نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1232 - 2005 / 6 / 18 - 10:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
طالما تذكرت تلك القصة المروية عن نابليون بونابرت حين أتاه أحد المتعاملين معه ضد بلاده من الخائنين لأوطانهم,فرحا بما قام به من إنجاز ضد شعبه بعد أن أنجز مهمته ,وكان يهم بمصافحة نابليون الذي رفض ذلك قائلا له أن نابليون لا يصافح الخونة ,ولايضع يديه بيد من خان شعبه وبلاده,ولكن لم ينس نابليون بالطبع أن يوعز لمرؤوسيه بإعطاء ذاك البائس المأجور نصيبه لقاء ماقدمت يداه من جبن خزي وعار. لقد كان التعامل مع الأحنبي يصنف دائما في باب الخيانة العظمىhigh treason,التي تعتبر واحدة من الكبائر الوطنية والأخلاقية التي يجب أن تقابل بإجراءات صارمة وقاطعة.وقد ارتفعت عقيرة هذا التيار المنحرف بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ,ونتائجه المأساوية على الجميع, بما فيه الأمريكان أنفسهم .وصار البعض يدعو علنا لهذا,بانيا قصورا من أحلام سلطوية على ذلك ,وقد صدرت أكثر من دعوة, هنا وهناك ,للاستقواء بقوى عسكرية دخيلة وغريبة غاشمة رعناء لاتعرف حدودا للخجل والوقار, ضد الداخل المنهك أصلا بالكثير من الأوبئة السياسية والاقتصادية والفساد.وكأن الخارج سيجترع المعجزات ,التي رأينا"قسطا" لابأس منها على أرض العراق.
وتمثل الدعوة للأخذ بهذا الإتجاه,وتبنّيه انحدارا فكريا ,قبل أن يكون سقوطا أخلاقيا مريعا وبائسا لكل من ينطق به,وهو يدل أولا وأخيرا على الشعور الحاد بعقدة النقص الوطنية,واحتقار الذات الشخصية أمام الآخرين ,واليأس الكامل من قدرة هذه الشعوب ,بما تملكه من إرث حضاري ,ضارب في جذور التاريخ ,على حل قضاياها بنفسها,بعيدا عن تدخل أي من المتطفلين والأوصياء ,وبرغم وجود كل الإمكانيات ,والخبرات,والقدرات,والكوادر المؤهلة لإحداث نقلة نوعية كبرى إذا ماتم الأخذ بالأساليب العلمية والموضوعية الصحيحة لتحقيق ذلك,وعدم الإعتماد على البرابرة ,والفاتحين الهمج الذين مادخلوا أرضا إلا وزرعوا فيها الويل ,والدمار والخراب.والسؤال الذي يمكن أن يوجه لأصحاب تلك الدعوات ,هل سيكون هذا الاستقواء الأحمق من دون أية أثمان ,وأنه من أجل سواد عيون,وخواطر هؤلاء الرقيقة, سيتم حشد الأساطيل ,وتجييش الجيوش ,وإنفاق بلايين الدولارات,أم من أجل مالايقدر أن يدركه أولئك المتحذلقين الشطار؟فإذا كان هؤلاء ينظرون إليه من هذا المنظور الساذج والسطحي ,فإن "غيرهم"ودهاة السياسة والمروجين له,ينظرون إليه من باب مشاريع ,وخطط دولية واستراتيجية بعيدة المدى معدة سلفا ليس الشرق الأوسط الكبير سوى نذرا يسيرا مما تسرب من باقة الخطط المركونة في أرشيف مجالس الأمن القومي.
لاينكر عاقل,أو متابع للشأن العام أن هناك تعثرا,وربما سقوطا ,لكثير من المشاريع التنموية والإقتصادية والتعليمية والسياسية وحتى الإجتماعية ,وبعض الفشل المرير في أكثر من مجال,لابل هناك ممارسات قاهرة,ومذلة أحيانا,وقد تصدى لها كثير من المخلصين من أبناء الوطن,وجلبت في كثير من الأحيان الويل والكوارث والبلاء,ولكن هل يكون الحل كالمستجير من الرمضاء بالنار والقضاء على ماتبقى من روح تنبض في الجسد ؟
وسيجادل الداعمون لهذا المبدأ بأنه لولا تدخل الأمريكان في العراق ,لحكم "صدام السادس عشر" أرض الرافدين ,حيث لن تتمكن قوة في العالم من زحزته عن عرش العراق.وهذا الكلام باهت ,وضعيف ومردود عليه ,لأن أنظمة الطغيان والفساد ,تحمل في طياتها عوامل وبذور التحلل والفناء,وهناك أكثر من دليل على ذلك وفي غير مكان.وقد زال واندثر الكثير من الأنظمة في الماضي القريب من الأيام,والتي اعتقد أصحابها أنهم باقون على مر الزمان.
ولا مانع من التذكير بأنه من غير الخطأ التعاون مع أي كان في أي من المجالات الحيوية والسياسية والإقتصادية ,وتبادل الخبرات ,وتقديم المعونات ,والمشورة في كثير من المسائل الهامة التي تعني الشأن العام,وقد كان هناك الكثير من التجارب الناجحة بين الشعوب في هذا المضمار ,وفي أكثر من مكان.ولكن ذاك التدخل السافر, بتلك الطريقة الهمجية والبربرية, وكما يروج له بعض الحمقى المفلسين والأشقياء ,فهذا أمر لايقبله عقل ,أو ترضى به نفس أبية تتحلى بأدنى حس أو درجة من الوطنية والأدب والأخلاق.وأعرف الكثيرين, ممن عانوا طويلا وكثيرا من جبروت وطغيان واستبداد صدام ,بكوا بحرقة وألم يوم سقطت بغداد الجميلة العذراء بين مخالب الغزاة.
وبالنسبة للكثيرين من الناس الواعين والمقدرين لمخاطر هكذا إعلان يعتبر هذا أمرا غير منطقي وغير قابل للأخذ به في أسوأ الأحوال.وهناك ولا شك شريحة عريضة في كل مكان ترفض هذا المبدأ العدواني الشرير الذي يعتبر باطلا تحت شتى الذرائع والمسميات,وحين كانت هذه الشعوب العظيمة تصنّع وتنتج وتولد الحضارات ,والأفكار ,أين كان كل أولئك القراصنة وتجار الحروب المرتزقة؟صحيح أننا أبناء اليوم ,ويجب الأخذ بما هو قائم من معطيات ,ووقائع على الأرض والبناء عليها ,ولكن من الصحيح أيضا ,أنه هناك مسلمات وبديهيات بسيطة يتفق عليها كل الناس في كل العصور والأوقات ,وأنه لايجب اليأس والاستسلام للقدر مهما بدا الواقع مظلما ومكفهرا وشديد الإحباط ,والإيحاء الدائم بأننا لانقدر أن نتنفس دون الاعتماد على الغير .بل يجب أن ننهض من تحت الرماد لنعلن ولادة وصحوة جديدة تحمل في طياتها كل أسباب القوة والمنعة والبقاء,ولن يتم ذلك سوى بالاستقواء بالداخل الحامل لكل أسباب القوة والتحدي والازدهار لو تمت إدارة هذه الإمكانيات العملاقة بفن ,ومهارة ,وحرفية سياسية,وذكاء,ولكن بشرط تبني أساليب جديدةة مختلفة كليا عما سبب الوصول إلى أتون هذه المعمعة والمأزق والمتاهة والضياع.
ماعلى هذه الدول والشعوب سوى الاستقواء بالداخل عبر بناء الذات الوطنية القوية القادرة على الوقوف في وجه كل الصعوبات والملمات.وما من قوة في العالم تستطيع أن تقف في وجه قوة الداخل المتحدة جميعا في وجه الطغيان والفساد وقوى الإستعمار والإخضاع,ووحدها ستكون الحصن الأقوى الذي يصمد في وجه كل الأعاصير التي تعصف في أكثر من مكان,رغم الظروف القاهرة والتي تبدو صعبة عند الإقلاع. إن الواقع, ولاشك, صعب للغاية ,وفيه الكثير من الصعوبات,والموروثات ,والمحبطات,والمعوقات اللوجستية ,والمعنوية,ولكن هل من المنطق والعقل الركون واليأس والقول أن لا حل ,والدعوة البائسة للاستقواء بالخارج الذي سيزيد المشاكل مشاكل ,ويعقد الأمور بأكثرمما هي عليه.إذا لابد من تضافر جميع الجهود الخيّرة والبنّاءة,ومن مختلف الأطياف الوطنية الشريفة, لوقف مسلسل التراجع والانهيار,ووضع حد لكل تلك التكهنات والاحتمالات.
الإستقواء بتلك الكوكبة المخلصة من الليبراليين والعلمانيين والتنويرين ورواد الفكر والصحافيين والكتاب وأصحاب العقول النيرة والمنتفتحة والكوادر الماهرة المؤهلة ,والجيوش الجرارة من الخبراء والتكنوقراط ,واعتبارهم جزءا أساسيا في عملية التأسيس لفجر جديد من العلاقة تجسر الهوات التي تباعدت كثيرا بفعل سياسات لم تحصد سوى الخيبة والمرارة والانكسار.والإستقواء بالمواطن البسيط الصادق والطيب هو أعظم من أي سلاح للتدمير الشامل يمكن أن تمتلكه قوة على وجه الأرض. هذا المواطن الذي حُرم ,وهمِّش طويلا من المشاركة في أي قرار, وهو مايمكن التعويل عليه فعلا,وذلك عبر إطلاق باقة عريضة من الإجراءات تتضمن الحريات العامة,والشفافية ,وتعزيز قيم التسامح والمواطنة باعتبارها قيما مقدسة,وفتح باب المشاركة والإبداع, وتقديس المبادرة الفردية,والتخفيف من كافة الأعباء المادية والمعنوية التي تعرقل النهوض بمشروع الإستقواء بالداخل على الخارج و"الخوارج",وسد الطريق أمام كل طمّاع أفّاك. ولتسقط عندها كل أحلام الموتورين المتلاعبين بالنار الذين لايحلو لهم الغناء إلا على الخرائب والأطلال ,والتشفي وزرع الأحقاد.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟