|
السؤال الذي يَعْجَز الدِّين عن إجابته!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 4329 - 2014 / 1 / 8 - 15:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
جواد البشيتي الإرادة"، وعلى أهميتها في حياة البشر اليومية، وفي التاريخ، لجهة صُنْع أحداثه، لم تَنَلْ، حتى الآن، من الجهد العلمي ما يَرْفَع كثيراً منسوب العِلْم في مفهومها وتعريفها؛ فإنَّ كثيراً من الناس ما زالوا يميلون إلى ما يجافي العِلْم، والمنطق العلمي، في فهمها وتفسيرها. هناك، وعلى وجه العموم، مَنْ يُفْرِط، ومَنْ يُفرِّط، في تقديره لأهمية ووزن "الإرادة" في "التغيير"؛ فهي "كلُّ شيء"، أو هي "لا شيء"؛ هي ما يجعل المستحيل ممكناً، وحقيقةً واقعةَ، من ثمَّ، أو هي "الوهم الخالص"؛ لأنَّ الإنسان مُسيَّرٌ، لا يأتي إلاَّ بما هو "مكتوب"، و"مُقرَّرٌ له أنْ يأتي به مِنْ قِبَل إرادة عليا (ليست من جِنْس إرادة البشر)"؛ وكأنَّه "نهرٌ لا يملك تغييراً لمجراه". نيتشه اطَّلَع على بعضٍ من "الجدل الشرقي (المُزْمِن)" في أمْر "التسيير" و"التخيير"، وفي أمْر "نظام القضاء والقدر"، ولجهة "الصِّلة (المثيرة للجدل)" بينه وبين "الإرادة الحُرَّة" للبشر، فعلَّق قائلاً: "الشرقيون (في جدالهم هذا) نسوا أمْراً في غاية البساطة والأهمية في آن، هو أنَّ منطق القضاء والقدر يُلْزِمهم أنْ يفهموا إرادتهم الحُرَّة على أنَّها هي، أيضاً، جزء (لا يتجزَّأ) من نظام القضاء والقدر". نيتشه، في فلسفته، لا يؤيِّد أبداً مَسْخ (وإعدام) الإرادة الحُرَّة للإنسان؛ فهو المُفْرِط أكثر من غيره في تمجيدها، والإعلاء من شأنها؛ فهذا الفيلسوف الألماني العظيم أراد للإنسان (الفرد) أنْ يكون في منزلة "الإله" قوَّةً وبأساً؛ وليس من طريق إلى هذا "الإنسان ـ الإله" إلاَّ "الإرادة"، بقوِّتها، وتقويتها، بحريتها، وتحريرها. ما أفهمه من تعليق نيتشه هو أنَّه يدعو أهل الشرق (دعوةً ساخرةً) إلى أنْ ينبذوا من رؤوسهم "التخيير (والإرادة الحُرَّة للبشر)" ما داموا يعتقدون بـ "التسيير"، وبـ "نظام القضاء والقدر"، وكأنَّ "الأمْريْن" لا يجتمعان، ولا يلتقيان. في أمْر "الإرادة"، يقول المهاتما غاندي "القوَّة الحقيقية لا تأتي من عضلات قوية؛ وإنَّما من إرادة لا تلين، ولا تُقْهَر"؛ وجون تشارلز سالاك يقول "لا يصل المرء إلى حديقة النجاح إلاَّ بعد مروره بمحطات التَّعَب والفشل واليأس؛ لكنَّ صاحب الإرادة القوية لا يمكث طويلاً في هذه المحطَّات"؛ ونابليون بونابرت يقول "لا مكان لكلمة مستحيل إلاَّ في قواميس الحمقى والضُّعفاء"؛ ولَمَّا قيل لنابليون إنَّ جبال الألب شاهقة بما يمنعكَ من التقدُّم، قال "فَلْتَزُلْ من الأرض"؛ ومايكل كولنز يقول "كل إرادة لا تتغلَّب على العاطفة تنهار وتفشل"؛ وطاغور يقول "سَأَلَ الممكن المستحيل أين تقيم، فأجاب قائلاً: في أحلام العاجز"؛ وصموئيل جونسون يقول "الأعمال العظيمة لا تصنعها القوَّة؛ وإنَّما المثابرة"؛ وروبرت شولر يقول "لتتوقَّع العقبات؛ لكنْ إيَّاك أنْ تجعلها تمنعكَ من التقدُّم"؛ والمتنبي يقول "على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وعلى قدر الكرام تأتي المكارم، وتَعْظُم في عين الصغير صغارها، وتَصْغُر في عين العظيم العظائم". ما أعظم "الإرادة"، وما أعظم "الإرادة الحُرَّة"، أو "حرِّيَّة الإرادة (الإنسانية)"؛ لكن ما أسخفها إذا ما فُهِمَت وفُسِّرَت بما يجافي العلم، والمنطق العلمي؛ وإنَّني لأرى أنَّ خَيْر فَهْم وتفسير للإرادة (الحُرَّة للإنسان) هو ما تنطوي عليه عبارة "الحُرِّيَّة هي وعي الضرورة". إذا أردتَّ "العبودية" نمط عيشٍ لكَ فما عليكَ إلاَّ أنْ تَفْهَم وتُمارِس "حُرِّيَّة الإرادة"، أو "الإرادة الحُرَّة"، على أنَّها "فِعْل كل ما ترغب في فعله"؛ فأنتَ "حُرٌّ"، أيْ ذو "إرادة حُرَّة"، إذا ما استطعتَ فِعْل كل ما ترغب في فِعْله؛ وأنتَ "عديم الإرادة الحُرَّة" إذا ما عجزتَ عن فِعْل شيء ما مع أنَّكَ رغبتَ في فعله! كلاَّ، ليست هذه هي "الإرادة الحُرَّة"؛ وإنَّ العاقبة الحتمية لفهم وممارسة "الإرادة الحُرَّة" على هذا النحو (المتطرِّف في مثاليته) هي أنْ تغدو (أو تظل) عبداً، كمثل نقيضكَ المُسْتَخْذي المُسْتَسْلِم الذي لا يفعل شيئاً لتغيير حياته وواقعه بدعوى أنَّ كل شيء "مكتوب"؛ "مكتوب على الجبين"، و"لسوف تراه العين"؛ وكأنَّ الإنسان لم يأتِ إلى الحياة إلاَّ لـ "يَفْعَل (وبعض الفِعْل هو من نوع اللافِعْل)" ما كُتِب عليه فعله منذ الأزل! "الإرادة"، في مبتدأها، ومستهلِّها، هي "أنْ تريد فِعْل أمْرٍ ما"؛ وهي "أنْ تُصمِّم وتعقد العزم عليه"؛ لكنَّ، هل نَيْل المطالب بالتمنِّي؟! أنْ تريد، وأنْ تُصمِّم، وتعقد العزم، هو أمْرٌ كالتَّمنِّي، إنْ ظلَّ بلا سعيٍ وعملٍ وفِعْلٍ وصراعٍ (واقعي) لـ "تحقيق" ما أردتَ، أيْ لجعله "حقيقة واقعة"؛ وهذا إنَّما يُلْزِمكَ أنْ تعد العدَّة، وتُهيِّئ الأسباب، وتحشد القوى، لتبدأ، من ثمَّ، العمل، الذي هو "صراعٌ"، ولو كان الأمر الذي تريد تحقيقه بأهمية ووزن أنْ تقوم برحلة سياحية. وثمَّة "هدف (أو غاية)" يكمن دائماً في "الإرادة"، بوجهيها: "القرار"، و"الفعل (العمل، التنفيذ)". وفي "تجربة الإرادة"، التي نخوضها، أفراداً وجماعات، نتعلَّم، وينبغي لنا أنْ نتعلَّم، إجابة، وكيفية إجابة، سؤالين عظيميِّ الأهمية، هما: "ماذا أريد (أو نريد)؟"، و"كيف أصِل (أو نَصِل) إلى هذا الذي أريد (أو نريد)؟". ومن التجربة نفسها، نكتشف أنَّ "المكيافلية"، بمبدئها "الغاية تُسوِّغ الوسيلة"، لا تَصْلُح لـ "الإرادة"، بوجهيها (القرار والفعل). إنَّها لا تَصْلُح؛ لأنَّ التجربة، بنجاحها وفشلها، تُعلِّمنا أنَّ "الوسيلة تَتَبْع (ويجب أنْ تَتَبْع) الغاية"؛ فَمِنْ جِنْس "الغاية"، ومعدنها، وبما يُماثِلها، ويشبهها، تكون، ويجب أنْ تكون، "الوسيلة"؛ وكأنَّ أمْر "اختيار الوسيلة" يعود إلى "الغاية نفسها". "الإرادة" تحتاج دائماً إلى التمرين والتدريب والتقوية والشَّحْذ؛ فالإرادة القوية، ومهما قَوِيَت، يمكن أنْ يعتريها الضَّعْف؛ والإرادة الضعيفة، ومهما ضَعُفَت، يمكن أنْ تقوى وتصلب؛ فلا ننسى أنَّ "الإرادة القوية" تأتي من "الإرادة الضعيفة"، بالتمرين والتدريب والتقوية والشَّحْذ؛ وليس من إرادة متساوية القوَّة والبأس في كل أمْرٍ؛ فمنسوب القوَّة في إرادتكَ يعلو، ويهبط، بما يُوافِق درجة أهمية الأمر لكَ (الآن). "الإرادة الحُرَّة" هي "بِنْت "الوعي"؛ وهذا "الوعي" لن يكون "أُمَّاً" لـ "الإرادة الحُرَّة" إذا لم يكن "وَعْياً للضرورة"؛ أمَّا "الضرورة نفسها" فلا شأن لإرادتكَ بها؛ إنَّكَ لن "تقود"، عملاً بـ "إرادتكَ الحُرَّة"، قبل أنْ تؤدِّي على خير وجه دور "الجندي"، الذي يمتثل لأوامر وتعليمات وتوجيهات "قائده"؛ و"الامتثال" هو الطاعة والتنفيذ؛ هو أنْ تَعْلَم هذه الأوامر والتعليمات والتوجيهات، لِتَعْمَل، من ثمَّ، بمقتضاها، وبما يوافقها. وهذا "القائد (السيِّد)" إنَّما هو "الضرورة"؛ فاخْضَعْ لها، وامتَثِلْ، قبل، ومن أجل، أنْ تمارِس "إرادتكَ الحرة" مُمارَسَةً تتكلَّل بـ "النجاح"، أيْ تأتي بـ "نتائج" تَنْتَصِر لِمَا "تَوقَّعْتَ" من قَبْل، ولا تهزمه شَرَّ هزيمة. أَمامكَ نهرٌ أردتَ عبوره، أو رغبتَ في عبوره؛ وأنتَ لا تجيد السباحة، ولا زورق لديكَ؛ فَلْتَتَمَثَّل معاني هذا المثال. إذا فَهِمْتَ "الحرِّيَّة"، أيْ "حرِّيَّة إرادتكَ"، أو إذا فَهِمْتَ "الإرادة"، أيْ "إرادتكَ الحُرَّة"، على أنَّها "أنْ تَفْعَل ما تريد (أيْ ما يحلو لكَ)"، شاء من شاء، وأبى من أبى، فما عليكَ إلاَّ أنْ ترمي نفسك في النهر، وتشرع تُمارِس "إرادتكَ الحُرَّة" بمعناها هذا. إنَّكَ لن "تنجح"، لا بَلْ لن تفشل؛ لأنَّكَ (على ما أتوقَّع) ستموت غَرَقاً؛ فما عبور النهر بالتَّمنِّي! "عبور النهر" له "قوانينه الموضوعية"؛ له قوانينه التي لا شأن لكَ بها؛ فأنتَ لم تَخلقها، ولن تفنيها، وليس في وسعكَ تغييرها (أو تعديلها). كل ما في وسعكَ فعله، وينبغي لكَ فعله، هو أنْ "تعيها (تكتشفها)"، ليس حُبَّاً بالمعرفة؛ وإنَّما لتعمل بمقتضاها، وبما يُوافِقها، إذا ما أردتَ عبور النهر؛ فأنتَ تظلُّ عَبْداً لها ما ظللتَ جاهلاَ بها؛ وتغدو سيِّداً، تَنْعَم بالحرِّيَّة، إذا ما وعيتها (وعرفتها، واكتشفتها) وامتثلتَ لها، وعملت بمقتضاها، وبما يُوافقها؛ وعملكَ هذا إنَّما يشبه أنْ "تُدير القوانين الموضوعية (التي لا تملكها)" بما يجعل عملها يعطي من "النتائج" ما يُوافِق، كثيراً، أو قليلاً، ""الهدف" الذي سعيتَ له. "القوانين الموضوعية" هذه هي التي تشير عليك أنْ تتعلَّم السباحة، وتوضِّح لكَ، وتشرح، "كيفية تعلُّمها"؛ فما تَعلَّمته لإجادة لعبة كرة القدم مثلاً لا يَصْلُح للسباحة، ولعبوركَ النهر، سباحةً؛ وهذا إنَّما يُبيِّن لك، ويوضِّح، "السبب الموضوعي" للفَرْق بين هذا التَّعَلُّم وذاك؛ فهذا "الفرق" ليس وليد "إرادتكَ". وإذا كان النهر واسعاً عريضاً، لا يُمْكِنكَ، من ثمَّ، عبوره سباحةً، فلا بدَّ لك، عندئذٍ، من أنْ تخترع وتصنع زورقاً، أو ما يشبه الزورق. وفي هذا تكمن، أيضاً، أهمية "وعي الضرورة (أيْ وعي القوانين الموضوعية)"، في سعينا إلى "تحقيق" ما نريد. أنتَ تخترع وتصنع الزورق؛ لكنَّ عملكَ هذا لا يعدو أنْ يكون "تنفيذاً" لِمَا يأمركَ به "القانون الموضوعي"؛ وهذا "التنفيذ"، مع "الأمر"، ليس وليد "إرادتكَ (ومشيئتكَ)"؛ فأنتَ لم تَخْتَرْه، ولم ترغب فيه؛ ولو كان عبور النهر فِعْلاً لا قوانين موضوعية له، لاستطعتَ عبوره مَشْياً. جَرِّب أنْ تُخالِف، أو تعصي، هذا الأمر، بأنْ تأتي بلوحٍ معدنيٍّ، تملأه ثقوباً، ثمَّ تركبه، توصُّلاً إلى عبور النهر؛ فتعرِف، عندئذٍ، "العاقبة (والعقوبة)". إذا كانت "الحرِّيَّة" هي أنْ "أفعل" ما "أريد"، وأنْ يأتي فعلي بـ "النتيجة التي أريد وأتوقَّع"، فَلْتُجرِّبها، وتَخْتَبِرْها بعبور النهر، قبل أنْ تتعلَّم السباحة، أو من غير أنْ تستعين بزورق، أو بما يشبهه! أنتَ حُرٌّ، وتنعم بـ "الإرادة الحُرَّة"، أو بـ "حرِّيَّة الإرادة"، ما ارتضيتَ أنْ تكون، وأنْ تظلَّ، في إرادتكَ، وهدفكَ، وسعيكَ، وفعلكَ، "مقيَّداً بقيود القانون الموضوعي (الذي وعيته واكتشفته)"؛ أمَّا إذا ركبت رأسكَ، وقرَّرتَ أنْ تكون "حُرَّاً" بمعنى أنْ تفعل ما يحلو لكَ، و"تحرَّرتَ"، من ثمَّ، من تلك "القيود (الذَّهبية)"، فلكَ أنْ "تَنْعَم"، عندئذٍ، بـ "العبودية"؛ إنَّكَ تخضع لـ "القانون الموضوعي" قَبْل، ومن أجل، أنْ تُخْضعه لكَ، وتُسيطر عليه؛ لكنَّ هذا القانون لا تخلقه باكتشافكَ له، ولا تلغيه بتحكُّمكَ فيه، وسيطرتكَ عليه. "فيضان النهر" كان، قديماً، من الوحوش المفترسة، فلم ينجح البشر في ترويض هذا الوحش؛ لأنَّهم لم يعرفوا الطريق القويم إلى ترويضه، فتوهموا أَنَّهم يستطيعون ذلك بـ "قوَّة" بعض "المعتقدات الدينية". وقد ظلَّوا عبيداً للنهر وفيضانه، يَحوِّلون عجزهم عن فهم الفيضان والسيطرة عليه إلى مزيدٍ من الاعتقاد بالمعجزات، حتى "وعوا" هذه "الضرورة الطبيعية"، وعرفوا كيف يسخِّرونها لهم من خلال بناء "السدود". تخيَّل أنَّ لديكَ ذرَّات أُوكسجين "مفكِّرة"، وأنَّ ثلاثاً منها "أرادت" أن تتَّحِد لتؤلِّف، باتِّحادها، "جزيء ماء"، فهل تأتي "نتائج" فعلها متَّفِقة مع ما "أرادت"؟ الجواب هو: كلاَّ، ستفشل، حتماً، في "فِعْلِ ما تريد"، فتكوين "جزيء الماء" يحتاج إلى ما هو أهم بكثير من "إرادتها"؛ إنَّه يحتاج إلى أن تتَّحِد كل ذرَّة من ذرَّات الأُوكسجين الثلاث مع ذرَّتي هيدروجين. أمَّا لو "أرادت" ذرَّات الأُوكسجين الثلاث أن تتَّحِد لتؤلِّف، باتِّحادها، غاز "الأُوزون" فسوف تأتي "نتائج" فعلها متَّفِقة تماماً مع ما "أرادت". عباس بن فرناس رغب في الطيران كالطيور، وأراده، فحاوَل؛ لكنَّ محاولته باءت بالفشل، كما فشلت ذرَّات الأُوكسجين الثلاث "المفكِّرة" في أنْ تصنع، باتِّحادها، "جزيء ماء". ولم ينجح البشر حيث فشل عباس بن فرناس إلاَّ عندما اكتشفوا القانون الطبيعي للطيران، فصنعوا، بما يتَّفق معه، وسائل الطيران. بالمعنى "المثالي" لـ "حرِّيَّة الإرادة"، فإنَّكَ لستَ حُرَّاً حتى في إعداد كوبٍ من الشَّاي؛ فهل تستطيع إعداده إذا ما "رَفَضَ" الماء أنْ يغلي مهما سَخَّنْته (أو إذا ما "رَفَضَت" مادة الشَّاي أنْ تنحلَّ في الماء المغلي)؟! وفي مثال "الرغبة في عبور النهر"، نَقِف، أيضاً، على أهمية، وكيفية، ومعنى، "التفاعُل" بين "الذَّات" و"الموضوع". لقد وَعَيْتَ (وعرفتَ، واكتشفتَ) القوانين الموضوعية لعبور النهر، فتمخَّض هذا التفاعُل بين "الذَّات (أيْ وعيكَ، وإرادتكَ، والحاجة التي تسعى في تلبيتها)" وبين "الموضوع (أيْ النهر والقوانين الموضوعية لعبوره)" عن صُنْعٍ شيء جديد (هو الزورق) لا تصنعه الطبيعة أبداً من تلقائها، ولا يصنعه أبداً وعيكَ وحده. ومن طريق هذا "التفاعل" تَظْهَر إلى الوجود، وتتطوَّر، "البيئة الاصطناعية"، التي عَبْرها يتفاعل الإنسان مع الطبيعة. بتعريف "الحرِّيَّة (حُرِّيَّة الإنسان وإرادته)" على أنَّها "وعي الضرورة (والعمل، من ثمَّ، بما يُوافِق القوانين الموضوعية)"، يُحَلُّ على خير وجه التناقض بين "التخيير" ,"التسيير"، بمعنييهما اللاديني. أسئلةٌ وتساؤلاتٌ كثيرة، استغلقت إجاباتها على الذَّهن البشري زمناً طويلاً، شرعت الآن تتلمَّس طريقها إلى الزوال (فبالإجابة يزول السؤال، لينشأ، في الوقت نفسه، سؤال آخر). لماذا أريد ما لا تريد؟ ولماذا تريد ما لا أريد؟ ولماذا يريد كلانا ضديد ما يريده الآخر؟ لماذا الذي نريده الآن لم يرده أسلافنا؟ ولماذا لا نريد الآن ما أرادوه؟ الإنسان دائماً "يريد"؛ فهو، أوَّلاً، "يريد"؛ ثمَّ يشرع يعمل (توصُّلاً إلى ما يريد). وهذا الذي قُلْت ليس بذي أهمية؛ فهو أمْرٌ في منزلة "البديهية"؛ لكنَّ من الأهمية بمكان، أنْ نعلِّل ونُفسِّر الاختلاف والتباين في "محتوى" إرادته. إنَّ الإنسان جُمْلَة من "الحاجات" التي ينبغي له تلبيتها وإشباعها؛ وثمَّة حاجات طبيعية لا يستطيع الإنسان أنْ يبقى على قيد الحياة إذا لم يُلبِّها ويشبعها؛ وهذه الحاجات (ضئيلة العدد، عظيمة الشأن) هي التي تُلْزِم صاحبها "العمل" و"التعلُّم"، و"العيش ضِمْن جماعة"؛ وإنَّ حاجته إلى الطعام، أو المأكل، هي أهمها على وجه الإطلاق؛ ولعلَّ هذا هو ما جَعَل "الإحساس بالجوع" أقوى وأهم أحاسيس الإنسان.
"الإرادة" و"الدين"
حتى "نظام الحكم الإلهي (للبشر)" يحتاج إلى أنْ تؤسَّس له "شرعية"؛ وشرعيته يجب أنْ تُسْتَمَدَّ من "العقل"، بموازينه ومعاييره التي تواضَع عليها البشر، وأيَّدها، ويؤيِّدها الواقع الموضوعي. والمجتهدون في تأسيس وتطوير شرعية (عقلانية ومنطقية) لِحُكْم الله للبشر لم يُوفَّقوا (ولن يوفَّقوا أبداً) في أنْ يجيبوا عن سؤال "التخيير (هل الإنسان مخيَّر؟)"، أو عن سؤال "حرِّية الإرادة البشرية"، بما يُكْسِب "نظام الحكم الإلهي" شرعية العقل والمنطق. و"التناقض المنطقي" في "نظام الحكم الإلهي" يَظهَر ويتأكَّد في "الإجابتين المتضادتين معاً"، أي في الإجابة (عن ذاك السؤال) التي تُثْبِت فيها وتؤكِّد "حرِّية الإرادة البشرية"، وفي الإجابة المضادة التي تُثْبِت فيها وتؤكِّد انعدام هذه الحرِّية. الدِّين لا يمكنه إنكار حرِّية الإرادة البشرية (في الفعل والعمل والتصرُّف) من غير أنْ يُقوِّض (منطقياً) نظام "الثواب والعقاب" الإلهي، ومنطق "العدالة الإلهية" الكامن فيه؛ فإنَّ الظُّلْم بعينه أنْ تُعاقِب إنساناً على ارتكابه "إثماً"، أو "ذَنْباً"، لم يكن في مقدوره اجتناب ارتكابه. إنَّ "الإرادة الحُرَّة للبشر" لا يمكن فهمهما، في الدِّين، إلاَّ على أنَّها جزء (لا يتجزَّأ) من "نظام القضاء والقَدَر"، أي من "نظام الحكم الإلهي" للبشر ("الأحرار"). ونحن يكفي أنْ نفهمها على هذا النحو (وهي لا يمكن أنْ تُفْهَم على نحو آخر) حتى تغدو، لجهة ممارسة البشر لها، "وَهْماً خالصاً"، و"خديعة كبرى"، و"لعبة لا معنى لها". أُنْظروا الآن، وفي مثال بسيط، كيف تكون لعبة ممارَسة الإنسان لإرادته الحُرَّة، أي كيف يمارِس حرِّيته في الاختيار، ويكون، من ثمَّ، "مخيَّراً" في أمْرٍ من أموره. إنَّ أفعال وأعمال وتصرُّفات البشر، في ميزانها الديني، على نوعين اثنين: نوع يُرْضي الله، ويَسْتَحِق صاحبه، من ثمَّ، الثواب الإلهي، في "الآخرة"، أو "يوم الحساب"، و"الجنَّة" هي هذا الثواب؛ ونوع يُغْضِبه، ويَسْتَحِق صاحبه، من ثمَّ، العقاب الإلهي، و"جهنَّم" هي هذا العقاب. لقد كان عليَّ أنْ أختار، فهذا تصرُّف عرَّفه الدِّين لي على أنَّه "إثمٌ"، أو "شَرٌّ"، أو شيء "مُغْضِبٌ لله"؛ وذاك تصرُّف عرَّفه الدِّين لي على أنَّه "شرعي"، "مُرْضٍ لله". إنَّني الآن "متردِّد"، تارةً يشتدُّ لديَّ المَيْل إلى فِعْل هذا، وطوراً يشتدُّ لديَّ المَيْل إلى فعل ذاك؛ وبعد طول تفكير، أحسم الأمر، وأختار، واتِّخِذ القرار، وأشْرَع أَفْعَل أحد الفعلين. وافْتِراضاً أقول إنَّني اخْتَرْت أخيراً أنَّ أفعل الفعل الذي يُغْضِب الله، والذي سأُعاقَب عليه في "الآخرة"، عملاً بـ "العدالة الإلهية" التي لا تُخالِطها ذرَّة من الظُلْم؛ لأنَّها عدالة مُطْلَقَة. والله، في صفة أخرى من صفاته المُطْلَقَة، هو "العليم"، أي الذي يَعْلَم كل شيء عِلْم اليقين. كل هذه التجربة الشخصية (الافتراضية) التي عشتها، والتي انتهت باختياري (النهائي) ارتكاب هذا "الإثم"، أو تلك "المعصية"، إنَّما كانت في عِلْم الله، ومن عِلْمِه، اليقيني المُطْلَق، منذ الأزل؛ فهل لي أنْ أختار وأُقرِّر بما يُفاجئ الله، ويَذْهب بما هو من "عِلْمِه اليقيني المُطْلَق"، وليس بـ "توقُّعه"؛ لأنَّ الله "لا يتوقَّع"؟! إنَّ الله يكفي أنْ يكون عليماً منذ الأزل بما سأفْعَل من خير أو شر، بعد "ممارستي للعبة حرِّية الاختيار"، حتى يكون "مُرِيداً" لهذا الذي "وَقَع عليه اختياري"، و"مقرِّراً" له؛ وهذا يكفي دليلاً على أنَّ "حرِّية الإرادة الإنسانية" لا يمكن فهمها، دينياً، إلاَّ على أنَّها جزء (لا يتجزَّأ) من "نظام القضاء والقَدَر"، والوجه الآخر" لـ "التسيير". هذه التجربة، وبكل تفاصيلها، وبما خالطها من تفكير وتردُّدٍ لصاحبها، وبما تمخَّضت عنه من نتيجة نهائية، كانت (ولا بدَّ لها من أنْ تكون) في عِلْم الله اليقيني الأزلي؛ وإلاَّ انْتَفَت عن "خالِق الكون" صفة "العليم"، وظَهَر هذا الخالِق على أنَّه غير عليم (منذ الأزل) بما يمكن أنْ يَقْدِم عليه البشر من أفعال. وإنَّ السؤال الذي يتحدَّى سُعاة التوفيق بين فكرتي "التخيير" و"التسيير" أنْ يجيبوا عنه هو: ما معنى أنْ يَعْجَز الإنسان عن أنْ يمارِس إرادته الحُرَّة بما يَجْعَل نتائج هذه الممارسة مخالِفة لِعِلْم الله بها منذ الأزل؟ لا جواب إلاَّ الآتي: لا تَنَاقُض أبداً بين "عِلْم" الله وبين "إرادته"؛ فما يَعْلَمه الله عِلْم اليقين منذ الأزل لا يمكن إلاَّ أن يكون (في الوقت نفسه) مُريداً له؛ فالله لا يَعْلَم ما يُريد فحسب؛ وإنَّما يُريد ما يَعْلَم. وإذا كان "عِلْم" الله و"إرادته" شيئاً واحداً فإنَّ الإنسان، ومهما حاول أنْ يكون حُرَّاً في إرادته واختياره، لن يأتي أبداً بأي فعل أو عمل أو تصرُّف يتنافى، أو يتعارَض، ولو قليلاً، مع "عِلْم ـ إرادة" الله. الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك قرَّر، في فتوى له، أنَّ "أعمال الشياطين، وأعمال الكفرة، إنَّما هي جزء من مشيئة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ والله خلق الخير والشر..". وقال: "الله جعل الملائكة والشياطين ضدين، فالملائكة عباد مكرمون مطيعون عابدون لربهم، يحبون ما يحبه الله، ويبغضون ما يبغضه، ويدعون إلى مراضيه، يحبون المؤمنون ويستغفرون لهم؛ والشياطين أشرار يحبون ما يبغضه الله، ويدعون إلى معاصيه والكفر به، ويحبون الكافرين ويؤذون المؤمنين. لقد ابتلي كل إنسان بقرين من الجن يوسوس له ويزيِّن له القبيح، وبقرين من الملائكة يزيِّن له الخير ويدعوه إليه..". هل الإنسان مخيَّر أم مسيَّر؟ في الإجابة، يقول: "هذا اللفظ (التخيير والتسيير) لم يَرِد في الكتاب ولا في السنة. إنَّ الإنسان له مشيئته، ويتصرَّف بها، وله قدرة على أفعاله؛ لكن مشيئته محكومة بمشيئة الله ("وما تشاؤون إلا أنْ يشاء الله رب العالمين")". الشيخ يقف ضد "الإطلاق" فإنَّ من "الباطل" أنْ يُقال إنَّ الإنسان "مُسيَّر" إذا كان معنى ذلك هو أنَّ الإنسان "مجبور، ولا مشيئة له، ولا اختيار"؛ وإنَّ من "الحق" أنْ يُقال إنَّ الإنسان "مُسيَّر" إذا كان معنى ذلك هو أنَّ الإنسان "يفعل ما يفعل بمشيئة الله وتقديره". وإنَّ من "الباطل" أنْ يُقال إنَّ الإنسان "مخيَّر" إذا كان معنى ذلك هو أنَّ الإنسان "يتصرَّف بمشيئته الخالصة المُطْلقة، أي بمشيئته غير المحكومة بمشيئة الله"؛ وإنَّ من "الحق" أنْ يُقال إنَّ الإنسان "مخيَّر" إذا كان معنى ذلك هو أنَّ الإنسان "له مشيئة واختياره، وليس بمُجْبَر". أمَّا الشيخ محمد أمين شيخو فيرى أنَّ "العبد مُطْلَق في اختياره، غير مُجْبَر على الوقوع في فعل من الأفعال؛ لكن الاستطاعة والقدرة بيد الله وحده، فلا حول ولا قوَّة إلا بالله". ويقول: "إنَّ العبد مخيَّر، يستطيع أن يختار ما يشاء؛ وعليه يستحق العقوبة أو الثواب". ويقول شارحاً: "إذا وقع اختيار العبد المؤمن على القيام بعمل من أعمال البر والإحسان فلا ريب أنَّ اختياره هذا يُنَفِّذه الله له؛ لكن العدالة الإلهية تقضي بأن يكون التنفيذ على شخص استحق هذا البر والإحسان. إنَّ الله يسوق المُحْسِن للمُحْسِن، والطيِّب للطيِّب..". ويضيف: "أمَّا إذا وقع اختيار المُعْرِض على القيام بعمل من أعمال الأذى والعدوان فلا ريب أيضا أنَّ اختياره هذا يُنَفِّذه الله له؛ ويكون التنفيذ على شخص استحق الأذى والعدوان، فيُساق الظالم لنفسه إلى الظالم لنفسه. إنَّ السارق لا يسرق إلا ممن سرق من قبل، والقاتل لا يقع جرمه إلا على شخص استحق أن يموت قتلا". والكلمة الفصل، على ما يقول، في أمر التسيير والتخيير هي أنَّ الإنسان "مخيَّر إلى أقصى حدود الاختيار؛ بل له الاختيار كله؛ لكن لا حول له ولا قوَّة، فالحول والقوَّة لله وحده. الإنسان يختار ويصمِّم، والله يُسَيِّرَهُ لتحقيق اختياره. الإنسان يختار ويَطْلُب، والله يُطْلِقه ويمده لتنفيذ وتحقيق طلبه". وبما يُوافِق منطقهم، أقول إنَّ "المشيئة" هي "الإرادة"؛ ومشيئة الله تعلو ولا يُعلى عليها، ولا مَرَدَّ لها. ومشيئة الله "مُطْلَقَة"، فكل ما حَدَثَ، ويَحْدُث، إنَّما هو جزء من مشيئة الله. حتى أعمال الشياطين والكفرة هي جزء من مشيئة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ووجود إبليس مع أعماله (مع شروره كافَّة) لا ينفي، بل يؤكِّد، أنَّ الله هو "خالق الخير والشرِّ معاً"، فـ "الشرُّ" لا يمكن فهمه إلاَّ بوصفه جزءاً مِمَّا خلق الله.. الله "الخالق لكل شيء". وفي سورة "الحجر (الآية 39)"، خاطب إبليس ربَّه قائلا:".. رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ..". إنَّ إبليس المُعْتَرِف بربِّه يَنْسِب الظلم إلى الله قائلا إنَّه هو الذي أغواه. ولا شكَّ في أنَّ إبليس، في موقفه هذا، إنَّما يؤكِّد إيمانه بأنَّ مشيئته جزء من مشيئة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. و"تمرُّد إبليس" كان مِمَّا شاء الله له أن يكون، ولو لم يشأ لَمَا كان. وفي حديث نبوي رواه الترمذي جاء: ".. واعلم أنَّ الأمةَ لو اجتمعت على أنْ ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوكَ إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ لكَ، وإنْ اجتمعوا على أنْ يضرُّوكَ بشيءٍ لم يضرُّوكَ إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ عليكَ". و"كَتَبَ" الله الشيء معناه "قضاه وأوجبه وفرضه (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). و"المكتوب (المُقَدَّر)" إلهياً (منذ الأزل) لا مَهْرَب منه مهما أوتي الإنسان من "حرِّيَّة الإرادة والاختيار"؛ فهل من شيطان يستطيع أن يصبح ملاكاً؟! وهل من ملاك يستطيع أن يصبح شيطاناً؟! إنَّ "الله جعل الملائكة والشياطين ضدين، فالملائكة عباد مكرمون مطيعون عابدون لربهم، يحبون ما يحبه الله، ويبغضون ما يبغضه، ويدعون إلى مراضيه، يحبون المؤمنون ويستغفرون لهم؛ والشياطين أشرار يحبون ما يبغضه الله، ويدعون إلى معاصيه والكفر به، ويحبون الكافرين ويؤذون المؤمنين..". تلك هي صفات الشياطين، وتلك هي صفات الملائكة، التي أراد لها الله أن تظل هي نفسها لا تتغيَّر إلا إذا قضى هو بتغييرها. كل إنسان، مؤمناً كان أم كافراً، مسلماً أم غير مسلم، جَعَلَ الله له قرينا من الجن" يوسوس له ويزيِّن له القبيح"، وآخر من الملائكة "يزيِّن له الخير ويدعوه إليه". قبل أن يسرق الإنسان (على سبيل المثال) يدور في داخله صراع، فـ "الجن" يُزيِّن له هذا القبيح من الأعمال وهو السرقة، أمَّا الملاك فيُزيِّن له عمل الخير، وينهاه عن السرقة. ذاك يقول له افْعَل، وهذا يقول له لا تَفْعَل؛ ثمَّ يختار الإنسان ويُقرِّر، فإذا اختار وقرَّر "السرقة" فإنَّه في هذه الطريقة يكون قد مارَس "حرِّيَّة الاختيار"، مقيماً الدليل على أنَّه "مخيَّر إلى أقصى حدود الاختيار، وله الاختيار كله"؛ لكنَّ "اختيار" السرقة شيء، و"ارتكابها" شيء، فهذا السارق اختار وقرَّر فحسب؛ أمَّا "الفعل (أو التنفيذ)"، فعل السرقة، فليس من عنده، فـ "العبد مُطْلَق في اختياره، غير مُجْبَر على الوقوع في فعل من الأفعال؛ لكن الاستطاعة والقدرة بيد الله وحده، فلا حول ولا قوَّة إلا بالله". و"إذا ما وقع اختيار المُعْرِض على القيام بعمل من أعمال الأذى والعدوان فلا ريب أيضا أنَّ اختياره هذا يُنَفِّذه الله له؛ ويكون التنفيذ على شخص استحق الأذى والعدوان، فيُساق الظالم لنفسه إلى الظالم لنفسه. إنَّ السارق لا يسرق إلا ممن سرق من قبل، والقاتل لا يقع جرمه إلا على شخص استحق أن يموت قتلا". "السرقة" هي عمل من أعمال الشر، يحضني عليها "جن"، وينهاني عنها "ملاك"، فإذا اخْتَرْتُ ارتكابها وأنا "العبد المُطْلَق في اختياري، غير المُجْبَر على الوقوع في فعل من الأفعال" فإنَّني لن أتمكَّن من ارتكابها (تنفيذها) إلاَّ بفضل "القدرة الإلهية"، فـ "الاستطاعة والقدرة بيد الله وحده"، و"لا حول ولا قوَّة إلا بالله". أنا "أختار" عمل الشر (السرقة في مثالنا) بعد، وبسبب، "وسوسة الجن (أو الشيطان) لي"، فـ "يُنَفِّذ الله ما اخترت"؛ لأنَّ في يده وحده "الاستطاعة والقدرة". وليس هذا فحسب، فـ "ضحيَّتي"، أي الشخص الذي قُمتُ بسرقة ماله مثلا، هو من جنسي، أي أنَّه شخص يستحق أن يُسْرَق ماله، فساقني الله إليه، وإلا ما معنى أن يفتي "العلامة" الشيخ شيخو قائلا: "والقاتل لا يقع جرمه إلا على شخص استحق أن يموت قتلا"؟! ولو أخذنا برأي، أو فتوى، هذا الشيخ العلامة لَمَا جاز لنا أن نقف (دينيا) ضد قتل "النفس البريئة"، فـ "القاتل" و"المقتول" يجب أن يكونا دائما من الجنس نفسه، فهذا الجندي الإسرائيلي القاتل لطفل فلسطيني إنَّما ساقه الله إلى هذا الطفل ليقتله؛ لأنَّه يستحق أن يموت قتلا! الإنسان، بحسب فتوى الشيخ شيخو، "مخيَّر إلى أقصى حدود الاختيار، وله الاختيار كله"؛ وعليه يستحق العقوبة أو الثواب. إنَّه، أي الإنسان، "يختار ويطلب ويُصمِّم"؛ لكنَّه لا يملك في ذاته "القدرة" على تنفيذ، أو تحقيق، ما وقع عليه اختياره، فـ "الله يُسَيِّرَهُ لتحقيق اختياره. والله يُطْلِقه ويمده لتنفيذ وتحقيق طلبه". والإنسان لا يختار أن يعمل عملا ما (من أعمال الخير أو الشر) إلا بعد صراعٍ في داخله، فثمة "جن" يدعوه إلى عمل الشر، وثمَّة ملاك يدعوه إلى عمل الخير. لكنَّ السؤال الذي لم يجبه الشيخان، ولن يتمكَّنا أبداً من إجابته، هو الآتي: "هل في مقدور هذا الإنسان، ومهما أوتي من حرِّية الاختيار، ومهما أنفق من وقت وجهد توصُّلا إلى الاختيار، أن يختار بما يتعارض مع ما كتبه الله له منذ الأزل؟". لقد كَتَبَ الله لي منذ الأزل أن أقوم بهذا العمل، فهل أستطيع أن أختار أنا "المخيَّر إلى أقصى حدود الاختيار والذي لي الاختيار كله" عملاً غير هذا الذي كتبه الله لي (وما تشاؤون إلا أنْ يشاء الله رب العالمين)؟! إنَّ الإنسان لا يملك أبداً أن يختار إلا ما كتبه الله له منذ الأزل، فمشيئته محكومة دائما بمشيئة الله. وإنَّ من الضلال أن تسعى في إجابة مختلفة عن ذاك السؤال من خلال تمييز "عِلْم" الله من "إرادته"، أو "مشيئته"، كأنْ تقول إنَّ الله، ومنذ الأزل، يَعْلَم عِلْم اليقين أنَّكَ سترتكب هذا الشر؛ لكنَّ ارتكابكَ له لم يكن من مشيئته أو إرادته، ولم يَفْرِض عليكَ ارتكابه فرضا؛ لأنَّ منطق "العِلْم الإلهي المُطْلَق" لا يسمح لكَ أبداً بأن تأتي بعمل لم يَعْلَمَهُ الله منذ الأزل، فالله يَعْلَم، ويريد ما يَعْلَم، ويُنَفِّذ (ولو عَبْر يديكَ) الأعمال التي شِئت، أو التي تتوهم أنَّكَ شئتها؛ لأنَّ مشيئتك محكومة بمشيئة الله. وفي كلمة جامعة مانعة أقول ليس بمؤمِن هذا الذي يؤمِن بـ "القضاء والقدر" فحسب، فإنَّ عليه، في الوقت نفسه، وفي القدر نفسه، أن يؤمِن بأنَّ "إرادته الحرَّة" جزء لا يتجزأ من نظام "القضاء والقدر" نفسه. كل الجهد التأويلي الذي بُذِل ويُبذل لم ينجح، ولن ينجح، في التوفيق بين "التسيير" و"التخيير". ونوضِّح ذلك في المثال الآتي: في هذا المكان، وفي هذا الزمان، سوَّلت لي نفسي "الأمَّارة بالسوء" الإتيان بـ "فاحشة". و"الفاحشة"، أي القبيح الشنيع من قول أو فعل، تُغْضِبُ "الخالِق"، الذي سيُعاقبني على هذا الذنب الذي اقْتَرَفْت "يوم الحساب". سيُعاقبني؛ لأنَّني خالفْتُ ما نهاني عنه، فـ "الخالِق" حرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطَن. والسؤال الذي يُوَلِّدَهُ هذا المثال، والذي ينبغي لهم إجابته، هو الآتي: هل أنَّني "فاجَأْتُ" الخالِق إذ أتيتُ بهذه "الفاحشة"؟ إنَّكَ لا "تُفاجأني" إذا أنتَ أتيْتَ بفعلٍ كنتُ "أَتَوَقَّع" أن تأتي به، أو كنتُ "أَعْلَمُ عِلْمَ اليقين" أنَّكَ ستأتي به في هذا المكان، وفي هذا الزمان. ولا ريب في أنَّ "الخالِق" كان "يَعْلَم عِلْم اليقين" أنَّني سأرتكبُ هذا "الذنب"، منذ "الأزل"، أي قَبْلَ خَلْقي، وقَبْلَ خَلْق السماوات والأرض، فإنَّ من صفاته "العليم"، و"علاَّم الغيوب"، فهو العالِمُ بما كان وما يكونُ قَبْلَ كَوْنِه, وبِمَا يكونُ ولَمَّا يكُنْ، قَبْل أنْ يكون. وهو لم يَزَل عالِماً ولا يَزالُ عالماً بما كان وما يكون, ولا يخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء، أحاطَ عِلْمُه بجميع الأشياء، باطِنِها وظاهرِها، دقيقِها وجليلِها. إنَّ إتياني بتلك "الفاحشة" كان في عِلْمِهِ منذ الأزل. وأنا، في ذلك المكان، وفي ذلك الزمان، أي حيث أتيتُ بـ "الفاحشة"، ليس في وسعي أن آتي بما يُخالِف هذا "المعلوم"، فمخالَفَة ما نهاني "الخالِق" عنه، أي إتياني بتلك "الفاحشة"، هي كل ما في وسعي أن أفْعل. لقد أرَدَتُ الإتيان بتلك "الفاحشة"، فهل أملكُ من "حرِّية الإرادة" ما يمكِّنني من أن أريد غير ما أراده "الخالِق"، أو ما يُخِالِف ويضاد إرادته؟! إنَّني لا أستطيع أن أكون "مؤمناً" إلاَّ إذا آمنتُ بأنَّني لا أستطيع أن أُريد إلا ما أَرادهُ "الخالِق". إتياني بتلك "الفاحشة" إنَّما كان في "عِلْمِهِ" منذ "الأزل"، كما كان من "إرادته"، فليس لـ "المخلوق" أن يريد شيئاً لم يُرِدْهُ "الخالِق"، أو يُخالِف إرادته ويعارضها. حتى تمرُّد "إبليس" على "الخالِق" كان في عِلْم "الخالِق" ومن إرادته، ولو شاء "الخالِق" لظلَّ "إبليس" على طاعته له. وغني عن البيان أنَّ إدراج "الفاحشة" التي ارْتَكَبْت في "عِلْم" و"إرادة" الخالِق يعني أنَّ إتياني بها هو "أمرٌ قرَّره الخالِق"، وليس لي أن أُخالِفَ، في قولي وفعلي، وفي كل ما يدور في خلدي، "قرار" الخالِق، فأنا كنهرٍ لا يملكُ تغييراً لمجراه. في دفاعهم عن "التخيير"، يأتون بالمثال الآتي: أنتَ تَعْرِفُ ابنكَ جيِّداً، و"تتوقَّع"، من ثمَّ، أن يأتي بفاحشة الزِّنا"، فيأتي بها. أنتَ لم تكرهه أو تجبره على الزِّنا. أنتَ كنتَ "تتوقَّع"؛ لأنَّكَ كنتَ "تَعْلَم" الحقائق السلوكية لدى ابنكَ. في هذه الطريقة يحاوِلونَ إقناعِكَ بأنَّ "الخالِق" يَعْلَم، منذ الأزل، الفواحش التي سنأتي بها؛ لكنَّ عِلْمَهُ هذا لا يعني أنَّه قد أكرهنا أو أجبرنا على الإتيان بها. هذه المحاوَلة لا بدَّ لها من أن تفشل؛ لأنَّ أصحابها لن ينجحوا في أن يجيبوا إجابة مقنعة عن السؤال الآتي: إذا كان "الخالِق" يَعْلَمُ عِلْم اليقين، منذ الأزل، أنَّني سأرتكبُ هذا الذنب، فهل أستطيع أن أمنع نفسي من ارتكابه؟! المثال الذي جاؤوا به ليس بالمثال الموفَّق، فهذا الابن قد يُفاجئ والده، أي قد يمتنع عن الزِّنا، ويَذْهَب، من ثمَّ، بـ "توقُّع" والده. لكنَّ الإنسان لا يستطيع، أبداً، الإتيان بما يذهب بـ "توقُّع" الخالِق، أو يُخالِف "عِلْمَهُ". و"خالِقُ كل شيء"، وحتى تظلَّ عبارة "خالق كل شيء" محتفِظَةً بمعناها، لا يمكن أن يكون خالِقاً لـ "الخير" و"الأخيار" فحسب، فهو يجب أن يكون، أيضاً، خالقاً لـ "الشرِّ" و"الأشرار"، ولكل ما يأتي به البشر من فواحش. ويقولون أيضاً: إنَّ الإنسان قد يفعل ما لا "يرضي" الخالق، أي ما يُغْضب الخالِق، لكنَّه لا يستطيع أبداً أن يفعل ما يُخالِف "مشيئة" الخالِق، فالخالق أعطانا "الحرِّية في عصيانه"، لكنَّه لم يُعْطِنا "الحرِّية في أن نعلو على مشيئته (إرادته)"، فـ "مشيئتنا ضمن مشيئته". هذا هو "اللغو" بعينه. إنَّ إتياني بـ "فاحشة" كان بـ "مشيئتي"، أي بـ "إرادتي". و"مشيئتي"، مهما كانت، لا بدَّ لها من أن تكون "ضمن مشيئة الخالِق"؛ لأنَّ غير ذلك معناه أنَّ لديَّ "الحرية في أن أعلو على مشيئة الخالِق"، وأنَّ الخالِق ليس بـ "خالِقٍ لكل شيء"، فهو خالِق، فحسب، لكل ما يُعدُّ "خيراً"، بحسب المعايير الدينية. إنَّ مشكلة "التسيير والتخيير" لا تُحل بقول من قبيل إنَّ الخالِق قد خَلَق للإنسان "عقلاً" حتى يُميِّز به "الصواب" من "الخطأ"، و"الخير" من "الشرِّ"، و"الحق" من "الباطل"، وأرْسَلَ الأنبياء والرُسُل مُبشِّرين ومُنْذرين حتى يَعْرِف الإنسان "الحلال" من "الحرام"، وما "يرضي" الخالِق مِمَّا "يغضبه". هذا القول لا يحل تلك المشكلة؛ لأنَّ الإنسان ليس حرَّاً في "المفاضَلة"، فـ "مفاضلته" ستنتهي، دائماً، إلى أن يشاء ما شاء الخالِق، فمشيئته ستظل ضمن مشيئة الخالِق، ولن تعلو عليها، أو تُخالِفها، أبداً، فالخالِق لا "يَعْلَم" فحسب، وإنَّما "يُريدُ ما يَعْلَم". والخالِق لا "يُريد" فحسب، وإنَّما "يفعل ما يُريد". إنَّ الخالِق هو الذي "خَلَقَ كل شيء".. وهو، من ثمَّ، الذي خَلَق "إرادة" البشر و"أفعالهم جميعاً". "ما رميتَ إذ رميتَ؛ ولكنَّ الله رمى". هنا يكمن لغز "القضاء والقدر"؛ وهنا يكمن حله أيضاً؛ فالإنسان يفعل ما يشاء؛ لكنَّ "مشيئته تظل ضمن مشيئة الخالِق"، لا تنفصل عنها، ولا تعلوها، أبداً.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آدم وحواء.. وثالثهما!
-
كيف لِمَنْ يَعْتَقِد ب -آدم وحواء- أنْ يَفْهَم داروين؟!
-
البابا فرانسوا: حتى الله يتطوَّر!
-
هذا الدليل البسيط على صواب أو خطأ نظرية -تمدُّد الكون-!
-
هذا الإحباط الشعبي الثوري!
-
ما وراء -أُفْق الكون-!
-
عاصفة من -التَنَبُّؤات الفلكية-!
-
عاصفة ثلجية بنكهة سياسية!
-
-الدولة المدنية- و-الربيع العربي-
-
انحناء المسار بانحناء المكان
-
النَّجْم إذا حَفَرَ في الفضاء
-
بأيِّ معنى نفهم سرعة الضوء على أنَّها -مُطْلَقَة-؟
-
-التركيب- و-التفكيك- عربياً
-
كيف تَصِل إلى أبعد نجم في الكون في دقيقة واحدة فحسب؟
-
أين -المُطْلَق- في -النسبية-؟
-
الجاهلية الإسلامية!
-
في -نسبية الحركة-
-
قانون يُدْعى -تنظيم الحق في التظاهر-!
-
-النقطة- التي منها وُلِدَ الكون!
-
مِنْ عملة -الكيميائي السوري- إلى عملة -النووي الإيراني-!
المزيد.....
-
عمال أجانب من مختلف دول العالم شاركوا في إعادة بناء كاتدرائي
...
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|