أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سمير ابراهيم حسن - العلم وعواقبه















المزيد.....


العلم وعواقبه


سمير ابراهيم حسن

الحوار المتمدن-العدد: 4344 - 2014 / 1 / 24 - 00:33
المحور: المجتمع المدني
    


لا يشكك أحد اليوم في أهمية العلم، فبالعلم وليس بغيره ارتفع معدل الحياة من 39.9 سنة إلى 49.9 سنة خلال السنوات الثلاثين بين 1964-1994 وتدنت نسبة وفيات الأطفال بأكثر من 40% أي إلى 97 بالألف بعد أن كانت 166 بالألف، وارتفع متوسط عمر الانسان اليوم إلى 85 عاماً، ومكتشفات العلم هي التي ترفع مستوى المعيشة وتحسن نوعية الحياة، وتمكن تطبيقاته التقنية أقل الناس ذكاءً من أن يعيش حياة طبيعية أكثر توافقاً وانسجاما،ً وبالعلم وخلال قرون قليلة ولدت إنسانية جديدة. تطورات الحاسوب والاتصالات تضاعف قدرة الانسان كل سنة تقريباً،........ وغير ذلك كثير (1).
ونعلم اليوم أن البلد المتخلف متخلف كذلك علمياً والبلد المتخلف علمياً هو بالضرورة بلد متخلف، وبالتطبيقات الباهرة للعلم في الاتصالات والتلفزيون والإنترنت أصبح الناس في جميع مناطق العالم يتعرفون على أشكال من الثقافات والحريات والديمقراطيات والمعارف لم تكن لتخطرعلى بال، وباتوا يراجعون ويقارنون مبادئهم وسلوكاتهم وأسس تفكيرهم والنظم السياسية التي يخضعون لها على أساس ما يروه ويسمعوه يومياً.
لم تعد المسألة فيما إذا كنا سنقبل العلم الحديث أم لا، بل مدى استعدادنا لقبول العلم كنمط تفكير ونظرة جديدة مختلفة إلى الوجود والحياة. ومدى استعداد حكوماتنا ومؤسساتنا الثقافية والدينية والسياسية والتربوية لأن تتسامح وتفتح آفاقاً أكثر حرية أمام العلم الطبيعي والاجتماعي للبحث في مجالات المعرفة المتنوعة دون عوائق وممنوعات، وأن تقبل نتائج الأبحاث في مجالات العلوم المختلفة الطبيعية والاجتماعية، وإن كانت اكتشافات هذه العلوم في كثير من الأحيان تعصف بالحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية وتهزها في صيرورة نقلها إلى مراحل أكثر تطوراً وغناً.
الواقع أن العداء للعلم وللتفكير العلمي كان، تاريخياً، ينبثق من هذه النقطة بالذات، حين تهز المكتشفات العلمية وعواقبها الثقافية والاجتماعية رتابة وبلادة الاطمئنان الإنساني للأنساق السلوكية القديمة المستقرة وسلطتها على البشر. ذلك أن العلم كان دوماً متحدياً لكل سلطة وعدواً لكل أشكال الاستغلال (دينية وسياسية واجتماعية) وحتى العلمية نفسها، ذلك أن العقلية العلمية متطلعة دوماً إلى المستقبل، تشد الحاضر معها إليه، والتغير والشك فيما هو سائد هو منهجها وجوهرها.
وما لم نوجد الظروف المؤسسية والثقافية والسياسية والاجتماعية والتربوية التي تسمح للعقل أن يعمل بحرية وللباحثين والعلماء أن يتابعوا نظراتهم الثاقبة في مجالات المعرفة المتنوعة فإن المسافة العلمية والحضارية ونتائجها الاقتصادية والسياسية ستصبح أكثر تباعداً بكثير مما هي عليه الآن بيننا وبين البلدان المتقدمة. وما نريد أن نتبصر فيه هنا هو الذهنية العلمية أو قل العقلية العلمية كنمط من أنماط التفكير الإنساني وموقعها وقيمتها في ثقافتنا الراهنة.
العلم كنمط تفكير وحياة
ينعكس العلم المتجسد في الاكتشافات والمخترعات والتكنولوجيا في نمط حياة الناس وتفكيرهم أي يتجلى في أنماط تفكير وسلوك لا تقتصر على العلماء والمشتغلين بالعلم، بل يصبح العلم بمقدار نفوذه في المجتمع عقيدة يقينية لمعظم الناس، تترسخ في نظرة معينة إلى الكون وأسلوب محدد في مواجهة تحدياته وقضاياه.
لا يمكن هنا أن نقوم بعملية تأريخ لهذا النمط من الجهد العقلي الإنساني المسمى علماً، فقد ساهمت فيه مختلف الحضارات العريقة السابقة بقسط ما وأضافات لبنات في صرحه وتبلور وتسارع تقدمه أخيراً في أوربا. فقد بدأ تبلور العلم الحديث ومنهجه مع الرواد من فلاسفة وعلماء الطبيعة في أوربا الحديثة الذين لم تكن اكتشافاتهم العلمية مجرد معارف جديدة تضاف إلى معرفة البشر، وتغير البنى المادية فحسب، بل انعكست في تغيير نظرة البشر عموماً إلى الكون وموقعهم وفعلهم فيه، فأصبح مصيرُهم متعلقاً بشروط وجودهم على هذه الأرض، بعد أن كان زمناً طويلاً متعلقاً بالملكوت، بالسماء.
انعكس ذلك أولاً في العلوم الاجتماعية الإنسانية، علم الاقتصاد والسياسة ثم علم الاجتماع وعلم النفس، حيث اعتبرت العلوم الطبيعية هي النموذج الأمثل للمعرفة الموضوعية والنموذج الأمثل لليقين والوضوح، وتمخضت علوم الإنسان عن موقف من العالم ومن العلاقات الاجتماعية ومن السياسة مناقضة تماماً للمنظومات المعرفية وللذهنية اللاهوتية الوسيطة. وأخذت المعارف والمواقف المتشكلة في هذه العلوم تعمم تدريجياً وتتحول إلى سلوك ونشاط إنساني أكثر شمولاً. وتم التحول من ثقافة محورها الله، السماء، إلى ثقافة محورها الإنسان، الأرض حيث أصبحت الأولوية للشأن الحياتي الدنيوي ولطبيعة الإنسان، وتكونت الذهنية المتمحورة على السببية الطبيعية بدلاً من الذهنية الوسيطة المتمحورة على الغائية الإلهية. وغدت جميع الأشياء بما فيها السماوية والأرضية تفسر بالاستناد إلى القوى والحوادث المعروفة العادية، وتحطم بشكل قاطع التمييز بين الأرض والسماء. من هنا قول غاليلو "أؤكد أن أكثر ما يميز الأرض هو التغيرات التي تتم على سطحها".
وأدت نجاحات العلم واكتشافاته المتلاحقة إلى إيمان لا حدود له بقدرات العقل الإنساني في الوصول إلى الحقيقة دون عون، وظهرت فكرة التقدم لأول مرة كتعبير عن قوة الإيمان بقدرات العقل البشري، والتي لم يكن بالإمكان ان تنشأ لولا نجاحات العلم ونموه وتحوله إلى نمط تفكير فعال، فقبل ذلك، ورغم تحقيق أشياء كثيرة، لم يكن بالإمكان تصور ارتفاع الإنسانية ثانية إلى مستوى العصور القديمة المجيدة (أثينا،روما). أما بفضل العلم والعقل العلمي فقد أصبح الناس يؤمنون بأنهم يمكن لا أن يساووا العصور القديمة المجيدة فحسب، بل أن يفوقوها بكثير.
طبعاً كان لابد أن تصطدم هذه المواقف الجديدة بالعقائد القديمة الراسخة التي يشكل الدين جوهرها. فقد اعتبر فرنسيس بيكون أن الثقاة القدماء كلهم مخطئون، وكبلر الأكثر إيماناً كان كلما تقدم في عملية التثبت من صحة نظرياته بالملاحظة الدقيقة أخذ اهتمامه الديني يتضاءل، في حين ذهب اسبينوزا بالمنطق العلمي إلى نهايته القصوى ليرى أن كل ما ورد في الكتاب المقدس كنظرية الخلق والجن والملائكة والشياطين والأبالسة، ما هو إلا مجرد خيالات إنسانية تافهة يجب أن تستبعد.
لم يكن ذلك كفراً ولا إلحاداً كما صور، بل نقداً ورفضاً لتفسيرات وتدخلات دينية محددة، فتأكيد الإرادة البشرية والعقل والسببية، مثلاً، لم يكن يعني أن يتنافى ذلك مع مبدأ اعتبار الإرادة الإلهية علة لكل معلول. ولكن المشكلة في العلم الحديث هي أن ذلك لا يفسر شيئاً وذلك بالضبط لأنه يستطيع تفسير كل شيء، بينما العلم الحديث يعتبر أنه يكفينا البحث عن الطريقة الدقيقة التي تتحقق بها الغايات وأن نستخدم معرفتنا في إخضاع الحوادث لأهدافنا الإنسانية، فمعيار الحق رهن الانتفاع به. وكان المبدأ أنه لابد من تحرير الطبيعة من الأهداف الثابتة التي كانت تمسك بها في الأساطير والأديان حتى تتحرر الملاحظة وينعتق العقل والخيال.
إلا أن الأمر المهم لم يكن العلم بحد ذاته أو مكتشفاته بنفسها فحسب، بل عواقبه ومصاحباته الفكرية والاجتماعية والسياسية، التي شكلت أسباباً وجيهة لدى النظام القديم دفعته لرفضها ومقاومتها.
ذلك أن محاكاة قوانين العلم في الطبيعة كانت تعني في المجتمع، قوانيناً وحقوقاً طبيعية للبشر أيضاً وأنهم متساوون وبالتالي إنهم أحرار، وأن العلاقات الاجتماعية والسياسية والدولة تقوم على عقد اجتماعي بين أفراد أحرار، ومن مستلزمات ذلك أيضاً الدستور والديمقراطية وحقوق الإنسان..الخ. وذلك كان يعني كما هو واضح تقويض النظام القديم تماماً.
لقد غدا العلم والتفكير العلمي ديناً جديداً وتحول إلى إيديولوجيا، بكل معنى الكلمة، للطبقة البرجوازية الجديدة ورعاياها، ولما كان الدين هو إيديولوجيا النظام القديم، فقد اتخذ الصراع شكل التناقض بين الدين والعلم، وكان ذلك حتمياً لأن الدين كان يفرض سيطرته على عالم الغيب والشهادة معاً بسبب نقص المعرفة الموضوعية، بينما السيرورة الجديدة للمعرفة العلمية في الطبيعة والمجتمع تبعد باستمرار، المقدس من العالم الواقعي وتزيل تدريجياً المعارف الماورائية وأضاليل الخيال. كان ذلك دافعاً للاعتقاد بأن الأفكار العلمية ستحل حتماً محل المناقشات الدينية والميتافيزيقية.
هكذا سادت أخيراً النظرة العلمية لأنها أبدت كفاءة أكثر في عالم الشهادة، عالم الطبيعة والحياة الاجتماعية الواقعية للناس. في ضوء هذه السيرورة كان من الضروري والموضوعي فصل الدين عن الدولة واستقرار كل من الدين والعلم في دائرته الخاصة.
هكذا بدا أن المجتمع، كالكائن الحي، لا يمكن له أن يكيف نفسه إذا اعتمد على مناهج مسلكية متناقضة أو متنافرة. لذلك حين قسم "أوغست كونت" طرق مواجهة المشكلات إلى اللاهوت أو الميتافيزيقيا أو العلم، كان يرى "إن أياً من هذه الوسائل يمكن لها، منفردة، أن تحقق شيئاً من النظام الاجتماعي، إلا أنه يستحيل أن نفهم بعضنا البعض حول أي من الأمور الأساسية، طالما أن هذه الوسائل الثلاث تعيش جنباً إلى جنب".

كان لابد من هذه اللمحة في تاريخ العلم الحديث. ذلك أننا في الحقيقة نتحدث عن أوربا وعيوننا ترنوا إلى المجتمع العربي.
لم يعد أحد الآن في الشرق أو الغرب، يشكك بما وصل إليه العلم العربي في العصور الوسطى، من كشوف هامة في الطبيعيات والإنسانيات، وفي دور العلم العربي في النهضة العلمية الأوربية الحديثة. وهو أمر نتحدث عنه كثيراً بنوع من التفاخر والتعالي الذي يخفي شعوراً بالخيبة والأسى وشعوراً بالذنب في كثير من الأحيان.
ولعل الموقف الاجتماعي الثقافي السائد في الوطن العربي اليوم، ورغم كل بداهات العلم والتقدم، شديد الشبه بالمشهد الثقافي الأوروبي قبل اكتشافه لفكرة التقدم. اذ أن قليلا جدا من المثقفين العرب حتى اليوم يتصور أن بامكان العرب الارتفاع ثانية إلى المستوى الحضاري للعصور العربية الاسلامية المجيدة، بل ان هذا القليل ممن سولت له نفسه تصور امكان ذلك، منعوت بالتغريب، ومتهم باسلامه ان كان مسلما، وبعروبته ان كان غير ذلك، وربما "بالشعوبية" ان كان من احدى القوميات الأخرى المشاركة في الوطن، الى غير ذلك من النعوت والاتهامات التي تذخر بها قواميسنا الايديولوجية السياسية.
العلم الحديث لم يكن مجرد قوة إنتاج مادية وتكنولوجية فحسب، بل قوة روحية وثقافية وإيديولوجيا فئات اجتماعية أصيلة صاعدة، لذلك تأصل في ذهنية الناس في البلدان المتقدمة كنمط تفكير وسلوك وكموقف إنساني من الوجود سهل أكثر فأكثر مسيرة العلم وتقدمه. ومع استمرار تقدم العلم والتفكير العلمي تجري عملية زعزعة التقاليد وإزالة القداسة وإبطال السحر والخرافة من العالم باستمرار شئنا أم أبينا، ويشكل وعي هذا الأمر والإيمان به المسألة الأهم في بنية الذهنية العلمية.
تصبح المسألة أكثر حساسية وتعقيداً عندما يتعلق الأمر بفهم الحياة الاجتماعية حيث تصبح المشكلة هي العواقب المترتبة على العلم والتفكير العلمي، العواقب الاجتماعية والسياسية التي تترتب على الفهم العلمي للاقتصاد والسياسة والتغير الاجتماعي، التي تهدد الأنساق الفكرية والسياسية السائدة في مجتمعاتنا والتي لطالما كانت وظيفتها حفظ النظام والضبط الاجتماعي والسياسي مع اهتمام أقل دائماً بتمكين الناس من السيطرة على شروط حياتهم المادية والاجتماعية والسياسية. فالمعارضة ليست للعلم بذاته بل للعلمانية والعقلانية والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان عامة والتي تترتب على أو تصاحب نمط التفكير العلمي والمضادة بطبيعتها للاستبداد والتسلط والاستئثار بالوصاية على مصير المجتمع والناس.
إن الإيمان بالعلم ومصاحباته العقلانية والعلمانية الاجتماعية والسياسية بالنسبة لمجتمعنا العربي ليست مسألة اختيار فحسب، بل هي تقرير مصير بين أن نكون أو لا نكون. ذلك أن تقدم العلم هو مسار تاريخي لا رجعة فيه وهو اختبار مستمر لكفاءة كل الأنساق الفكرية ، حيث يجري التحول من القدسية إلى التاريخية، من الذهنية اللاهوتية إلى الذهنية العقلية والعلمية، من الموقف العقدي اليقيني إلى الموقف النقدي، من التمحور على الذات إلى الانفتاح على الآخر، من الثبات إلى التحول.
في هذا الأفق، لابد من تكثيف العمل الثقافي لتحويل التوجه الذهني السائد في مجتمعاتنا من الخرافة والانفعال إلى سيادة العقل والذهنية العلمية، فالمسألة لا تقتصر فقط على البعد المادي للواقع كالصناعة والتكنولوجيا بل أيضاً وإلى درجة كبيرة على البعد الإنساني الذهني والفكري بتشجيع وتنمية العلوم الإنسانية التي تكتشف قوانين حركة البشر والمجتمع.


العلم كنمط تفكير وحياة
ينعكس العلم المتجسد في الاكتشافات والمخترعات والتكنولوجيا في نمط حياة الناس وتفكيرهم أي يتجلى في أنماط تفكير وسلوك لا تقتصر على العلماء والمشتغلين بالعلم، بل يصبح العلم بمقدار نفوذه في المجتمع عقيدة يقينية لمعظم الناس، تترسخ في نظرة معينة إلى الكون وأسلوب محدد في مواجهة تحدياته وقضاياه.
لا يمكن هنا أن نقوم بعملية تأريخ لهذا النمط من الجهد العقلي الإنساني المسمى علماً، فقد ساهمت فيه مختلف الحضارات العريقة السابقة بقسط ما وأضافات لبنات في صرحه وتبلور وتسارع تقدمه أخيراً في أوربا. فقد بدأ تبلور العلم الحديث ومنهجه مع الرواد من فلاسفة وعلماء الطبيعة في أوربا الحديثة الذين لم تكن اكتشافاتهم العلمية مجرد معارف جديدة تضاف إلى معرفة البشر، وتغير البنى المادية فحسب، بل انعكست في تغيير نظرة البشر عموماً إلى الكون وموقعهم وفعلهم فيه، فأصبح مصيرُهم متعلقاً بشروط وجودهم على هذه الأرض، بعد أن كان زمناً طويلاً متعلقاً بالملكوت، بالسماء.
انعكس ذلك أولاً في العلوم الاجتماعية الإنسانية، علم الاقتصاد والسياسة ثم علم الاجتماع وعلم النفس، حيث اعتبرت العلوم الطبيعية هي النموذج الأمثل للمعرفة الموضوعية والنموذج الأمثل لليقين والوضوح، وتمخضت علوم الإنسان عن موقف من العالم ومن العلاقات الاجتماعية ومن السياسة مناقضة تماماً للمنظومات المعرفية وللذهنية اللاهوتية الوسيطة. وأخذت المعارف والمواقف المتشكلة في هذه العلوم تعمم تدريجياً وتتحول إلى سلوك ونشاط إنساني أكثر شمولاً. وتم التحول من ثقافة محورها الله، السماء، إلى ثقافة محورها الإنسان، الأرض حيث أصبحت الأولوية للشأن الحياتي الدنيوي ولطبيعة الإنسان، وتكونت الذهنية المتمحورة على السببية الطبيعية بدلاً من الذهنية الوسيطة المتمحورة على الغائية الإلهية. وغدت جميع الأشياء بما فيها السماوية والأرضية تفسر بالاستناد إلى القوى والحوادث المعروفة العادية، وتحطم بشكل قاطع التمييز بين الأرض والسماء. من هنا قول غاليلو "أؤكد أن أكثر ما يميز الأرض هو التغيرات التي تتم على سطحها".
وأدت نجاحات العلم واكتشافاته المتلاحقة إلى إيمان لا حدود له بقدرات العقل الإنساني في الوصول إلى الحقيقة دون عون، وظهرت فكرة التقدم لأول مرة كتعبير عن قوة الإيمان بقدرات العقل البشري، والتي لم يكن بالإمكان ان تنشأ لولا نجاحات العلم ونموه وتحوله إلى نمط تفكير فعال، فقبل ذلك، ورغم تحقيق أشياء كثيرة، لم يكن بالإمكان تصور ارتفاع الإنسانية ثانية إلى مستوى العصور القديمة المجيدة (أثينا،روما). أما بفضل العلم والعقل العلمي فقد أصبح الناس يؤمنون بأنهم يمكن لا أن يساووا العصور القديمة المجيدة فحسب، بل أن يفوقوها بكثير.
طبعاً كان لابد أن تصطدم هذه المواقف الجديدة بالعقائد القديمة الراسخة التي يشكل الدين جوهرها. فقد اعتبر فرنسيس بيكون أن الثقاة القدماء كلهم مخطئون، وكبلر الأكثر إيماناً كان كلما تقدم في عملية التثبت من صحة نظرياته بالملاحظة الدقيقة أخذ اهتمامه الديني يتضاءل، في حين ذهب اسبينوزا بالمنطق العلمي إلى نهايته القصوى ليرى أن كل ما ورد في الكتاب المقدس كنظرية الخلق والجن والملائكة والشياطين والأبالسة، ما هو إلا مجرد خيالات إنسانية تافهة يجب أن تستبعد.
لم يكن ذلك كفراً ولا إلحاداً كما صور، بل نقداً ورفضاً لتفسيرات وتدخلات دينية محددة، فتأكيد الإرادة البشرية والعقل والسببية، مثلاً، لم يكن يعني أن يتنافى ذلك مع مبدأ اعتبار الإرادة الإلهية علة لكل معلول. ولكن المشكلة في العلم الحديث هي أن ذلك لا يفسر شيئاً وذلك بالضبط لأنه يستطيع تفسير كل شيء، بينما العلم الحديث يعتبر أنه يكفينا البحث عن الطريقة الدقيقة التي تتحقق بها الغايات وأن نستخدم معرفتنا في إخضاع الحوادث لأهدافنا الإنسانية، فمعيار الحق رهن الانتفاع به. وكان المبدأ أنه لابد من تحرير الطبيعة من الأهداف الثابتة التي كانت تمسك بها في الأساطير والأديان حتى تتحرر الملاحظة وينعتق العقل والخيال.
إلا أن الأمر المهم لم يكن العلم بحد ذاته أو مكتشفاته بنفسها فحسب، بل عواقبه ومصاحباته الفكرية والاجتماعية والسياسية، التي شكلت أسباباً وجيهة لدى النظام القديم دفعته لرفضها ومقاومتها.
ذلك أن محاكاة قوانين العلم في الطبيعة كانت تعني في المجتمع، قوانيناً وحقوقاً طبيعية للبشر أيضاً وأنهم متساوون وبالتالي إنهم أحرار، وأن العلاقات الاجتماعية والسياسية والدولة تقوم على عقد اجتماعي بين أفراد أحرار، ومن مستلزمات ذلك أيضاً الدستور والديمقراطية وحقوق الإنسان..الخ. وذلك كان يعني كما هو واضح تقويض النظام القديم تماماً.
لقد غدا العلم والتفكير العلمي ديناً جديداً وتحول إلى إيديولوجيا، بكل معنى الكلمة، للطبقة البرجوازية الجديدة ورعاياها، ولما كان الدين هو إيديولوجيا النظام القديم، فقد اتخذ الصراع شكل التناقض بين الدين والعلم، وكان ذلك حتمياً لأن الدين كان يفرض سيطرته على عالم الغيب والشهادة معاً بسبب نقص المعرفة الموضوعية، بينما السيرورة الجديدة للمعرفة العلمية في الطبيعة والمجتمع تبعد باستمرار، المقدس من العالم الواقعي وتزيل تدريجياً المعارف الماورائية وأضاليل الخيال. كان ذلك دافعاً للاعتقاد بأن الأفكار العلمية ستحل حتماً محل المناقشات الدينية والميتافيزيقية.
هكذا سادت أخيراً النظرة العلمية لأنها أبدت كفاءة أكثر في عالم الشهادة، عالم الطبيعة والحياة الاجتماعية الواقعية للناس. في ضوء هذه السيرورة كان من الضروري والموضوعي فصل الدين عن الدولة واستقرار كل من الدين والعلم في دائرته الخاصة.
هكذا بدا أن المجتمع، كالكائن الحي، لا يمكن له أن يكيف نفسه إذا اعتمد على مناهج مسلكية متناقضة أو متنافرة. لذلك حين قسم "أوغست كونت" طرق مواجهة المشكلات إلى اللاهوت أو الميتافيزيقيا أو العلم، كان يرى "إن أياً من هذه الوسائل يمكن لها، منفردة، أن تحقق شيئاً من النظام الاجتماعي، إلا أنه يستحيل أن نفهم بعضنا البعض حول أي من الأمور الأساسية، طالما أن هذه الوسائل الثلاث تعيش جنباً إلى جنب".

كان لابد من هذه اللمحة في تاريخ العلم الحديث. ذلك أننا في الحقيقة نتحدث عن أوربا وعيوننا ترنوا إلى المجتمع العربي.
لم يعد أحد الآن في الشرق أو الغرب، يشكك بما وصل إليه العلم العربي في العصور الوسطى، من كشوف هامة في الطبيعيات والإنسانيات، وفي دور العلم العربي في النهضة العلمية الأوربية الحديثة. وهو أمر نتحدث عنه كثيراً بنوع من التفاخر والتعالي الذي يخفي شعوراً بالخيبة والأسى وشعوراً بالذنب في كثير من الأحيان.
ولعل الموقف الاجتماعي الثقافي السائد في الوطن العربي اليوم، ورغم كل بداهات العلم والتقدم، شديد الشبه بالمشهد الثقافي الأوروبي قبل اكتشافه لفكرة التقدم. اذ أن قليلا جدا من المثقفين العرب حتى اليوم يتصور أن بامكان العرب الارتفاع ثانية إلى المستوى الحضاري للعصور العربية الاسلامية المجيدة، بل ان هذا القليل ممن سولت له نفسه تصور امكان ذلك، منعوت بالتغريب، ومتهم باسلامه ان كان مسلما، وبعروبته ان كان غير ذلك، وربما "بالشعوبية" ان كان من احدى القوميات الأخرى المشاركة في الوطن، الى غير ذلك من النعوت والاتهامات التي تذخر بها قواميسنا الايديولوجية السياسية.
العلم الحديث لم يكن مجرد قوة إنتاج مادية وتكنولوجية فحسب، بل قوة روحية وثقافية وإيديولوجيا فئات اجتماعية أصيلة صاعدة، لذلك تأصل في ذهنية الناس في البلدان المتقدمة كنمط تفكير وسلوك وكموقف إنساني من الوجود سهل أكثر فأكثر مسيرة العلم وتقدمه. ومع استمرار تقدم العلم والتفكير العلمي تجري عملية زعزعة التقاليد وإزالة القداسة وإبطال السحر والخرافة من العالم باستمرار شئنا أم أبينا، ويشكل وعي هذا الأمر والإيمان به المسألة الأهم في بنية الذهنية العلمية.
تصبح المسألة أكثر حساسية وتعقيداً عندما يتعلق الأمر بفهم الحياة الاجتماعية حيث تصبح المشكلة هي العواقب المترتبة على العلم والتفكير العلمي، العواقب الاجتماعية والسياسية التي تترتب على الفهم العلمي للاقتصاد والسياسة والتغير الاجتماعي، التي تهدد الأنساق الفكرية والسياسية السائدة في مجتمعاتنا والتي لطالما كانت وظيفتها حفظ النظام والضبط الاجتماعي والسياسي مع اهتمام أقل دائماً بتمكين الناس من السيطرة على شروط حياتهم المادية والاجتماعية والسياسية. فالمعارضة ليست للعلم بذاته بل للعلمانية والعقلانية والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان عامة والتي تترتب على أو تصاحب نمط التفكير العلمي والمضادة بطبيعتها للاستبداد والتسلط والاستئثار بالوصاية على مصير المجتمع والناس.
إن الإيمان بالعلم ومصاحباته العقلانية والعلمانية الاجتماعية والسياسية بالنسبة لمجتمعنا العربي ليست مسألة اختيار فحسب، بل هي تقرير مصير بين أن نكون أو لا نكون. ذلك أن تقدم العلم هو مسار تاريخي لا رجعة فيه وهو اختبار مستمر لكفاءة كل الأنساق الفكرية ، حيث يجري التحول من القدسية إلى التاريخية، من الذهنية اللاهوتية إلى الذهنية العقلية والعلمية، من الموقف العقدي اليقيني إلى الموقف النقدي، من التمحور على الذات إلى الانفتاح على الآخر، من الثبات إلى التحول.
في هذا الأفق، لابد من تكثيف العمل الثقافي لتحويل التوجه الذهني السائد في مجتمعاتنا من الخرافة والانفعال إلى سيادة العقل والذهنية العلمية، فالمسألة لا تقتصر فقط على البعد المادي للواقع كالصناعة والتكنولوجيا بل أيضاً وإلى درجة كبيرة على البعد الإنساني الذهني والفكري بتشجيع وتنمية العلوم الإنسانية التي تكتشف قوانين حركة البشر والمجتمع.

(1) لا ننسى بالتأكيد استخدامات البشر الكريهة لنتاجات العلم



#سمير_ابراهيم_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عواقب التفكير العلمي


المزيد.....




- الخارجية الفلسطينية: تسييس المساعدات الإنسانية يعمق المجاعة ...
- الأمم المتحدة تندد باستخدام أوكرانيا الألغام المضادة للأفراد ...
- الأمم المتحدة توثق -تقارير مروعة- عن الانتهاكات بولاية الجزي ...
- الأونروا: 80 بالمئة من غزة مناطق عالية الخطورة
- هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست ...
- صربيا: اعتقال 11 شخصاً بعد انهيار سقف محطة للقطار خلف 15 قتي ...
- الأونروا: النظام المدني في غزة دُمر.. ولا ملاذ آمن للسكان
- -الأونروا- تنشر خارطة مفصلة للكارثة الإنسانية في قطاع غزة
- ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر ...
- الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سمير ابراهيم حسن - العلم وعواقبه