|
الرقابة والثقافة في مصر
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 1235 - 2005 / 6 / 21 - 11:41
المحور:
الصحافة والاعلام
الرقابة والثقافة في مصر أحمد الخميسي
من وقت لآخر يطفو على سطح الحياة الثقافية موضوع " الرقابة على التعبير " بعد أن ارتفعت القبضات الملوحة وعلت الصيحات أواخر عام 2004 تطالب بمنع فيلم " بحب السيما " ، ورواية" سقوط الإمام" لنوال السعداوي ، وكتاب " يسقط سيبويه " لشريف الشوباشي . وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة وحش الرقابة وهو يمد أذرعه إلي التعبير : السينمائي ، والأدبي ، والفكري ، مهددا بقطف زهرة من كل بستان ، ليؤكد لنا أن الحقول كلها تحت سطوته . إلا أن لحظة الزهو التي يعيشها وحش الرقابة هي مجرد لحظة من عمر طويل ومديد حافل بالإنجازات . فقد اعترض الخديوي إسماعيل عام 1870 على مسرحية يعقوب صنوع " الضرتان " لأنها اشتملت على تعريض بمن يتزوج بأكثر من واحدة ، فمست الخديوي ذاته وعلاقاته النسائية المتعددة دون قصد . وفي أكتوبر عام 1881 صدر قانون معاد للديمقراطية بعد شهر ونصف من مظاهرة الجنود بقيادة أحمد عرابي أمام سراي عابدين ، وأشار القانون إلي حق الحكومة في مصادرة كل عمل مكتوب أو مرسوم أو معروض يحمل رأيا مغايرا " للنظام العمومي والآداب أو الدين " . وتوالى بعد ذلك صدور القوانين التي تمكن للرقابة ، وفي عام 1909 كتب خليل مطران محتجا على قانون المطبوعات قصيدته الشهيرة الجميلة : كسروا الأقلام هل تكسيرها .. يمنع الأيدي أن تنقش صخرا ؟ قطعوا الأيدي هل تقطيعها .. يمنع الأعين أن تنظر شزرا ؟ أطفئوا الأعين ، هل إطفاؤها .. يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا ؟ أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم .. وبه منجاتنا منكم .. فصبرا ! وفي عام 1926 ، وعام 1927 صودر ومنع كتاب على عبد الرازق " الإسلام وأصول الحكم " ، وكتاب طه حسين " في الشعر الجاهلي " ، إلي أن أصبحنا في عهدنا هذا الذي منعت فيه رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ عام 1960، ومازالت ممنوعة رسميا ، وصودرت فيه مؤخرا صحف مثل الشعب والدستور والموقف العربي ثم حصل بعضها على أحكام قضائية بحقها في الصدور . وهو عهد تمنع فيه من حين لآخر مقالات بعض كبار الكتاب في جريدة الأهرام فينشرونها في صحف أخرى تحت عنوان " المقال الممنوع " . كما تمنع يوميا عشرات المسرحيات والأغاني والأفلام وتجرى عليها التعديلات بشكل ودي بين الكتاب والرقابة دون أن نعلم عنها شيئا . إنها رقابة بكاتم للصوت يتولى بعض الكتاب في ظلها ومن تلقاء أنفسهم مراعاة كل شروط الرقابة مسبقا ، لتهوين عبء العمل على الرقباء الرسميين لكي تخرج أعمالهم إلي النور فلا تظل حبيسة الأدراج ! تاريخ الرقابة في مصر ، وفي العالم طويل جدا ، وقديم ، وعريق جدا ، لأن الرقابة تعبير عن اختلال القوى لصالح طرف على حساب طرف آخر . والرقابة التي يتحدث عنها المثقفون هي في نهاية الأمر ذلك الشكل الخاص من القمع الذي يناسب مجال الفكر والتعبير ، بينما تظل للقمع ذاته – وهو جذر المسألة – وسائل عديدة تتعدد وفق المجالات المطلوب ضبطها : فالمعتقلات هي شكل القمع للمنظمين في حركات سرية ، والسجن للبؤساء الذين تسوقهم الحاجة إلي تدمير أنفسهم والآخرين ، وأخيرا هناك طبيعة العلاقات الاقتصادية والقوانين التي تؤبد رقابة الأثرياء على الفقراء والمعدمين . وخلافا لأشكال الرقابة العنيفة المتعلقة بحماية مصالح الطبقات ، فإن الرقابة في مجال التعبير وحرية الفكر تكتسب أحيانا كثيرة طابعا أعم ، ذا صلة بحالة الرأى العام ، وتوجهاته ، وميوله ، وتقاليده ، ودرجة تطوره الفكرية . وللتدليل على ذلك ، يحدث أحيانا أن تطلق السلطة فكرة ، أو مبادرة ، أو رأيا ، فيتولى الرأى العام الهجوم عليه ومصادرته ، وهنا يصبح الرأى العام خلافا لما هو مألوف هو مصدر الرقابة ! وبعبارة أخرى فإن ما كان ضحية يغدو مجرما ! وأذكر أن الكثيرين شنوا حملة شرسة على القناطر الخيرية حين انتهى محمد على من بنائها ، وأشاعوا أن الوضوء من مياه القناطر حرام لأنها مياه راكدة ! هنا لم تكن السلطة هي التي تصادر وتهاجم ، ولكن المجتمع بحالته المتخلفة . وليس محتوما أن تنجم فكرة المصادرة من منابع دينية ، فقد تكون من نظرة اجتماعية متحجرة ، والدين الذي عادة ما تنسب إليه الكثير من دعوات فرض الرقابة ، هو الذي سمح على لسان الإمام محمد عبده بكاميرا التصوير الفوتوغرافي في مواجهة حالة عامة تنادي بأن التصوير حرام . وقد اضطرت ثورة يوليو في سنواتها الأولى أن تواجه بالمقالات والأفلام والأغنيات الرأي العام الذي كان مازال متمسكا بأن مكان المرأة الوحيد هو البيت . وشاعت حينذاك أغنية للمطربة نجاة ، بثتها الإذاعة ليل نهار ، تقول فيها : " كانوا بيقولوا الست ح تفضل زي ما هي .. ييجوا يشوفوا الست أهي نجحت ميه الميه " ! وهنا كانت السلطة تكافح ضد رقابة المجتمع ! أقول ذلك لأوضح أنه ليس للرقابة شكل واحد ، ولا مضمون واحد ، ولا توجه ثابت محدد ، وأنها – أي الرقابة – قد تعبر في كل مرة عن مصالح مختلفة ، ومن ثم فإن علينا في كل مرة ونحن نتحدث عن الرقابة أن نفكر : أية رقابة؟ من الذي يسعى لمصادرة من ؟ بأية أهداف ؟ وأين ينبغي لنا أن نقف من هذه القضية ؟ ولنأخذ على سبيل المثال كتاب شريف الشوباشي " يسقط سيبويه " الصادر عن هيئة الكتاب ، والذي طالب أحد أعضاء مجلس الشعب بمصادرته مدعوما بصيحات أخرى كثيرة مماثلة في مختلف المنابر المطبوعة والمرئية . وجذر الحملة على الكاتب والكتاب يقوم على الإدعاء بأن اللغة العربية لغة مقدسة لمجرد أن القرآن الكريم نزل بها ، ومن ثم لا يجوز عليها أي تجديد تقوى به وتصح وتزدهر ، بينما يدعو الشوباشي إلي إعادة النظر في قواعد تلك اللغة الصعبة لكي نضمن لها أن تستمر بين المتكلمين بها . ويشير الشوباشي إلي أنه لا يوجد في القرآن الكريم ولا في السنة ما يشير من قريب أو بعيد إلي اصطفاء اللغة العربية وقدسيتها ، بل ولا حتى إلي امتياز العربي عن الأعجمي إلا بالتقوى ! بالنسبة لنوال السعداوي علينا أن نقر أولا أن كتابها " سقوط الإمام " ليس رواية ، وأنها لا تحسب على الروائيات المصريات ، ثانيا إن عملها المذكور يشتمل على عبارات كثيرة جارحة للشعور الديني العام ، على حين يثبت تاريخ الأدب الحقيقي أن كبار الأدباء مثل نجيب محفوظ ، ويحيي حقي ، والحكيم ، وبهاء طاهر، وغيرهم قد تناولوا دائما تلك القضية بما يكفي لتبيان موقفهم المستنير ، ولكن دون الخوض في تجريح الشعور العام . ثالثا إذا كان الأديب والكاتب مهتما حقا بتوصيل رسالة إلي القراء ، فأية رسالة يمكن توصيلها إذا كنا نبصق في وجوه الناس ؟ ونبصق في تصوراتهم عن العالم والحياة ؟ . رابعا هل يمثل الموضوع الديني حقا حجر الأساس في أن أوضاعنا الراهنة أصبحت بالصورة التي هي عليها الآن ؟ أم أن هناك أسبابا أشمل سياسية واجتماعية واقتصادية ؟ وحقيقة الأمر أن الكتاب أمثال نوال السعداوي المغرمين باختزال الوضع العام الذي نعيشه في إطار القضايا الدينية ، أو الجنسية ، أو الذاتية ، كتاب بلا مستقبل ، لأن موقفهم مبني على تشويه واختزال تركيبة اجتماعية واقتصادية كاملة في زاوية واحدة ، بينما لا يعرف تاريخ الأدب أعمالا كبيرة حقا من غير أن تكون متسمة بنظرة شاملة ومترابطة لما يحدث في الكون والمجتمع . أخيرا فإن ما تكتبه نوال السعداوي يثير في نفسي الحذر ، نظرا لعلاقتها بمؤسسات التمويل الأجنبي ، وهو أمر يجعلني لا أدري إن كان ما يكتبه الكاتب نابع من عنده ، أم استجابة لمستلزمات أخرى . ومع ذلك فإنني أظل ضد منع أي كتاب لنوال السعداوي أو غيرها . إذن أجدني مرة مع كتاب شريف الشوباشي ، ومرة ضد شبه رواية نوال السعداوي ، مرة مع فيلم " بحب السيما " ، وأخرى ضد فيلم " سبع ورقات كوتشينة " لروبي ، مرة مع نشر كتب نصر حامد أبو زيد ، ومرة ضد كتب أخرى كثيرة . ولكن علينا في كل الحالات أن نقف بشدة وبشكل مبدئي وإلي النهاية ضد الرقابة أيا كان نوعها ومصدرها أوركائزها الفكرية التي تنطلق منها . لقد فرضت ثورة 1917 في روسيا ذات يوم الرقابة على الصحف مؤقتا ، ثم استمر هذا الوضع المؤقت للأسف سبعين عاما ! وكان فرض الرقابة من منطلق تقدمي ، بدعوى حماية الثورة من الرجعية . سأظل دائما أدعو للوقوف ضد أية وكل رقابة . ولكن ثمة فارقا كبيرا بين اعترافي بحق الجميع في أن يكتبوا وأن ينشروا ما يريدون ، وبين دفاعي عما يكتبونه وينشرونه . فالدفاع عن حق الآخرين في التعبير يتضمن الدفاع عن حقي أنا أيضا في التعبير وفي الاختلاف مع ما يطرحه الآخرون . من الضروري أن يتضح أننا ضد الرقابة دائما ، ولكننا قد نكون ضد المادة ذاتها التي تمنعها الرقابة ، ولابد أن نقول في ذلك كلمتنا كل مرة ! وسأضرب مثالا أخيرا بما أقصده : فسوف أدافع إذا دعت الضرورة عن حق من يريد في إصدار مجلات دينية أو جنسية . وسأقف معه ضد الرقابة على هذه المجلات ، وضد منعها ، ولكني في الوقت ذاته سأكتب كثيرا ، جدا ، لأفضح الطابع الرجعي والضار لهذه المجلات !
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسيحيون من أجل القرآن
-
حديقة - قصة قصيرة
-
المستشار محمد بك نور .. الذي برأ طه حسين
-
أيام واحات صنع الله إبراهيم
-
التمويل الأجنبي عمالة صريحة
-
جذور للكتابـة
-
المادة 76 في حياة مصر الثقافية
-
معرض القاهرة والكتب
-
طول لسان رياض النوايسة
-
في وداع كاتب شريف
-
كلمة سحرية تتحدى الزمن
-
-- قصة قصيرة - بط أبيض صغير
-
من تثقيف العسكر .. إلي عسكرة المثقف
-
كعك أمريكي لسكان الفالوجة
-
ياسر عرفات .. تغريبة أخيرة
-
ليلة القبض على العريش
-
عبد الحليم قنديل .. اختطاف الحقيقة
-
محطة الضبعة ومستقبل مصر
-
العالم يحتفل بمئوية تشيخوف
-
صفحة الحوادث والأدب الروائي
المزيد.....
-
الجمهوري أرنولد شوارزنيجر يعلن دعمه للديمقراطية كامالا هاريس
...
-
وفد روسي يصل الجزائر في زيارة عمل
-
كوريا الشمالية: تصرفات الولايات المتحدة أكبر خطر على الأمن ا
...
-
شاهد.. ترامب يصل إلى ولاية ويسكونسن على متن شاحنة قمامة
-
-حزب الله- ينفذ 32 عملية ضد إسرائيل في أقل من 24 ساعة
-
بريطانيا وفرنسا وألمانيا تدعو إلى التجديد العاجل للخدمات الم
...
-
وسائل إعلام: تقدم في المفاوضات حول وقف إطلاق النار بين إسرائ
...
-
وفد روسي يصل الجزائر في زيارة عمل (صور)
-
إعصار كونغ-ري يقترب من تايوان والسلطات تجلي عشرات الآلاف وسط
...
-
ما هي ملامح الدبلوماسية الأميركية المستقبلية في الشرق الأوسط
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|