الاثنين 11 نوفمبر 2002 06:27
يا أيها الرئيس،
لم يتظاهر خمسمئة ألف عربي في أية "فلورنسا" في عالمنا العربي التعيس!...
فهل توقفت لحظة لتتساءل لماذا؟
لأن الخمسمئة الف الذين يمكن ان يطمحوا الى ربيع عربي كلهم في السجون، سجونك وبقية الأنظمة التي تهافتت لانقاذك - أو هكذا تدّعي - من حرب لا نزال نظنّ انها معلَّقة...
فلا تصدّق، وتذكّر الساعة الأخيرة قبل "عاصفة الصحراء" السابقة، يوم حاول الاتحاد السوفياتي - بما كان لا يزال له من وزن - اقناع "بوش الأب" (وشتّان بين الرجلين) بأنك وافقت على "الشروط" (وشتّان بين تلك وشروط اليوم) فقيل له: "كلا، تأخرت"... مع أن الساعة الرابعة والعشرين لم تكن قد دقّت بعد!
وصار الذي صار... ولم يتعلم احد درساً من أحد، فلماذا تستغرب الآن وتتهم هذا وذاك بأنه "بروتوس"، أي الصديق الذي طعن قيصر. يا ليتك تقرأ رثاء الصديق لقيصر في تلك التراجيديا، لكنت فهمت ما هو حاصل حقاً، وبين العواصم العربية بالذات... ولماذا هذا الكلام كله لا يحتمل في العمق سوى قراءة واحدة: ذهابك صار لا بد منه، والسباق الآن بين الصيادين على مَن يبيع مَن (واعذرنا للمقارنة الوقحة) "جلد الدب" قبل صيده.
* * *
فيا سيادة الرئيس، قد لا تريد أو لا تقدر ان تغالب نفسك وتشكر الشقيقة سوريا على ما قامت به وفي ظنّها انها اقنعت "المجتمع الدولي"(!) بأنها قادرة على اقناعك بالقبول بشروط مجلس الأمن، فاقنع هذا "المجتمع" بدوره اميركا بالاقلاع عن اجتياح وطنك الذي كان يوماً - ولكن بعيداً بعيداً!!! - فخر العرب ومحط آمالهم.
وزراء الخارجية العرب كلهم تهافتوا على شكر سوريا، ونحن كذلك نشكرها لأنها جعلت - على ما قالت - العفو عنك ثمن اقتراعها بالموافقة على قرار الحرب، انما "المعلّقة".
ولكن، من نصدّق؟
ألم تقرأ التعليقات - الاميركية بالذات - القائلة حرفياً "ان الولايات المتحدة الاميركية نجحت من طريق ضغوطها ومقايضاتها ["مقايضاتها"، هل فهمت، سيادة الرئيس؟] في نيل ما تريده في مجلس الأمن (...) واشنطن لجأت الى اسلوب الاقناع والضغط والمقايضة (...) الصين على سبيل المثال سمحت بإمرار القرار بعد الموافقة على اعتبارها لاعباً قوياً في تسيير القضايا الدولية، بينما كان الموقف بالنسبة الى روسيا وفرنسا هو التأكيد لهما ان اي حكومة جديدة في العراق ستكون ملتزمة تنفيذ عقود النفط الموقعة فعلاً مع الحكومة العراقية الحالية". (انتهى التعليق!).
اقرأ، اقرأ، يا سيادة الرئيس، اقرأ تفهم: "عقود النفط الموقعة فعلاً الخ..." ثم: "اسلوب الاقناع والضغط والمقايضة..." اقرأ، اقرأ!
* * *
سيادة الرئيس،
أتريد كلمة واضحة صريحة؟
بقاؤك في الحكم لا يجدي، ولن يجدي قبولك بالشروط "الهمايونية" (اي السلطانية، بلغة الامبراطورية العثمانية السعيدة الذكر!) التي "فرضها" مجلس الأمن، حتى لو كانت ثمة كفالة سورية - عربية انك ستوافق عليها.
وحسب المثل العامي السابق: "زرزور كفل عصفوراً"... وأنت اليوم عصفور جريح على غصن شجرة يجري قطعها، فالمطلوب انقاذ الشجرة، لا الغصن ولا العصفور، على افتراض ان "الزرزور" يقدر على الانقاذ!!!
المطلوب انقاذ ارض العراق وشعبه، والبقية الباقية من كرامته وحرياته وطموحاته لأن يكون اكثر من سلعة تجري "المقايضة" عليها، و"عقود نفط" يجري توزيعها مغانم حرب مؤجلة وأسلاب حشد عسكري وديبلوماسي اين منه قدرات العرب الراجفين خوفاً على انظمتهم، لا على نظامك.
* * *
ماذا نطلب منك يا سيادة الرئيس،
نطلب منك ما لا يتجرأ زملاؤك "البروتوسيون" وأضرابهم على طلبه: ان تستقيل!
نعم تستقيل من الحكم.
طبعاً، ليس هكذا ببساطة، كمن يهرب او ينتحر، اذ حتى الانتحار كما فعل احد كبراء تاريخ الديكتاتورية لم يعد ينفع... فلا يزيّننّ لك احد ان ذلك يكون أفضل من "اغتيال قيصر"!!!
وما دمنا في تاريخ القياصرة، فإياك ان يزيّن لك أحد آخر ان في وسعك ان تكون "نَيرون" يحرق روما.
كانت المجازفة تستحق ان تحاولها لو كان في وسعك ان تحارب من غير ان يؤدي ذلك الى حريق العالم العربي الذي سيقع في كارثة مثلثة الأبعاد:
حرب عسكرية غير متكافئة القوى، حتى على افتراض انك تملك سلاحاً نووياً سرياً، ثابت انهم يملكون أفعل منه...
وحرب بين الحكام العاجزين عن نجدتك وبين شعوبهم الغاضبة التي ستقع فريسة مئة ارهاب وارهاب مجهول الهوية معروف الضحايا...
واخيراً وليس آخراً: حرب اسرائيلية يشنها الوحش شارون على كل الجبهات، ولو للتخلص من معارضة "شريكه" نتنياهو، ومن الحليف الموضوعي لهذا وذاك - اذذاك - الرئيس المتخبط في خيوط العنكبوت، ببقية من بطولة لم تعد تجديه نفعاً، ياسر عرفات.
* * *
فلسطين، فلسطين...
بعض ما يوجب استقالتك، يا سيادة الرئيس صدّام، انه يوم كان في وسعك ان تحارب في فلسطين - وبأسلحة لم يكن مجلس أمنِ المجتمع الدولي قد وضع يده عليها بعد - آثرت الدخول مع ايران في حرب عبثية من أجل انتصار وهمي خدم اعداءك وأعداءها...
ثم، ثم، قبل ان تفيق من النصر، بادرت الى اجتياح الكويت، وفي ذلك ما فيه من الخروج على التضامن العربي، فضلاً عن الخسائر الجسيمة التي تسببت بها للكويت وللشعب العراقي والجيش العراقي، وانتهى بك الأمر الى استدراج اميركا (ولعل ذلك كان القصد من اللعبة حتى لا نقول المؤامرة!) الى "الاقامة" في المنطقة اقامة "امبراطورية" ومأجورة من الثروات العربية التي تكاد تفلس الدول المؤتمنة عليها!!!
أوَليس ذلك كله فشلاً، بل مأساة وهزائم تستحق تبديل الاحكام؟
العجيب انك لم تستقل قبل اليوم!
ولا يغرّنك، يا سيادة الرئيس، ان استفتاءً ممسخراً قمت به، منحك مئة في المئة من التأييد...
* * *
لو كان في العراق أي قدر من الديمقراطية لطالبك الشعب بالاستقالة لأنك تسببت لا بالهزائم فحسب، ولا لأنك تخلّفت عن توظيف قوة العراق المهولة في حرب فلسطين، بل لأنك تسببت بالجوع والفقر والجهالة، بينما القصور تشاد لك والسجون تتكاثر (بدليل افراجك اخيراً عن آلاف كان حتى وجودها مكتوماً...) فلا تكاد تقفل سجناً حتى تفتح سواه!
في حد ذاته، العجز عن منع تجويع العراق ومنع افقاره - وهو من يتهافت العالم اليوم على اقتسام خيراته! - كان يستحق الثورة... فضلاً عن ان الحكم الصالح الذكي لا يقع في حبائل المجوِّعين، بل عليه ان ينتصر عليهم بمنع ذرائع الحصار بدل استدراجه!
* * *
فيا سيادة الرئيس،
ليس استسلاماً للغطرسة الاميركية ان تستقيل، بل العكس هو الصحيح.
عنادك في البقاء، حتى لو قبلت "الشروط"، بل خصوصاً اذا قبلتها، لأن وراء الشروط شروطاً ثم شروطاً... - عنادك في البقاء هو تسليمنا - نحن وأنت والعراق والانظمة العربية والشعوب كلها، بما فيها التي لا تزال معك - الى غطرسةٍ قد لا تكون حرباً فورية ولكنها ولا ريب زلازل بالتقسيط، تليها "معاهدات سلام" للحروب التي لم تبق حاجة الى خوضها!
ومن يدري، فقد تستدرجنا اسرائيل - وتستدرج معنا اميركا - الى خوض هذه الحروب في ساعة العجز القصوى بمحاولة اقتناص الفرصة للانقضاض علينا، وتحميلنا مسؤولية الحرب، والهزيمة!
* * *
لا تزال امام العرب، يا سيادة الرئيس الصدّام، فرصة لشراء فترة من السلام بتوظيف استقالتك في مبادرة تاريخية يُختتم بها عهدك بدون دمار وحمامات دماء واحتلالات ولو مقنّعة.
مبادرة يعود بها العرب الى الواجهة.
نعم، يقلب العرب الطاولة على اميركا واسرائيل من ورائها، بتقديمهم هم - بموافقتك طبعاً - استقالتك.
وبدل ان يكونوا مجرد مغانم واسلاب في لعبة "المقايضة الدولية" التي يتفرّجون عليها ويعلّلون النفس بأنهم كانوا أسيادها، يلجون اللعبة الدولية وفي يدهم الورقة الاخيرة التي تُسقط ذرائع الحرب!!!
نعم، "حظّ الساعة الاخيرة" ليس في ان يراوغ أحد منا حول قبول شروط ورفض شروط، بل ان تُسلّم الحكم، انت والعرب، الى نظام عراقي جديد يقوم برعاية عربية، بدل ان يكون النظام المقبل وليد حكم عسكري اميركي للعراق الممزق.
وتستعيد للعرب، يا أيها الرئيس، البعض من كرامتهم التي تسبّبت بهدرها، قبل ان يهدر بقيتها سائر الحكام، وعلى رؤوسهم طير ليس نسراً، ولو بالنّسور تنكّروا!