباح. وقام رجال عبدالعزيز بتكميم المرأتين وتقييدهما، بعد استجوابهما عن مكان عجلان. وكان على العصابة، حينئذ، أن تنتظر انبلاج ضوء الشمس، حتى يخرج الرجل المطلوب. في الصّباح، فتِحت بوابة القلعة، وظهر أخيراً الأمير عجلان بن محمد العجلان، ومن ورائه حارسه. كان عائداً إلى بيته، ليفطر مع زوجته. وراقب عبدالعزيز الرجلين الغافلين من خلال نافذة في البيت تطل على الساحة المقابلة لبوابة القلعة. وقرّر أنّ هذه أنسب لحظة لقتل عجلان، فها هو معزول الآن عن الجنود. وإنّ مصرعه أمام أعينهم، لا بدّ أنه سيدخل البلبلة في صفوفهم، وسيبث الرّعب في قلوبهم، فينهزمون. وهكذا أعطى عبدالعزيز إشارة الهجوم، فخرج السعوديون من بيت عجلان، لينقضّوا عليه. وكانت صيحاتهم مرعبة، ما أربك الرّجلين، اللذين أخِذا على غرّة، فلاذا بالفرار إلى بوّابة القلعة. وفتح الجنود لهما خوختها [باب صغير داخل الباب الكبير، لا يتجاوز طوله المتر] وغاص الحارس عبر الخوخة إلى الدّاخل. وحينما كان عجلان السمين يحاول جاهداً إدخال رأسه في الفتحة الصغيرة، انقضّ عليه عبدالعزيز، وأمسكه من فخذيه، فأوقعه أرضاً. وتحوّلت المعركة عند الخوخة إلى مشهد كوميدي، أقرب إلى لعبة شد الحبل! فبينما كان حراس عجلان يجرّونه من رأسه وكتفيه نحو الداخل، كان السّعوديون في الخارج متشبثين برجليه، وكان يركلهم بكل قوته، ويقاومهم بجنون. وفجأة، تمكن عجلان من تسديد ركلة قوية إلى عانة عبدالعزيز، فارتخت قبضتاه.
وتمكن جنود الحاكم من جرّه إلى داخل القلعة. هنالك انقضّ عبدالله بن جلوي، وألقى بنفسه في الخوخة وراء عجلان. وشغِلَ به الجنود عن إغلاق الخوخة، فدخل منها السّعوديون. ودار قتال بالسّيوف والبنادق بين الفريقين. وكان عجلان، الذي تلقى رصاصة في ذراعه، يعدو صاعداً درجات جامع قلعة المصمك ليلوذ به. فلحقه ابن جلوي إلى باب المسجد، وطعنه طعنات عدّة بالسّيف، فانفجر دمه متدفقاً، ليصبغ باب جامع الرياض. ولم يكتف عبدالله بن جلوي بقتل عجلان، بل إنه زاد فبقر بطنه بعد ذلك، وانتزع كليتيه، وقذف بهما إلى الجنود المذهولين الذين رمى معظمهم بسلاحه! ونظر عبدالعزيز إلى الكليتين المغطاتين بالشحم، ثمّ أمسك بهما،
وقال في استهزاء: «ترى يا جماعة، شفتوا من قبل احد من آل سعود عنده كلوتين، بيهم كل هالشحم، مثل هالخنزير؟!». عند ظهر ذاك اليوم 5 شوّال 1319هـ 16 كانون الثاني 1902م، تجمّع أهل الرياض، وبايعوا الحاكم الجديد عبدالعزيز آل سعود، ثم صلّوا وراءه صفوفاً في الجامع. لقد أفلحت فتكة ابن سعود البكر.. وكانت تلك فاتحة لثمانين حولاً قمرياً (عمر أخوان مصر المسلمين) من مهلكة أسرة آل سعود الفاسدة في رقصة هجن جنادرية (عمرة) مسخ في عامه 65 «يحيى يرتزق هديّة رزّاق» في 6 جمادي الأولى 1435هـ 18 آذار 2014م.
#طاها_يحيا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لقاء وغياب رفقة القلم والألم والأمل في Colorado
-
دحض Falsifiability الماضوية
-
رائد حرية الإنسان د. شاكر النابلسي
-
صلاةُ المَكانِ الوثنِيّ Pagan religions
-
مرتد في وطن المليون شاعر
-
لبنان الجمال وقناع وجه الإسلام السياسي القبيحُ
-
ثيمَة الإسْم الحَركي سُنَّةً حَسَنَةً
-
النوم مع الشيطان ing with the Devil
-
مَرْجِعُكُمُ «جلال الدين الرومي»
-
مَساربُ الشَّامِ
-
هَوى النّبيٌّ ضَلالٌ بتقرير القرآن
-
ظلام في الظهيرة Darkness at Noon
-
أمثلولة (رفيق!) بعثي بغير رفق
-
أقصوصة Joseph Conrad
-
الأقصوصة
-
إسْرافيل قصيدة Edgar Allan Poe
-
القَص القَصير The Short story
-
بَدِيعُ
-
أكْرَمُ الْحَكِيمُ: لَكُمُ الْلَّطمُ ولَنا الحُكْمُ
-
قصة قصيرة Short story
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|