|
عام في منزلة بين منزلتين
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 4338 - 2014 / 1 / 18 - 18:03
المحور:
المجتمع المدني
-;- -;-توكأ العجوزُ على عصاه، ورحل. بكل ما في جعبته الثقيلة من أحداث جسام. لا، لم يكن عجوزًا، بل فتيٌّ مشاغبٌ غضوبٌ ضاحك. إن كان عُمر العام يُحسب بما يحمل من أحداث، فعام 2013 هو أبو الزمان بالنسبة لأم الدنيا مصر. وإن قيسَ بما يحمل من هموم وأفراح. فهو أطول أعوام التاريخ بالنسبة لمصر. وإن يُقاس بما يحمل من تناقضاتٍ وغرائبَ ومفارقات، فهو يستحق أن يتصدر قائمة "جينيس" لأغرب الأعوام، وأكثرها جمعًا بين ما لا يجتمع. لنقُل إنه عام مجنون. أو بيتٌ شعري لا يشبه صدرُه عَجُزَه. أو معادلة رياضية مقدمتُها لا تشبه تاليتَها. بكل ما يحمل الجنون من معنى. عامٌ جمع بين كل ما نقول عنه بالفولكلور المصري: "Don t mix" حسب تعبير رجل طيب اسمه "مرسي" زُجّ به في المكان الخطأ برهةً من الزمن، والآن يدفع ثمن خطيئة "ماكبث" في الطموح المُهلِك لما لا يملك مقوماته، والطمع فيما لا يستحق. عام مشطور بالمسطرة. 6 شهور من الحزن الضارب في كل بيت، والعتمة الواقفة أمام كل شرفة وعند كل باب؛ حتى غام البصرُ وانعدمت الرؤية وتدثّر الغدُ بعباءة رمادية كالحة ذهب معها الأمل في إشراقٍ جديد. ومع نهاية الشهور الستة، في عين منتصف العام يوم 30 يونيو، هجر البيوتَ المظلمةَ سكّانُها في غضبةِ مارد واحد، جاءه هاتفٌ يقول: "إن أردتَ النجاة اصرخْ الآن، أو اصمتْ للأبد.” وخرج ماردٌ قوامه عشرات الملايين من المصريين؛ ليتبدّل منتصفُ العام الثاني، من غيمة رمادية إلى شعاع نور بدأ يتسلل داخل كل بيت. فهو إذن، عام يقف "بين منزلتين"، بتعبير المعتزلة. بدأ حياتَه عربيدًا فاسدًا، وفي منتصف عمره بدأ الإيمانُ يغزو قلبَه، وحين وافاه الأجل قبل أيام، رحل طيبًا يملأ قلبَه النور. أثناء كل هذا، لم يتوقف الشعب المصري عن الإبداع يومًا. بالنكات والبوسترات والقفشات والأغاني الساخرة ورسوم الكاريكاتور، والقصائد والقصص الرمزية على نهج "كليلة ودمنة". فنحن شعبٌ تعود على مقاومة الفاشية بالفن، منذ عارض "سيد درويش" البلاطَ الملكيَّ بأغانية اللاذعة، فنصر الكادحين والفقراء وأصحاب المهن البسيطة على الإقطاعيين المترهلين بأموالهم. ثم قاوم الشعبُ في ميادين مصر نظامَ "مبارك" بالنكات والشعارات المرحة والأغاني الساخرة حتى سقط. وحين غدت الموجةُ الحاكمة أشدَّ شراسة وفاشية وظلامًا عن كل ما سبقها، انطلقت سبل المقاومة بالفنون لتأخذ مسارات أكثر تنوعًا. أجمل الأعمال الفنية تحملها الآن حوائطُ مصر من جرافيتي أرّخ لأحداث الثورتين، حاملاً وجوه شهداء مصر كيلا ننساهم. أما أرقى الأعمال الفنية التي شهدها هذا العام المُثقَل بالحزن، والمفعم بالفرح، فهو القطعة الأدبية الرفيعة التي كتبها مثقفو مصر مجتمعين. حين خرج عضو مجلس الشورى من حزب النور السلفي، بفتوى شاذة تُحرّم "الباليه"، لأنه يراه بعين شهوته: "فنّ العراة". فجنّ جنون الشعب المثقف. وبدأ الحشد لاعتصام المثقفين مع بداية شهر يونيو. ثم أجهز الإخواني علاء عبد العزيز، الذي سرق حقيبة الثقافة، على ما تبقى في صدر المصريين من صبر، حين أقال إيناس عبد الدايم، وأحمد مجاهد، من منصبيهما كمدراء لدار الأوبرا وهيئة الكتاب. فخرج الفنانون المثقفون من مطربين وعازفين ومؤلفين موسيقيين، مع الشعراء والأدباء والصحفيين والكتّاب، واعتلوا "منصة الثورة" أمام وزارة الثقافة، وملأوا الدنيا شعرًا وقصائدَ وأغاني، وخرجت فرقة باليه القاهرة وملأت الدنيا رقصًا فاجتمعت الفنون الراقية في سلّة واحدة كأنما "تروبادور" مصريّ فريد. لوحة المثقفين تلك، التي رسموها باعتصامهم الطويل الذي استمر في الشارع حتى التحم بثورة 30 يونيو، كانت القطعة الفنية الأرقى والأكثر أناقة في كل ما أنتجه الربيع العربي من قطع فنية خالدة. أما أعظم اللوحات الفنية على الإطلاق، فكانت "استمارة تمرّد" التي رسمها مجموعة من شباب مصر الذكي (محمود بدر- محمد عبد العزيز- حسن شاهين) مع رفقائهم، ليحصدوا أكثر من 22 مليون توقيع لإسقاط الإخوان في مصر. هل أعظم من لوحة تشكيلية تٌزهق الظلامَ وتشرع النوافذَ على النور؟ مصر تخطو الآن بخطى بطيئة، لكن واثقة، على درب الحرية والمدنية والتحضّر، وهي تستعيد مجدها القديم وجمالَها الآفل، بدأت عقارب الساعة تكتسب معناها. مع كل حركة لعقرب الزمان على روزنامة التاريخ، ينطبع حرفٌ جديد من مدونة مصر الحديثة، ومعه يُكتب حرفٌ جديد على صفحة شاعر ينظم الآن قصيدته، أو روائي يؤرخ لحظة استثنائية عاشها من تاريخ مصر، وتتشكل ميلودي موسيقية في نوتة مؤلف موسيقى، وتتكون نغمةٌ جديدة فوق أوتار حنجرة مطرب، وتبزغُ فكرة جديدة لسيناريست ساخر، يستعد لتدوين ثورتي مصر بقلم مرح، وثمة باليت ألوان تخلط ألوانها الآن لترسم "جورنيكا" مصرية جديدة تصف مصر عبر ثلاث سنوات عسيرات سوف تنتهي بالفرح والنور والترقّي، بإذن الله. ننتظر اللوحة الأجمل يومي 14- 15 يناير حين يقول المصريون: “نعم” للدستور المدني. لأن "كل ثورة لا تنتهي بمدنية"، لا تُسمى ثورة كما قال فولتير. و"كل تاريخ لا يؤدي لإبداع، لا يُعوّل عليه"، كما لم يقل محيي الدين بن عربي. -;-
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زيارة البابا
-
الماريونيت تتمرد على صانعها
-
ميري كريسماس يا مصر
-
حكاية العمّ العجوز
-
إخوان صهيون
-
صورة السيسي وحطّة فلسطين
-
اقتلْ واحرق بس بسلمية
-
دولة الأوبر
-
أراجوزات الإخوان
-
عود الثقاب الإخوانىّ
-
نحتاج عُصبة من المجانين
-
لماذا أُسميها: -دولة الأوبرا-؟
-
الموتُ أكثر نبلًا
-
بالقلم الكوبيا
-
عش ألف عام يا مانديلا
-
احنا الكفار
-
فيروز حبيبتي
-
إنها الإسكندرية يا صديقتي الخائفة
-
اقتلْ معارضيك
-
الفيلم المسيء للإسلام
المزيد.....
-
القناة 12 العبرية: يومان حاسمان في مفاوضات صفقة الأسرى تزامن
...
-
آلاف الإسرائيليين يتظاهرون لوقف الحرب وعائلات الأسرى تصف نتن
...
-
رصاصات النزاعات العشائرية في ذي قار تصيب مدير شرطة واعتقال 2
...
-
آلاف الإسرائيليين يطالبون بإعادة الأسرى حتى على حساب وقف الح
...
-
تونسيون يتظاهرون للمطالبة بوقف المجازر والتجويع في غزة
-
آلاف البولنديين يتظاهرون في وارسو ضد الهجرة قبل أسبوع من الا
...
-
مواجهات واعتقالات برام الله ومستوطنون يقتحمون البلدة القديمة
...
-
والد أسير إسرائيلي يطالب بإجبار نتنياهو على وقف الحرب لإطلاق
...
-
-اليونيسيف-: الخطط الجديدة لتوزيع المساعدات في غزة ستفاقم مع
...
-
حكومة مالي تشن حملة دهم واعتقالات ضد قادة المعارضة
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|