|
الدرس السقراطي والمدرسة الخصوصية
عبدالحق رحيوي
الحوار المتمدن-العدد: 4334 - 2014 / 1 / 14 - 03:38
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
الدرس السقراطي والمدرسة الخصوصية الفلسفة إبداع يوناني، والسؤال تجربة غربية دشنها أهل آثينا، فلم ينجو الوجود والموجود من عنف السؤال، لذلك يمكن القول أن أكثر ما أبدع اليونان، ليس أنساقا فلسفية " أفلاطون ـ أرسطو" كما يبدو في البداية، وإنما القدرة على التساؤل ووضع كل الظواهر الطبيعة والإنسانية موضع تساؤل. فبعد سؤال الوجود يأتي سؤال المعرفة، وسؤال المعرفة هذا يفتحنا على المنهج والغاية وقيمة المعرفة. يبقى سؤال التعلم سؤالا سقراطي، ويبقى الحوار والتوليد أهم ما أبدعه سقراط. لطالما ادعى سقراط الجهل، ولكن لم يكن يخرج جاهلا بعد خوض أي حوار، فيولد الحقيقة من خطابات محاوريه، فالحقيقة توجد في كل العقول ولكن فقط نحتاج للبحث عنها داخل عقولنا، هذا ما دفع افلاطون الى قول في محاورة مينون "أن المعرفة تذكر والجهل نسيان". لكن ما يهمنا هنا ليس الحديث عن طرق التعلم وإنما البحث عن الهدف من التعلم والمعرفة، وما يمكن أن نستفيده من الدرس السقراطي. لقد أخذت المعرفة عند اليونان طابعا نظريا، لذلك فكل ما ينتمي الى البراكسيس لا يدخل في دائرة النظر الفلسفي، رغم الطابع النظري للمعرفة فهي في روحها معرفة عملية لأنها مرتبطة بالتفكير في قضايا المدينة وخصوصا "السياسة"، فالمعرفة لا يمكن أن تكون ذات قيمة إلا اذا ساهمت في حل المشاكل اليومية "للمدينة". فهجوم سقراط وأفلاطون على السوفسطائين يعود لسبب واحد، هو أن المعرفة التي يقدمها هؤلاء معرفة خطابية قابل للاستغلال من أجل تحقيق مصالح فردية، فاستثمار المعرفة في خدمة المصلحة الفردية يفسد العلم. كما أن تعليم المعرفة "الحقيقة" للناس مقابلة المال يؤدي الى ظهور فئتين داخل المجتمع : فئة تدعي امتلاك المعرفة فتقوم بالتجارة فيها وتجني منها أرباح، وفئة في حاجة الى المعرفة تدفع المال من أجل استخدام المعرفة في تحقيق مصالح ذات منفعة فردية. لكي لا يتحول المجتمع الى فئتين كل واحدة تحقق مصالحها الخاصة إما عن طريق التجارة في المعرفة، أو استثمار المعرفة في خدمة المصلحة الفردية، رفض سقراط وأفلاطون الأسس الفكرية و النظرية للسفسطائية والممارسة العملية للسفسطائي داخل المدينة. والسؤال الذي يوجهنا ماذا يمكن أن نستفيد من الدرس السقراطي والأفلاطوني؟ ومن رهان مشروعهما الفلسفي المتمثل في الدفاع على أن لا يكون التعلم مقابل المال في المجتمع الأثيني ؟. إن إشكالية التدريس مقابل المال ليست مسألة جديدة في تاريخ الفكر الإنساني، ف"اثينا" التي قدمت نفسها كنموذج تاريخي وسياسي يحتذى به، هذا النموذج الذي فشلت العديد من الدول في القرن الواحد والعشرين الوصول اليه، فيما يتعلق بمسألة تدبير المدينة والتفكير في قضاياها اليومية، كانت تعرف نقاشا فكريا حادا فيما يتعلق بمسألة التعليم والتعلم. لطالما دافع سقراط وتلميذه افلاطون على ضرورة أن يكون التعليم عموميا، ليس بمعنى "المدرسة العمومية" التي نفهمها الآن، وإنما تعليما قائم أساسا على حب المعرفة والبحث عنها، فسقراط كان يرفض الحصول على المال مقابل دروسه، لكونه كان يؤمن أنه لا يملك الحقيقة حتى "يبيعها"، بل كان يبحث عنها في عقول محاوريه. على عكس السوفسطائين الذين كانوا يقدمون دروسا مقابل الحصول على المال. رغم ما يمكن قوله على أن المال ضرورة أساسية للحياة، فإن سقراط لاحظ أن التجارة في المعرفة تفسد الحقيقة والعلم، لذلك اتهم خصومه السوفسطائين على أن معرفتهم ليست برهانية وعلمية بالمعنى اليوناني، وإنما هي معرفة خطابية ترتبط أساسا باللغة، ولا تحمل في طياتها أي حقيقة نظرية، قد تفيد المدينة والمواطن الأثيني. فالمعرفة مقابل المال والتجارة في العلم غالبا ما يفسد عقول الشباب. هذا الوضع يدفعنا للتساؤل حول ما اذا كانت المدرسة الخصوصية اليوم في المغرب تفسد عقول الشباب وتتاجر في أحلام الآباء ؟ المدرسة الخصوصية في المغرب غير مهيكلة على المستوى الإداري، كما تفتقد الى التخطيط التربوي، فهي مجرد محاولة بائسة من دولة متخلفة في التعليم لترميم أزمة لا يمكن تجاوزها بخوصصة القطاع. فالمدرسة الخصوصية في أغلب الأحوال يمكن تصورها كشركة تتاجر في أحلام الآباء للحفاظ على وجودها ومواردها المالية. هذه الوضعية التي باتت تعرفها المدرسة الخصوصية تدفعنا للوقوف على رهاناتها التربوية والتعليمة وأطرها التربوية. المدرسة الخصوصية ومشكلة الأطر : تعاني المدرسة الخصوصية في المغرب من قلة الأطر التربوية ومن قلة خبرتها في المجال التربوي، فالمتتبع لأحوال بعض المدارس الخاصة يجدها على مدار السنة تلجأ الى الطلبة المتدربين الباحثين عن مستقبل في مهنة التدريس، وتسند لهم أقسام دون خبرة أو تكوين تربوي. وحتى لا يطالب أي متدرب بأجرة شهرية، أو شيئا ما اسمه الترسيم والضمان الاجتماعي، تعمل على التغيير الدوري للمتدربين، تمنحهم شهادة تقديرية واعتراف من المدرسة بأهلية المدرس، لكن ليس من أجل العمل داخل اسوارها، بل من أجل البحث عن ملجأ آخر مستحيل. فالمدرسة الخصوصية في هذا الباب تقتات يوميا من أحلام المعطلين، وتتعامل مع إنسان حاصل على شهادة عليا، كأنه قطعة لحم يمكن التلاعب بوجودها هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعمل المدارس الخاصة على استقطاب بعض المدرسين الموظفين في المدرسة العمومية وخصوصا الذين لهم صيت وشهرة من أجل تلميع صورة المؤسسة. بهذا تكون المدرسة الخصوصية تقتات من الطاقة البدنية والذهنية للمدرس الذي غالبا ما يضحي بأبناء الفقراء في المدارس العمومية، هذه الوضعية تدفع ببعض المدرسين الى تقديم شواهد طبية يومية، وحتى حضورهم في القسم في الغالب يتسم بالإهمال، فهو يعرف أن يومه لازال طويلا ويشتغل وفق منطق "الاقتصاد في الفكر"، من أجل ضمان الاستمرارية في المدرسة الخصوصية. وبهذا تكون هذه الأخيرة قد اعلنت بطريقة شرعية سرقة المدرسة العمومية، دون أن تكون مستعدة لدفاع عن نفسها، نظرا لكون المدرسة الخصوصية تتحمل عبئا كبير في التخفيف من أزمة الاكتظاظ التي تعيشها. كل هذا دون الحديث عن كرامة المدرس داخل هذه الشركة المتوحشة فهو مجرد قطعة شطرنج قد يعصف به سوء الحظ في أي لحظة، وكأن الأمر لا يتعلق بمدرس أو إنسان أو حتى بحيوان في أمريكا، فتغيير المدرس مضمون وحضوره في أي وقت واجب. المدرسة الخصوصية ومشروع النجاح: عندما يتعلق الأمر بالشعار الذي تبنته الوزارة الوصية المتمثل في " مدرسة النجاح"، فإننا نجد في المدرسة الخصوصية التجسيد الفعلي لهذا الشعار. فإذا كان افلاطون قد كتب في باب الأكاديمية " لا يدخل علينا إلا من كان رياضيا" فإن المدرسة الخصوصية رفعت شعارا يختلف تماما عن شعار الاكاديمية وهو " كل من يخرج من هنا إلا وهو ناجحا".في الحقيقة لا تتحمل المدرسة الخصوصية وحدها هذا الشعار، بل عقلية المواطن المغربي الذي يهيمن عليه الطابع الكمي منذ ميلاده، فهو لا يهتم بما يمكن أن يتعلمه أبناءه دخل هذه الحجرات، بقدر ما يهمه المعدل المرتفع حتى لا يخجل إن سأله شخص عن المعدل الذي حصل عليه ابنه. الرغبة في الحصول على معدل مرتفع يدفع ببعض الآباء الى احداث ازعاج متكرر للمدرسين، وأطر المدرسة، لحرصهم على ضرورة أن ينال ابناءهم اعلى نقطة ممكنة. هذه العقلية الكمية والتي غالبا ما تتخذ من التدريس في المدرسة الخاصة فقط من أجل التفاخر بين الجيران والحرص على أن يكون ابنهم متميزا ولو نظريا، ساهمت بشكل كبير في فشل المشروع التربوي للمدرسة الخصوصية فأصبحت مثل الدكان الذي يقتني منه الزبناء المشروبات المخذرة، عن طريق منح المتعلمين نقط مرتفعة تخذر عقلهم الضغير. المدرسة الخصوصية والمراهق: اذا ما تجاوزنا التعليم الأولي والابتدائي ومرحلة الطفولة التي في الغالب ما يستطيع المدرس التحكم في سلوك المتعلم، فإن الوضع يختلف عندما يتعلق الأمر بمتعلمي المرحلة الاعدادية والثانوية، فهؤلاء هم مراهقون اغلبهم عاجز عن معرفة الصالح من طالح، كما قال محمد شكري " يستحيل أن يتطابق الزمان وفهمه"، وغالبا ما يتسم سلوكهم بالانحراف، وهو سلوك طبيعي يتماشى مع المرحلة العمرية للمتعلم. لكن ما ليس طبيعي هو أن يصبح هذا السلوك واقعة يومية داخل اسوار المدرسة وحجراتها، فغالبا ما يتسم سلوك المتعلمين باللامبالاة، أمام صمت مطلق للمدرس فلا تقارير تكتب ولا مكاتب تنصت الى هذا الخلل اليومي الذي تعرفه الحجرات، فكل العقوبات اتجاه المتعلم غير مقبولة، لأن الزبون ملك نركع له وليس مجرم ندينه. هذا هو الإحراج الحقيقي الذي تعاني منه المدرسة الخصوصية، المتمثل في تبنيها لمشروع تربوي ينبغي تحقيقه، وعدم قدرتها على تقويم سلوك المتعلم أو ادانتته، لضمان وجوده داخل اسوارها من أجل الحفاظ على مواردها المالية. في هذا الإحراج غالبا ما تضحي المدرسة الخصوصية بمصلحة المتعلم من أجل ضمان مصالحها واستمراريتها. هكذا يتضح أن مشروع المدرسة الخصوصية في المغرب فاشل لسببين؛ أولا : عقلية المواطن المغربي ونقصد "أولياء التلاميذ" الذين يصرون على ضرورة أن يحصلوا ابنائهم على معادلات مرتفعة لا تعكس بالضرورة قدراتهم المعرفية. ثانيا : تشبع المدرسة الخصوصية بالثقافة المقاولاتية فغالبا ما تسعى لتحقيق مطامحها المادية على مصلحة المتعلمين وكرامة المدرسين. ما يمكن أن نستخلصه من الدرس السقراطي والأفلاطوني هو أن المال يفسد عملية التعلم فيصبح هاجس المدرس " السوفسطائي" هو اقناع المتعلم بقدرة المتعلم على اقناع العامة من أجل تحقيق مصالحه الخاصة. ففي تجربة التعلم هذه لا يمكن أن تستفيد المدينة في شيء مادام أهلها متشبعين بالخطابة والسفسطة وبمصالحهم الخاصة. ما يمكن أن يقال على الدرس أفلاطوني، ينطبق على تجربة المدرسة الخصوصية في المغرب، فهي غالبا ما تريد أن تقنع الجميع بأنها ذات جدوى مادام أغلب المرتاديها من الناجحين والمتفوقين لكن في الحقيقة هو تفوق مقتنى ماديا، وبتالي تساهم في افساد الشباب فهم يعلمون أنهم متفوقون قبليا وهذا يعلمهم قبل كل شيء الكسل وعدم تحمل المسؤولية، وبما أن طبيعة الدولة لا زالت تنخرها الزبونية والمحسوبية فهؤلاء كما اقتنوا نقطهم المرتفعة، سيقتنون عما قريب مناصبهم العالية، دون أن يكونوا قد تعلموا أي شيء اسمه المسؤولية والدفاع عن المدينة بتعبير افلاطون، لذلك سيدافعون عن مصالحهم الفردية. طبعا كل هذا لا يقال على جميع المدارس الخصوصية لأن بعضها يتسم بالصرامة التربوية والحرص على الأهداف السامية، لكن المشكل يكمن في كونه يقال على أغلبها.
عبدالحق رحيوي مدرس الفلسفة الشماعية
عبدالحق رحيوي مدرس الفلسفة
#عبدالحق_رحيوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجنس والجنسانية من وجهة نظر تاريخية
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|