شهدت بنية المجتمع العراقي الكثير من المتغيرات والمشكلات النابعة أساسا من حيثيات خصوصياته وتشكلاته المتشابكة والمعقدة المكونة من اختلاط أعراف بداوة قبلية حملت معها كل أنماط عيشها وتقاليدها التي لا تنتظم بسهولة في سياقات المفاهيم المعروفة لبناء الدولة الحديثة الا ضمن شروط ومتطلبات معينة ومع عراقة حضارية مدينية عجزت عن صهر ذلك التشكل ضمن هوية مواطنة لها منطلقاتها وأهدافها التي تجعل من التنوع مصدر قوة ومرتكزا للبناء لا معاول للهدم كما آلت اليه النتائج اللاحقة.
وفي الحقيقة فالمثلث الذهبي (ارض وشعب وحكومة) لم يندمج يوما في العراق، اذ بقي أحد أطرافه نافرا ويعمل بمعزل عن طرفيه الآخرين، فلم تنبثق على امتداد تاريخ العراق المعاصر سلطة وطنية بمعنييها الحرفي والعملي من ارهاصات المجتمع العراقي ذاته وبالتالي تواكب مراحل تطوره وانتقاله نحو بناء مدنية حديثة تأخذ بالاعتبار ما يطرأ عليه من متغيرات وما يستجد من مشكلات يتطلب حلها معرفة وافية بالجغرافيا المجتمعية للعراق.
فمنذ عهد التوافق على قيام حكومة عربية لإدارة شؤون العراق بعد الثورة العراقية الكبرى عام 1920، والحكومات المتعاقبة تتناسخ أساليب إدارتها للبلاد من دون ان تنجح أحداها في ابتكار طرائق جديدة تسهم في صهر التنوع السكاني العراقي وتضع تصورات واضحة للانتماء والهوية. ويخبرنا التاريخ الحديث ان بريطانيا حينما قررت بعد الثورة المذكورة منح العراق استقلالا إداريا بوجوب اسناد العرش الى أمير عربي بعد ان استبعدت فكرة قيام جمهورية <<لان درجة التطور في العراق لا تمكّنه من ممارسة هذا الضرب من الحكم>>، وجدت الكثير من المرشحين المتنافسين على السلطة، فموظفو العثمانيين المتقاعدون في بغداد رشحوا الامير برهان الدين عبد الحميد على أمل عودة الحكم العثماني، والشيخ خزعل أمير المحمرة كتب الى المندوب السامي يطلب مساعدته على نيل المنصب، أما السيد طالب النقيب <<شيخ>> البصرة وجوارها فكان يرى نفسه المرشح الافضل لحكم العراق.
وقد نودي في البداية بالأمير عبد الله بن الحسين ملكا على العراق لكنه تنازل لأخيه الامير فيصل لقاء وعد بعرش سوريا. ويقول هولمز ريتشر في كتابه <<مقاييس الكفاءة للاستقلال>> <<وبعد مفاوضات عديدة عُرض العرش العراقي على الامير فيصل، ومع ان انتخابه يعود في قسم منه الى النفوذ البريطاني، الا ان هناك أدلة كافية على ان سموه كان المنتخب من العناصر المهمة في العراق>>. اما دار الاعتماد البريطانية في بغداد فقد أعدت تقريرا خاصا ذكرت فيه <<وفي الوقت نفسه كان الرأي العام العراقي يميل ميلا محسوسا الى الملكية وأخذت الرغبة العامة تتجلى في ان يقدم الامير فيصل نفسه للشعب العراقي كمرشح للعرش>>(1). وهكذا بدأ الامر بحاكم <<مستورَد>> جلب معه كل الخزين المتوارث حيث عاد بطن قرشي ليحكم مجتمع القبائل العربية التي ضربت جذورها في ارض العراق والتي استطاعت ثورة العشرين وما سبقها ان تستبطن داخلها بذرة مواطنة سياسية من نوع آخر يرفدها شعور جمعي باستقلال ناجز. لكن، ولما كان الارث الثقافي لتلك القبائل كما تتطلبه قيم البداوة عميقة الغور، هو الغلبة والفخار الانتسابي الخاص، لم يستطع فيصل بالحكومات التي شكلها والتي حاولت ملامسة تمثيل الطيف العراقي بذهنية متخلفة الاداء ومتعددة الولاءات ان تفعل شيئا وبقيت عاجزة عن ايجاد قدرة اختراقية من نوع ما لمجتمع قبلي يفخر بإرثه. وبدل ان تبني دولة بمفاهيم عصرية تأخذ في الاعتبار طبيعة تشكلات المجتمع العراقي وإمكانيات تطوره الذاتي، أخذت تعمل بمنطق القبيلة الغالبة التي تقسر القبائل الاخرى لقيادتها من دون تقديم ما يشفع لها بذلك.
ومما زاد في اتساع الفجوة بين المجتمع العراقي وحكوماته المتعاقبة ان الخلل برز فاضحا منذ ان سُن القانون الاول للجنسية العراقية في العام 1924 الذي حدد بموجبه تعريف العراقي وشروط تبعيته العثمانية <<والذي كان قانونا غريبا في تعريف من هو العراقي، وترتبت عليه وشيدت فوقه منذ ذلك التاريخ طائفة من القوانين والقرارات الصادرة في ما بعد>> (2). وقد اعتبر ذلك القانون استيلادا تعسفيا وامتدادا للعلاقات المتوترة التي كانت قائمة أصلا بين العراقيين والسلطات العثمانية، وتجذيرا لتفرقة طائفية ومذهبية كانت جزءا من ممارسات الولاة العثمانيين. ولما كان الكثير من القبائل العراقية لم تُعنَ سابقا بموضوع الجنسية وطرائق اكتسابها لان الحاكم الاجنبي ليس مخوّلا تحديد علاقتها بأرضها ووطنها اضافة الى أسباب اخرى عديدة، دخلت تلك العلاقة الاشكالية الملتبسة طور الامتداد وتأسست عليها قوانين جائرة ما زالت تواصل فعلها وتأثيراتها حتى اللحظة (3).
وبعد مخاضات عسيرة وولادات قيصرية لقوى وأحزاب شتى، سقطت الملكية تحت جنازير دبابات العسكر الذي أُسس أصلا لحمايتها وضمان غلبتها حيث أنيطت به منذ البداية مهمات تركزت بصورة رئيسية على قمع اي انتفاضة او عصيان تقوم به القبائل الاخرى المكوّنة لعموم الشعب العراقي. وقد حاول قائد الانقلاب عبد الكريم قاسم ان يصنع دولة ومواطنة وهوية عراقية صافية اعتمادا على مناقبية شخصية متسامحة ومثال فردي صرف، لكنه صُرع هو الآخر بضربات <<القبائل>> الحزبية المتحالفة والتي لم يدم تحالفها طويلا، فبعد صراعات دامية أطاحت برئيسي <<القبيلة>> الاخرى عبد السلام وعبد الرحمن عارف اضافة الى زعماء أفخاذ وبطون أمثال طاهر يحيى وعبد الرزاق النايف وغيرهما، دانت السيطرة للقبيلة الحزبية الاقوى التي جعلت من شعارات القومية والعروبة منطلقا ومآلا، وكان من المتوقع ان تسلك <<القبيلة>> الغالبة بناء على ما حددته من أهداف، سلوكا مغايرا في تحديث المجتمع العراقي ابتداء من سَن قوانين عصرية للجنسية تأخذ في الاعتبار التأريخ السياسي والاجتماعي للعراق وتسهم في بناء مجتمع موحد تسوده العدالة وتكافؤ الفرص وتقيم جسورا رابطة بين السلطة والشعب لردم تلك الهوة شديدة الاتساع والمملوءة قمعا ودماء واضطرابات وتمزقا من كل نوع، لكنها لم تكتف بنسخ القوانين والتشريعات السابقة وحسب، بل ابتكرت أساليب وطرائق جديدة لم يشهد لها العراق مثيلا، جرفت بطاحونتها الدموية مئات الآلاف من أرواح العراقيين وأدخلت العراق بدوامة مظلمة وضعته خارج السياق الطبيعي لتطور الحياة وجعلت من تعريف المواطنة والهوية عملية شائكة ومربكة لا سبيل الى تحديد ماهيتها وشروطها إلا بمقدار الولاء للقبيلة الحزبية الحاكمة التي اختُزلت بالولاء لرئيسها حصرا. والواقع ان هذه الاحزاب لم تغادر يوما عقلية القبيلة الغالبة التي حكمت مجمل تصرفاتها ومنهجها، والتي عززتها بسلسلة طويلة من الاجراءات والقوانين، ومن هنا يأتي كلام الرئيس في احدى مقابلاته عن البستان العراقي الذي استملكه <<باقتدار>> ليذكّر بمقولة <<العراق بستان قريش>> وما تبعها.
ان هذه الاشكاليات المتفاقمة التي عملت السلطة على تكريسها واللعب على أوتارها، حولت المجتمع العراقي الى <<مجتمعات>> متنافرة وجدت بدائلها في العودة الى ولاءات طائفية وإثنية ترفع راياتها وبيانها للمطالبة بحصص وحقوق مستولى عليها من قبل <<قبيلة>> هي الأصغر عدديا والاقوى سلطويا، تمسك بيدها مقدرات البلد وتوزع ثرواته كيفما تشاء.
وفي هذا فقد دخل الجميع في المأزق، سلطة ومجتمعا ومعارضة، فالسلطة لم تعد قادرة على الاستمرار بذات النهج في ظل تفاقم الأخطار المحدقة بها من كل جانب والتي لا تتهدد مصيرها وحدها، بل مصير الوطن برمته، والمجتمع العراقي وصل الى نقطة حرجة لم تعد معها مواصلة العيش ممكنة في وطن يراه يتمزق ويتلاشى كل يوم وهو قد جرب كافة الوسائل للتخلص من السلطة وعجز عن ذلك برغم تضحياته الجسام، وبالتالي فلم يعد يطمح لأكثر من حياة آمنة مستقرة يستطيع ان يوفرها له وطن وافر الخيرات كالعراق. اما المعارضة فقد تعبت هي الاخرى من خوض صراع شرس لم يؤد الى النتيجة المرجوة، كذلك لم تستطع تسويق خطابها او الحصول على دعم جدي لا من قوى اقليمية مؤثرة ولا من قوى دولية ذات شأن، وقد فهمت ان جميع تلك القوى لها حساباتها وأطماعها التي قد لا تلتقي كثيرا او حتى بقاسم مشترك مع حسابات المعارضة ورؤيتها. وعليه فقد بات الجميع يبحث عن حل داخلي معقول يوفر الحد الادنى من مقومات اعادة بناء العراق بعد ان فشلت الرهانات او كادت على عامل خارجي يسهم في التغيير والذي ليست مضمونة أفضليته مع ذلك.
وربما كان لاجتماع هذه العوامل تأثير وقائي لبدء مرحلة <<عقلنة>> خطابية وإجرائية ومؤشرات توحي بتلمس حلول قد تجنب العراق المزيد من الكوارث والويلات في مدى لا يمكن التكهن بانعكاساته ونتائجه. وبرغم شعارات الاسقاط التي ما زالت السمة الغالبة على خطاب المعارضة، توحي المواقف <<الخجولة>> والاصوات التي بدأت ترتفع هنا وهناك بإمكان الدخول في مرحلة الإعداد لمشاريع حلول تستخلص واقع العراق والظروف المحيطة به، وقد لا يُستبعد من المشاركة فيها النظام القائم بتركيبته الحالية اذا اتخذ خطوات فعلية ملموسة باتجاه الانفتاح والتعددية وسَن تشريعات عمل سياسي تأخذ في الاعتبار المشكلات التي يعاني منها المجتمع العراقي واعادة أحقية المواطنة والهوية بصفتها مفهوما حضاريا ملزما لا يجوز التصرف به انطلاقا من حسابات فئوية او طائفية ضيقة. لكن هل ما زال في الوقت متسع للدخول في رهانات كهذه؟ وهل تستطيع النصائح المنصبة على أذن النظام من اطراف عديدة اقليمية ودولية تغيير المسار العام لنهجه المتجذر في منظومته السلوكية والفكرية المدمرة؟ وأخيرا من يغامر بالوثوق بنظام يحمل وزر كل هذه المآسي والكوارث؟ أسئلة تستمد مشروعية شكوكها من واقع مرير وماض ليس ببعيد، كما تحاول قراءة مستقبل بدأت ملامحه بالظهور تباعا.
مصادر
1 في الموضوع ذاته، يمكن العودة الى كتاب د. علي الوردي <<طبيعة المجتمع العراقي>>.
2 عبد الرزاق الحسني، <<الثورة العراقية الكبرى>>.
3 د. عبد الحسين شعبان، <<من هو العراقي: اشكالية الجنسية واللاجنسية في القانونين العراقي والدولي>>.
(╫) كاتب عراقي.
©2002 جريدة السفير