|
علمنة المجتمع وشكة الدبوس
السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 4342 - 2014 / 1 / 22 - 21:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"أن تؤمن بشيء، بدون أن تعيشه نفاق" مهاتما غاندي
لم يحظى مفهوم بمثل ما حظي به مفهوم "العَلمانية"، بشتى اوصافها جزئية كانت او شاملة؛ صلبة كانت او لينة، من حملات هجوم وتشويه. وبالطبع كان قادة هذه الحملات هم "مثقفو التقليد" من ذوي المرجعيات الدينية بشتى طوائفهم. وعداء هؤلاء الشديد للعلمانية امر مفهوم اذ سيؤدى تبنيه الى فقدانهم لنصف العالم الذي يسيطرون عليه، "عالم الدنيا"، بمزاياه الآنية ولن يبقي لهم الا "عالم الآخرة" بمزاياه المؤجلة. ولم يقتصر الهجوم على مجرد المفهوم بل امتد لكل من حاول الدفاع عنه من "مثقفو التجديد" فنابهم ما نابهم من تهم التكفير والخروج عن الملة بل والقتل بعض الأحيان وما قتل فرج فودة بالأمر البعيد. ولقد أخفق "مثقفو التجديد (العلمانيون)"، على الرغم مما بذلوه ويبذلوه من جهد، في ترسيخ، مفهوم العلمانية في العقل الجمعي لمجتمعات الشرق الأوسط. وهي مجتمعات يسيطر على عقولها الفكر الديني بلغة خطابه البسيطة، وبوعوده عن حياة واعدة في "عالم الاخرة" للمؤمنين، وببيانه ما يجب القيام به من طقوس وافعال حتى يتحقق المراد. وتتعدد أسباب هذا الإخفاق الا ان أهمها هو عدم اهتمامهم الكافي بالرد على سؤال ذو شقين. الشق الأول هو "عما سوف يجنيه افراد المجتمع من تبنيهم العلمانية؟". اما الشق الثاني فهو "كيف يمكن تفعيل هذا المفهوم على ارض الواقع؟". اجابة الشق الأول من السؤال ليست صعبة فالجواب هو فيما حققته المجتمعات العلمانية لأفرادها من مستوى رفاه مرتفع. لذا ستكون محاولة الإجابة عن الشق الثاني هي موضوع هذا المقال.
واولى خطوات الإجابة على هذا السؤال هي تحديد المقصود من مفهوم "العلمانية". والعلمانية هي ببساطة "الفصل التام" بين كل ما هو "دنيوي"، يتعلق بـ "سياسة" شئون المجتمع البشرى، وكل ما هو "ديني (أو "أخروي")"، يتعلق بعلاقة الإنسان بربه وبما يرجوه في عالم الآخرة. او، بعبارة أخرى، هي الفصل بين ما يحكم "عالم الدنيا" (أو "عالم الشهادة")، وما يحكم "عالم الآخرة" (أو "عالم الغيب"). الا ان أي مفهوم، وأيا كانت دقة تعريفه، لا تكتب له الحياة والاستمرارية مالم يتم تفعيله وتنزيله على ارض الواقع. فبهذا فقط يصبح المفهوم عنصر فاعل في عملية تغيير هذا الواقع. وابسط عمليات تنزيل مفهوم العلمانية هي ترجمة ما يحتويه من مضامين الى منظومة "قيم" يتبناها افراد المجتمع عن قناعة بضرورتها للارتقاء بأحوالهم. فـ "القيم عبارة عن محددات لسلوك الفرد التي تؤثر في اختياراته للمواقف في الحياة وتقرر سلوكه" (بوشامب, 1987). ومفهوم العلمانية ليس استثناء من هذه القاعدة اذ يمكن التعبير عنه على هيئة منظومة من القيم التي يتبناها معظم افراد أي "مجتمع علماني". ويمكن تصنيف القيم العلمانية في ثلاثة مجموعات رئيسية هي "تمكين الإنسان"، "أولوية المعرفة البشرية"، و"بشرية (إنسانية) الأخلاق" (السيد, 2012).
تمكين الإنسان تضم المجموعة الأولى من منظومة قيم العلمانية، "تمكين الإنسان"، كافة القيم التي تؤكد على قدرة الانسان على لعب الدور الرئيسي والمحوري في إدارة شئون دنياه وذلك باستخدام ملكاته الفكرية وقدراته الذهنية فقط، هذا بالإضافة الى القيم التي تسهم في تعزيز هذه القدرة.
وأول هذه القيم قيمة "الثقة في الفرد" التي تنظر للفرد بوصفه كائن مستقل حر الإرادة قادر على اتخاذ القرارات التي تؤثر على مستقبله بنفسه ودون أي عون خارجي. وتعني هذه النظرة تحرير الفرد من كافة اشكال الهيمنة والتحكم التي تحد من قدرته على التفكير الحر والابداع. وثاني هذه القيم قيمة "الحرية" التي لا تقتصر على مجرد حرية الضمير والاعتقاد وحمايتها من كافة أشكال القهر السياسي والاقتصادي الساعية لكبتها، بل يمتد ليشمل الحرية السياسية والاقتصادية بكافة أشكالهما، وحرية التعبير عن الرأي والاعتقاد دون الخوف من المنع أو القهر قانونيا كان أو اجتماعيا، وأخيرا حرية نشر إبداعات الإنسان بكافة أشكالها الأدبية والفنية والفلسفية والعلمية. اما ثالث القيم، "تقدير الابداع"، فتحتفي بالإبداع البشري وتحث عليه أيا كان مجاله بوصفه مصدرا لثروة المجتمع ولزيادة رفاه افراده. ورابع قيم هذه المجموعة هي قيمة "الجدارة" بوصفها المعيار "الأوحد" الذي يحدد مكانة الفرد في المجتمع انطلاقا من قدرته على "الإنجاز" المرتكزة على ما حصله من علم وما اكتسبه من مهارات. وأخيرا نصل الى آخر قيم هذه المجموعة، قيمة "التعلم المستدام"، التي تهدف الى تشجيع افراد المجتمع على تنمية معارفهم وخبراتهم "من المهد الى اللحد". وتسهم هذه القيمة الأخيرة في تعزيز باقي القيم.
أولوية المعرفة البشرية تهدف قيم هذه المجموعة الى تحرير عقل الإنسان من سطوة وسيطرة "الفكر اللاعقلاني" بشتى صوره وتنويعاته، والى تنقية فكره من "شبه المعرفة" التي تقوم على "الحكايات" التي يصعب التأكد منها وعلى ”الشهادات" التي تفتقد للإجماع.
ويمكن صياغة أولى قيم هذه المجموعة على الصورة التالية: "بالعلم توجَد الإجابات". وتؤكد هذه القيمة على ان منظومة العلم الحديث، بمناهجها وادواتها، هي السبيل الاوحد والوحيد لمعرفتنا بالواقع ("عالم الدنيا" أو "عالم الشهادة"). اما ثاني القيم، "مرجعية الواقع"، فتؤكد على ان الواقع الملموس (لا النصوص) هو المصدر الوحيد للمعرفة التي يمكن التحقق من صحتها سواء بقدرتها على وصف ما يوجد فيه من كائنات وما يقع فيه من احداث، او بنتائج تطبيقها (منفعتها).
بشرية (إنسانية) الأخلاق ترتبط الأخلاق في الثقافات التقليدية ارتباطا وثيقا بالديانة السائدة في المجتمع. فأوامر ونواهي هذه الديانة هي، بالنسبة لأتباعه، ثوابت واجبة الإتباع ولا نقض فيها أو إبرام. وهكذا تتجاوز الاخلاق المرتكزة على الدين سياق تطبيقها، مكان وزمان، وتصبح مناقشة صلاحيتها من الكبائر التي تخرج صاحبها من حظيرة الايمان. وفي المقابل تقوم الاخلاق العلمانية ك "أخلاق أساسها العقل الناقد". فالعقل الناقد وحده هو أداة الحكم على أخلاقية سلوك ما من عدمه. والهدف الرئيسي لكل من العقل الناقد والسلوك الأخلاقي هو بناء إنسان مستقل ومسئول وقادر على انتقاء خياراته في الحياة الدنيا انطلاقا من فهمه للسلوك الإنساني. والمبادئ والقيم الخلقية يمكن اكتشافها عبر الممارسة والتقييم المستمرين لسلوك الإنسان. ويمكن ايجاز هذه النظرة على هيئة قيمة "عقلانية الأحكام" التي تؤكد على قدرة الإنسان، عبر استخدامه للعقل والمنطق، على التوصل مبادئ حاكمة لما يجب على الإنسان تبنيه من سلوكيات.
نخلص مما سبق ان هناك ثماني قيم، "الثقة في الفرد"؛ "الحرية"؛ "تقدير الابداع"؛ "الجدارة"؛ "التعلم المستدام"؛ "بالعلم توجَد الإجابات"؛ "مرجعية الواقع"؛ "عقلانية الأحكام"، تمثل مجتمعة مفهوم العلمانية وهو في حالة فعل ... ثماني قيم يؤدى الترويج لها وبيان اثارها الإيجابية على من يتبناها يؤدى الى علمنة المجتمع بأقل قدر من الام التحول ومن عنف المناوئين وتصبح عملية العلمنة "زي شكة الدبوس" !.
المراجع السيد, ا. ن. ا. 2012. العَلمانية كثقافة. الحوار المتمدن, العدد 3673(20 مارس): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=299898. بوشامب, ج. 1987. نظرية المنهج (م. س. وآخرون, Trans.): الدار العربية للنشر.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلم من بارادايم البساطة الى بارادايم التعقد
-
الاساطير الثقافية: (1) اسطورة العروبة
-
الحل برة الصندوق
-
تانجو الفوضى والانتظام
-
أزمة العقل البسيط
-
جاليليو الذي تجاهلناه
-
الة الزمن المعكوس
-
جاءنا البيان التالي
-
زمن الهوجة
-
عن الثورة الثقافية ... معالم على الطريق (3/3)
-
عن الثورة الثقافية ... عشان ايه وليه؟ (2/3)
-
عن الثورة الثقافية ... ترويض المفاهيم (1/3)
-
نظرية رأس السمكة
-
تحديث الثقافة المصرية .... المشروع القومى المنتظر
-
سلام مربع ل -جهادية- بلدنا
-
نظرية التطور والثقافة
-
الثقافة العَلمانية: كلمنى عن بكره (4/4)
-
الثقافة العَلمانية: وإنك لعلى خلق عظيم (3/4)
-
الثقافة العَلمانية: المعرفة هى الحل (2/4)
-
الثقافة العَلمانية: هكذا تحدث أمارتيا سن (1/4)
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|